سبقكم بعض رجالات قريش إلى الإيمان به فإن إيمانهم كان بعد جهل فلتكونوا أنتم في مقدمة المؤمنين من أهل الكتاب ﴿ولا تشتروا بآياتي ثمنًا قليلًا﴾ أي لا ترفضوا الإيمان بالقرآن خوفًا على نفوذكم على اتباعكم أن يتقلص، ومصالحكم الشخصية، وما تستفيدونه من مريديكم من أموال أن تزول ﴿وإياي فاتقون﴾ أي قدموا جانب الخوف مني على جانب الخوف من ضياع مصالحكم الذاتية ﴿ولا تلبسوا الحق بالباطل﴾ أي تخلطوا بين ما جاء من عند الله من حق وبين ما أضافه رؤساؤكم عليه من باطل من شأنه أن يشوه الحقائق، ويفسد العقائد، ويوجد الشبهات في دين الله ﴿وتكتموا الحق﴾ الذي تعلمونه من رسالة هذا النبي الكريم الذي أخبر عنه في التوراة والإنجيل ﴿وأنتم تعلمون﴾ هذا ولكنكم تكتمونه يدل على هذا ما كان من الحصين بن سلام من أحبار اليهود وذوي المكانة السامية فيهم عند ما أسلم إذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: «لقد كنا نتوقع بعثك مما جاء في التوراة عن صفتك واسمك وزمانك فلما سمعت ببعثك جئتك لأعلن إسلامي، ثم قال لليهود يا معشر اليهود اتقوا الله واقبلوا ما جاءكم به محمد فوالله إنكم لتعلمون إنه لرسول الله تجدونه مكتوبًا عندكم في التوراة باسمه وصفته فإني أشهد إنه رسول الله وأؤمن به وأصدقه وأعرفه. فقالوا له كذبت» ﴿وأقيموا الصلاة﴾ التي يعلمها لكم هذا الرسول في أوقاتها ﴿وآتوا الزكاة﴾ لمستحقيها ﴿واركعوا﴾ أي اخضعوا لله ﴿مع الراكعين﴾ الخاضعين لأوامره والمتبعين لشريعته، وقد دلتنا هذه الآيات على أن من سنن الله ما يأتي:
(١) من ذكر نعمة الله عليه حفظ الله عليه نعمه.
(٢) من وفى بعهد الله وفى الله بعهده.
(٣) من نكث عهد الله فإنما ينكث على نفسه.
(٤) لا يتحقق معنى الإيمان إلا فيمن توفرت فيه هذه الشروط:
أ التصديق بالكتب المنزلة جميعها؛ والقرآن بصورة خاصة باعتباره هو آخر كتاب جاء مصدقًا ومشتملًا على ما قبله.
ب- الحرص على التمسك بالدين، وعدم التساهل فيه وجعله وسيلة للارتزاق.
جـ- الصدوع بالحق وعدم المواربة فيه أو كتمانه.
د- المحافظة على الصلاة في أوقاتها وأداء الزكاة لمستحقيها.
تنفيذًا لأوامر الله ﴿فإن الله به عليم﴾ يضاعف الجزاء لكل من توخى رضاء الله وطبق أحكامه وتمشى على قانون الشريعة السمحة.
