بالذوق عن الجماع في قوله: «لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» وكأنهما بعد اتصالهما الجنسي استقبحا منظرهما وهما على تلك الحالة فبدى لهما أن من واجبهما ستر سوءتيهما اللتين عصيا الله بهما ﴿وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة﴾ أي يلزقان أو يربطان على سوءتيهما من ورق الجنة وهذا مما يؤيد تمامًا ما استنتجناه من حقيقة الشجرة وإلا فأي علاقة بين أكل آدم من شجرة أخرى كالحنطة والتفاح مثلًا وحاجته إلى ستر السوءة وليس ما يمنع من إطلاق اسم الشجرة على شجرة السلالة البشرية فقد شبه الله الكلمة الطيبة بالشجرة الطيبة كما وصف الله المرأة بالتربة المعدة للإنبات حيث قال: ﴿نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم﴾ ولعل في قوله تعالى عقب تلك الآية ﴿وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة﴾ ولم يقل عن تلك الشجرة ما يشير إلى أن الشجرة إنما تولدت من اجتماع السوءتين، ولعل في عدوله تعالى عن الإشارة ﴿بهذه﴾ إلى ﴿تلكما﴾ ما يدل على انتقال المشار إليه من الظاهر إلى داخل الأحشاء بتكون الجنين، ولعل الحكمة في منع الله لهما من ذلك في تلك الجنة أنهما كانا في موضع مقدس لا يليق فيه مثل هذا الأمر بدليل نهي الله عن إتيانه في بيوت الله إذ قال: ﴿ولا تباشروهن وأنتم عاكفون في المساجد﴾ ولما يترتب عليه من الحمل والولادة وما يتطلبه ذلك من جهد وقذارة تستدعي الهبوط إلى الأرض ولعل في إذن الله لآدم بالأكل من كل شيء ونهيه عن إتيان هذا الشيء ما يشير إلى أن الأصل في كل شيء الحل ما عدا الجماع فإن الأصل فيه الحرمة ما لم يأذن به الله بما شرعه من النكاح بعد ذلك، ولعل في تسمية العورة بالسوأة ما يشير إلى أنها محل الفحش والله أعلم، وإن في وسوسة الشيطان لأبناء آدم بهذا الأمر ما يدل على أنه رأس كل خطيئة خصوصًا وقد نهى الله بني آدم من أن يستجيبوا إلى فتنة الشيطان لهم عن هذا الطريق الذي سبب خروج آدم من الجنة بقوله بعد ذلك: ﴿يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما﴾ أي احذروا أن يزين لكم الشيطان التطلع إلى ما وراء الستر من السوأتين اللتين هما سبيل إيقاظ الشهوة والوقوع في المعاصي، بل وانصراف القلب عن الله، إذ يقول صلى الله عليه وسلم: «لا يزني الزاني وهو مؤمن» وهذا لا يعني أن الإنسان بالزنا يكفر بالله بل المراد أنه بتغلب شهوته عليه يفقد إيمانه بأن الله قد نهاه عن ذلك الأمر وأنه تعالى عالم به ومطلع عليه وهو على تلك الحالة المزرية، وهذا ما أصاب آدم في الجنة تمامًا عندما قرب حواء وهو ما يعتري أبناءه ويحملهم على اقتراف معظم الجرائم والآثام، وهذه هي الشجرة
بعد أن أمر الله المؤمنين بالتزام جانب السلم والابتعاد عن سيئ الأخلاق التي يدعو إليها الشيطان وأخبرهم بسوء عاقبتها، أراد أن يأتي لهم بشواهد وأمثلة على ذلك عن الأمم التي سبقتهم وما أصابها نتيجة مخالفتها لأوامر الله فقال ﴿سل﴾ أيها الرسول ﴿بني إسرائيل﴾ واستعرض تاريخهم ﴿كم آتيناهم﴾ في كتابهم ﴿من آية بينة﴾ توضح لهم الحلال والحرام فأبطلوا أحكامها بالتحريف والتبديل، فأخذهم الله بعزته ونفذ فيهم حكم سننه وضربت عليهم الذلة والمسكنة ﴿ومن يبدل﴾ بتشديد الدال وقرئ «يبدل» بتخفيفها ﴿نعمة الله﴾ التي من أهمها آياته التي لم تنزل إلا لمصلحة العباد ويجعلها من أسباب الضلال بدل الإسعاد والإقبال ﴿من بعد ما جاءته﴾ بواسطة الرسل ﴿فإن الله شديد العقاب﴾ لا يتساهل في جزاء من يتعمد مخالفة أوامره عن طريق تبديل آياته، ويتغمد برحمته من يطلبها وأعلم أيها الرسول أنه قد ﴿زين﴾ بالبناء للمجهول وقرئ بالبناء للفاعل ﴿للذين كفروا﴾ بالله واليوم الآخر حب ﴿الحياة الدنيا﴾ ففرحوا بها وشغلوا بمظاهرها وحصروا هممهم فيها حتى أصبحوا لا يقيمون وزنًا لأعمال الآخرة ﴿ويسخرون من الذين آمنوا﴾ لاعتقادهم أنهم قد حرموا مما هم فيه من نعيم في الدنيا جريًا وراء سعادة مرجوة في الآخرة موهومة في نظرهم ﴿والذين اتقوا فوقهم﴾ والحال أن الذين اتقوا ربهم وراقبوه في هذه الدنيا وعملوا للآخرة ستكون لهم مكانة القربى عند ربهم ﴿يوم القيامة﴾ فضلًا عما ظفروا به في هذه الدنيا من الرزق والإسعاد في الحياة بطمأنينة النفس وإن حسب الكفار أنهم قد سلبوا من كل ذلك، ومن هنا يظهر أن الحياة الدنيا لا يحرم من نعيمها ونيل رزقها أحد من المخلوقات لا فرق بين مسلم وكافر وغني وفقير وفق سنن الله التي سنها لعباده، وإنما التفاضل والميزة في الواقع لا تكون إلا في الآخرة على حسب ما يقدم الإنسان من عمل ﴿والله يرزق من يشاء﴾ فاعل يشاء عائد إلى من أي أن الله يعد بالرزق كل من يعمل لنيله ولكن ﴿بغير حساب﴾ أي أنه تعالى لا يعطي الرزق للعامل على قدر جده واجتهاده كما يتصوره بعض قصار النظر الذين يحسبون أنهم إنما يرزقون في الحياة بكدهم وعرق جبينهم بل حسبما
