قضت بالهبوط إلى الأرض مؤقتًا فلابد وأن يكون لهم من ورائه الخير الجزيل ﴿والذين كفروا﴾ بنا ﴿وكذبوا بآياتنا﴾ الموضحة لسبيل الهدى والتي أشير إليها من قبل ﴿أولئك أصحابُ النارِ﴾ التي أعدت خصيصًا لهم ﴿هم فيها خالدون﴾ إلى ما لا نهاية، ولهذا فنحن نجتاز في هذه الحياة الدنيا دور اختبار مماثل للموقف الذي وقفه آدم عليه السلام من قبل تجاه إبليس فمن أطاع الله واتبع أوامره وأناب إليه سبحانه وتعالى عن المعاصي نجا ومن اتبع إبليس وعصى ربه ولم يرجع إليه بالتوبة والندامة استحق عذابه وعقوبته بعد أن أمر الله نبيه ﷺ بدعوة المؤمنين والكافرين إليه واجتذابهم نحوه بتذكيرهم نعمه تعالى عليهم من أساس خلقهم أخذ يوجه خطابه بصورة خاصة إلى بني إسرائيل الذين كان يقيم كثير منهم في المدينة المنورة وهم من أهل الكتاب، الذين سبق لهم أن آمنوا بالله وبرسوله موسى عليه السلام فهم أحرى من غيرهم بالإيمان بما جاء من عند الله على لسان رسوله محمد بن عبد الله فذكرهم بالإله تعالى، وما أنعم عليهم به من نعم جمة يعرفونها من أنفسهم، وبما جاء في التوراة من أخبار الأمر الذي من شأنه أن يحملهم على الإيمان برسالته عليه الصلاة والسلام، وهو ذلك الفتى الأمي الذي لم يدرس تاريخهم، ولم يكن يعلم شيئًا عنهم إلا ما جاء في كتاب الله القرآن، وهو بهذا يكشف عن طبائع العنصر الإسرائيلي، ومدى جحوده وكفره، ومعاجزته لموسى عليه السلام ليحذرهم المؤمنون. فقال: ﴿يا بني إسرائيل﴾ ويراد منهم قادتهم، وعلماؤهم العالمون بالتوراة ﴿اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم﴾ وهي أجل من أن تحصى، وأنتم لا تجحدونها حتى بلغ بكم الأمر أن ظننتم أنكم أبناء الله وأحباؤه من فرط تلك النعم التي أغدقها عليكم ﴿وأوفوا بعهدي﴾ الذي عاهدتكم عليه الوارد في سورة المائدة من قوله: ﴿ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثني عشر نقيبًا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة وآمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضًا حسنًا﴾ ﴿أوف بعهدكم﴾ الذي قطعته لكم في نهاية الآية من قولي: ﴿لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل﴾ ﴿وإياي فارهبون﴾ أي فاحذروا غضبي في حال كفركم وضلالكم ﴿وآمنوا بما أنزلت﴾ على رسولي محمد ﴿مصدقًا﴾ أي مؤيدًا ﴿لما معكم﴾ من التوراة والإنجيل، ومقررًا في تعاليمه ضرورة الإيمان بموسى وعيسى وكتبهما ﴿ولا تكونوا أول كافرٍ به﴾ أي جاحد بالقرآن، بل كونوا أسبق الناس بالإيمان به لما لديكم من العلم، ولئن
جعله الله هدى للمتقين ﴿إلى صراط مستقيم﴾ لا يخالف فيه حكمة التشريع ولا يخرج عن الغاية التي ترمي إليها الآيات من إصلاح أمورهم التي تؤهلهم إلى بلوغ سعادة الدارين.
بعد أن أخبر الله نبيه بمنشأ الخلاف الحاصل بين الناس وما طرأ عليه من تطور وكيف يهدي الله الذين آمنوا لحل الخلاف ومعرفة الحق أراد أن يدفع عن أفكار المؤمنين ما قد يداخلها من غرور يجعلهم يتصورون من هداية الله لهم إلى سبيل الحق ضمانًا لدخول الجنة فقال ﴿أم حسبتم﴾ يا من هداكم الله تعالى إلى السلم والخروج من ظلمة الخلاف الذي أنزل الكتاب لإزالته ﴿أن تدخلوا الجنة﴾ بما أوتيتم من هداية وعلم ﴿ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم﴾ والحال أنه لم يصبكم حتى الآن ما أصاب الذين سبقوكم بالإيمان والهدى والدعوة إلى الحق من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وقد ﴿مستهم البأساء والضراء﴾ في سبيل الله فما وهنوا ولا استكانوا ﴿وزلزلوا﴾ في عقائدهم زلزالًا شديدًا من هول المصائب ﴿حتى﴾ وصلوا إلى درجة أن ﴿يقول﴾ بفتح اللام وقرئ برفعها ﴿الرسول والذين آمنوا معه﴾ من عظيم استبطائهم للمدد الإلهي ﴿متى نصر الله﴾ ثم تعاودهم رباطة جأشهم وثقتهم بالله وأن النصر لا يكون إلا منه وقد طلبوه منه وبذلوا ما في وسعهم من أجله فلا بد أن يمن عليهم به فيقولون ﴿ألا إن نصر الله قريب﴾ وقد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك فهيئ لنا من لدنك نصرًا تعز به الدين.
بعد أن بين الله للمؤمنين أن مجرد هداية الله لهم للإيمان لا يعد وحده دليلًا على دخول الجنة بل لا بد لنيلها من بذل الأموال والأنفس في سبيل الله والصبر على ما يترتب على ذلك من البأساء أراد أن يبين لهم مواضع الإنفاق في سبيل الله فقال ﴿يسألونك ماذا ينفقون﴾ وقد حدث فعلًا أن بعض الصحابة سأل رسول الله ﷺ ماذا ننفق من أموالنا وأين نصرفها؟ فأمر الله نبيه أن يجيبهم بقوله: ﴿قل ما أنفقتم من خير﴾ أي أن الإنفاق ينبغي أن يكون مما ينتفع به ﴿فللوالدين﴾ وأن تكون الأولوية فيه للوالدين ﴿والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل﴾ أي المسافر من عامة المسلمين ﴿وما تفعلوا من خير﴾ بتقديم الأحق فالأحق ممن ذكر
قضت به مشيئة الله من أن مجرد الإيمان وطلب الغفران لا يكفي بل لا بد أن يعملوا ما يستحقون عليه المغفرة بقوله:
«فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيآتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابا من عند الله والله عنده حسن الثواب» وما دام ثواب الآخرة لا ينال إلا بالعمل فإن سعادة الدنيا لا تكون إلا بتطبيق ما سنه الله من سنن وما قضى به من دستور، أما أولئك الذين يأبون إلا القول بأن سعادة الإنسان وشقاءه أمر مفروغ منه بما قضى به تعالى في الأزل وخطه بالقلم في اللوح المحفوظ لديه، فلا أخالهم إلا مقيّدين لسلطان الله وقدرته على كل شيء ومتجاهلين قوله تعالى في كتابه الكريم: «يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب»، فمن هو الذي يعلم بما كتبه الله في كتابه عن خلقه، ومن الذي يجرأ أن يناقشه فيما أثبت أو محا في أم الكتاب عنده، ولا يعلم الغيب إلا الله، ونحن لا نملك إلا أن نقرر ما جاء في كتاب الله وسنة رسوله ﷺ فقد قال: (تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما كتاب الله وسنتي) وقال: (من اقتدى بكتاب الله لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة) ثم تلا قوله تعالى: «فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى»، ونعمل وفق ذلك ونجزم بأنا سنسعد في الدنيا ولا نشقى في الآخرة برًا بوعد الله الذي لن يخلف أبدًا.