بعد أن أمر الله المؤمنين بالدخول في السلم كافة ونبههم إلى ضرورة بذل الأموال والأنفس في سبيل الله والصبر على ما يترتب على ذلك من البأساء والضراء ووضح لهم أهمية بذل الأموال ومواضع صرفها، أخذ يبين لهم مزية بذل الأنفس وتضحيتها في سبيل الله فقال ﴿كتب عليكم القتال﴾ لا للتجاوز والاعتداء، بل لأجل أن تكونوا أمة متأهبة على الدوام للإقدام على القتال ﴿وهو﴾ بتوطيد النفس واستعدادها دائمًا له ﴿كره﴾ بضم الكاف وقرئ بفتحها ﴿لكم﴾ لأنكم تحسبون هذه حالة قلق وحذر دائم ﴿وعسى أن تكرهوا شيئًا﴾ وذلك الشيء هو التأهب والاستعداد للحرب ﴿وهو﴾ في الواقع ﴿خير لكم﴾ لأن الاستعداد للحرب يمنع الحرب، والتأهب للقتال يرهب الأعداء ويمنع عنكم عاديتهم ﴿وعسى أن تحبوا شيئًا﴾ وهو الركون إلى السلم وعدم الاستعداد للحرب ﴿وهو﴾ في الواقع ﴿شر لكم﴾ لأن ذلك دليل على الضعف وعنوان على الخضوع والاستكانة وكل ذلك من شأنه أن يطمع الأعداء في إذلالكم والاستيلاء على بلادكم ﴿والله يعلم﴾ هذه الحقائق وما يترتب عليها ﴿وأنتم لا تعلمون﴾ ذلك لقصر أنظاركم وما يزينه الشيطان لكم من حياة الاستقرار والركون إلى ملاذ الحياة والانصراف عن نصر دين الله إلى الانغماس في الشؤون الدنيوية وقد أخبرنا الصادق الأمين ﷺ بما يترتب على ذلك من الذل والهوان في الدنيا حيث قال «إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة وتركوا الجهاد واتبعوا أذناب البقر ورضوا بالزرع أنزل الله بهم ذلًا فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم».
بعد أن بين الله للمؤمنين حقيقة بذل الأنفس ابتغاء مرضاة الله وفرض عليهم القتال أراد المسلمون أن يفهموا هل وجوب القتال عام يشمل سائر أشهر العام أم أنه مقيد بما عدا الأشهر الحرام؟ فقال تعالى ﴿يسألونك عن الشهر الحرام﴾ الذي كانوا يقدسونه ويحرمون القتال فيه ﴿قتال فيه﴾ وقرئ ﴿عن قتال فيه﴾ هل يجوز القتال فيه
ويفعلون ما يؤمرون (وكتبه) وقرئ «كتابه» أي آمنوا بالكتب المنزلة من عنده إجمالًا فيما أجملته وتفصيلًا فيما فصلته وتقبلوا ذلك بالسمع والطاعة (ورسله) أي وآمنوا بأن لله رسلًا من البشر خصهم سبحانه بتبليغ رسالته والهداية إلى ما يدعو إلى مرضاته والتحذير مما يوجب سخطه وعقابه (لا نفرق) في ماهية الرسالة وقرئ «يفرق» وقرئ «يفرقون» (بين أحد من رسله) أي من غير تفريق بينهم في التصديق برسالتهم والإيمان بما جاءوا به من عند الله لأنهم جميعًا كانوا يدعون بدعوة واحدة ويؤيد بعضهم بعضًا في أساس تلك الدعوة ومن أجل هذا كان الإيمان ببعضهم دون الآخر مما يتنافى مع الإيمان بالله حيث لا دليل على تلك التفرقة (وقالوا) أي المؤمنون (سمعنا) ما جاءنا من الكتب وتعاليم الرسل ووثقنا بصحتها (وأطعنا) ونعاهدك ربنا على الطاعة لأوامرك واجتناب نواهيك بقدر ما نستطيع (غفرانك) نرجو المغفرة من كل ذنب صدر منا (ربنا) أي بوصفك مالكًا مطلق التصرف لا يعارضك أحد في العفو ولا يمنعك مانع من المغفرة (وإليك) وحدك ترفع أعمال العباد وتعرض الحسنات والسيئات ويكون (المصير) للخلق أجمعين لتقضي بينهم بعدلك وتحكم وفق ما أعلنت من أحكام وتتغمد برحمتك من تريد.