ذنبي فقال تعالى أذنب عبدي ذنبًا وعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال رب اغفر لي ذنبي فقال تعالى أذنب عبدي ذنبًا وعلم أن له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب ثم عاد فأذنب فقال رب اغفر لي ذنبي فقال أذنب عبدي ذنبًا وعلم أنه له ربًا يغفر الذنب ويأخذ بالذنب اعمل ما شئت فإني غفرت لك» (ويعذب) بضم الباء وقرئ باسكانها بعدله (من يشاء) لنفسه العذاب ممن خالف شرائعه وعصى أمره واستحق عقابه ولا اعتراض عليه في ذلك فقد روي عن رسول الله ﷺ قوله «كلكم في الجنة إلا من أبى قال الصحابة وهل يأبى أحد يا رسول الله قال من أطاعني فقد رضى ومن عصاني فقد أبى» (والله) صاحب السلطان المطلق والسلطة الكاملة (على كل شيء قدير) فهو سبحانه يملك الرحمة أو تطبيق العقوبات وتنفيذ الأحكام لا يقف في وجهه أحد ولا يعارضه في تنفيذ أوامره معارض ولا تنسب إليه المحاباة إذا عفا ولا يلام إذا آخذ بعدله وقام بتنفيذ ما أنذر به من قبل ولا ينكر عليه أن يخص بالحظوة والقرب منه من أراد سبحانه ولكنه أجل من أن يعذب الطائعين بمحض الإرادة لأن هذا يتنافى مع عدله ولم يكن داخلًا ضمن مشيئته فهو القائل: «إن الله لا يظلم مثقال ذرة وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا» وإذا كان هذا شأنه تعالى في الحكم بين عباده في الآخرة فكذلك حكمه بين عباده في هذه الحياة الدنيا فإنه تعالى لا يمكن أن يقدر في أزله سعادة إنسان بعينه في الحياة ويحكم على آخر بالشقاء لمحض الرغبة والهوى مما يتنزه الله عنه وإنما هنالك من الأسباب ما يقضي بذلك وأهمها عدم الاتباع لدستور الله الذي سنه لعباده، كذلك نقول حقًا إن الله جل جلاله قد خلق الكون بأجمعه فهو يفعل ما يشاء من خلق الإنسان وسائر الحيوانات وسيخلق ما يشاء فهو لا يسأل عن شيء خلقه لم خلقه وما هي الفائدة من خلقه كما قال تعالى: «لا يسأل عما يفعل وهم يسألون» ولكنه بالنسبة لأحكامه القضائية فقد سن لعباده دستورًا أزليًا يقضي فيما يقضي به أنه: «من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون».
وأخذ على نفسه مبدأ العدل المطلق فلا يمكن أن يحابي أو يجامل بل لا بد أن يتقيد بالدستور الذي سنه والوعد الذي قطعه على نفسه ومحال أن يكون أساس حكمه قائمًا على شفاعة الشافعين أو مراعاة لخاطر المقربين فقد قال تعالى لنبيه وأكرم الناس عنده عليه الصلاة والسلام.
﴿من نبي﴾ جاء قومه بالبينات فيما مضى فناصره ﴿قاتل معه﴾ في سبيل تأييد دعوته ﴿ربيون﴾ بكسر الراء الجماعة الكثيرة واحدها ربي والمراد بهم الذين ينتسبون إلى الرب ممن آمنوا بالله واقتنعوا بربوبيته فأطاعوه وهم ﴿كثير﴾ في عصور متعددة ﴿فما وهنوا﴾ لم تخر عزائمهم ولم يحجموا عن المضي فيما جاهدوا من أجله ﴿لما أصابهم﴾ من موت الأنبياء والقادة ﴿في سبيل﴾ تأييد دين ﴿الله﴾ الذي جاءهم به أولئك الأنبياء لا في سبيل أشخاص أنبيائهم، ﴿وما ضعفوا﴾ أي لم يجزعوا ولم يداخل نفوسهم خوف الموت أو الهزيمة ﴿وما استكانوا﴾ أي ما تخاذلوا أمام أعدائهم ليتحكموا في أمرهم بل عملوا لإملاء إرادتهم والاحتفاظ بسلطانهم معتمدين على الله وحده في تأييدهم وتحقيق أمانيهم ﴿والله﴾ من سننه تعالى في خلقه أنه ﴿يحب﴾ من عباده ﴿الصابرين﴾ على المصائب الثابتين في العقائد الواثقين بالله ﴿وما كان قولهم﴾ أي أولئك الربانيون الذين قاتلوا مع الأنبياء ﴿إلا أن قالوا﴾ دعوا الله في ساعة المعمعة ساعة مشاهدة الموت في ساحة القتال الرهيب بأدعية ثلاثة: الأولى ﴿ربنا اغفر لنا﴾ بجهادنا في سبيلك ﴿ذنوبنا﴾ التي اقترفناها في الحياة ﴿وإسرافنا في أمرنا﴾ بتجاوز الحد في كل ما أمرتنا به فهذا هو المقصد الأول من جهادنا، ورضاك عنا هو أقصى أمانينا ﴿و﴾ الدعوة الثانية قولهم: ﴿ثبت أقدامنا﴾ على الصراط المستقيم الذي هديتنا إليه فلا تزلزلنا الفتن ولا يعرونا الفشل ﴿و﴾ الدعوة الثالثة ﴿انصرنا على القوم الكافرين﴾ فهذا آخر ما نرجوه فما بنا من شوق إلى النصر بقدر ما بنا من رغبة في الغفران والثبات على الهداية ﴿فآتاهم الله﴾ فأعطاهم جزاء على ذلك ﴿ثواب الدنيا﴾ بالنصر على الأعداء والسيادة في الأرض وما يتبعها من العزة والكرامة وذلك آخر ما طلبوا ﴿و﴾ ما يكون منه ﴿حسن ثواب الآخرة﴾ من الغفران والثبات على الهداية وصالح الأعمال ﴿والله﴾ من إحسانه ﴿يحب المحسنين﴾ أعمالاً وأقوالاً فيتقبل أعمالهم ويستجيب دعواتهم.
بعد أن حض الله عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وأوضح لهم سننه التي من شأنها أن تنتزع من قلوبهم خوف الموت لئلا يتوانوا في أمره، وسرد لهم بعض القواعد المقررة التي اقتضتها حكمته والتي أضحت من سننه التي لا تتبدل وضرب لهم على ذلك الأمثلة بمن كان قبلهم من الأمم أخذ سبحانه وتعالى يحذرهم من الاستسلام للكفار والرضوخ لإرادتهم، فقال: ﴿ياأيها الذين آمنوا﴾ بالله رب العالمين المسيطر على كافة الموجودات حذار أن تكونوا محكومين لمن كان على غير دينكم ولا تنخدعوا بما يلقونه إليكم من منطق قد يتراءى لكم سلامته فتتبعونهم فإنكم {إن
واعملوا عن إزالة الأسباب المؤدية إليه ﴿وأقيموا الصلاة﴾ التي من شأنها أن تنهى عن الفحشاء والمنكر.