بعد أن أكد الله في مبدأ هذه السورة أن ذلك الكتاب إنما أنزل هدى للمتقين وبين فيها صفات هؤلاء المتقين، وأصول الإيمان، وأحوال الكافرين والمنافقين، وكثيرًا من الأحكام وحث المؤمنين على اتباعها ختم سبحانه السورة بشهادة منه لهم بالتسليم والانقياد والسمع والطاعة ورجاء الرحمة والإحسان فقال (آمن الرسول) محمد بن عبد الله (بما أنزل إليه) عن طريق الوحي (من ربه) فاهتدى بهديه وتخلق بخلقه ونفذ أحكامه ودعا بدعوته (والمؤمنون) المصدقون له (كل) منهم أيضًا (آمن بالله) أنه الرب الموجد لجميع المخلوقات المالك لجميع الكائنات المتصف بجميع صفات الكمالات التي وصف بها نفسه المنفرد بالألوهية الذي لا يستحق العبادة أحد سواه (وملائكته) أي آمنوا بالملائكة الذين هم خلق من خلقه وجند من جنوده لا يعصون الله ما أمرهم
يترتب على طاعته ومعصيته من آثار فضرب لهم مثلاً بوقعة أحد، فقال: ﴿ولقد صدقكم الله وعده﴾ بالنصر في يوم أحد ﴿إذ تحسونهم﴾ الحس: القتل والاستئصال ﴿بإذنه﴾ في سبيل الغاية التي أذن الله لكم بقتلهم من أجلها: وهي إعلاء كلمة الله ﴿حتى إذا فشلتم﴾ في الاحتفاظ بهذه الغاية السامية ونظرتم إلى المادة وقصدتم جمع الغنائم ﴿وتنازعتم في الأمر﴾ فيما كنتم فيه من شأن واختلفت آراؤكم؛ فقال بعضكم ما بقاؤنا هنا وقد انهزم المشركون وقال الآخرون: بل يجب أن نظل ولا نخالف أمر رسولنا ﴿وعصيتم﴾ فعلاً أمر الرسول بترك أكثر الرماة للمكان الذي أقامهم فيه عليه الصلاة والسلام ﴿من بعد ما أراكم﴾ الله فعلاً ﴿ما تحبون﴾ من النصر على أعدائكم مع ما أنتم عليه من قلة وما هم عليه من كثرة نتيجة اتباع أوامر رسولكم بالثبات في مواضعكم وكان من أثر ذلك أن انشطرتم إلى شطرين ﴿منكم من يريد الدنيا﴾ وهؤلاء تركوا مواضعهم وذهبوا لجمع الغنيمة وكان عددهم أربعين رجلاً ﴿ومنكم من يريد الآخرة﴾ فلم يعبأ بالغنيمة ولم يتزحزح من مكانه وعددهم لا يتجاوز عدد الأصابع ﴿ثم﴾ إن الله جلت قدرته بعد أن صدقكم وعده وجعلكم تلمسون قدرته على نصركم ﴿صرفكم﴾ الله ﴿عنهم﴾ عن هزيمتهم واستمرار النصر لكم عليهم بسبب فشلكم وتنازعكم وعصيانكم ﴿ليبتليكم﴾ بقصد امتحان قلوبكم وتعريفكم بمبلغ قوته وقدرته على نصركم ﴿ولقد عفا عنكم﴾ أي سوف لا يؤاخذكم على ذلك الابتلاء لأنه ما كان إلا بمثابة درس لكم تتعظون به في المستقبل ﴿والله ذو فضل على المؤمنين﴾ فلا يذرهم على ما هم عليه من ضعف حتى يبتلي قلوبهم ويمحص ما في صدور المخلصين منهم فيأخذ بأيديهم إلى النصر والفوز المبين ﴿إذ تصعدون﴾ أي بفتح العين وكسرها يتعلق بصرفكم عنهم في الوقت الذي أصعدتم فيه ووليتم مدبرين وهو يوم أحد ﴿ولا تلوون على أحد﴾ أي لا تلتفون إلى جهة من شدة الذعر والهزيمة ﴿والرسول﴾ والحال أن الرسول كان بينكم ﴿يدعوكم﴾ إلى الثبات معه ﴿في أخراكم﴾ أي فيمن تأخر معه منكم وكانوا ساقة الجيش فقد ورد أنه كان يقول في دعوته: «إليّ عباد الله إني رسول الله من يكر فله الجنة». ﴿فأثابكم﴾ فجازاكم الله على ما صنعتم ﴿غما﴾ بسبب الخوف من الله والخجل من الرسول الذي عصيتم أمره ﴿بغم﴾ بدلاً عن الغم الذي كنتم فيه ساعة الهزيمة في غزوة أحد بسبب إحداق المشركين بكم بحيث لم تأمنوا أن تهلكوا جميعًا. وكان تراكم هذه الغموم عليكم لطفًا من الله وكرمًا ﴿لكيلا تحزنوا على ما فاتكم﴾ من الغنائم التي كنتم ترجونها
على الإذعان بالحق من قوله: ﴿قل متاع الدنيا قليل﴾ وقوله: ﴿قل كل من عند الله﴾ ﴿وما أصابك من حسنة فمن الله﴾ إلى آخر الآية أراد سبحانه أن يحدد موقف رسوله منهم بعد ذلك فلا يتجاوزه ولا يتأثر من عدم إذعان القوم لأوامره وانصياعهم لإرادته فقال: ﴿من يطع الرسول﴾ فيما يأمر به من حيث هو رسول ﴿فقد أطاع الله﴾ ورجي ثوابه وخاف عقابه وهو سبحانه الذي يملك حق قبول تلك الطاعة إذا كانت خالصة ورفضها إذا كانت غير خالصة ﴿ومن تولى﴾ عن طاعتك وأعرض عنها فهو آثم أمام الله مستحق للعذاب منه أما أنت ﴿فما أرسلناك عليهم حفيظًا﴾ أي: فلست بالرقيب عليهم لأن الرقابة غير الرسالة ﴿إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر﴾ ﴿وما على الرسول إلا البلاغ﴾ فإنك لو حاولت هذا ما استطعت أن تصل إلى نتيجة فأنت لا تعلم غير الظواهر والله هو الذي يتولى السرائر والناس مفطرون على أمور منها أن يكونوا عرضة للتقلب في الرأي وفتنة الشيطان كل ساعة فهم مثلًا يجيئون إليك ﴿ويقولون طاعة﴾ لك فيما تأمرنا وتنهانا عنه ﴿فإذا برزوا من عندك﴾ وانصرفوا إلى بيوتهم ﴿بيت طائفة منهم﴾ أي: أضمرت في نفسها ﴿غير الذي﴾ كانت ﴿تقول﴾ لك وخيل لها الشيطان أن لا رقيب عليها وأنها في حل من أن تقدم على العصيان في الخفاء وأنت لا تستطيع أن تعلم بهذا ﴿والله يكتب ما يبيتون﴾ في صحائف أعمالهم وسوف يجازيهم على ذلك ﴿فأعرض عنهم﴾ أي: لا تحاول أن تكون عليهم رقيبًا أو حفيظًا ﴿وتوكل على الله﴾ في أمر الرقابة عليهم ﴿وكفى بالله وكيلًا﴾ أي وحسبك أن يكون من فوض إليه أمر الرقابة هو الآمر وهو العليم بالسرائر ومن يرجع إليه الحساب والعقاب ﴿أفلا يتدبرون﴾ أي أولئك الذين يقولون طاعة ثم يبيتون غيرها ﴿القرآن﴾ وما فيه من أخبار من المغيبات وما تخفى الصدور ليتأكدوا أنه من عند الله وأن قولهم للرسول طاعة لا يفيدهم بالنظر لما يبيتونه