بعد أن شهد الله سبحانه وتعالى للمؤمنين بخالص إيمانهم نسب إليهم ما يقرهم عليه من أنهم يعتقدون أنه تعالى بحكم الرحمة الإلهية لا يمكن أن يطالبهم إلا بالشيء السهل الهين فحكى عنهم قولهم (لا يكلف الله نفسًا) ولا يفرض عليها أمرًا (إلا وسعها) أي بقدر ما تتحمله وتقوى عليه و (لها) من الثواب بقدر (ما كسبت) وقدمت من الحسنات وتحملت من المشقات (وعليها) من الأوزار بحسب (ما اكتسبت) من السيئات الصادرة عن تعمد العصيان (ربنا) وإلهنا العالم بحقيقة أمرنا (لا تؤاخذنا) بعد هذا العهد الذي قطعناه على أنفسنا من السمع والطاعة (إن نسينا) وقصرنا في أمر من الأمور تحت تأثير النسيان لأنك تعلم أنه لا قدرة لنا على مقاومة النسيان (أو أخطأنا) بارتكابنا معصية من المعاصي عن غير قصد العصيان وتعمد مخالفة الأوامر بل تحت تأثير حالة نفسية كتغلب الشهوة أو شدة الغضب على القوة العاقلة فينا فذلك ما لا نستطيع كبحه إلا بمعونتك ومشيئتك (ربنا) وسيدنا والعليم بضعف أجسامنا وقلة جلدنا أرأف بنا (ولا تحمل) بكسر الميم (علينا إصرًا) الإصر العبء الثقيل يأصر صاحبه أي يحبسه مكانه لثقله بمعنى لا توقعنا في شدة ولا تنزل علينا سخطًا ولا تكتب علينا عقوبة تسبب لنا الذل والهوان وألوان
والتي تركتم مواقعكم من أجلها ﴿ولا ما أصابكم﴾ من القتل والخسارة بحيث أصبحتم تعدون نجاتكم أكبر غنيمة حصلتم عليها ﴿والله خبير بما تعملون﴾ فلا تحاولوا الاعتذار عما صدر منكم وما كان بنفوسكم فالعبرة بما في علمه تعالى لا بما تتعللون به ﴿ثم أنزل عليكم﴾ الله فضلاً منه وإحسانًا ﴿من بعد﴾ ذلك ﴿الغم﴾ الذي كنتم فيه ﴿أمنة﴾ طمأنينة في النفس نتيجة الشعور بالخطأ والتسليم لله والأمل في عفوه والثقة بنصره فسبب الله لكم ﴿نعاسا﴾ تستردون به بعض ما فقدتم من قوة، والنعاس للمصاب بمثل تلك المصائب نعمة من أجل النعم ولطف من الله خفي ﴿يغشى﴾ ذلك النعاس ﴿طائفة منكم﴾ هي التي تنعم بقوة الإيمان وكمال التسليم لله وتقدير نعمه ﴿وطائفة﴾ أخرى ضعيفة الإيمان ﴿قد أهمتهم أنفسهم﴾ وأخذوا بحبها فهم يحاولون أن يدافعوا عنها ويبرروا موقفها إلى حد ﴿يظنون﴾ معه ﴿بالله غير الحق﴾ فيقولون في سرهم إن الله هو الذي شاء لنا هذه الهزيمة والإنكسار مع أنه لا دليل لديهم على ذلك، بل الواقع أنهم مأمورون باتباع الرسول وقد أمرهم عليه الصلاة والسلام بعدم ترك أماكنهم وضمن لهم النصر ولو أطاعوه لنالوا النصر الموعود، وما كانت الهزيمة إلا بسبب فشلهم وتنازعهم وعصيانهم غير أنهم يتجاهلون هذه الحقيقة الثابتة ويعزونها إلى ما لا علم لهم به فيقولون إن الله هو الذي شاء لنا الهزيمة، وما ذلك الظن منهم إلا ﴿ظن الجاهلية﴾ الذي قرره المشركون بقولهم ﴿لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء﴾ والحقيقة أن هناك فارقًا بين المشيئة والإرادة، فالمشيئة معناها الأمر بحصول الشيء، وهذا يقتضي حصوله لا محالة، ولذلك رد الله جل وعلا على قول المشركين هذا بقوله: ﴿كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا﴾ أي من أين لكم بأن الله لم يشأ هدايتكم حتى تحتجون بذلك – انظر بحث القضاء والقدر في كتابي أسمى الرسالات.
أما الإرادة فمعناها الحب والرغبة وهي لا تقتضي وجود المراد لا محالة وإرادة الله سر من أسراره الخفية التي لا يعلم بها أحد سواه وهي تتعلق بما يحبه الله لعباده وما يرضاه منهم من عمل صالح فصله لهم وأرشدهم إلى سبيله في كتبه وعن طريق رسله ودليل ذلك قوله تعالى: ﴿يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر﴾ ومعلوم أن العسر أمر لا يخلو منه الإنسان عادة مع أن الله تعالى قال إنه لا يريده بهم.