﴿وآتوا الزكاة﴾ التي تجذب إليكم القلوب بالحب والإخلاص وتقيم علاقاتكم ببعض على أساس ثابت صحيح فينتفي الظلم وتعم الرحمة ويتم التضامن بين الجميع ﴿فلما كتب عليهم القتال﴾ في سبيل نصرة دين الله وإنقاذ المستضعفين من إخوانهم ﴿إذا فريق منهم﴾ من أولئك القوم الذين كانوا يبيعون نفوسهم رخيصة في سبيل العصبية الجاهلية ﴿يخشون الناس كخشية الله﴾ في سرهم فيحذرون القتل كما يحذرون عذاب الله ﴿أو أشد خشية﴾ منه بكراهتهم للقتال في قلبوهم وبما تضرعوا به إلى الله في خلواتهم ﴿وقالوا ربنا لم كتبت علينا القتال﴾ بهذه السرعة ﴿لولا أخرتنا إلى أجل قريب﴾ حتى ننعم في الحياة بلذة الأمن الذي أنعمت به علينا ﴿قل﴾ أيها الرسول إنما ﴿متاع الدنيا﴾ الذي تتطلبونه من الحياة ﴿قليل﴾ محدود لا يكاد يذكر ﴿والآخرة خير لمن اتقى﴾ الله بطاعته في أمر القتال أثر خوفه عن خوف غيره من الناس فإن متاعها كثير باق لا ينفد ﴿ولا تظلمون﴾ وقرئ «يظلمون» ﴿فتيلًا﴾ الفتيل: الخيط الذي في شق النواة أي ولا تنقصون شيئًا من الأجر على أعمالكم في هذه الدينا مهما بلغت من القلة فما بالكم بالجهاد في سبيله على أن الموت الذي تخافونه لم يكن لازمًا ومحتومًا عليكم بمجرد الخروج إلى ساحة الوغى بل أنه مقدور من الله باليوم والساعة مهما تعددت الأسباب في الظاهر فمما لا جدال فيه وما لا تستطيعون إنكاره هو أنه ﴿أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيَّدة﴾ بتشديد الشين، وقرئ «مشيِّدة» بكسرها وما دمتم تؤمنون بأن كل حي يموت ولو كان على فراشه فمن أين لكم أن تعرضكم للقتال هو
من أن ينال كل امرئ جزاءه بحسب ما أعلنه تعالى في القرآن من أحكام حيث
<٤٣>
قال تعالى في سورة النمل (إن ربك يقضي بينهم بحكمه وهو العزيز العليم) وهنا أمر الله رسوله أن يعلمهم بأن رسالته ﷺ لم تكن إلا بقصد إقامة الحجة عليهم أمام الله يوم القيامة فيما إذا أصروا على غرورهم وضلالهم حيث أخبرهم بما سيوجه إليهم من الحجة الدامغة إذا ذاك فقال (يَا أَهْل الْكِتَابِ) هذه آخر فرصة يمكنكم فيها الرجوع إلى الله والنجاة من عذابه. ولا حجة في العصيان بعد اليوم فها (قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا) المبشر به في كتبكم المنتظر في اعتقادكم فقد أخبركم الله على لسان موسى أنه سيقيم نبيا من بني إسماعيل إخوتكم وعلى لسان عيسى بن مريم بأنه سيجيء بعده البارقليط روح الحق الذي يعلمكم كل شيء (يُبَيِّنُ لَكُمْ) كل ما تحتاجون إلى معرفته من شئون الدنيا والدين حتى قيام الساعة ولقد كان مجيئه في الوقت المناسب (عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ) أي بعد تقادم العهد عن إرسال الرسل وطول العهد على الوحي بعدة قرون مما أدى إلى تناسي الشرائع وتطرق الخلل إليها بالتحريف والتبديل من قبل بعض أتباعها حتى اختلط الحق بالباطل والصدق بالكذب وصار ذلك عذرا ظاهرا في الانصراف عن الطاعات وادعاء الجهل بكيفية العبادات وحقائق ما جاء من عند الله كراهة (أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ) يبشر بالدين الحق الذي لا يأتيه الباطل من يديه ولا من خلفه (وَلَا نَذِيرٍ) ينذرنا بخطئنا فيما نحن عليه من معتقدات فاسدة وعبادات باطلة كنا نؤديها باعتبارها تقرب إلى الله (فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ) هو هذا الرسول الذي بسط لكم حقيقة التوحيد الذي جاء به كل الرسل وحذركم من مداخل الشيطان التي تؤدي إلى الشرك بالله وسوء المصير (وَاللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) فلا يعجزه أن ينكل بكم ويعذبكم متى أراد دون أن يصغي لأقوالكم ولكنه من كمال فضله أراد أن يقطع كل حجة لكم إذ ربما تقولون إلهنا ما دمت تعلم أنه مضت فترة من الرسل كانت السبب في ضلالنا وأنت قادر على هدايتنا فلماذا لم ترسل لنا من يذكرنا ويهدينا إلى سبيلك ولهذا أرسلنا لكم رسولنا ليقطع كل عذر لكم في الآخرة.