الكنعانيين ظهر له الرب (١٢: ٧) وقال «لنسلك أعطى هذه الأرض» وجاء فيه أيضا (١٥: ١٨) في ذلك اليوم قطع الرب مع إبرام ميثاقا قائلا «لنسلك أعطي هذه الأرض من نهر مصر إلى النهر الكبير الفرات». وهذا الوعد ذكر في سفر التكوين قبل ذكر ولادة إسماعيل وجاء فيه بعد ذكر ولادة إسماعيل له ووعد الله بتكثير نسله وبكونهم يسكنون أمام جميع إخوتهم قوله «٨٠١٧ وأعطى لك ولنسلك من بعدك أرض غربتك كل أرض كنعان ملكاً أبدياً وأكون إلههم» فهذا وذاك يدلان على أن العرب هم أولى أولاد إبراهيم بأن يكونوا أول من تناولهم العهد والميثاق والوفاء الأبدي لا يتحقق إلا به وقد تحقق هذا وأصبحت جميع تلك البلاد عربية محضة وليس فيه بعد ذكر ولادة إسحاق وعد لإبراهيم مثل هذا ببلاد ولا أرض. وقد أمر موسى قومه بدخول هذه الأرض في ذلك الحين حرباً باعتبارهم من نسل إبراهيم ولكن فيه أن يقيم معه عهداً أبدياً لنسله ولم يقل بالتملك فيها ولا بالاستئثار بها دون باقي العرب كما يزعم اليهود اليوم، يؤيد هذا ما نقله كاتب سفر تثنية الاشتراع عن موسى عليه السلام قوله «١: ٦ الرب إلهنا كلنا في حوريب قائلا كفاكم قعود في هذا الجبل ٧ تحولوا وارتحلوا وادخلوا جبل الأموريين وكل ما يليه من القفر والجبل والسهل والجنوب وساحل البحر أرض الكنعاني ولبنان إلى النهر الكبير نهر الفرات ٨٠ انظروا قد جعلت أمامكم الأرض ادخلوا وتملكوا الأرض التي أقسم الرب لآبائكم إبراهيم وإسحاق ويعقوب أن يعطيها لهم ولنسلم من بعدهم» (وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ) أي لا تنكصوا عن دخولها وتجبنوا عن قتال من فيها من الوثنيين (فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ) أي فتحرموا من نعمة الإقامة فيها والتمتع بخيراتها وفقاً لدستور الله الذي يقضي بضرورة الجهاد والتضحية لكل من رام النصر على أعدائه وفتح بلادهم فهذا هو سبيل النصر وهذا ما يحمل الناس على العمل لحماية الأوطان:
@فمن أخذ البلاد بغير حرب
#يهون عليه تسليم البلاد
فلم يكن منهم إلا أن جبنوا عن لقاء أعدائهم وداخلهم الخوف وأبوا أن يخضعوا لأوامر الله وإتباع دستوره لنيل النصر بل (قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ) الجبار
عنه} أي يبتعدون عن الاستجابة لما يدعو إليه والاهتداء بهديه ﴿وإن يهلكون﴾ بذلك الجهد الذي يبذلونه في نهي الناس عنه وعدم الأخذ بتعاليمه ﴿إلا أنفسهم﴾ لأنهم بصنعهم هذا لن يستطيعوا الحيلولة دون ذيوع القرآن وانتشار الإسلام في كل مكان رغم أنوفهم. ﴿وما يشعرون﴾ هم بهذا الهلاك فالوقت محسوب من العمر، وإضاعته فيما لا يجدي، أو عدم الاستفادة به، يعد هلاكًا للنفس وخسرانًا مبينًا.
بعد أن أخبر الله رسوله بمبلغ عناد المعاندين من أهل الكتاب ومحاربتهم لدعوته أخذ يقص عليه ما سيكون من أمرهم يوم القيامة فقال ﴿ولو ترى﴾ أيها الرسول بعينيك هؤلاء الضالين المكذبين ﴿إذ وقفوا﴾ بالبناء للمفعول أي أوقفهم غيرهم من ملائكة العذاب بمعنى حبسوا في مكان مشرف ﴿على النار﴾ التي سيلقون فيها جزاءهم وجواب «لو» مسكوت عنه ومتروك لتصور الرسول أو السامع مبلغ هلعهم وبؤسهم إذ ذاك ﴿فقالوا يا ليتنا نرد﴾ إلى حياتنا الدنيا فنكفر عن سيئاتنا ﴿ولا نكذب بآيات ربنا﴾ المنزلة على رسوله ﴿ونكون من المؤمنين﴾ بوحدانية الله وصحة كل ما أخبر عنه ولا نشرك به أحدًا. ﴿بل﴾ لو ترى مبلغ خزيهم وذلهم وقد ﴿بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل﴾ في أنفسهم من المكر والحقد على الإسلام الذي ظنوه يخفى على الله لرثيت لحالهم وصدقتهم فيما تضمنه تمنيهم ﴿ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه﴾ من الشرك والضلال كما كان شأنها من قبل فإنهم كثيرًا ما أصيبوا في حياتهم الدنيا بعدة مصائب لم يخلصهم منها إلا أنهم ﴿دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين فلما أنجاهم إذا هم يبغون في الأرض بغير الحق﴾ ﴿وإنهم لكاذبون﴾ فيما يقولون الآن قياسًا على ما مضى منهم.
