التي حرمت على آدم في الجنة وعلى أبنائه بغير عقد شرعي في هذه الحياة وقد أتم الآية بقوله: ﴿فتكونا﴾ بالقرب بمعنى الجماع ﴿من الظالمين﴾ لأنفسهم باستحلالهم ما جعل الله الأصل فيه الحرمة ﴿فأزلهما﴾ أي حملهما على الزلل وقرئ ﴿فأزالهما﴾ أي فنحاهما ﴿الشيطان عنها﴾ أي عن الجنة بما زين لهما من مخالفة الأمر ﴿فأخرجهما مما كانا فيه﴾ من نعيم الجنة ومتاعها حيث استحقا غضب الله عليهما فما كان منه سبحانه إلا أن قال ﴿وقلنا اهبطوا﴾ أيها العاصون من إبليس وأتباعه وآدم وزوجه ﴿بعضكم لبعضٍ عدو﴾ عداوة متأصلة يتوارثها الأبناء عن الآباء ما ذكروا هذه القصة ﴿ولكم في الأرض مستقرٌّ﴾ أي موضع سكن مؤقت ﴿ومتاعٌ﴾ المتاع ما ينتفع به انتفاعًا قليلًا ﴿إلى حين﴾ أي وقت معلوم عنده جل وعلا ثم تعودون إلى حياة الخلود الدائمة وهي الحياة الأخرى وهذا ما أطمع آدم في غفران ربه، فندم على ما فرط منه وأناب ﴿فتلقى آدم من ربه كلماتٍ﴾ قالها وهي كما في سورة الأعراف ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ﴿فتاب عليه﴾ وتجاوز عن عقابه على تلك الزلة، وسن بذلك سنة لأبنائه من بعده أن يستغفروا الله فيتوب عليهم ﴿إنه هو التواب﴾ الذي يقبل التوبة من عباده ﴿الرحيم﴾ الذي يعطف عليهم لضعفهم وانكسارهم، ولقد سجل الله بهذه الآيات الكريمة مننًا عظمى له على الإنسان: الأولى أنه أخضع له كرام خلقه وهم الملائكة حيث أمرهم بالسجود له والكثير من مخلوقاته من باب أولى، والثانية أنه جعل إقامته الدائمة ستكون في الجنة وأن هبوطه إلى الأرض ما كان إلا لفترة محدودة لعمار هذا الكون، وأداء الاختبار، والثالثة أنه فتح له في ساعة الزلة باب التوبة وألهمه من الكلمات ما هو سبيل الغفران بعد أن تلقى آدم بشارة التوبة من ربه وقف طامعًا أن يكون من مقتضى التوبة العفو والتجاوز عن الهبوط إلى الأرض، ولكنه بالنظر لأن أمر الهبوط كان مشتركًا بين آدم وإبليس الذي لم يستغفر ولم يندم كرر الله الأمر حيث قال: ﴿قلنا اهبطوا منها جميعًا﴾ إلى الأرض كما سبقت إرادتي بذلك من قبل، على أن تظلوا في دور اختبار دائم، وإني سأصدر عليكم أوامر أخرى كلها لمصلحتكم ﴿فإما يأتينكم مني هدًى﴾ عن طريق رسل من قبلي وكتب منزلة مني ﴿فمن تبع هداي﴾ وأطاع أوامري واجتنب ما أنهاه عنه ﴿فلا خوف عليهم﴾ من حلول نقمة الله بهم ما داموا سائرين على طريق الهدى ﴿ولا هم يحزنون﴾ على ما فاتهم من سكنى الجنان لأنهم واثقون من عودتهم إليها حسب وعد الله الذي عفا عنهم ولم يقصد بهم سوءًا في هذه الأرض، وما دامت إرادة الله قد
يقتضيه فضل الله وكرمه وما يعلم أنهم في حاجة إليه لنفقة من يعولون ممن تعهد الله برزقهم وجعله عن طريقهم حيث قال ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾.
بعد أن أخبر الله نبيه بأمر الخلاف الحاصل بين الناس واستهزاء بعضهم ببعض وتفوق طائفة من المستهزأ بهم في الدنيا على المستهزئين في الآخرة أراد أن يبين له منشأ الخلاف وما طرأ عليه من تطور فقال ﴿كان الناس﴾ من عهد آدم ﴿أمة واحدة﴾ قاصرة في مداركها ورغائبها تسير على الفطرة وتهتدي بهدي العقل ولا تتدين بدين ولا تعرف عن الآخرة شيئًا ﴿فبعث الله﴾ لهم ﴿النبيين﴾ هداة للناس إلى ما هو فوق التفكير العادي ﴿مبشرين﴾ بحياة جديدة أخرى غير هذه الحياة الدنيا فيها الاستقرار والنعيم الدائم ﴿ومنذرين﴾ بأهوال وشدائد تتخلل تلك الحياة ﴿وأنزل معهم﴾ من ربهم ﴿الكتاب﴾ الذي يوضح الطيب من الخبيث والنافع من الضار ﴿بالحق﴾ متضمنًا للأوامر والنواهي الإلهية ﴿ليحكم﴾ ليكون ذلك الكتاب دستورًا وقانونًا حكمًا ﴿بين الناس﴾ يرجعون إليه ﴿فيما اختلفوا فيه﴾ في معاشهم ومعاملاتهم ﴿وما اختلف فيه﴾ أي في أصول الحكم الذي جاء به الكتاب ﴿إلا الذين أوتوه﴾ أي الكتاب وذلك بالتحريف والتبديل والتأويل بالهوى ومن غير دليل أو برهان ﴿من بعد ما جاءتهم البينات﴾ أي من بعد أن قامت الأدلة على أنه ما جاء إلا لإزالة الخلاف والتوفيق بين الناس فما كان لهم أن يتخذوا منه أداة للاختلاف وتمزيق الشمل ﴿بغيا بينهم﴾، ولم يكن اختلافهم هذا إلا ظلمًا منهم نتيجة التمسك بالرأي ومقاومة من يخالفه ولولا ذلك لعملوا على جمع الكلمة وتجنب الخلاف فيما جاء للفصل فيما يكون بين الناس من خلاف ﴿فهدى الله﴾ بالقرآن الكريم ﴿الذين آمنوا﴾ بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر ﴿لما اختلفوا فيه من الحق﴾ إلى استخلاص الأحكام الصائبة من بين ثنايا ما أنزل الله ﴿بإذنه﴾ حيث شملهم بتوجيهاته الإلهية التي جعلتهم ينطقون بالحق ﴿والله﴾ في دستوره ﴿يهدي من يشاء﴾ فاعل يشاء عائد إلى من يعني العبد لا إلى الله أي أنه تعالى يهدي من يشاء الهداية لنفسه بسلوك سبلها من الإيمان واتباع القرآن الذي
«إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء» أي يشاء الهداية لنفسه.
«استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله والله لا يهدي القوم الفاسقين» وإنما هو سبحانه وتعالى في حكمه بين الناس يجزيهم بأعمالهم ويعطي كل ذي حق حقه.
«من عمل صالحًا فلنفسه ومن أساء فعليها ثم إلى ربكم ترجعون».
وهو بهذا المبدأ الذي قرره على نفسه لا يمكن أن يجزي المحسن سوءًا ولا يحرم العامل جزاء عمله بل إنه تعالى أخذ على نفسه أن يثيب العاملين حيث قال تعالى: «والذين آمنوا وعملوا الصالحات سندخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا وعد الله حقًا ومن أصدق من الله قيلا» وأخبرنا جل وعلا أن رضوان الله أو ثوابه لا ينال بمجرد الأماني والتقاعس عن العمل بل إن كل شيء عنده وفي نظامه الأزلي مترتب على ما يبذله الإنسان من جهود وما يقدمه من إحسان في النية والقول والعمل حيث قال تعالى: «ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به ولا يجد له من دون الله وليًا ولا نصيرًا ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا ً».
وقد حض الله الناس على العمل وأخبرهم أنه رقيب على أعمالهم التي رتب سبحانه الجزاء عليها ليطمئنوا إلى أنه سوف لا يضيع عليهم من عملهم شروى نقير حيث قال تعالى:
«وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون وستردون إلى عالم الغيب والشهادة فينبئكم بما كنتم تعملون». كما أكد لنا تعالى أنه لا قيمة للدعاء إذا لم يكن مصحوبًا بالعمل بما حكاه جل جلاله من أمر أولئك المؤمنين الذين حسبوا أن إيمانهم ودعاءهم سيؤدي بهم إلى الفوز برضوان الله حيث قالوا: «ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا وتوفنا مع الأبرار ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ولا تخزنا يوم القيامة إنك لا تخلف الميعاد» وقد رد الله عليهم بما يصحح هذا الوهم الخاطيء الذي رسم في أذهانهم بما يشعرهم بما
تطيعوا} أمر ﴿الذين كفروا﴾ وتأتمروا بما يملونه عليكم من أوامر ويسنونه لكم من نظم وقوانين من وضعهم وتخضعوا لإرادتهم وترضوا بولايتهم عليكم ﴿يردوكم على أعقابكم﴾ يرجعوكم عن دينكم الحق بما يدسونه في قوانينهم من أحكام تخالف حكم الله الذي أنزل عليكم والذي هو واجب الطاعة دون سواه ﴿فتنقلبوا خاسرين﴾ وهل من خسارة أعظم من رجوع المؤمن عن دينه، وهل من ذل للمرء أكثر من أن يصبح تابعًا بعد أن كان متبوعًا، ومحكومًا بعد أن كان حاكمًا، ستقولون إنا لم نطعهم ولم نقبل ولايتهم إلا لما نجده فيهم من قوة وبأس وما نؤمله منهم من عون ونصر ﴿بل الله﴾ الحق أحق أن تطيعوه وتعتمدوا على قوته ونصره لكم وقرئ بفتح الهاء على تقدير بل أطيعوا الله فهو أولاً ﴿مولاكم﴾ الذي خلقكم وسواكم ومنحكم الحياة وآتاكم القوة وسبب لكم الأسباب وهو القادر بذاته على نصر من يشاء من عباده ﴿و﴾ ثانيًا أنه سبحانه ﴿هو خير الناصرين﴾ ذلك لأن نصرة المخلوق للمخلوق محصورة في المادة وهي الجند والعتاد ونصر الله لعباده فوق ذلك فإنه جل وعلا الذي يملك من وسائل النصر وأسباب الظفر من القوى غير المنظورة ما لا يستطيع العقل البشري تصوره. وحسبك أنه سبحانه وتعالى القائل: ﴿سنلقي﴾ متى أردنا نصر المؤمنين ﴿في قلوب﴾ أعدائهم من ﴿الذين كفروا﴾ بالله وقدرته اعتمادًا على غيره من الأسباب المادية ﴿الرعب﴾ بسكون العين وقرئ بضمها وهو سلاح ماض مؤثر جدًا للخذلان وهو من الأسلحة الخفية التي لا يملكها غير الله وحده، ومن المسلم به أنه إذا ضعفت القوى المعنوية في الجيش وملئت القلوب بالذعر فلا سبيل إلى النصر أبدًا. ﴿بما أشركوا﴾ أي بسبب شركهم ﴿بالله﴾ من الأصنام والمعبودات الباطلة التي زعموا أنها وسائط بين الله والخلق واعتقدوا فيها النفع والضر وقضاء الحاجات وتفريج الكربات والنصر على الأعداء ﴿ما لم ينزل﴾ الله ﴿به سلطانا﴾ حجة أو دليلاً في كتابه أو على لسان أنبيائه ﴿ومأواهم النار﴾ في الآخرة جزاء على إشراكهم ﴿وبئس﴾ النار ﴿مثوى﴾ مستقر ﴿الظالمين﴾ الذين يسيئون إلى أنفسهم بتعاميهم عن سبيل الحق واتباع الضلال.