<٤٤>
للمنفلوطي وفيه نظرة بعنوان «دمعة على الإسلام» قال فيها إنه ورد إليه كتاب من الهند يقول مرسله إن الناس هناك يبالغون في مناقب الشيخ عبد القادر جيلاني حتى أنهم يصفو له ببعض صفات الله. وقد علق فضيلته على ذلك بقوله: «يدين المسيحيون بآلهة ثلاثة ولكنهم كأنهم يشعرون بغرابة ذلك وبعده عن العقل فيجملون ويقولون إن الثلاثة في حكم الواحد. أما المسلمون فإنهم يدينون ويا للأسف بآلاف مؤلفة من الآلهة أكثرها جذوع أشجار وقطع أحجار ورمم أموات وهم لا يشعرون» وما إن انتهيت إلى هذه الجملة حتى قال أولئك المشايخ «معاذ الله أن يدين المسلمون بآلهة غير الله وإنما هم يتوسلون بأوليائه الصالحين ويسألون الله بجاههم عنده» وعبثًا حاولت أن أقنعهم بأن العوام السذج إنما يسألون أصحاب القبور قضاء الحوائج، ويعتقدون أن النفع يأتي عن طريقهم، فلم يقتنعوا. ومضى على ذلك بعض الوقت، ثم جاءني أحد أولئك العلماء، يرحمه الله، قائلًا إن الضائقة قد بلغت أشدها معه فما وسعه إلا أن ينزل إلى المسجد الحرام يوم الجمعة، وصلى السجدة مع الجماعة، ثم ذهب لزيارة قبر السيدة خديجة، وقال لها ما نصه: «يا سيدة لقد ضاقت الدنيا في وجهي وعندي دكان أريد بيعه فلم أوفق إلى ذلك، وقد جئتك اليوم ضيفًا راجيًا منك إما أن تبيعيه لي أو تدبري لي ما أحتاج إليه من أي طريق آخر» قال وما كدت أعود إلى بيتي حتى جاء إليّ أحد السماسرة وأخبرني بوجود مشتر لديه للدكان وتمم لي أمر بيعه في ذات اليوم. فقلت له: هل فتحت حضرتها مكتبًا للسمسرة؟! فقال: ما هذا هل تهزأ بمقام السيدة وتنكر كرامتها؟! قلت أنت الذي هزأت منها بقولك إنك وسطتها في هذا الأمر، ولم تقل إنك توسلت بها إلى الله، فهيأ لك الله المشتري بكرامتها عنده، بل قلت، وأنت من العلماء الذين يعون ما يقولون، إنك طالبتها هي ببيع الدكان، ثم جاء السمسار إليك. مما يدل على أنها تقوم بعمل الوسائط لبيع العقارات، ولذلك أرسلت إليك أحد أتباعها. وإذا كان هذا شأنك في طلب الأشياء من أصحاب القبور فما بالك بالعوام والسذج؟! ثم ما هو الذي حملك على الذهاب إلى قبر السيدة خديجة لطلب حاجتك، وقد كنت عند بيت الله، إلى جوار الكعبة المشرفة، فما بالك لم تطلب ذلك من الله؟! وهو الذي لا يرد لسائل طلبه، ويعطي المتوكلين عليه ما هم في حاجة إليه. وأخبرني آخر أنه كان في أزمة يومًا، فقصد بعض السادة المعروفين بالولاية، وشكى إليه أمره، فقال له: اذهب إلى قبر فلان، من السادة أيضًا، وبلغه سلامي، وقص عليه
بعد أن أمر الله رسوله بالإنذار والتذكير وأمر القوم بالقبول والمتابعة أردف ذلك ببيان ما ترتب على ترك المتابعة من هلاك من سبق من الأمم ليتخذ الناس من ذلك عبرة فيحذروا حلول نقمة الله بهم إذا هم أعرضوا عن اتباع ما جاء به فقال ﴿وكم من قرية﴾ «كم» خبرية تفيد الكثرة و «القرية» تطلق على الموضع الذي يجتمع فيه الناس ﴿أهلكناها﴾ قضينا بهلاكها أي دمارها نتيجة لعدم اتباع أهلها لأوامرنا ﴿فجاءها بأسنا﴾ أي عذابنا الذي يعم القرية بأكملها فيقضي على الأخضر واليابس من الزرع كشدة الرياح والعواصف وقارس البرد ﴿بياتًا﴾ أي بالليل والناس نيام كما حصل لأصحاب الجنة ﴿إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين ولا يستثنون فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون فأصبحت كالصريم﴾. ﴿أو هم قائلون﴾ أي والناس في وقت القيلولة وهو منتصف النهار كأن يصيبهم بشيء من الزلازل والصواعق التي تهدم الدور وتخرب المدن العامرة وأهلها ينظرون ﴿فما كان دعواهم﴾ الدعوى في اللغة اسم لما يدعيه الإنسان ﴿إذ جاءهم بأسنا﴾ أي عندما يحل بالقرية ما يحل من العذاب ﴿إلا أن قالوا إنا كنا ظالمين﴾ أي أن أصحاب تلك القرى التي أصابها ما أصابها لم يسعها غير الاعتراف بأن ما صدر منها كان ظلمًا غير أن هذا كان بعد فوات الأوان وحيث لا ينفع الندم دون أن تتعظ أو ترجع إلى الله بالتوبة والندم وطلب الغفران من قبل بل ربما نسبوا ما حصل بسبب ظلمهم إلى عدم الأخذ بواجب الاحتياط للأمر وإعداد العدة لدرء وقوع ما وقع. وهذا شأن سائر الناس في عصرنا هذا أنار الله منا البصائر وألهمنا رشدنا وعرفنا به جل وعلا.
بعد أن أشار الله إلى ما كان من أمر إهلاكه القرى بعذاب عام في الدنيا نتيجة عدم اتباع أهلها لما أنزل إليهم أخذ يشير إلى ما يكون بعد ذلك في يوم القيامة من حساب وعقاب فقال ﴿فلنسألن الذين أرسل إليهم﴾ الرسل عن عدة مسائل وضحها الله في آيات أخرى بقوله في سورة الأنعام ﴿يا معشر الجن والإنس ألم يأتكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي وينذرونكم لقاء يومكم هذا﴾ وقوله في سورة القصص ﴿ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين﴾ وقوله في سورة العنكبوت ﴿وليسئلن يوم القيامة عما كانوا يفترون﴾ وقوله في سورة النحل ﴿ولتسألن عما كنتم تعملون﴾ وغير ذلك من أعمال الأعضاء مما أشار إليه تعالى بقوله: ﴿إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولًا﴾.
أخذ جل جلاله يبين سنة أخرى من سننه الاجتماعية التي شرعها الله لإذلالهم وتنفيذ أمره فيهم بالعذاب فقال ﴿وقطعناهم في الأرض أممًا﴾ أي صيرناهم أممًا متقطعة متفرقة في أنحاء الأرض لا تجمعهم جنسية واحدة ولا تحكمهم دولة واحدة بعد أن كانوا أمة واحدة فالعمل على جمعهم في وطن قومي واحد ودولة واحدة تحد له جل وعلا لا يمكن أن يتم ولئن قامت دولة إسرائيل وجمعت بعض أفرادهم فما ذلك إلا إلى حين أن ينفذ فيهم أمره الذي أخبرنا به رسوله ﷺ بقوله: «لا تقوم الساعة حتى تقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهود وراء الحجر والشجر فيقول الحجر أو الشجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود» والغرقد شجر له شوك في فلسطين ﴿منهم الصالحون﴾ أي أنه تعالى مع غضبه عليهم وما كتب عليهم من الذلة والعقاب لم يوصد دونهم باب رحمته كما فعل بالشيطان الرجيم بل منحهم عقولًا تمكنهم من الاهتداء بهدي القرآن فيكون منهم من يبلغ درجة الصالحين كالذين آمنوا برسالة خاتم النبيين ﴿ومنهم دون ذلك﴾ أي ومنهم من لم يبلغ درجة الصلاح بمعنى أنهم متفاوتون في درجات الضلال ﴿وبلوناهم﴾ أي امتحنا سرائرهم ﴿بالحسنات والسيئات﴾ شأنهم في ذلك كشأن سائر الأمم ﴿لعلهم يرجعون﴾ عن غيهم وضلالهم وينيبوا إلى ربهم الذي منّ عليهم بفضله ورحمته ولكنهم لم يرجعوا عن غيهم حتى سرى ذلك إلى أبنائهم ﴿فخلف من بعدهم﴾ أي من بعد مجموع بني إسرائيل الذين كان فيهم الصالح والطالح والبر والفاجر ﴿خلف﴾ الخلف بفتح اللام الولد مطلقًا أو الولد الصالح. ويكون اللام كما هنا الولد الرديء السيئ ﴿ورثوا﴾ عن آبائهم ﴿الكتاب﴾ أي التوراة وزعموا التمسك بها بينما هم في الواقع ﴿يأخذون عرض هذا الأدنى﴾ أي بظاهر الكتاب الخارجي بمعنى يظهرون بمظهر المتمسكين بهذا الكتاب الذي هو عبارة عن العرض الزائل دون جوهره فيكتفون بمجرد انتمائهم لدين اليهودية وهم لا يعملون وفق تعاليمها ﴿ويقولون سيغفر لنا﴾ أي ربما لا يؤاخذنا الله بذنوبنا فإننا شعبه الخاص وسلائل أنبيائه ونحن أبناء الله وأحباؤه كما حكى الله ذلك عنهم ونفاه بقوله في القرآن الكريم ﴿قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق﴾.