بعد أن أفضى الله إلى رسوله بما يكون من أمر المعاندين يوم القيامة، وما يقولونه عندما يؤتى بهم إلى حافة جهنم، أردف هذا بذكر إنكارهم للبعث في الحياة الدنيا وحسابهم على هذا الإنكار بصورة خاصة في الآخرة فقال: ﴿وقالوا﴾ في حياتهم الدنيا عندما طلب إليهم العمل للحياة الأخرى، وأنذروا بما يكون فيها من حساب وعقاب ﴿إن هي إلا حياتنا الدنيا وما نحن بمبعوثين﴾ مرة أخرى، فلم يعملوا لها. ولما كان الحساب والعذاب يتوقفان على ثبوت البعث أخبر الله رسوله بأن هذا أول ما يستجوبون عليه في يوم القيامة فقال ﴿ولو ترى﴾ أيها الرسول
خلق أنواع الطعام أو ما يحصل بالاكتساب وكلاهما من فضل الله وأقداره وتمكينه، ولما كانت كثرة الأفضال توجب الطاعة والانقياد والإنسان مهما أوتي من قوة ومهما بذل من عمل لا يستطيع أن يوفي حق ربه في الشكر على تلك النعم قال تعالى: ﴿قليلًا ما تشكرون﴾ أي وشكركم لهاتين النعمتين لا يتناسب مع كثرتها وعظيم قدرها فشكر النعمة إنما يكون بحالات ثلاث الأولى الشعور بها والثانية الاعتراف بها لمسديها والثالثة الشكر عليها بالحمد والثناء والاستفادة بها فيما يرضي الله وقل أن يتوفر هذا الشكر في أحد من الناس ﴿ولقد خلقناكم﴾ يا معشر السلالة البشرية في مبدء التكوين خلقًا ذريًا في العالم غير المنظور ﴿ثم صورناكم﴾ بأجمل صورة وأحسن تقويم وبشكل منسجم لا يستطيع أحد أن يبدي أي عيب فيه ﴿ثم قلنا للملائكة﴾ أي التي هي أشرف المخلوقات العلوية على الإطلاق ﴿اسجدوا لآدم﴾ سجود احترام وتقدير لما خلقت بيدي ﴿فسجدوا إلا إبليس﴾ بمفرده ﴿لم يكن من الساجدين﴾ لأنه ليس منهم خلافًا لما يراه المفسرون من أنه كان من كبار الملائكة والحقيقة أنه كان من عالم الجان أي الخفي الذي سمع أمر الله للملائكة الذين هم أشرف منه وخلقوا من النور بالسجود فكان عليه أن يسجد لأنه أحط منهم درجة ولذا خاطبه رب العزة ﴿قال ما منعك﴾ من امتثال الأمر وحملك على ﴿ألا تسجد﴾ لآدم مع الملائكة ﴿إذ أمرتك﴾ أمرًا ضمنيًا بما وجهته من الأمر إلى من هم أرفع درجة منك وهم الملائكة ومتى أمر الشرفاء بالسجود وجب على من كان أقل منهم درجة أن يسجد ﴿قال﴾ إبليس وقد اغتر بأنه خلق من النار التي هي أداة العذاب فلم يعترف بشرف الملائكة عليه وشعر بما منحه الله من الحرية في القول والعمل بما وجهه إليه من هذا السؤال فقال ﴿أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين﴾ أي أنه أجرم في حق ربه بعدة جرائم أولها امتناعه عن السجود وثانيها اعتراضه على أوامره وإعلانه المخالفة وثالثها أنه ينزل نفسه فوق حقيقتها فزعم أنه خير من آدم مع أن الله قد فضل آدم على جميع المخلوقات إذ خلقه بيده ونفخ فيه من روحه وجعل استعداده العلمي فوق استعداد غيره وفضله بذلك على الملائكة المطيعين إذ أمرهم بالسجود له والإذعان بمزاياه الطيبة ورابعها أنه علل تفضيله على آدم بما لم يرد عن الله من تفضيل النار على التراب وخامسها أنه افتأت على الله إذ جعل للأصل والجنس حقًّا في الأفضلية رُوِيَ عن رسول الله ﷺ قوله «أول من قاس أمر الدين برأيه إبليس قال الله له اسجد لآدم فقال أنا خير منه» ﴿قال﴾ الله جل جلاله ﴿فاهبط﴾ الهبوط الانحدار والسقوط من مكان إلى ما دونه أو من منزلة إلى أحط
وقساوة القلوب وتراكم الذنوب وهذا على حد قوله تعالى ﴿والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا﴾.
بعد أن أخبر الله رسوله بأن ما أصاب بني إسرائيل من عذاب لم يكن إلا عقابًا على الكفر بالله وفق سنن عامة وأسباب مضطردة أخذ يخبره بالأساس الذي تترتب عليه تلك العقوبات وتوجب مسئولية الناس أجمعين أمام رب العالمين فقال ﴿وإذ أخذ ربك﴾ أي واذكر أيها الرسول أن ربك قد أخذ، والأخذ: حوز الشيء وتحصيله تارة بالتناول وتارة بالقهر نحو قوله: ﴿لا تأخذه سنة ولا نوم﴾ ويقال أخذته الحمى أي قهرته والمعنى أن الله قد قهر وجبل ﴿من بني آدم﴾ أي كل فرد من أفرادهم ﴿من ظهورهم﴾ أي منذ كانوا نطفًا في العمود الفقري لهيكل الإنسان الذي هو قوام بنيته وأساس تكوينه ﴿ذريتهم﴾ بالإفراد الذي يفيد العموم وقرئ «ذرياتهم» بالجمع أي الذين قضى الله بحياتهم من الذرية إذ فطرهم على الإيمان به خالقًا يلجئون إليه في الشدائد ويرفعون إليه الأيدي بالضراعة حيث قال تعالى: ﴿فأقد وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله﴾ وجاء في الصحيحين: «كل مولود يولد على الفطرة» وفي رواية: «على هذه الملة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه» وفي صحيح مسلم يقول: «يقول الله إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فأحالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم».
﴿وأشهدهم﴾ أي جعلهم ربهم بأساس خلقهم وتكوينهم شاهدين ﴿على أنفسهم﴾ بأنهم مخلوقون لله بفطرتهم وبما وهب لهم من عقول سليمة تدرك أنه لا بد لكل فعل من فاعل وكل مصنوع من صانع وكل مخلوق من خالق بحيث أنهم متى سئلوا من قبل خالقهم ﴿ألست بربكم﴾؟ لا يسعهم إلا أن ﴿قالوا﴾ بلغة الاستعداد ولسان الحال ﴿بلى شهدنا﴾ بربوبيتك وخلقك لنا وهذا ما هو واقع فعلًا فما من عاقل في الوجود يستطيع أن ينكر أنه في ذاته مخلوق لخالق هو ربهم ورب الخلق أجمعين فأمر الربوبية مما توحي به الفطرة والعقل السليم وإن اختلف الناس في ألوهيته تعالى فآمن بها البعض وأنكرها آخرون أو اتخذوا معه شركاء ﴿أن تقولوا يوم القيامة إنا كنا عن هذا غافلين﴾ أي وإنما قهرناكم على الإيمان بالله بفطرتكم وجعلنا لكم من عقولكم ما يشهد بربوبيتنا منعًا لاعتذاركم أو احتجاجكم يوم القيامة عن الكفر أو الشرك بالغفلة بمعنى عدم الشعور مما لا يتفق مع الفطرة والعقل إذ لو نطقتم بلسان الفطرة والعقل وحكمتم العقل في الأمر لآمنتم بربوبية
أكسبه تعالى لأتباعه من نصر إثر نصر وكان فتح مكة من أعظم الدروس التي زادت المؤمنين وثوقًا بالله واعتمادًا عليه.
فلقد وعد الله نبيه عليه الصلاة والسلام بعد عودته من الحديبية بأنه تعالى سينصره نصرًا عزيزًا فلم يحمله ذلك على التواكل ولم يطمع المؤمنون في انتظار خوارق العادات لنصر يأتيهم به الله بل إنهم أخذوا يعدون أنفسهم ويمرنون أجسامهم على الجهاد والصبر على البلاء استعدادًا لتلك المعركة الفاصلة التي تكسبهم ذلك النصر المنتظر فما إن دعاهم رسول الله إلى السفر إلى مكة حتى ساروا في ركابه لم يتخلف منهم أحد يريدون فتح مكة ويريدون إرغام قريش على الخضوع للإسلام. وقد أراد الله جل وعلا أن يضمن لنبيه تحقيق هاتين الغايتين من غير حاجة إلى تلك القوة التي أعدها بل بتدبير إلهي محض وبما ألقاه سبحانه من رعب في قلب أبي سفيان كبير قومه وأعدا أعداء الرسول ذلك الرجل العاتي العنيد والقاسي العتيد الذي اضطر أن يهضم نفسه ويجازف بحياته ويتلمس الوسطاء للرسول ليعفو عنه ويتعهد له مقابل ذلك بأن يحمل قومه على التسليم له والإيمان به فتتجلى بذلك قدرة الله على منح النصر لعباده المؤمنين المخلصين ويصدق وعد الله لنبيه بنصر عزيز. لا مثيل له في تاريخ الانتصارات.