بعد أن حض الله على الجهاد في سبيله وحذر المؤمنين من الرضاء بولاية الكفار عليهم لما يترتب على ذلك من ارتدادهم على أعقابهم وأكد لهم أن طاعته جل وعلا أفضل من طاعتهم لأنه هو مولاهم وهو خير الناصرين الذي يملك سلاح إلقاء الرعب في قلوب الذين كفروا نتيجة الإشراك به أخذ سبحانه وتعالى يقيم لهم الأدلة الملموسة على فضيلة الإنصياع لأحكامه وما
الذي يرديكم، والواقع أن الذي يحملهم على هذا الظن إنما هو سوء فهمهم للحقائق وتمسكهم بالأوهام والخرافات *** بالله ولكنهم لا يعلمون بما يأمرهم به ﴿وإن تصبهم حسنة يقولوا هذه من عند الله﴾ لعنايته بهم ﴿وإن تصبهم سيئة يقولوا هذه من عندك﴾ أيها الرسول أي بسببك لأنك لم تدع لنا مثلًا أو أنك دعوت علينا أو لأن وجودك شؤم علينا ﴿قل كل من عند الله﴾ لوقوعها في ملكه وعلى مقتضى سننه في نظام الأسباب والمسببات ﴿فمال هؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثًا﴾ إذ ينسبون لغيره تأثيرًا في النفع والضرر وينسبون إلى الرسول شيئًا لم يكن له ضلع فيه أو هو ليس من اختصاصه ولا يرجعونها إلى الأسباب الحقيقية لها من أعمالهم ولأجل أن لا يخطئوا فينسبوا السيئة إلى الله واضع السنن قال لنبيه وحتى أنت أيها الرسول الذي ينسبون إليك السيئة ﴿ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك﴾ ذلك لأن الإنسان إذا اكتسب خيرًا فقد أضفى على نفسه من نعم الله شيئًا جديدًا وذلك الشيء هو من ملكوت الله ومن عطائه والله طيب لا يعطي إلا الطيب وأما من أساء وعمل بما لا يرضى الله فقد جلب على نفسه بعمل يده شيئًا خبيثًا والخبيث من نفسه نتيجة تفريطه أو إفراطه وعدم اتقائه لأسبابه وبعبارة أخرى إن المسيئ يحرم نفسه من الخير بفعل الشر، والحرمان أمر سلبي لا يجنى من ورائه الخير بل إنه يستحق عليه العقاب ﴿وأرسلناك للناس رسولًا﴾ تؤكد لهم هذه الحقيقة وتنذرهم نتيجة عدم التمسك بها ﴿وكفى بالله شهيدًا﴾ على إنك قد بلّغت...
بعد أن ضرب الله المثل لرسوله بما يلقيه الشيطان في قلوب أوليائه من المكائد التي يثبط بها الهمم عن طاعة الله وأملى عليه من الحجج ما يصحح به عقائدهم ويحملهم
بعد أن أخبر الله رسوله عن سر كفر النصارى واليهود وما يتبجحون به من سيئ الأقوال وفاسد المعتقدات أردف ذلك بذكر شيء من مساوئهم التي لم يكن يعلم بها من قبل وفي مقدمتها كفرهم بنعم الله ومصادمة سننه وعدم الانصياع لأوامره التي فيها خبرهم حيث قال (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ) بعد أن أنقذهم من ظلم فرعون وقومه وحررهم من نير العبودية (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) وقد فصلها لهم بثلاثة أمور
الأمر الأول: (إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ) لم يبعث في أمة من الأمم مثل ما بعث لكم فمنهم السبعون الذين اختارهم موسى من قومه فانطلقوا معه إلى الجبل وكلهم من أولاد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
الأمر الثاني: قوله (وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا) ليس المراد بالملك هنا الحكم والسيطرة وإلا لقال جعل فيكم ملوكاً كما قال جعل فيكم أنبياء وإنما المراد بالملك ما هو أعم من ذلك وهو سعة الرزق والتمتع بما يتمتع به الملوك من الرفاهية ورغد العيش وهو مجاز تستعمله العرب إذ يقولون لمن كان مرفها في عيش فلان ملك أو ملك زمانه أي يعيش عيشة الملوك قال الضحاك كانت منازل اليهود واسعة وفيها مياه جارية وكانت لهم أموال كثيرة وخدم يقومون بأمرهم وها هم يوصفون اليوم بأنهم ملوك المال لأن معظمهم أصحاب ثروة عظيمة.
الأمر الثالث: قوله (وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ) من خوارق العادات التي أكرمهم بها الله إذ فلق البحر لنجاتهم وأهلك عدوهم وأورثهم أموالهم وأنزل عليهم المن السلوى وأخرج لهم المياه العذبة من الحجر الصلد وأظلهم بالغمام إلى غير ذلك من الآلاء التي لم يقدروها حق قدرها وقد طلب منهم موسى إثر تعدادها عليهم مجاهدة أعدائهم فقال (يَا قَوْم ادْخُلُوا الْأَرْضَ) أي جاهدوا في سبيل الدخول إليها واحتلالها عنوة بما آتاكم الله من قوة (الْمُقَدَّسَةَ) أي المباركة روى بن عساكر عن معاذ بن جبل «أن الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات» وروى عبد الرازق وعبد بن حميد عن قتادة «أنها الشام» وإن كان المشهور عند الناس أنها فلسطين التي بها بيت المقدس (الَّتِي كَتَبَ اللهُ لَكُمْ)
<٤٥>
أي التي وعد الله بها إبراهيم بالسكن فيها حيث جاء في سفر التكوين إنه لما مر إبراهيم بأرض
أمرك يقض حاجتك. قال فعمل بما أمر به وفرج كربه. ولعل أمثال هؤلاء الناس، وما فتنوا به من هذه الأقوال، التي يحاولون بها نفي الشرك عن أنفسهم، هم الذين نزلت في حقهم هذه الآية رزقنا الله الإيمان الخالص، وجنبنا مواضع الزلل، ومهاوي الشرك، بفضله ورحمته وحسن رعايته.