في أنفسهم من إرادة العصيان ﴿ولو كان﴾ هذا القرآن ﴿من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافًا كثيرًا﴾ فيما أخبرهم به عن الماضي والحاضر والمستقبل وما بينه لهم من وصف الكائنات وسنن الوجود وحقائق الأشياء ونظام الأسباب والمسببات إلى غير ذلك مما فصله القرآن تفصيلًا تامًّا ليس في استطاعة بشر أن يلم به ويتحدث عنه وناهيك بالعلم الإلهي بعالم الغيب وأخبار يوم القيامة وما في الدار الآخرة من نعيم مقيم وعذاب أليم، فتدبر القرآن من شأنه أن ينير البصائر ويثبت العقيدة في النفوس ويحملها على الطاعة قولًا وعملًا عن إيمان ويقين ورغبة صادقة وهذا مما يدل على وجوب الإمعان في فهم القرآن لأن التدبر لا يتم إلا بذلك ولذا قال الرازي دلت الآية على وجوب النظر والاستدلال، وعلى القول بفساد التقليد لأنه تعالى أمر المنافقين بالاستدلال بتدبر القرآن على صحة نبوة الرسول وإذا كان لا بد في صحة النبوة من الاستدلال بالقرآن، فبأن يحتاج في معرفة ذات الله وصفاته إلى الاستدلال كان أولى، وأجمع الأئمة المجتهدين على وجوب الاعتداء بالقرآن وعلى منع التقليد الذي يصد عنه ويقضي بهجره، ولم يجعلوا أنفسهم مشرعين بل مجتهدين وعلقوا أحكامهم على صحة الأحاديث وهذا لا يعني مجال من الأحوال عدم الأخذ بأقوالهم فيما يشكل على الإنسان فهمه من العقائد والأحكام وبعبارة أخرى إن الله قد أوجب على الناس فهم القرآن وتدبر معانيه لما لكلام الله من تأثير خاص على النفوس ولأنه هو مصدر التشريع الإلهي فلا يحق لمؤمن أن يتبع غيره ولا يقلد أحدًا من العلماء فيما يتعارض مع ما جاء فيه من الأحكام واتباع سيد الأنام وإلا كان متبعًا ومقلدًا لهم من دون الله.
بعد أن ضرب الله لنبيه مثلًا على عدم استطاعته الرقابة على الناس لما جلبوا عليه
<٤٦>
الطويل القامة يقال نخلة جبارة أي طويلة لا ينال ثمرها أي إن فيها قوماً أشداء لا قبل لنا بلقائهم وحربهم لئلا يبطشوا بنا ويبيدونا عن آخرنا (وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا) وحيث أنك رسول الله فلتخرجهم لنا أنت بخوارق العادات (فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ) أي أننا على استعداد لاستثمار هذه الأرض دون أن نضحي في سبيلها بقطرة دم وقد جاء في أخر الفصل الرابع عشر من سفر العدد أن بني إسرائيل قد تذمروا من أمر موسى لهم بدخول تلك الأرض وأنهم بكوا وتمنوا لو أنهم ماتوا في أرض مصر أو في البرية وقالوا «٣٠١٤ لماذا أتى الرب بنا إلى هذه الأرض حتى نسقط تحت السيف وتصير نساؤنا وأطفالنا غنيمة؟ أليس خير لنا أن نرجع إلى مصر» وهنا تطوع اثنان من كبرائهم هما كما جاء في التوراة يشوع بن نون وكالب بن يفنه لإقناعهم بأن امتثال أمر الله من شأنه أن يسجل نصره وتأييده وقد سجل الله لهما هذا العمل مع وافر التقدير بقوله (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ) الله في سرهم (أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمَا) بقوة الإيمان نتيجة الخوف منه (ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ) أي باب المدينة تنفيذا لأمر الله بمعنى خذوا بالأسباب وانتزعوا خوف القوم من قلوبكم وصمموا على سحقهم بقدرة الله وعونه (فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ) لا شك (غَالِبُونَ) فالله الذي أمركم بالدخول قادر على أن يكثركم في أعينهم ويدخل الرعب في قلوبهم منكم فيخضعوا لكم وينصركم الله عليهم ويتم نعمته عليكم باستيطانكم فيها (وَعَلَى اللهِ فَتَوَكَّلُوا) أي فوضوا إليه الأمر وقولوا ربنا ها نحن قد امتثلنا بالأخذ بالأسباب وأقدمنا على دخول البلدة فأيدنا بنصرك بما لك من القوى الخفية التي هي فوق المحسوسات لا أن تعتمدوا على نصر الله دون أن تعملوا من أجله بما آتاكم الله من قوة وما رسم لكم من سبل (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) بأن الله وحده هو مالك جميع القوى وهو مانح النصر لمن أطاع أمره واتبع هداه فأبى الإصغاء لموعظة الرجلين