﴿وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه﴾ أي إذا طلب منهم أن ينتموا إلى أي دين من الأديان دون أن يدينوا به حقًّا ويتبعوا تعاليمه فلا يرون بأسًا في ذلك فالدين عندهم لا يقوم على أساس العقيدة
دماء طأطأ رأسه تواضعًا لله وهو يكثر من حمد ربه وذكر آلائه ثم أمر بتوزيع الجيش إلى أربع فرق وحظّر عليها أن تقاتل أحدًا لا يقاتلها ولا تفسك دماء إذا لم تكره عليه وجعل الزبير بن العوام على الجناح الأيسر من الجيش وأمره بدخول مكة من شمالها. وجعل خالد بن الوليد على الجناح الأيمن وأمره أن يدخل مكة من أسفلها وجعل سعد بن عبادة على أهل المدينة وأمره أن يدخل مكة من جانبها الغربي وجعل أبا عبيدة بن الجراح على المهاجرين وسار وإياهم ليدخلوا مكة من أعلاها ثم اتصل بعلمه أن سعد بن عبادة يقول: «اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل المحرمة» فخاف عليه الصلاة والسلام أن يدخلها متأثرًا بهذه الفكرة وقال لعلي بن أبي طالب أدركه فخذ الراية منه فكن أنت الذي تدخل بها وقد دخلت جميع الجيوش مكة بدون أدنى مقاومة ما عدا جيش خالد بن الوليد حيث مر عند دخوله مكة بجماعة من بني بكر ومن ناصرهم في نقض عهد الحديبية بالغارة على خزاعة فخافوا على أنفسهم ولم يطمئنوا إلى أمن رسول الله فأبدوا بعض المقاومة حتى قتل بعضهم وفر آخرون يريدون ركوب البحر ونزل رسول الله بأعلى مكة حيث ضربت له هنالك قبة للاستراحة بها وظل بها يحمد الله ويشكره على ما أولاه واتصل به خبر مطاردة خالد لمن هاجمه فأسف وصاح مغضبًا يذكره بأمره السابق أن لا يكون قتال. ولما علم بأنهم هم البادئون قال إن الخير فيما اختاره الله.
نصر عزيز
ليس في الدنيا لذة أطيب للنفس من لذة النصر فالطفل من أول شعوره بالحياة يأتي لأبويه وهما في نظره أقدر الناس على حمايته ويسألهما النصر وكلما زادت معارفه يطلب النصر ممن هو أعظم منهما. وجبلت النفوس على حب من ينصرها لأنها تجد عنده ما تصبو إليه من أعظم اللذات.
من أجل هذا أخبر الله عباده في مواضع كثيرة من القرآن بأنه تعالى وحده الذي يملك النصر ويمنحه لعباده بما يهبه لهم من الوسائل المؤدية إليه في الظاهر كقوة الجسم وكثرة العدد وأصالة الرأي وملكة الاختراع وسائر المواد الأولية وغيرها من القوى الخفية كإلقاء الرعب في النفوس وانتشار الأوبئة والأمراض في صفوف الجند وبعث الملائكة وإسقاط الصواعق وإرسال الرياح والأمطار والزوابع إلى غير ذلك مما هو داخل تحت قدرة الله: ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾ فلا
النعم أسبابًا يعزون إليها ما حصل كأن يقولوا إن هذا من الأمور الطبيعية أو هو نتيجة سعينا وجدنا أو هو عن طريق الصدفة أو الحظ أو النصيب، وكان الأجدر بهم أن يقولوا الحق فينسبوا كل ذلك إلى الله مسبب الأسباب ومقدر الأقدار ومانح الأرزاق: ﴿قل﴾ أيها الرسول لأمثال هؤلاء: ﴿الله أسرع مكرًا﴾ منكم إذ سبق في تدبيره لأمور العالم أن قدر الجزاء على الأعمال قبل وقوعها وأنذركم بها ونبه إلى ما سيكون منكم و ﴿إن رسلنا﴾ من الملائكة الكرام الكاتبين: ﴿يكتبون ما تمكرون﴾ من جحود لتلك النعم فلتأخذوا لأنفسكم حذرها وقد أخبرنا الله جل جلاله بالغاية من هذه الكتابة وفائدتها في إدانة المجرمين يوم القيامة بقوله في سورة الجاثية: ﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ ثم جاء العلم الحديث فصور لنا ذلك الاستنساخ بأخذ شريط مسجل الأصوات والمناظر وعرضها على الشاشة البيضاء في إثبات الوقائع الإجرامية وما كان لكم أن تمكروا في آياته وتجحدوا نعمه وهو المهيمن على جميع حركاتكم وسكناتكم إذ: ﴿هو﴾ وحده: ﴿الذي﴾ يملك قوة الروح التي: ﴿يسيركم﴾ بها: ﴿في البر والبحر﴾ والتي لولاها ما استطعتم أن تبدو حراكًا وكنتم من ضمن الجمادات التي لا تعقل ولا تفعل شيئًا من تلقاء نفسها، وهذه هي أولى النعم التي أنعم الله بها عليكم وكان عليكم أن تذكروها بالشكر في كل لحظة، وثم نعمة ثانية أشار إليها سبحانه بقوله: ﴿حتى إذا كنتم في الفلك﴾ أي السفن التي هي أيضًا من نعم الله عليكم لأن المواد التي تتكون منها تلك السفن لم تكن إلا من خلق الله وإيجاده وثم نعمة ثالثة أشار إليها تعالى بقوله: ﴿وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ﴾ أي جرت هذه السفن بقوة الريح الطيبة التي جعلها الله صالحة لتسيير السفن ولو زادت واشتدت لأغرقتها: ﴿وفرحوا بها﴾ لما يجدونه عليها من متعة بمنظر البحر الجميل ولم يدعهم كل هذا إلى شكر الله والتوجه إليه بالحمد والثناء غير أنه في لحظة واحدة: ﴿جاءتها﴾ أي الفلك: ﴿ريحٌ عاصفٌ﴾ أي شديدة قوية يختل معه توازن السفن بحيث تشرف على الغرق: ﴿وجاءهم الموج من كل مكانٍ﴾ بسبب اضطراب البحر بتأثير تلك الريح بحيث لا يستطيع الإنسان أن يسبح على سطحه: ﴿وظنوا﴾ أي اعتقدوا اعتقادًا راجحًا: ﴿أنهم أحيط بهم﴾ من كل جانب فلا سبيل إلى النجاة، عند ذلك فقط ذكروا أن لهم ربًّا هو وحده الذي يمكن أن يخلصهم من مآذق الحرج التي وقعوا فيها ولذلك: ﴿دعوا الله﴾ أن
﴿إلا ما شاء ربك﴾ من مدة يرفعون فيها إلى منازل رفيعة لا يعلمها إلا الله وقد أشار إليها سبحانه بقوله: ﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ومساكن طيبة في جنات عدن ورضوان من الله أكبر﴾ يؤيد هذا قوله: ﴿عطاء غير مجذوذ﴾ أي دائم غير منقطع بمعنى أن الله سبحانه وتعالى سوف يعطي السعداء من أنواع النعيم ما هو فوق ما وصف به جناته: ﴿فلا تك﴾ أيها السامع: ﴿في مرية﴾ أي شك: ﴿مما يعبد هؤلاء﴾ أي من عبادة كل من الأشقياء والسعداء فكل منهما كان يعبد ربه حقًّا وإنما يتفاوتون من ناحية العقيدة صحة وفسادًا وإخلاصًا وشركًا وكلهم: ﴿ما يعبدون إلا كما﴾ كان: ﴿يعبد آباؤهم من قبل﴾ فهم مقلدون لآبائهم سواء كانوا على هدى أو على ضلال: ﴿وإنا لموفوهم نصيبهم﴾ من الجزاء على أعمالهم بحسب ما أعلناه لهم جزاء وافيًا: ﴿غير منقوص﴾ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا بمثلها.