بعد أن أخبر الله رسوله بأن أهل الكتاب يعرفون الله كما يعرفون أبناءهم غير أن الذين تحكمت فيهم أهواؤهم لا يؤمنون برسالته عن ربه قال ﴿ومنهم من يستمع إليك﴾ أي إلى ما تتلوه من القرآن الذي هو سبيل الهداية فيخيل إليك أنه قد آمن برسالتك وأن إصغاءه للقرآن من شأنه أن ينير بصيرته ويحمله على الإيمان بالله واليوم الآخر ﴿وجعلنا على قلوبهم أكنة﴾ أي أغطية ﴿أن يفقهوه﴾ أي تحجب مقاصد القرآن ومراميه عن سامعيه ﴿وفي آذانهم وقرًا﴾ أي ثقلًا حائلًا دون سماعه بقصد التدبر والاتعاظ به وليس المراد بالجعل هنا هو أن الله قد حال دونهم ودون الوعي، بل إن هذا الجعل من الله هو ما قضت به سنته في طبائع البشر من الجمود الفكري والتأثر بالبيئة، وما يلقنه الآباء للطفل من أول عهده بالحياة، فهو إذ يستمع إلى قول مخالف لما وقر في ذهنه يرفضه ولا يتدبره بل لا يراه جديرًا باهتمامه والأخذ به. وجعل الأكنة على القلوب والوقر في الآذان في الآية، من تشبيه الحجب والموانع المعنوية بالحجب والموانع الحسية. فالقلب الذي لا يفقه الحديث ولا يتدبره كالوعاء الذي وضع عليه الغطاء الذي يمنع تسرب شيء إلى داخله. والآذان التي لا تفقه الكلام كالآذان المصابة بالصمم لا تستفيد شيئًَا مما يلقى إليها ﴿وإن يروا كل آية﴾ من آيات القرآن الداعية إلى الإيمان بوحدانية الله وكتبه ورسله واليوم الآخر ﴿لا يؤمنوا بها﴾ وينكرون صحتها ﴿حتى إذا جاءوك﴾ لم يجيئوا بقصد الاهتداء أو للوصول إلى حقيقة ما تدعو إليه بل إنهم ﴿يجادلونك﴾ أي بقصد الجدل وهو شدة الخصومة متأثرين بما ﴿يقول الذين كفروا﴾ عن القرآن ﴿إن هذا إلا أساطير الأولين﴾ بمعنى أنه عبارة عن كتاب تاريخي يحتمل الصدق والكذب. ولذلك فإنهم لا ينظرون إليه كدستور سماوي أنزل لهداية الناس إلى ما فيه خيرهم وصلاحهم، بما اشتمل عليه من مواعظ وعبر وتشريع كامل، يحدد علاقة الفرد بربه، وعلاقته بإخوانه وبالمجتمع الإنساني، ويكفل له السعادة الكاملة في الدارين. ﴿وهم﴾ أي من سبق ذكرهم ممن يستمع إليك من المعاندين ﴿ينهون﴾ الناس ﴿عنه﴾ أي عن الإيمان به {وينأون
وقد رُوِيَ في السنة عدة أحاديث عن السؤال منها قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته فالإمام يسأل عن الناس والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده» وفي رواية «فأعدوا للمسائل جوابًا» قالوا وما جوابها قال «أعمال البر» ومن الأحاديث قوله «أول ما يسأل عنه العبد يوم القيامة ينظر في صلاته فإن صحت فقد أفلح وإن فسدت فقد خاب وخسر» وقوله «ثلاث من كن فيه حاسبه الله حسابًا يسيرًا وأدخله الجنة برحمته قالوا وما هي قال: تعطي من حرمك، وتصل من قطعك، وتعفو عمن ظلمك» ومنها قوله «لا تزول قدما عبد حتى يسأل عن عمره فيما أفناه وعن علمه فيما عمل به وعن ماله من أين اكتسبه وفيما أنفقه وعن جسمه فيما أبلاه». ﴿ولنسألن المرسلين﴾ عما بلغوا وعما أجيبوا كما أشير إلى ذلك بقوله تعالى: ﴿يوم يجمع الله الرسل فيقول ماذا أجبتم﴾ وقوله ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا﴾. ﴿فلنقصنّ عليهم بعلم﴾ القصص الأخبار المتتابعة أي أن الله سيلقي على الرسل وعلى أقوامهم قصصًا متسلسلة واقعية عن كل ما صدر منهم في الحياة الدنيا ﴿وما كنا غائبين﴾ عنهم في حال من الأحوال ووقت من الأوقات فقد كنا معهم نسمع ونرى ونحيط علمًا بما يسرون وما يعلنون ﴿والوزن يومئذ الحق﴾ أي والوزن في ذلك اليوم هو الحق الذي تحق به الأمور وتعرف حقائق كل أحد وما يستحقه من ثواب وعقاب ﴿فمن ثقلت موازينه﴾ أي موازين أعماله بالإيمان وكثرة الحسنات ﴿فأولئك هم المفلحون﴾ الفائزون بالنجاة من العذاب ﴿ومن خفت موازينه﴾ أي موازين أعماله برجحان جانب الكفر وكثرة السيئات ﴿فأولئك الذين خسروا أنفسهم﴾ بحرمانها من السعادة في ذلك اليوم ﴿بما كانوا بآياتنا يظلمون﴾ أي بسبب عدم تقديرهم لآيات الله والاستهتار بها.
بعد أن فصل الله ما سيكون يوم القيامة من حساب وعقاب ومبلغ خسران الظالمين أخذ يعدد نعم الله على بني الإنسان منذ مبدأ خلقهم من التمكين في الأرض وخلق أنواع المعايش فيها لهم التي من حقها أن تقابل منهم بالشكر لولا تدخل إبليس في الأمر واستئذانه رب العزة في مصاحبتهم مدى الحياة وما بيته إبليس في نفسه من الرغبة في إغواء البشر بمختلف المغويات وما توعد الله به متبعيه من عذاب أليم فقال ﴿ولقد مكناكم في الأرض﴾ أي أنا خلقنا الأرض منذ خلقناها لتكون مقرًّا لبسط سلطانكم عليها لفترة من الزمن ﴿وجعلنا لكم فيها معايش﴾ أي ما يؤمن عيشكم وحياتكم فيها من وجوه المنافع سواء منها ما يحصل بخلق الله ابتداء مثل
فترى منهم من ينتمي إلى الإسلام أو المسيحية ولا يؤمن بحقيقة ما يدين به ﴿ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب﴾ الذي يزعمون التمسك به والانتماء إليه ﴿أن لا يقولوا على الله إلا الحق﴾ فهل يجدون فيه ما يثبت فريتهم وقولهم إن الله سيغفر لهم ﴿ودرسوا ما فيه﴾ أي والحال أنهم قد أقبلوا على دراسة ما فيه من تحريم الكذب على الله ومن العهد الذي أخذ عليهم بالعمل بكتابه كما جاء في آخر سفر تثنية الاشتراع ﴿والدار الآخرة خير للذين يتقون﴾ أي والحال أن مشيئة الله قد قضت بأن الدار الآخرة خير وسعادة للذين يتقون الله فيأتمرون بأمره وينتهون عما نهى عنه، وشر وبلاء على من كفر به وافترى الكذب عليه ﴿أفلا تعقلون﴾ وقرئ «يعقلون» هم وأمثالهم من كل من يرجو غفران الله من غير تقواه، ويكتفي بالانتساب إلى الشريعة والعمل بمظاهرها دون الأخذ بمبادئها وتطبيق أحكامها إذ العقل لا يسلم بأن الله سيمنح غفرانه لمن لم يعمل لطلب الغفران بسلوك السبل المؤدية إليه وفي مقدمتها الإيمان بالله والاعتقاد الجازم بوحدانيته، وقد أكد الله في آيات كثيرة في القرآن أن العمل سبيل الغفران وأنه ليس لمجرد الأمل محل في دستور الله حيث قال تعالى: ﴿ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءً يجز به﴾.