بلاد تفتح وأمة تخضع وتقبل أن تغير عقيدتها وتترك شريعتها وتلقي بعاداتها المتوارثة في لحظة واحدة ومن دون أن تراق في سبيل ذلك قطرة من دم هذا لعمر الله معجزة من معجزاته وآية من آياته التي أيد بها رسوله والتي أتى بها سبحانه وتعالى كمثل لتأييده للناس في جميع العصور إذا هم رجعوا إليه وآمنوا به إيمان أولئك الأمجاد في عهد الرسول ﷺ حيث يقول تعالى: ﴿وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين﴾.
ولذلك فإنه ما كاد رسول الله ﷺ يصل إلى أعالي مكة في يوم الاثنين ٢٠ من رمضان الموافق ٨ يناير سنة ٦٣٠ ويستقر في القبة التي أقامها له صحبه حتى شعر بالحافز يدفعه بالمبادرة إلى زيارة البيت الحرام فأمر عمر أن يأتي الكعبة فيمحو كل الصور التي فيها فذهب ونفذ أمره دون أن يلقى أي مقاومة، ثم امتطى ناقته القصواء مردفًا خلفه أسامة بن زيد وسار بها حتى بلغ الكعبة وهو يقول: «اللهم إن العيش عيش الآخرة» فطاف بها سبعًا على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده «وهو عصا منعطفة الرأس يقال لها مشعاب» فلما أتم طوافه دعا عثمان بن
الدعوة إلى الرجوع إلى الله بالدعاء تأخرًا ورجعية نسأله تعالى اللطف بنا وبهم جميعًا خصوصًا بعد ما وجهه الله إلى الناس من الخطاب بقوله: ﴿يا أيها الناس﴾ في سائر العصور والأزمان: ﴿إنما بغيكم﴾ أي ظلمكم وجنايتكم على أنفسكم فبعدم تعرفكم بالله في ساعة الشدة أو عدم الاعتراف بقدرته على نجاتكم بالمرة وترك دعائه إنما يعود ضرره: ﴿على أنفسكم﴾ أي إن وباله يرجع إليكم في الدنيا فلو أنكم آمنتم بوحدانية الله وأحكمتم صلتكم به وأفردتموه بالدعاء لصرف عنكم من السوء ما لا تعلمون، وأزال عنكم في ساعة الشدة ما تخافون، في حين أن ما تتمتعون به من البغي والفساد ما هو إلا: ﴿متاع الحياة الدنيا﴾ وهو قصير الأمد مهما طال: ﴿ثم إلينا مرجعكم﴾ بعد هذا المتاع القليل: ﴿فننبئكم بما كنتم تعملون﴾ أي نخبركم بما عملتم وما استوجبه عملكم من جزاء في الآخرة وفق ما أنذرناكم به من قبل، هذا بالنسبة لظلم النفس أما البغي على الناس فقد ورد في الحديث عن رسول الله ﷺ قوله: «أسرع الخير ثوابًا البر وصلة الرحم وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم» وقوله: «ثلاث من رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي» وقال تعالى: ﴿ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله﴾ وقد أثبتت لنا الأيام مصير البغاة من ملوك وحكام ظلمة بغوا في الأرض واستحلوا دماء الأبرياء وأموالهم وأعراضهم فأصابهم ما أصابهم وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
بعد أن ضرب الله مثلًا بمبلغ كفر الناس بنعمه وعدم التعرف عليه أو الإيمان به إلا في حال الشدة وقوله في النهاية: ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا﴾ أخذ يصور لهم الحياة الدنيا على حقيقتها بأنها تبدأ من فضل الله وتنمو وتنضج وفق سنن الله ثم تنتهي بأمر الله وكل شيء فيها له أوان ومآل. ومصير متعها إلى الزوال، فقال: ﴿إنما مثل الحياة الدنيا﴾ في صورتها ومآلها: ﴿كماءٍ أنزلناه من السماء﴾ أي أشبه بماء أنزلناه من السماء دون أن يكون للإنسان أي دخل فيه بل هو مجرد منحة الله جل وعلا: ﴿فاختلط به﴾ أي بالماء: ﴿نبات الأرض﴾ أي أنواع النباتات التي خلقها الله أصوله فيها: ﴿مما يأكل الناس والأنعام﴾ أي مما يكون مصيره إلى الفناء بأكل الناس شطرًا منه والشطر الآخر تأتي عليه الأنعام وهكذا الحياة الدنيا بدا عمارها بما وهبه الله لآدم من قوة الروح التي استطاع بواسطتها أن يحيى ويستثمر ما في الأرض من خيرات يسيطر عليها بمختلف المؤثرات وينعم فيها بسائر الملذات: {حتى إذا
الباب بتقليد الآباء فيما يتعارض مع كتاب الله والاختلاف فيه مما يؤدي إلى تزلزل عقيدة التوحيد وتفريق كلمة المسلمين: ﴿فتمسكم النار﴾ التي هي جزاء الظالمين بسبب ركونكم إليهم وتقليدكم لهم من دون الله: ﴿وما لكم﴾ في حال ركونكم إليهم: ﴿من دون الله من أولياء﴾ يمكن أن يعتد بأقوالهم في تخليصكم من العذاب: ﴿ثم لا تنصرون﴾ يوم القيامة لأن حكمة الله اقتضت عقابهم بالنار أصلًا وأنتم تبع لهم فواجب المسلم والعالم بالخصوص أن يعلم بأدلة الأئمة المجتهدين من كتاب الله وسنة رسوله ويحكم عقله وضميره في الأمر ويعمل بما يراه أقرب إلى الصواب لينجو من عذاب الله لا أن يقلدهم تقليدًا أعمى ويضع على عاتقهم مسئولية تصرفاته اعتمادًا على ما يزعمون «من أن من قلد عالمًا لقي الله سالمًا» الأمر الذي لا يرضى به أصحاب المذاهب الأربعة أنفسهم، ولقد حدثني أحد علماء دمشق أنه كان يتلقى الفقه الحنفي على يد شيخه وأخذ عنه أن الإمام أبي حنيفة يرى أن قراءة الفاتحة خلف الإمام مكروهة كراهة تحريم ولكنه سمع بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب» ولذلك صار يقرؤها خلف الإمام فوشى به بعض رفاقه لدى الشيخ فسأله عن ذلك فقال نعم قال ألا تعلم أن إمامنا يمنع ذلك فأجابه ولكن هذا حديث رسول الله يأمر بتلاوتها فغضب الشيخ وقال له اعلم أنا مقلدون لإمامنا وهو أعلم منا وإن مثلنا ومثله كمثل الأعمى الذي يسلم قياده للبصير وهو مسئول عنا يوم القيامة، فقال ولكني لا أرضى أن أكون أعمى وقد منحني الله ملكة البصر والعقل ثم من أين أجد إمامنا يوم القيامة ليدافع عني أو ليتحمل المسئولية عني فغضب شيخه من هذه الإجابة الجريئة من تلميذه وأنذره بأن يعتزله ولا يتلقى العلم على يديه، فقال له يا سيدي الشيخ أريد أن أسألك سؤالًا قال قل قال هل إذا أنا تلوت الفاتحة خلف الإمام أكون قد كفرت؟ قال لا قال أفهل أكون قد فسقت؟ قال لا قال إذن فلم تحرمني من تلقي العلم على يدك وأنا لم أكفر ولم أفسق؟ فأجابه الشيخ هكذا: أنا لا أريد من طلبتي إلا أن يكونوا مقلدين لإمامي وإلا فليبحثوا لهم عن إمام غيره، وهكذا نحن نرى أغلب العلماء اليوم يتعصبون لأقوال أئمتهم ولا يبغون عنها حولًا هدانا الله وإياهم سواء السبيل.