<٤٧>
وأصروا على عصيانهم وعنادهم وأعلنوا بصراحة عدم استعدادهم للإقدام على دخول الباب خشية أن يتورطوا في حرب يعرفون من أنفسهم أنهم ليسوا بأهل لها لما ألفوه من الذل والمسكنة أثناء استعباد
﴿إذ وقفوا﴾ أي أوقفهم الملائكة وحبسوهم في مكان خاص ﴿على ربهم﴾ أي على انتظار أمر ربهم في حقهم ﴿قال﴾ لهم ربهم ﴿أليس هذا﴾ الذي أنتم فيه من البعث ﴿بالحق﴾ الذي أخبرتم به في حياتكم الدنيا وطلب إليكم العمل لنيل الثواب فيه ﴿قالوا بلى﴾ إذ هم لا يستطيعون المكابرة في الأمر الواقع وأكدوا ذلك الاعتراف بالقسم بقولهم ﴿وربنا﴾ ليظهروا كمال الإيمان عسى أن يشفع لهم هذا من العذاب وطمعًا في أن يكون هناك متسع من الوقت للدفاع عن أنفسهم بما قدموا من عمل فعاجلهم الله بالجواب ﴿قال فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون﴾ أي بسبب كفركم بهذا اليوم وعدم العمل من أجل الوقاية من العذاب الذي أعد فيه و ﴿قد خسر﴾ إذ ذاك ﴿الذين كذبوا بلقاء الله﴾ ثمرة كل عمل أدوه في الحياة لأنهم لم يكونوا يقصدون به وجهه والانتفاع به يوم القيامة ﴿حتى إذا جاءتهم الساعة﴾ أي استمروا في التكذيب بلقاء الله أو البعث بعد الموت إلى أن حان الوقت المحدد للبعث ﴿بغتة﴾ إذ ورد في السنة أن الله أخفى العلم بوقتها عن كل أحد حتى الرسل والملائكة فلا ينفعهم الاعتراف بها بعد مجيئها ﴿قالوا يا حسرتنا على ما فرطنا فيها﴾ أي في حياتنا الدنيا بعدم الاستعداد لما ينفع في هذه الحياة التي أنكرنا وجودها بقولنا ﴿وما نحن بمبعوثين﴾، ﴿وهم يحملون أوزارهم﴾ الوزر الحمل الثقيل. أي أنهم يتحسرون على عدم وجود عمل صالح لهم في الوقت الذي ترزح فيه أبدانهم بتحمل أثقال المعاصي والسيئات ﴿على ظهورهم﴾ فتشترك الأنفس والأبدان في الآلام ﴿ألا ساء ما يزرون﴾ أي وما أسوأ تلك الأثقال التي يحملونها فإنها لم تحط عن ظهورهم حتى ينالوا جزاءها في نار جهنم نتيجة ما عملوا في الحياة الدنيا ﴿وما الحياة الدنيا﴾ التي قضوها وشغلوا أوقاتهم بها ﴿إلا لعب﴾ هو كل فعل يقصد به مجرد لذة مؤقتة دون مصلحة أو نفع مجد ﴿ولهو﴾ هو ما يشغل الإنسان عما يهمه أو فيه مصلحته. ومن أجل هذا لم ينتفعوا بثمرة أوقاتهم التي قضوها فيها ﴿وللدار الآخرة﴾ نعيمها كله ﴿خير﴾ مقيم ثابت ﴿للذين يتقون﴾ الله ويخافون بأسه فيقصدون بأعمالهم رضاء الله ولا يلهيهم أي أمر عن ذكر الله ﴿أفلا تعقلون﴾ أي أليس لديكم من الإدراك والعقل ما يجعلكم تصرفون جل أوقاتكم في رضاء الله وتجمعون بين طلبكم للذة العاجلة وبين ثواب الآخرة بابتغاء ذلك في حدود ما شرع الله قال صلى الله عليه وسلم: «إن من بضع أحدكم لأجرًا، قالوا: أيجد الرجل
منها ﴿منها﴾ أي من درجة الحرية التي كانت لك ولأمثالك من عالم الجان إلى درجة التسخر للشر ﴿فما يكون لك أن تتكبر فيها﴾ أي في حال حريتك فليس معنى الحرية أن تحتقر غيرك من العباد ﴿فاخرج﴾ من صف الأحرار الذين يعرفون قيمة نعمة الحرية إلى صف المستعبدين ﴿إنك من الصاغرين﴾ الأذلة المحقرين في أعين الناس وفي هذا يقول الشاعر.