﴿والذين يمسكون﴾ بتشديد السين ﴿بالكتاب﴾ أي يحرصون على تنفيذ أحكام الكتاب ﴿وأقاموا الصلاة﴾ بمعنى حافظوا عليها ﴿إنا لا نضيع أجر المصلحين﴾ أي لا نضيع أجرهم لأن دستورنا يقضي بأن ينال كل مصلح جزاءه الذي قدر له وقد ختم الله هذه الآيات من قصة بني إسرائيل بذكر سنة من سنن الله التي جعلت أبناءهم جميعًا خلف سوء دون سائر الأمم هي أن أسلافهم من قبل لم يعتنقوا الشريعة عن هدى وإيمان وقناعة وجدان بل تحت تأثير الخوف والإرهاب حيث قال ﴿وإذ نتقنا﴾ أي واذكر إذ نتقنا، النتق: قلع الشيء من موضعه والرمي به ﴿الجبل﴾ وهو جبل الطور ﴿فوقهم﴾ أي جعلناه من فوقهم حتى كان ﴿كأنه ظلة﴾ أي سقيفة من غير عمد ﴿وظنوا أنه واقع بهم﴾ فداخل قلوبهم الرعب من وقوعه بهم وعند ذلك وهم على تلك الحالة قلنا ﴿خذوا ما آتيناكم﴾ من الشريعة ﴿بقوة﴾ وعزيمة على العمل بها ﴿واذكروا ما فيه﴾ من الأحكام ﴿لعلكم تتقون﴾ أي عسى أن يكون لكم من ذكر نتق الجبل فوقكم وسيلة لتقوى الله في النصر، فتقبلوها وما دام أسلافهم لم يأخذوا بالشريعة إلا عن طريق الخوف من وقوع الجبل عليهم فلا غرو إذ ما آل أمر خلفهم إلى ما هم عليه من عدم خوف الله وترك العمل بشريعته بعد طول الأمد
غرو إذا ما قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿وما النصر إلا من عند الله العزيز الكريم﴾ وقد أمرنا الله سبحانه بالتزود بكل وسائل القوة الظاهرة والاستعداد للحرب لا لضمان النصر فإن ذلك أمره عائد لله وحده الذي يملك من وسائل النصر الخفية مما لم تصل إليه عقولنا بعد ولكن لاتقاء العدوان وإرهاب الخصوم على حد قولهم الاستعداد للحرب يمنع الحرب فقال تعالى: ﴿وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدوّ الله وعدوكم﴾ ولأجل أن يحض الله عباده على التعلق به ووضع الثقة فيه وحده أكد لهم أن النصر في الواقع لا يكون إلا منه حيث قال تعالى: ﴿إن ينصركم الله فلا غالب لكم وإن يخذلكم فمن ذا الذي ينصركم من بعده وعلى الله فليتوكل المؤمنون﴾.
فكان حقًّا وكان لزامًا على كل ذي عقل سليم أن لا يطلب النصر إلا من عند الله وأن لا يركن إلى مجرد القوى الظاهرة التي لا تلبث أن تنهار أمام ما يفتح الله به من علم على المخترعين من وسائل القوة أو ما يؤيد به من يريد بقوى غيبية لم تكن في الحسبان وهذا ما يوجب على كل ذي عقل ناضج أن يحب الله تعالى ويتعلق به باعتباره هو المالك لجميع القوى الروحية الخفية المهيمنة على هذه الموجودات الظاهرة.
وبمثل هذا الأسلوب كان الرسول الأعظم يجتذب القلوب للإيمان ويتجه بالناس إلى الله عن طريق البحث عن أصول كل شيء من الماديات التي حولهم ليدركوا أنها إنما تمت إلى أصل غيبي أو أنها بعبارة أخرى ليست سوى بعض آثار تدل على وجود خالق عظيم أوجدها وكونها وسيرها لتحقق ما تتعلق به إرادته وأن هذا الخالق العظيم هو الذي يهب الحياة ويمنح الرزق ويكسب النصر لمن يريد فهو الذي يستحق الحب وهو الذي يجب أن يعبد دون سواه فآمن به من آمن وجحد من جمد عند حد المادة وقصر عقله عن تصور ما وراءها فلم يؤمن بذلك الإله الذي خلقه فسواه ولم يتصور إمكان نصره له في حين بلواه.
وعندما هاجر الرسول ﷺ إلى المدينة وتولى الحكم فيها أخذ يطبق لأتباعه دروسه السابقة بدروس أخرى عملية يثبت لهم بها مدى قدرة الله على تكييف الأمور وتدبير الخطط وفق مصلحة من يحب ويجعلهم يبصرون بأعينهم يد الله جل وعلا وهي تمتد لنصرة القلة من عباده المطيعين لأوامره والمتوكلين عليه بحفظه لرسوله من المخاطر وحمايته من الأعداء وبما
ينجيهم من كربهم ويكتب لهم الحياة بعد أن يئسوا منها حالة كونهم: ﴿مخلصين له الدين﴾ أي واثقين أنه صاحب الأمر والنهي فلا يتوجهون معه إلى ولي ولا شفيع ولا ند ولا شريك كما كانوا يتوسلون إليه في حال الرخاء عازمين على طاعته قائلين: ﴿لئن أنجيتنا من هذه﴾ الكارثة التي نحن فيها: ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ أي أنهم يعلقون شكرهم لله على نجاتهم في تلك الساعة فقط ولو عقل كل راكب على ظهر السفن لتوقع حدوث هذا الموقف في كل لحظة وسأل الله أن يقيه من خطره وحمده على لطفه وشكره في كل لحظة على سلامته: ﴿فلما أنجاهم﴾ الله في نفس اللحظة بإيقاف الريح وعودتها إلى حالتها الطبيعية وسكون البحر من اضطرابه ووصلوا إلى مأمنهم من الأرض: ﴿إذا هم يبغون في الأرض﴾ أي ينقضون عهدهم ويعمدون إلى البغي وهو الظلم والعدوان والفساد ويمعنون في ذلك: ﴿بغير الحق﴾ أي بعكس ما أخذوه على أنفسهم من شكر الله على آلائه العظمى التي لا تحصى والتي كان من أقربها أن كتب لهم حياة جديدة بنجاتهم من الغرق، هكذا كان شأن الناس بفطرتهم من قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم يلجؤون إلى الله في ساعة الشدة ثم يعودون إلى ما كانوا عليه بعدها وقد ذكرهم الله في سورة الإسراء بأن إحاطة الخطر بهم لا يكون في البحر فقط بل وفي البر وأنه تعالى لا يعجزه أن يعيدهم في البحر مرة أخرى ويحدق بهم ثم لا ينجيهم حيث قال: ﴿وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورًا {٦٧﴾ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبًا ثم لا تجدوا لكم وكيلًا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارةً أخرى فيرسل عليكم قاصفًا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا} وإن مما يؤسف له أن الناس في عصرنا هذا بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم وتعريفهم بالله خالقهم إذا هم يتناسونه تمامًا حتى في ساعة الشدة ويدعون غيره في الملمات ويستغيثون بمن يعتقدون لهم كرامة من الأموات ممن قال تعالى إنهم لا ينفعون ولا يضرون حتى إنه يحكي أن جماعة ركبوا البحر فهاج بهم حتى أشرفوا على الغرق فصاروا يستغيثون بمعتقديهم فبعضهم يقول يا سيد يا بدوي وبعضهم يصيح يا رفاعي وآخر يهتف يا جيلاني... إلخ وكان فيهم رجل موحد ضاق بهم ذرعًا فقال يا رب أغرق ما بقي أحد يعرفك، والأنكى من هذا أن الكثير ممن تثقف ثقافة غربية أصبح يهزأ بمن يدعو الله ويعتبر