بعد أن أمر الله رسوله ومن تاب معه بالاستقامة ونهاهم عن الطغيان والركون إلى أقوال الذين ظلموا أخذ يرسم لهم سبيل الوصول إلى هذه الغاية بالتزام طريقتين: إقامة الصلاة
يقيك من عذابه، وهنا تصدى الله جل جلاله لتفنيد بعض شبه الأحزاب التي يتذرعون بها في عدم الاعتراف برسالته أو الطعن فيه ﷺ فقال: ﴿ولقد أرسلنا رسلًا من قبلك﴾ بمثل ما أرسلت به: ﴿وجعلنا لهم أزواجًا وذرية﴾ فلم يتخذ الناس من ذلك سببًا في الطعن في رسالتهم فما بال قومك يعيبون عليك كثرة الزوجات ويقولون لو كان رسولًا من عند الله لما كان مشتغلًا بأمر النساء بل كان معرضًا عنهن مشتغلًا بالنسك والتوحيد وفاتهم أن الرسالة عن الله لا تستلزم انقطاع الرسول أو الداعي بدعوته عن ملذاته الطبيعية كبشر بل إنه كمشرع ومعلم وقدوة للناس يجب أن لا يحرم نفسه من التمتع بنعم الله ولا ينتهي إلا عما هو محرم عليه: ﴿وما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله﴾ أي وكذلك ما كان لهم أن يعيبوا عليك عدم إتيانك بشيء من خوارق العادات التي طلبوها منك وهم يعلمون أن الرسل السابقين لم يزعموا لأنفسهم المقدرة على خرق العادات بل إنهم جاؤوا بمعجزات خاصة صرحوا بأن الله أذن لهم بها لتكون برهانًا على رسالتهم عنه وما دام الأمر كذلك فلا يطعن في رسالتك أن الله لم يأذن لك بالإتيان بشيء من خوارق العادات بعد أن منحك معجزة العلم التي أخضع بها الملائكة لأبيك آدم من قبل وجعل من شخصك وسيرتك ما يثبت رسالتك عنه وجعل القرآن الذي أنزل عليك هدى للعالمين إلى ما فيه سعادة الدارين وخير الحياتين وكفى بذلك معجزة لك عند قوم يعقلون: ﴿لكل أجل كتاب﴾ الأجل المدة المضروبة للشيء والكتاب اسم الصحيفة وما كتب فيها من أحكام وأقدار أي أن الله قد سن للآجال دستورًا ربط فيه المسببات بالأسباب والغايات بالمقدمات وجعل بمقتضاه هلاك الأمم والأفراد موقوفًا على بلوغهم في الضلال والطغيان غاية يستحقون معها ذلك الهلاك فلا يطعن في رسالتك عدم نزول العذاب بهم عند طلبهم له ولا تأخر نصرة الله لك إلى نهاية الأجل المضروب للهلاك فتأخر المواعيد لا يدل على كذبك فيما تخوفهم به من الخذلان ونصر دين الله: ﴿يمحو الله ما يشاء﴾ أي يزيل الله في هذه الكتاب من الآجال بمقتضى الأحكام القدرية المرتبطة بالأسباب ما يشاء محوه: ﴿ويثبت﴾ بسكون الثاء وكسر الباء وقرئ بفتح الثاء وتشديد الباء من الآجال والأحكام ما يشاء إثباته فإليه يرجع الأمر كله، وهؤلاء الكفار الذين نضيق بهم أيها الرسول ذرعًا وتدعو عليهم وتؤدي أعمالهم إلى الهلاك ويتعرضون للموت وسوء الخاتمة بمقتضى سنن الله وحسب نظام القدر قد ينجيهم الله من ذلك ويكتب لهم الهداية ويهبهم حياة سعيدة
#نظمت له الأسباب كالحلقات
﴿والله﴾ الذي يجب أن تؤمنوا به وتعبدوه هو الذي: ﴿جعل لكم من أنفسكم﴾ أي من جنسكم: ﴿أزواجًا﴾ ترتبطون بها برباط عائلي متين تكتمل بها حياتكم الجنسية وتتعاونوا معها على عمار هذا الكون وقد كان في إمكانه تعالى أن يجعلكم ذكورًا فقط فلا تجدون اللذة في الاجتماع بهم: ﴿وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة﴾ أي أنه هو الذي اقتضت حكمته أن يكون اجتماع الزوجين سبيلًا للتوالد وإنجاب الأبناء وأبناء الأبناء مما به يدوم النسل: ﴿ورزقكم من الطيبات﴾ أي أوجد لكم ما لذ وطاب من أنواع المأكولات التي لا تعرفون الأصل فيها وخص كل بلد بفاكهة تختلف عن مثلها في بلد آخر مما يدل عن أنها من صنع صانع عظيم منعم متفضل: ﴿أفبالباطل﴾ من الأصنام التي يعكفون عليها وهي لا تملك شيئًا من هذا كله: ﴿يؤمنون﴾ بسلطانها ويتقربون إليها ويرجون منها النفع ويستعيذون بها من الضر: ﴿وبنعمة الله﴾ الفائضة والتي عدد سبحانه وتعالى جانبًا منها: ﴿هم يكفرون﴾ أي لا يعترفون بأنها من الله فيعرضون عن شكرها ويحسبونها من الأمور الطبيعية التي ليس لله دخل فيها: ﴿ويعبدون﴾ أي يدعون لقوله ﷺ «الدعاء هو العبادة» فهو اعتراف بالعجز عن بلوغ الشيء وطلبه ممن يملكه: ﴿من دون الله﴾ لطلب الرزق وقضاء الحوائج: ﴿ما لا يملك لهم رزقًا﴾ أي الأصنام والآلهة التي لا تملك الرزق: ﴿من السموات والأرض شيئًا﴾ أي أن الأصنام والآلهة التي يسألونها الرزق ولا قدرة لها على إنزال المطر من السماء ولا إنبات العشب والأثمار من الأرض: ﴿ولا يستطيعون﴾ أي لا تستطيع أن تتحرك بذاتها حتى يكون في استطاعتها إجابة السائلين: ﴿فلا تضربوا لله الأمثال﴾ أي لا تشبهوا بشأنه تعالى شأنًا من الشؤون كأن يقال إن حكمه بين عباده كحكم السادة على العبيد فيجوز عليه ما يجوز عليهم من عذاب الطائعين وثواب العاصين: ﴿إن الله يعلم﴾ بكل ما لا يليق أن ينسب إليه من الأمثال: ﴿وأنتم لا تعلمون﴾ أن الله لا يرضيه ذلك منكم ولو علمتم ذلك لما أقدمتم عليه.