@مثل الشامخ في عليانه
#مثل الصاعد في رأس جبل
@ينظر الناس صغارًا وهو في
#أعين الناس صغيرًا لم يزل
﴿قال﴾ إبليس ﴿انظرني إلى يوم يبعثون﴾ أي أحييني إلى يوم يبعث آدم وذريته لأشهد انقراضهم وبعثهم ﴿قال إنك من المنظرين﴾ أي إن الله قد استجاب دعوته من حيث الأنظار أما أمد الأنظار فقد حدده الله في آية أخرى بقوله: ﴿إلى يوم الوقت المعلوم﴾ وما إن ظفر إبليس بهذا الوعد الكريم من ربه حتى زاد في طغيانه ﴿قال فبما أغويتني﴾ الإغواء: الإيقاع في الغواية وهي ضد الرشاد ﴿لأقعدن لهم صراطك المستقيم﴾ ومعنى هذا أن إبليس لما علم بحلول غضب الله عليه لم يندم على ما فرط منه ولم يحاول التراجع والتوبة بل ركب رأسه وأمعن في عصيانه إذ نسب إلى الله أمر غوايته ولا دليل له على ذلك فإنه هو الذي امتنع عن السجود بباعث من نفسه التي منحها الله كامل الحرية كالإنسان تمامًا ولم يقدر لله هذه المنة بل جحدها وأعلنها حربًا على الله في شخص من فضلهم عليه وأقسم أن يزين لهم سلوك سبل معاصيه وقال ﴿ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم﴾ أي لا أدع جهة من الجهات إلا وأهاجمهم منها حتى أضلهم عن صراطك المستقيم ﴿ولا تجد أكثرهم شاكرين﴾ أي سأعمل على جعل الكثير منهم يكفر بآلائك ويتناسوا نعمك عليهم ﴿قال﴾ الله تبارك وتعالى له ﴿اخرج منها مذءومًا﴾ أي موصومًا بالعيب وهو مناصبة الله العداء والتحدي ﴿مدحورًا﴾ أي مطرودًا من رحمة الله فلا سبيل إلى رضاء الله عنك عكس الملائكة تمامًا ﴿لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم أجمعين﴾ أي منك وممن تبعك وأصغى لوساوسك وكفر بنعمتي من الإنس والجن وإن في قوله ﴿منكم﴾ ولم يقل "بكم" إشارة إلى أنه تعالى سيشمل الكثير من المؤمنين والخاطئين بواسع رحمته نكاية بإبليس اللعين.