﴿ولولا كلمة سبقت من ربك﴾ بإنذار المختلفين في الكتاب للحكم بينهم إلى يوم القيامة في قوله تعالى: ﴿إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾ إذ الفصل في المسائل الخلافية لا يكون إلا بعد المناقشة والإصغاء للدفاع وإقامة الحجج وتقديم المستندات والرجوع إلى القانون وتطبيق نصوصه وهذا لا يتأتى إلا بين يدي الله صاحب السلطان ومنزل الشرائع، مالك يوم الدين الذي يتجلى فيه الحساب الدقيق والعدل الكامل: ﴿لقضي بينهم﴾ في الدنيا بإهلاك من علم الله أنهم على غير حق دون حاجة إلى الإصغاء إلى دفاعهم أو اعترافهم بجرمهم وهذا أمر مناف لمبادئ العدل الذي هو من صفات الله جل وعلا فالحاكم لا يقضي بعلمه ولكل إنسان الحق في أن يدافع عن نفسه ويدلي بحججه، وقد حدد الله لهذا يومًا مشهودًا هو يوم القيامة: ﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون﴾،: ﴿وإنهم﴾ أي قوم موسى: ﴿لفي شك منه﴾ أي من صحة ذلك الكتاب بنصه المتداول بينهم: ﴿مريب﴾ أي يحملهم على الاختلاف فيه ذلك لأن التوراة التي كتبها موسى عليه السلام قد فقدت في إحراق البابليين لهيكل سليمان، ولذلك قال الله في عيسى عليه السلام: ﴿ويعلمه التوراة والإنجيل﴾ إشارة إلى أنه لم يأخذ التوراة من أيدي اليهود الذين قالوا إن عزرا كتبها بعد الرجوع من سبي بابل، بل بتوقف من الله: ﴿وإن كلا﴾ بتشديد النون وقرئ بتخفيفها أي من أولئك المختلفين فيه: ﴿لما﴾ بتشديد الميم وقرئ بتخفيفها: ﴿ليوفينهم ربك أعمالهم﴾ أي جزاء أعمالهم لا يظلم منهم أحدًا: ﴿إنه﴾ تعالى: ﴿بما يعملون خبير﴾ لا يخفى عليه شيء فلا يصعب عليه أمر التوفية الدقيقة: ﴿فاستقم﴾ أي الزم أيها الرسول الصراط المستقيم الذي لا اعوجاج فيه بالاهتداء بهدى القرآن والعمل به: ﴿كما أمرت﴾ بعدم الاختلاف فيه: ﴿ومن تاب معك﴾ أي وليستقم معك من تاب من الشرك وآمن بك واتبعك: ﴿ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾ ولا تكونوا: ﴿من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعًا كل حزب بما لديهم فرحون﴾.
﴿ولا تطغوا﴾ أي لا تجاوزوا حدود ما أمرتم به وذلك بالغلو في الدين أو التفريط فيه، فالإفراط فيه كالتفريط كل منها زيغ عن الصراط المستقيم: ﴿إنه بما تعملون بصير﴾ أي مطلع على جميع حركاتكم وسكناتكم وما تخفون وما تظهرون: ﴿ولا تركنوا﴾ أي تميلوا وتطمئن نفوسكم: ﴿إلى الذين ظلموا﴾ ولم يقل الظالمين إشارة إلى أن المراد الذين ظلموا أنفسهم في هذا
يتقطع: ﴿وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين﴾ الصفة الثالثة قوله: ﴿وظلها﴾ أيضًا دائم بمعنى أن الجوَّ دائمًا غائم ليس هناك صيف ولا شتاء ولا شمس ولا قمر ولا ظلمة كما قال تعالى: ﴿لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا﴾: ﴿تلك﴾ أي الجنة الموصوفة بهذه الصفات: ﴿عقبى﴾ أي جزاء وآخرة: ﴿الذين اتقوا﴾ ربهم فحاذروا من كل ما يؤدي إلى الشرك وحلول نقم الله: ﴿وعقبي الكافرين﴾ أي جزائهم المحتوم على ما اقترفوه من الكفر والإصرار على الآثام: ﴿النار﴾ التي أنذرهم بها سبحانه في كتبه وعلى لسان رسله: ﴿والذين آتيناهم الكتاب﴾ ممن آمن بالله ورسوله لقوله تعالى في آية أخرى: ﴿الذين آتيناهم الكتاب يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به﴾: ﴿يفرحون بما أنزل إليك﴾ من تشريع يدلهم على ما ينفعهم وما يضرهم ليسيروا في الحياة على ضوء تعاليمه: ﴿ومن الأحزاب﴾ أي من الذين يتحزبون لآراء آبائهم أو مشايخهم ومقلديهم: ﴿من ينكر بعضه﴾ بارتضاء ما حصل فيه من تأويل يتنافى أو يصطدم تمامًا مع ظاهر اللفظ وما توحي به الآيات: ﴿قل﴾ أيها الرسول: ﴿إنما أمرت أن أعبد الله﴾ أي أن القاعدة الأساسية التي أنزل القرآن من أجلها هي تقرير حقيقة التوحيد وذلك بأن أفرد الله بالدعاء: ﴿ولا أشرك به﴾ أي وأعتقد اعتقادًا جازمًا أنه لا ينفع ولا يضر ولا يجيب الدعاء ولا يقضي الحوائج أحد سواه وأنه ليس له من منازع في الحكم أو شفيع يستطيع التدخل لديه في أي أمر: ﴿إليه﴾ أي إلى إخلاص العبادة له وحده: ﴿أدعو﴾ الناس لا إلى الاعتماد على شفاعتي أو التوسل بي فما أنا إلا بشر مثلكم لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًّا ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء: ﴿وإليه مآب﴾ أي أرجع إليه في المصائب والنائبات وقضاء الحاجات لا أدعو غيره ولا أعتمد على سواه: ﴿وكذلك﴾ أي وعلى أساس الدعوة إلى التوحيد الخالص: ﴿أنزلناه﴾ أي القرآن: ﴿حكمًا﴾ أمرًا واجب الطاعة والاتباع موضحًا للحلال والحرام: ﴿عربيًا﴾ أي باللغة العربية الفصحى التي لا تحتمل التأويل ولا تستدعي الاختلاف فالحلال بيِّن والحرام بيِّن: ﴿ولئن اتبعت﴾ أيها الرسول ويعني بهذا كل سامع من أمته على حد قولهم «إياك أعني واسمعي بإجارة»: ﴿أهوائهم﴾ أي أهواء الأحزاب فيما يخالف نص القرآن ليعلم الناس أن من الضلال الحكم بالهوى: ﴿من بعد ما جاءك من العلم﴾ بالغاية التي أنزل القرآن من أجلها وهي دعوة الناس إلى معرفة الله وإخلاص العبادة له وتوقي الشرك في الأقوال والأعمال: ﴿ما لك من الله من ولي﴾ ينصرك ويسدد خطاك: ﴿ولا واق﴾