بعد أن بين الله الغاية من ذكر ما كان من الأمم السابقة من أعمال وما نالهم من جزاء في الدنيا وما ينتظرهم في الآخرة من عذاب وقسم الناس فيها إلى قسمين أشقياء وسعداء مع أنهم جميعًا يعبدون الله وإنما يتفاوتون من ناحية العقيدة صحة وفسادًا وإخلاصًا وشركًا، سيوفيهم الله بمقتضاه نصيبهم كاملًا غير منقوص أخذ يشير إلى أمر قد يكون محل نظر وموضع تساؤل وهو أنه لماذا رمى الله أقوام الأنبياء السابقين بعذاب الاستئصال في الدنيا مضافًا إلى ما ينتظرهم من العذاب في الآخرة بخلاف قوم موسى الذين أنظرهم وأخر جزاءهم إلى الآخرة فبين سبحانه وتعالى السر في هذا ليكون في هذا عبرة وذكرى لأمة محمد التي هي آخر الأمم وقد أخر الله جزاءهم إلى يوم القيامة بقوله: ﴿ولقد آتينا موسى الكتاب﴾ الذي هو التوراة ليكون دستورًا يحتكمون جميعًا إليه: ﴿فاختلف فيه﴾ أي أخذوا يحرفون الكلم عن مواضعه مما أدى إلى الاختلاف في فهمه وتطبيقه وكانوا شيعًا تنتحل كل شيعة مذهبًا خاصًّا بها تعادي من يخالفها فيه: ﴿منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه﴾ ومن أجل هذا أنظروا.
أنه: ﴿زين للذين كفروا مكرهم﴾ أي أن الشيطان قد استحوذ على نفوس الذين كفروا فحبذ إليهم التصلب لآرائهم وتقليد آبائهم فيما وجدوهم عليه من ضلال أو عدم تحكيم عقولهم فيما جئتهم به من الآيات البينات: ﴿وصدوا عن السبيل﴾ أي حالوا دون الناس ومعرفة الحق: ﴿ومن يضلل﴾ بأن يدعه يسلك السبيل الذي سنه تعالى للضلال الذي هو الإعراض عن الحق وإتباع النفس والشيطان وتقليد الآباء: ﴿فما له من هاد﴾ أي فليس في استطاعة أحد أن يرسم له سبيلًا للهداية غير ما رسمه الله لها من الإيمان بالله واتباع الرسل والاهتداء بما جاء في الكتب المنزَّلة من عنده أولئك: ﴿لهم عذاب في الحياة الدنيا﴾ إذ يعانون فيها مختلف المصائب ومنغصات العيش نتيجة عدم اتباعهم لتعاليم القرآن التي جعل الله فيها أكبر ضمان للسلام العالمي والسعادة في هذه الحياة فقد قال تعالى: ﴿من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾: ﴿ولعذاب الآخرة أشق﴾ من عذاب الدنيا: ﴿وما لهم من الله من واق﴾ أي ليس لهم من حافظ يعصمهم من عذاب الله في الدنيا ويجعلهم في أمان على أنفسهم ودوام النعم عليهم وليس لهم في الآخرة من يملك حق الشفاعة عند الله حتى يقيهم من عذابه.