بعد أن أقام الله الأدلة على سلطانه على خلقه بما اقتضته سنته الكونية في حياة البشر وسيطرته سبحانه على أرزاقهم وضلال من يعبد غيره ونهى عن ضرب الأمثال به جل وعلا أخذ يشير إلى العلة في ذلك وهي تباين الحال بين ذاته العلية وبين سائر مخلوقاته فقال: ﴿ضرب الله مثلًا﴾
الدعوة إلى الرجوع إلى الله بالدعاء تأخرًا ورجعية نسأله تعالى اللطف بنا وبهم جميعًا خصوصًا بعد ما وجهه الله إلى الناس من الخطاب بقوله: ﴿يا أيها الناس﴾ في سائر العصور والأزمان: ﴿إنما بغيكم﴾ أي ظلمكم وجنايتكم على أنفسكم فبعدم تعرفكم بالله في ساعة الشدة أو عدم الاعتراف بقدرته على نجاتكم بالمرة وترك دعائه إنما يعود ضرره: ﴿على أنفسكم﴾ أي إن وباله يرجع إليكم في الدنيا فلو أنكم آمنتم بوحدانية الله وأحكمتم صلتكم به وأفردتموه بالدعاء لصرف عنكم من السوء ما لا تعلمون، وأزال عنكم في ساعة الشدة ما تخافون، في حين أن ما تتمتعون به من البغي والفساد ما هو إلا: ﴿متاع الحياة الدنيا﴾ وهو قصير الأمد مهما طال: ﴿ثم إلينا مرجعكم﴾ بعد هذا المتاع القليل: ﴿فننبئكم بما كنتم تعملون﴾ أي نخبركم بما عملتم وما استوجبه عملكم من جزاء في الآخرة وفق ما أنذرناكم به من قبل، هذا بالنسبة لظلم النفس أما البغي على الناس فقد ورد في الحديث عن رسول الله ﷺ قوله: «أسرع الخير ثوابًا البر وصلة الرحم وأسرع الشر عقوبة البغي وقطيعة الرحم» وقوله: «ثلاث من رواجع على أهلها المكر والنكث والبغي» وقال تعالى: ﴿ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله﴾ وقد أثبتت لنا الأيام مصير البغاة من ملوك وحكام ظلمة بغوا في الأرض واستحلوا دماء الأبرياء وأموالهم وأعراضهم فأصابهم ما أصابهم وما الله بغافل عما يعمل الظالمون.
بعد أن ضرب الله مثلًا بمبلغ كفر الناس بنعمه وعدم التعرف عليه أو الإيمان به إلا في حال الشدة وقوله في النهاية: ﴿يا أيها الناس إنما بغيكم على أنفسكم متاع الحياة الدنيا﴾ أخذ يصور لهم الحياة الدنيا على حقيقتها بأنها تبدأ من فضل الله وتنمو وتنضج وفق سنن الله ثم تنتهي بأمر الله وكل شيء فيها له أوان ومآل. ومصير متعها إلى الزوال، فقال: ﴿إنما مثل الحياة الدنيا﴾ في صورتها ومآلها: ﴿كماءٍ أنزلناه من السماء﴾ أي أشبه بماء أنزلناه من السماء دون أن يكون للإنسان أي دخل فيه بل هو مجرد منحة الله جل وعلا: ﴿فاختلط به﴾ أي بالماء: ﴿نبات الأرض﴾ أي أنواع النباتات التي خلقها الله أصوله فيها: ﴿مما يأكل الناس والأنعام﴾ أي مما يكون مصيره إلى الفناء بأكل الناس شطرًا منه والشطر الآخر تأتي عليه الأنعام وهكذا الحياة الدنيا بدا عمارها بما وهبه الله لآدم من قوة الروح التي استطاع بواسطتها أن يحيى ويستثمر ما في الأرض من خيرات يسيطر عليها بمختلف المؤثرات وينعم فيها بسائر الملذات: {حتى إذا
على ذلك وعندي أن الاستغناء في اللغة معناه الاكتفاء فيكون المعنى أن الله اكتفى بإرسال الرسل من البشر ولم يشأ سبحانه أن يجاري المكذبين في تعنتهم إذ قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكًا لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (٨) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ﴾ ومعنى هذه الآية أن طلبهم هذا ما هو محض تمحك منهم لا يمكن تحقيقه ولا فائدة منه إذ لو كان من المفيد إنزال الملك لمساعدة الرسول في تبليغ الرسالة لقضي الأمر واكتفي به في أداء الرسالة ولم تعد حاجة لإرسال الرسل من البشر ثم هم بعد ذلك لا يمهلون لأجل أن يؤمنوا فهذا يعد عَنَتًا جليًا منهم وهو سبحانه يعلم أنهم إن أعطوا هذا الطلب وأرسلت لهم ملائكة من السماء فلن يؤمنوا بها وذلك لأن الملك من المخلوقات الخفية التي لا ترى فإذا أرسل أحد منهم للبشر فمن الضروري أن يكون متمثلًا في صورة بشر حتى يمكنهم مشاهدته وسماع كلامه الذي يبلغهم به عن ربه كما حصل عندما أرسل الله الملك لمريم: ﴿فتمثل لها بشرًا سويًا﴾ وإذا ما أرسل الله الملك للناس وجعله في صورة بشر لا ريب أنه بداخلهم الشك في أمره أيضًا لأنهم لا يدركون منه إلا صورته وصفاته البشرية المنظورة وحينئذ يقعون في نفس اللبس والاشتباه ولا يكفون عن المطالبة بجعله ملكًا ومن أجل هذا اكتفى الله في أمر هداية الناس بإرسال الرسل من البشر دون الملك: ﴿وَاللهُ غَنِيٌّ﴾ عن إيمانهم فإن ذلك لا يزيد في مقامه شيئًا كما أن كفرهم لا يؤثر في ملكه بوجه من الوجوه: ﴿حَمِيدٌ﴾ يثني على عباده المؤمنين ويقدر لهم صالح أعمالهم ويجزيهم عليها خير الجزاء، وهنا أراد جل جلاله أن يدلل على كمال علمه فأخبر بما يحاك في صدور فريق من عباده وما يتحدثون في مجالسهم الخاصة فقال: ﴿زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بمعنى لم يؤمنوا بوجود الله ووحدانيته وعظم قدرته: ﴿أَن لَّن يُبْعَثُوا﴾ بمعنى أنه لا حياة لهم إلا في الدنيا فقط: ﴿قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ﴾ أي أكد لهم أيها الرسول أمر البعث في حياة أخرى أسعد من هذه الحياة لا تعب فيها ولا نصب ولا يدركها الفناء وأقسم لهم على ذلك بي فإنهم يعلمون أنك مؤمن بي كل الإيمان فلا يمكن أن تقسم بي كاذبًا لعل في ذلك ما يحملهم على تصديقك: ﴿ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ﴾ أي أكد لهم فوق أمر البعث أنه سيكون هنالك عرض لجميع أعمال العباد: ﴿وَذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ﴾ أي أن ذلك أمر في غاية السهولة فمن أوجد الإنسان من العدم لا يعجزه أن يعيده بعد الفناء والعالم بالشيء من السهل أن يذكره ويخبر عنه: ﴿فَآمِنُوا بِاللَّهِ﴾ ربًّا واحدًا لا شبيه ولا شريك
قيام الليل تطوعًا من بعد أن كان فريضة: ﴿ورتل القرآن﴾ أي بالجملة في الصلاة وفي غيرها من باب أولى: ﴿ترتيلًا﴾ أي بيّنه تبيينًا بإيضاح حروفه وإيفائها حقها من الإشباع والمد وعدم الإسراع به بحيث يتمكن القارئ من التأمل في حقائق الآيات وفهم المراد منها واستخراج العبرة من بين ثناياها مما يؤدي إلى الشعور بعظمة الله واستنارة القلب بنور معرفته والثقة به والخوف منه والرجاء فيما عنده: ﴿إنا سنلقي عليك قولًا ثقيلًا﴾ أي يمتاز عن أقوال الناس بأنه يحمل بين ثناياه معاني سامية وحكمًا غالية ومرامي بعيدة لا يستطيع العقل البشري أن يحيط بها لأنه كلام الله الذي وصفه الرسول ﷺ بقوله «فيه نبأ ما قبلكم وخبر ما بعدكم وحكم ما بينكم، وهو الفصل ليس بالهزل ما تركه من جبار إلا قصمه الله ومن ابتغى الهدى من غيره ضل وهو حبل الله المتين وهو الذكر الحكيم وهو الصراط المستقيم وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ولا تلتبس به الألسنة ولا تشبع منه العلماء ولا يخلق على كثرة الترداد ولا تنقضي عجائبه وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته حتى قالوا: ﴿إنا سمعنا قرآنًا عجبًا يهدي إلى الرشد فآمنا به﴾ من قال به صدق ومن عمل به أجر ومن دعا إليه هدي إلى الصراط المستقيم».