يكفيه وما لا يستطيع تجاوزه: ﴿يجحدون﴾ وقرئ «تجحدون» بالتاء إذ ينسبون لأنفسهم أساس الرزق ويقولون إنما أوجدناه بسواعدنا ونتيجة عملنا وجدنا واجتهادنا وعرق جبيننا، والواقع غير ذلك فكم من عاقل عالم يكد ويجتهد في طلب القليل من الرزق فلا يجده بينما يأتي للجاهل الكسول من الرزق ما لم يكن يحلم به الأمر الذي يدل على سلطان الله وقسمته وقد نظمت في هذا قولي:
@الرزق أنت أساسه وكفيله
#من غير تحديد ولا ميقات
@وتسبب الأسباب خير وسيلة
#للفوز بالمقسوم من حصات
@وبها سترت الجود إشفاقًا بنا
#من أن نعيش بمنة الصدقات
@وأمرتنا بالسعي كي نحظى بما
#أعددت للساعين من خيرات
@في هذه الدنيا وفي الأخرى بمحـ
#ـض الفضل والإحسان والرحمات
@ولو أن للأسباب تأثيرًا إذًا
#لتصادمت لتعارض الوجهات
@أو أن بالأعمال يكتسب الغنى
#لتصاعد العمال للذروات
@أو كانت الأرزاق تدرك بالحجا
#ما عاش فوق الأرض من حشرات
@سبحان من قسم الحظوظ فعالم
#يبكي وجاهل عالي الضحكات
@ولكل شيء ساعة فإذا دنت
ينجيهم من كربهم ويكتب لهم الحياة بعد أن يئسوا منها حالة كونهم: ﴿مخلصين له الدين﴾ أي واثقين أنه صاحب الأمر والنهي فلا يتوجهون معه إلى ولي ولا شفيع ولا ند ولا شريك كما كانوا يتوسلون إليه في حال الرخاء عازمين على طاعته قائلين: ﴿لئن أنجيتنا من هذه﴾ الكارثة التي نحن فيها: ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ أي أنهم يعلقون شكرهم لله على نجاتهم في تلك الساعة فقط ولو عقل كل راكب على ظهر السفن لتوقع حدوث هذا الموقف في كل لحظة وسأل الله أن يقيه من خطره وحمده على لطفه وشكره في كل لحظة على سلامته: ﴿فلما أنجاهم﴾ الله في نفس اللحظة بإيقاف الريح وعودتها إلى حالتها الطبيعية وسكون البحر من اضطرابه ووصلوا إلى مأمنهم من الأرض: ﴿إذا هم يبغون في الأرض﴾ أي ينقضون عهدهم ويعمدون إلى البغي وهو الظلم والعدوان والفساد ويمعنون في ذلك: ﴿بغير الحق﴾ أي بعكس ما أخذوه على أنفسهم من شكر الله على آلائه العظمى التي لا تحصى والتي كان من أقربها أن كتب لهم حياة جديدة بنجاتهم من الغرق، هكذا كان شأن الناس بفطرتهم من قبل إرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم يلجؤون إلى الله في ساعة الشدة ثم يعودون إلى ما كانوا عليه بعدها وقد ذكرهم الله في سورة الإسراء بأن إحاطة الخطر بهم لا يكون في البحر فقط بل وفي البر وأنه تعالى لا يعجزه أن يعيدهم في البحر مرة أخرى ويحدق بهم ثم لا ينجيهم حيث قال: ﴿وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورًا {٦٧﴾ أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبًا ثم لا تجدوا لكم وكيلًا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارةً أخرى فيرسل عليكم قاصفًا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا} وإن مما يؤسف له أن الناس في عصرنا هذا بعد إرسال الرسل وإنزال الكتب عليهم وتعريفهم بالله خالقهم إذا هم يتناسونه تمامًا حتى في ساعة الشدة ويدعون غيره في الملمات ويستغيثون بمن يعتقدون لهم كرامة من الأموات ممن قال تعالى إنهم لا ينفعون ولا يضرون حتى إنه يحكي أن جماعة ركبوا البحر فهاج بهم حتى أشرفوا على الغرق فصاروا يستغيثون بمعتقديهم فبعضهم يقول يا سيد يا بدوي وبعضهم يصيح يا رفاعي وآخر يهتف يا جيلاني... إلخ وكان فيهم رجل موحد ضاق بهم ذرعًا فقال يا رب أغرق ما بقي أحد يعرفك، والأنكى من هذا أن الكثير ممن تثقف ثقافة غربية أصبح يهزأ بمن يدعو الله ويعتبر
كان من الكافرين: ﴿وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ﴾ أي وكان من تمام فضله عليكم أن جعل مردكم إليه ليجزيكم على أعمالكم ويقدر لكم حسناتكم إذ هو سبحانه وتعالى: ﴿يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ من جميع المخلوقات الظاهرية والخفية: ﴿وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ﴾ في ضمائركم من نية: ﴿وَمَا تُعْلِنُونَ﴾ من عمل كان خيرًا أو شرًّا: ﴿وَاللهُ عَلِيمٌ﴾ العلم: صفة انكشاف ومعناه الإحاطة بحقيقة الشيء دون أن يكون لها تأثير فيه: ﴿بِذَاتِ الصُّدُورِ﴾ ذات الشيء عينه وجوهره أي أنه تعالى ليس عالمًا بما في الصدور فحسب بل إنه عليم بأساس تكوينها ومهمتها فلا يخفى عليه شيء مما يجول فيها من الأفكار والأسرار وسوف يجزي المحسنين على إحسانهم ويحقق للعالمين آمالهم التي عملوا من أجلها في الدنيا والآخرة وفقًا لما سنه من سنن وأعلنه من أحكام وإثباتًا لذلك قال: ﴿أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسله: ﴿مِن قَبْلُ﴾ كعاد وثمود كفروا بربهم وعصوا رسله: ﴿فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ﴾ الوبال: الوخامة وسوء العاقبة أي نالوا نتيجة أعمالهم السيئة في هذه الحياة وفق دستوره وسنن الله التي لا تختلف: ﴿وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ في الآخرة أيضًا وفق ما توعدهم به تعالى من عدم ظفرهم بالغفران والخلود في النار: ﴿ذَلِكَ﴾ أي وإنما استحقوا ما ذكر من عذاب: ﴿بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ﴾ أي بسبب أن الرسل كانت تدعوهم إلى الإيمان بالله وتتلو عليهم آيات الله الواضحة والدالة على وحدانية الله بأدلة لا تقبل الشك فلم ينظروا إليها ولم يؤمنوا بها واستكبروا وأخذتهم الأنانية: ﴿فَقَالُوا أَبَشَرٌ﴾ مثلنا يرون أنفسهم أعلم منا ويحاولون أن: ﴿يَهْدُونَنَا﴾ فقال قوم نوح: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آَبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (٢٤) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ﴾ وقال قوم هود: ﴿مَا هَذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (٣٣) وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَّخَاسِرُونَ﴾.