بعد أن حدد الله لرسوله مهمته التي عهد بها إليه وهي مجرد تلاوة ما أوحي به إليه للناس كما كانت مهمة الرسل السابقين لمن كان قبلهم من الأمم وأخبره بما يعلمه تعالى من كفر قومه حتى بإثبات صفة الرحمة له جل وعلا ورسم له طريق الدعوة حيث أمره بتقرير حقيقة التوحيد وإثباتها للناس عن طريق العقل والمنطق الصحيح والتدبر في آيات الله وسنن الكائنات فذلك خير من الإيمان الذي يأتي عن طريق التلويح بخوارق العادات ثم توعد الكافرين بالعذاب في الدنيا والآخرة أردف ذلك بذكر ثواب المتقين في الآخرة فقال: ﴿مثل الجنة التي وعد المتقون﴾ بها يوم القيامة ليس هو كمثل جنات الدنيا بل تمتاز عنها بصفات ثلاث الأولى:
قوله: ﴿تجري من تحتها الأنهار﴾ أي أنها تجري من تحت الجنان بخلاف جنات الدنيا فالأنهار تخترقها وتجري خلالها والإنسان متى أراد التمتع بمنظر الماء سعى إلى حافة النهر كما انه إذا أراد الحصول على نوع من أنواع الفاكهة سعى إلى الشجرة فأخذها منها ولكن أنهار الجنة ترى في كل موضع في الجنة كما أن الثمار فيها قطوفها دانية تتدلى إلى الشخص وهو في مكانه من غير تعب ولا جهد، والصفة الثانية قوله: ﴿أكلها دائم﴾ أي أن أنواع الطعام ميسور وموجود في جميع الأوقات لا
لكم الحياة في هذه الدنيا ولولاه ما خلقتم: ﴿ثم يتوفاكم﴾ بانتزاع أنفسكم من أجسامكم عند انتهاء آجالكم بمعنى أنه هو الذي قدر الحياة والموت وقدر لذلك أطوارًا ومراتب يرتقي إليها الإنسان عادة تتسع خلالها معلوماته وينضج عقله وجسمه. سن النشوء والنماء، وسن الشباب، وسن الكهولة، وسن الشيخوخة، وبعد ذلك يأخذ في التدهور والانحطاط ولذا قال: ﴿ومنكم من﴾ يتجاوز تلك الأطوار حيث: ﴿يرد إلى أرذل﴾ أي أحقر: ﴿العمر﴾ وهو ما يسمى بسن الهرم وهو منتهى الضعف وأقصى الكبر الذي يبلغ فيه الإنسان درجة التخريف بحيث يشبه الطفل في نقصان العقل: ﴿لكي لا يعلم بعد علم﴾ أي بعد ما كان لديه من علم كثير: ﴿شيئًا﴾ من المعلومات التي حصل عليها طوال السنين الماضية فيفقد ذاكرته ويحرم من كثير من فضائله ومميزاته ولذا قال تعالى: ﴿ومن نعمره ننكسه في الخلق﴾ ولا شك أن الذي سن هذا النظام في حياة الإنسان إنما هو الله ولذا قال: ﴿إن الله عليم﴾ بمقادير أعماركم التي حددها: ﴿قدير﴾ على كل شيء يميت الشاب النشيط ويبقي الهرم الفاني حسب ما قدره في أزله لا يسأل عما يفعل. وثمّ سنة أخرى من سنن الله في الخلق التي تدل على سلطانه تعالى على الناس في أرزاقهم وأنه هو قاسمها بين عباده فقال: ﴿والله فضل بعضكم على بعض في الرزق﴾ أي أنه تعالى هو رازق الجميع من فضله بدليل ما اقتضته مشيئته الأزلية ومن أن يكون الناس متفاوتين في الرزق فجعل منهم الغني والفقير والخادم والمخدوم ولولا ذلك لتساووا في الرزق كما تساووا في الخلق مع أنه تعالى هو الذي تكفل برزق الجميع حيث قال: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ وذلك بخلقه المواد الأولية لطعام كل حي وشرابه ولبسه، وترك للناس كامل الحرية في تخير الأسباب المؤدية لنيل ذلك الرزق واكتشاف مواضعه: ﴿فما الذين فضلوا﴾ على غيرهم بالمال والجاه والأجل الذي أوجدوه بسعيهم: ﴿برادي رزقهم﴾ المقسوم لهم: ﴿على ما ملكت أيمانهم﴾ من الجواري والعبيد بل إن الذي يفيض عن حاجتهم ما هو إلا ما قسمه الرازق للجواري والعبيد وأجراه على أيدي سادتهم فالمالك لا يرزق العبد من عنده بل الرازق للعبد هو الله فكم من لقمة تصل إلى فم الإنسان أو جوفه ويتقيأها لتكون طعامًا لحيوان آخر: ﴿فهم فيه سواء﴾ أي إنهم جميعًا يرزقون من فضل الله إذ لو استطاع السادة أن يأكلوا أكثر مما قسم لهم لما تركوه: ﴿أفبنعمة الله﴾ الذي أوجد أساس الرزق وأقدرهم على نيله وسخر الناس لبعضها وقدر لكل ما
النعم أسبابًا يعزون إليها ما حصل كأن يقولوا إن هذا من الأمور الطبيعية أو هو نتيجة سعينا وجدنا أو هو عن طريق الصدفة أو الحظ أو النصيب، وكان الأجدر بهم أن يقولوا الحق فينسبوا كل ذلك إلى الله مسبب الأسباب ومقدر الأقدار ومانح الأرزاق: ﴿قل﴾ أيها الرسول لأمثال هؤلاء: ﴿الله أسرع مكرًا﴾ منكم إذ سبق في تدبيره لأمور العالم أن قدر الجزاء على الأعمال قبل وقوعها وأنذركم بها ونبه إلى ما سيكون منكم و ﴿إن رسلنا﴾ من الملائكة الكرام الكاتبين: ﴿يكتبون ما تمكرون﴾ من جحود لتلك النعم فلتأخذوا لأنفسكم حذرها وقد أخبرنا الله جل جلاله بالغاية من هذه الكتابة وفائدتها في إدانة المجرمين يوم القيامة بقوله في سورة الجاثية: ﴿هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق إنا كنا نستنسخ ما كنتم تعملون﴾ ثم جاء العلم الحديث فصور لنا ذلك الاستنساخ بأخذ شريط مسجل الأصوات والمناظر وعرضها على الشاشة البيضاء في إثبات الوقائع الإجرامية وما كان لكم أن تمكروا في آياته وتجحدوا نعمه وهو المهيمن على جميع حركاتكم وسكناتكم إذ: ﴿هو﴾ وحده: ﴿الذي﴾ يملك قوة الروح التي: ﴿يسيركم﴾ بها: ﴿في البر والبحر﴾ والتي لولاها ما استطعتم أن تبدو حراكًا وكنتم من ضمن الجمادات التي لا تعقل ولا تفعل شيئًا من تلقاء نفسها، وهذه هي أولى النعم التي أنعم الله بها عليكم وكان عليكم أن تذكروها بالشكر في كل لحظة، وثم نعمة ثانية أشار إليها سبحانه بقوله: ﴿حتى إذا كنتم في الفلك﴾ أي السفن التي هي أيضًا من نعم الله عليكم لأن المواد التي تتكون منها تلك السفن لم تكن إلا من خلق الله وإيجاده وثم نعمة ثالثة أشار إليها تعالى بقوله: ﴿وجرين بهم بريحٍ طيبةٍ﴾ أي جرت هذه السفن بقوة الريح الطيبة التي جعلها الله صالحة لتسيير السفن ولو زادت واشتدت لأغرقتها: ﴿وفرحوا بها﴾ لما يجدونه عليها من متعة بمنظر البحر الجميل ولم يدعهم كل هذا إلى شكر الله والتوجه إليه بالحمد والثناء غير أنه في لحظة واحدة: ﴿جاءتها﴾ أي الفلك: ﴿ريحٌ عاصفٌ﴾ أي شديدة قوية يختل معه توازن السفن بحيث تشرف على الغرق: ﴿وجاءهم الموج من كل مكانٍ﴾ بسبب اضطراب البحر بتأثير تلك الريح بحيث لا يستطيع الإنسان أن يسبح على سطحه: ﴿وظنوا﴾ أي اعتقدوا اعتقادًا راجحًا: ﴿أنهم أحيط بهم﴾ من كل جانب فلا سبيل إلى النجاة، عند ذلك فقط ذكروا أن لهم ربًّا هو وحده الذي يمكن أن يخلصهم من مآذق الحرج التي وقعوا فيها ولذلك: ﴿دعوا الله﴾ أن