﴿إن ناشئة الليل﴾ نشأ الشيء: حدث وتجدد ناشئة الليل كل ما يحدث فيه ولعل المراد بها تلك الصلوات التي أمر بأدائها فيه: ﴿هي﴾ بفعلها: ﴿أشد وطئًا﴾ بفتح الواو وكسرها أي ضغطًا وثقلًا على النفس البشرية من صلاة النهار: ﴿وأقوم﴾ أي وهي بما يتلى فيها من قرآن وما يوجه فيها من دعاء أعدل: ﴿قيلا﴾ أي من سائر الأقوال لأنه مناجاة لله في وقت نامت فيه العيون وهدأت الأصوات وانقطعت الحركات ولم يبق إلا أن تتجه القلوب لفاطر الأرض والسماوات: ﴿أن لك في النهار سبحًا طويلًا﴾ سبح الرجل سعى في معاشه وسبح القوم تفرقوا وانتشروا في الأرض وقرئ «سبخًا» بالخاء بدل الحاء يقال سبخ الرجل أي نام نومًا شديدًا لأنه كان فارغًا والمعنى إن فاتك من الليل شيء من النوم والراحة فلك من النهار متسع للعمل والنوم وكل ما أنت في حاجة إليه: ﴿واذكر اسم ربك﴾ بقلبك ولسانك: ﴿وتبتل إليه تبتيلا﴾ أي انقطع عن جميع شواغل الدنيا متجهًا إلى الله في أثناء الصلاة بقلبك فإنه سبحانه وتعالى هو: ﴿ربُّ﴾ قرئ مرفوعًا على المدح ومجرورًا على البدل من ربك: ﴿المشرق والمغرب﴾ أي الذي جعل الشرق شرقًا والغرب غربًا: ﴿لا إله إلا هو﴾ أي لا معبود بحق سواه: ﴿فاتخذه وكيلا﴾ يدافع عنك ويقيك من أعدائك بمعنى
الهلاك بعمل يده وأقسم على ذلك بنظام الكون العجيب الذي جعل لكل شيء في الكائنات عملاً يؤديه وسنناً لا تختلف فقال: ﴿وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا﴾ أي وشروقها على الكون بضيائها: ﴿وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا﴾ أي ما اقتضته سنته تعالى من أنه إذا غابت الشمس رئي الهلال إثرها: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا جَلاَّهَا﴾ أي أظهرها وكشفها في الأماكن التي لا تدخلها الشمس: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا﴾ أي يزيل بظلامه ضياءها: ﴿وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا﴾ أي وطريقة بنائها محكمة متماسكة: ﴿وَالأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا﴾ أي وأعجوبة بسطها بينما هي في حقيقتها كروية: ﴿وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا﴾ أي جعلها طاهرة نقية لا عيب فيها: ﴿فَأَلْهَمَهَا﴾ بعد ذلك بملكة العقل: ﴿فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ أي التمييز بين الحسن والقبيح وما هو معيب ينبغي ستره وما لا عيب فيه فلا بأس من إظهاره كما حصل لآدم وزوجه عندما أكلا من الشجرة ولعلها شجرة السلالة البشرية فلما ذاقاها باتصالهما الجنسي استقبحا منظرهما وهما على تلك الحالة فبدا لهما أن من واجبهما ستر سوءتيهما اللتين عصيا الله بهما: ﴿وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة﴾.
﴿قَدْ أَفْلَحَ﴾ هذا جواب القسم: ﴿مَن زَكَّاهَا﴾ زكى النفس طهرها وأصلحها باتباع أوامر الله والانتهاء عما نهى عنه: ﴿وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾ أي أخفى فضائل النفس في بحر من أعمال السوء وقد مثل الله لذلك بثمود إذ قال: ﴿كَذَّبَتْ ثَمُودُ﴾ رسولها بسبب: ﴿بِطَغْوَاهَا﴾ أي الطغيان الذي كانت تضمره في نفسها ولم تجهر به: ﴿إِذِ انبَعَثَ أَشْقَاهَا﴾ أي إلا عندما تقدم أشقى القبيلة معلناً التكذيب: ﴿فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ﴾ صالح احذروا: ﴿نَاقَةَ اللَّهِ﴾ التي جعلها آية يختبر بها مبلغ إيمانكم: ﴿وَسُقْيَاهَا﴾ أي شربها الذي اختصها الله به وهو يوم واحد: ﴿ولكم شرب يوم معلوم ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب يوم عظيم﴾.
﴿فَكَذَّبُوهُ﴾ وربما قالوا: في أنفسهم ما علاقة الناقة وشربها بطاعة الله؟! أو أنه عز عليهم أن تستأثر الناقة بشرب يوم واحد من دونهم وقاموا إلى الناقة: ﴿فَعَقَرُوهَا﴾ سواء بالفعل أو بإقرار الاعتداء عليها فأثموا جميعاً: ﴿فَدَمْدَمَ﴾ أي أطبق: ﴿عَلَيْهِمْ رَبُّهُم﴾ العذاب والدمار: ﴿بِذَنبِهِمْ﴾ أي بسبب العمل الذي أقدموا عليه سواء بعقر الناقة أو الموافقة عليه: ﴿فَسَوَّاهَا﴾ بالأرض أي دمر مساكنها على ساكنيها: ﴿وَلا يَخَافُ﴾ وقرئ: ﴿فلا يخاف﴾ رسول الله: ﴿عُقْبَاهَا﴾ أي عاقبة ما أصابهم لأنه قد بلغهم أمر ربهم وقد نالوا جزاء ما اقترفت أيديهم.