﴿فَكَفَرُوا﴾ برسالتهم: ﴿وَتَوَلَّوا﴾ أي أعرضوا عن دعوتهم للسبب المذكور: ﴿وَّاسْتَغْنَى اللهُ﴾ قال بعض المفسرين واستغنى الله عن إيمانهم وقد استشكل هذا بأن الله جل جلاله كان ولم يزل مستغنيًا عن إيمان عباده وقال بعضهم إن المراد غناه عنهم إذ أهلكهم وقطع دابرهم وهذا غير وارد لأن الإفناء لا يعد دليلًا على الاستغناء كما أن إبقاء غيرهم ليس دليلًا على حاجته إليهم وقال صاحب الكشاف معناه أنه ظهر استغناء الله عنهم حيث لم يلجئهم إلى الإيمان ولم يضطرهم إليه مع قدرته
سورة المزمل
﴿يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (١) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (٢) نِصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (٣) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (٤) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (٥) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْءاً وَأَقْوَمُ قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحاً طَوِيلاً (٧) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (٨) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (٩) وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (١٠) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (١١) إِنَّ لَدَيْنَا أَنكَالاً وَجَحِيماً (١٢) وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ وَعَذَاباً أَلِيماً (١٣) يَوْمَ تَرْجُفُ الأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيباً مَّهِيلاً (١٤) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (١٥) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً (١٦) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيباً (١٧) السَّمَاءُ مُنفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (١٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (١٩) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِن ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِّنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُم مَّرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَمَا تُقَدِّمُوا لأَنفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٢٠)﴾
بعد أن أمر الله رسوله في السورة السابقة أن يبلغ الناس ما أوحي إليه عن خبر الجن وعن بعض الحقائق التي يجب أن يدينوا بها من الأمور الاعتقادية أخذ يأمره بما فرضه عليه من الأعمال التعبدية إثر تحنثه في غار حراء إذ كان يخفي إسلامه ولا يعرف بم يعبد الله فأنزل الله عليه قوله: ﴿يا أيها المزمل﴾ زمل الشيء أخفاه قال المفسرون يعني يا أيها النائم المزمل في ثيابه وعندي أن المعنى يا أيها النبي الذي تخفي عبادتك لعدم إلمامك التام بها، هاك ما يجب أن تؤديه من العبادات: ﴿قم الليل إلا قليلًا نصفه أو انقص منه قليلًا أو زد عليه﴾ بمعنى نأمرك أن نقوم نصف الليل بزيادة قليلة أو نقص قليل من غير حرج عليك في ذلك قالت السيدة عائشة رضي الله عنها إن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة فقام رسول الله ﷺ وأصحابه حولًا حتى انتفخت أقدامهم وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهرًا ثم أنزل الله التخفيف في آخر السورة فصار
ما روي عن رسول الله ﷺ أن حكيم بن حزام بعدما أسلم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنا كنا تأتي بأعمال الخير في الجاهلية فهل لنا منها شيء فقال صلى الله عليه وسلم: «أسلمت على ما قدمت من الخير» فالإميان يجب ما قبله من المعاصي ويحتفظ للمحسن بأعماله السابقة: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾ أي يوصي بعضهم بعضاً بالصبر على ما يبتلى به الإنسان في الحياة من محن: ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ﴾ أي يوصي بعضهم بعضا بالتزام مبدأ الرحمة بين خلق الله: ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾ أي الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم وهم الذين عناهم الله بقوله: ﴿وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (٢٧) فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ (٢٨) وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ (٢٩) وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ (٣٠) وَمَاءٍ مَّسْكُوبٍ (٣١) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (٣٢) لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ (٣٣) وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ﴾.: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾ أي الذين يؤتون كتبهم بشمائلهم وهم الذين وصفهم الله بقوله: ﴿وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (٤١) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (٤٢) وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ (٤٣) لاَّ بَارِدٍ وَلا كَرِيمٍ﴾.: ﴿عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ﴾ تغلق عليهم أبواب جهنم ليتلظوا في سعيرها أعاذنا الله منها.
سورة الشمس
مكية عدد آياتها خمس عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (١) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا (٢) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا (٣) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (٤) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (٥) وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (٦) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (٧) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا (٩) وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا (١٠) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (١١) إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا (١٢) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُم بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا (١٤) وَلا يَخَافُ عُقْبَاهَا (١٥)﴾.
سورة الشمس: لقد أوضح الله في السورة السابقة سبيل مرضاته بمجاهدة النفس بطرق علمية، أولها العمل على تحرير البشر من رق العبودية والثاني عدم احتكار الأرزاق على الناس ثم أخذ يؤكد في هذه السورة سيطرة الإنسان على نفسه ومسئوليته عن جميع تصرفاتها بما أعطى له من كامل الحرية والقدرة عليها بحيث يستطيع بمحض إرادته أن يطهرها ويزكيها أو يوردها موارد


الصفحة التالية
Icon