سورة التغابن: بعد أن نبه الله رسوله في السورة السابقة إلى أن من الناس من يظهر غير ما يبطن وسماهم المنافقين وحذره من الانخداع بهم وعرفه بأوصافهم وأخبره بما اقتضت سننه فيهم وختم السورة بدعوة المؤمنين إلى دوام الصلة به وعدم التهاون في طاعته أخذ يطري في هذه السورة جليل عظمته ومبلغ عدله ورحمته فقال: ﴿يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ أي أن جميع الكائنات تشهد بخلقه تعالى لها من غير منازع أو معاون وأنه سبحانه: ﴿لَهُ الْمُلْكُ﴾ أي حق التصرف فيها كيف يشاء: ﴿وَلَهُ الْحَمْدُ﴾ أي أنها جميعًا مدينة له بالحمد والشكر فلولا قضاؤه لما خلقت ولما استقام أمرها وفق هذا النظام العجيب: ﴿وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ بمعنى أنه تعالى وحده القادر على إبادة هذا الخلق وإيجاد سواه وتغيير السنن وتبديل النظم لا معارض له في شيء من ذلك قطعًا: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ من الأساس نفوسًا ذرية لطيفة لا ترى هي أصل الإنسان والعنصر السامي المسيطر على أعضائه والمسؤول عن جميع تصرفاته وقد منحها الله كامل الحرية وآتاها من مختلف الملكات والقوى ما يجعلها تعقل تفكر وتعبر بواسطة الجسم عما ترد وتنفذ ما تشاء ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا: ﴿فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ﴾ أي فإذا أنتم مختلفون في الاتجاه والتفكير منكم من يفكر في أمر نفسه ودقائق صنعه فيدرك عظمة الله وآلائه فيؤمن به ويسعى لرضاه، ومنكم من يصرف أنظاره عن هذا السبيل ولا يفكر إلا في أمر جسمه وما يحتاج إليه من غذاء وما يتطلبه من ملذات فيكفر بخالقه ويتبع هواه، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على عظيم قدرة الله ووافر عدله إذ منحكم كامل الحرية فلم يجعلكم مقهورين في إرادتكم مسخرين في أعمالكم وتصرفاتكم: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ أي في حين إن ذلك منكم كان تحت سمع الله وبصره وفي إمكانه أن يبيد الكافرين منكم في الحال ولكنه تعالى لم يفعل ذلك لأن ما ذكر هو نتيجة طبيعية للحرية التي منحها لعباده: ﴿خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ﴾ أي وفق الأمر الذي قضى به جل وعلا في خلقهما والحالة التي هما عليها والنظام الذي سنه لهما وسخرهما من أجله فلا يستطيعان أن يحيدا عن ذلك قيد شعرة: ﴿وَصَوَّرَكُمْ﴾ أي جعل لكم صورة وشكلًا: ﴿فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ﴾ بما أودعها من دقة الصنع وحسن التنسيق وجمال المنظر ما يتفاوت بتفاوت الأنظار ويختلف باختلاف الأذواق ليجعل من هذا أيضًا دليلًا على عظيم قدرة الله وسبيلًا للهدى أو الضلال فمن قدر الله هذه المنة وشكره عليها كان مؤمنًا حقًّا ومن جهلها وجحد فضل الله مانحها
إليه: ﴿عددًا﴾ أي على وجه الحصر وهذا يعني أن كل ما يطلع الله رسوله عليه من الشؤون الخمسة كأمر دنو أجله ﷺ وأشراط الساعة مثلًا فإنه حق لا مرية فيه وهو مما أكرم الله نبيه به فلا يقال من أين له هذا والله قد أخفى أمره عن العباد. والله أعلم.
الصناعات لنيل الرزق وراحة الجسم فإذا ثبت هذا لديه ثبت له بالتالي أن الله هو الذي خلقه، ولذا خاطبه المولى بقوله: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ﴾ أي فما يكون له أن يغتر بنفسه ويحسب أنه من القوة بحيث لا يقدر على جزائه أحد؛ بل إن الأمر بالعكس فمن كان دائم العمل متعبًا من تحمل المشاق فأقل شيء يؤذيه وقد تصرعه نملة أو ذبابة فهو مغرور بنفسه متطاول حتى على الله بكسبه وما ملكت يداه: ﴿يَقُولُ أَهْلَكْتُ﴾ أي أنفقت: ﴿مَالًا لُّبَدًا﴾ أي كثيرًا في سبيل الله: ﴿أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ﴾ ملائكة الله الكرام الكاتبين الذين يدونون كل ما ينفق، وسواء أعلم بوجود الملائكة الذين يرونه أو لم يعلم فهو لا يستطيع أن يجحد ما سيلقى عليه من السؤال التالي: ﴿أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ﴾ أي أنه لا ينكر أن الله هو الذي جعل هذه الحواس أداة للنظر والنطق فهي لا تخفي على خالقها كل أعمال الإنسان بل إنها إنما خلقت لتكون رقيبة على جميع حركاته وسكناته،: ﴿وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾ النجد المرتفع من الطرق التي يصعب ارتقاؤها والمراد بهما طريق الخير والشر إشارة إلى أن في كل من الطرفين وعورة وصعوبة مسلك أي أنه تعالى أودع في فطرة الإنسان التمييز بين الخير والشر وجعل له من عقله ووجدانه ما يشجعه على المضي في أي سبيل يختاره لنفسه: ﴿فَلا اقْتَحَمَ﴾ أي فهلا أقدم بشدة على تذليل كل شاق: ﴿الْعَقَبَةَ﴾ الطريق الصعب في أعلى الجبال: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ﴾ إنها مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وما يسول له شيطان الإنس والجان من عقبات في سبيل رضاء الله وهذا إنما يكون بأحد أمرين أولهما: ﴿فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ جاء رجل إلى النبي ﷺ وقال: «دلني على عمل يدخلني الجنة، قال: عتق النسمة وفك الرقبة قال: يا رسول الله: أوليسا واحدًا قال: لا» عتق النسمة أن ينفرد بعتقها وفك الرقبة أن تعين في ثمنها وبهذا يكون المراد الإسهام في تحرير البشر من رق العبودية لغير الله، وثانيهما: ﴿أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ﴾ أي شدة القحط والمجاعة وهو اليوم الذي يحرص فيه كل إنسان على ادخار القوت ويتطلع إلى ارتفاع أثمان السلع واغتنام الفرص لزيادة الثروة ويثقل عليه فيه عمل الخير والمراد بهذا عدم احتكار الأرزاق في أوقات المجاعة على الناس الذي لا يخلون عادة من أحد فريقين: ﴿يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ﴾ القربى في الأصل قربي النسب ولكن الإسلام قد اعتبر المسلمين جميعهم إخوة وأوصى بالجار حتى ظن أنه سيورث: ﴿أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ﴾ أي يفترش التراب من عظم فاقته: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ أي أنه يثاب على ما فعل من هذه الأعمال متى آمن يؤيد هذا


الصفحة التالية
Icon