الله وما يستلزمه ذلك من توحيد الألوهية وعبادة الله وحده ﴿أو تقولوا﴾ أي وإنما عملنا ذلك منعًا لاعتذاركم بعذر آخر هو قولكم ﴿إنما أشرك آباؤنا﴾ الذين أنزلت الكتب عليهم وأرسلت الرسل إليهم وأمروا بالإيمان ﴿من قبل وكنا ذرية من بعدهم﴾ جاهلين بأن ما كان منهم شرك ولذلك كنا نقتدي بهم ونتبعهم ﴿أفتهلكنا﴾ أي تعذبنا ﴿بما فعل المبطلون﴾ الذين بثوا الكفر في نفوسنا فهذا أيضًا عذر لا يقبل ما دام الله قد منحكم من العقل ما هو كفيل بدحض ما يلقنه لكم آباؤكم ﴿وكذلك﴾ أي بمثل هذا الإخبار بما فطر الله الناس عليه وما وهبه لهم من عقل يهدي إلى الإيمان ﴿نفصل الآيات﴾ والدلائل لسائر بني آدم ليستعملوا عقولهم للتمييز بين الحق والباطل ﴿ولعلهم يرجعون﴾ عن كفرهم وتقليد آبائهم واتباع الأمر الذي يدل صراحة على أن من لم تبلغه بعثة الرسل لا يعذر يوم القيامة بالشرك بالله؟ كيف وقد أرسل الله الرسل لهداية الناس وتنوير عقولهم بعد ذلك وبعث الرسول ﷺ بالشريعة السمحة التي لم تجعل للكفار اليوم أي عذر في عدم اتباع شريعته، وهذا كتاب الله يتلى في محطات الإذاعة في جميع أنحاء العالم صباحًا ومساء بلاغًا للناس فيصل إلى كل مستمع ومن واجب كل إنسان أن يبحث عن حقيقة ما يتلى ويتدبر ما فيه وقد قال علماء الحقوق إنه متى صدر القانون وأذيع فلا يعذر من يدعي الجهل به أو عدم سماعه.
وبمقتضى ما ذكر في هذه الآية فإنه تعالى لا يؤاخذ من المشركين غير العقلاء ولا من ذرياتهم إلا من بلغ من الرشد الذي هو مدار التكليف فالرسول ﷺ عندما علم بقتل المؤمنين للمشركين وذرياتهم اشتد غضبًا وقال: «ما بال أقوام يتناولون الذرية» فقال رجل يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين فقال: «إن خياركم أبناء المشركين إلا أنها ليست نسمة تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها فأبواها يهودانها وينصرانها».
بعد أن أخبر الله رسوله بالأساس الذي تترتب عليه عقوبة الكفر وتوجب مسئولية الناس أمام رب العالمين وهو أنه تعالى قد فطرهم على الإيمان ومنحهم من التمييز والعقل ما يشهد لله بالربوبية وما يستلزم ذلك من توحيد الألوهية وإخلاص العبادة لله. أمر رسوله أن يذكر الناس بالله ويصور لهم من يتجرد من فطرته ولا يحكم عقله في نذير آيات الله العقلية والكونية للاستدلال بها على وجوده فيرفض الإيمان بالله ويكذب آياته بصورة الثعبان الذي ينسلخ عن
طلحة ففتح له الكعبة فدخلها ومعه بلال وأمره أن يؤذن فيها ثم وقف على بابها وخطب في الناس فقال: «لا إله إلا الله وحده لا شريك له صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت وسقاية الحاج ألا وقتل الخطأ شبه العمد بالسوط والعصا ففيه الدية مغلظة مئة من الإبل أربعون في بطونها أولادها. يا معشر قريش إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس من آدم وآدم خلق من تراب ثم تلا قوله تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾» ثم قال «يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم؟» قالوا خيرًا أخ كريم وابن أخ كريم قال «اذهبوا فأنتم الطلقاء». ثم جلس في المسجد فقام إليه علي بن أبي طالب ومفاتيح الكعبة في يده فقال: يا رسول الله اجعل لنا الحجابة مع السقاية فقال: «اليوم يوم بر ووفاء» ودعا عثمان بن طلحة وردها له وقال: «خذوها يا بني عبد الدار خالدة تالدة لا ينزعها منكم أحد إلا ظالم». ثم ذهب إلى بئر زمزم وطلب إلى العباس بن عبد المطلب أن يسقيه وقال: «لولا أن تغلب بنو عبد المطلب لنزعت منها دلوًا بيدي» فنزع له العباس دلوًا فشرب منه. ثم أخذ عليه الصلاة والسلام يهدم ما حول الكعبة من الأصنام وهو يتلو قوله تعالى: ﴿قل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقًا﴾ ثم اجتمع الناس لبيعة رسول الله فجلس لهم على الصفا وعمر بن الخطاب أسفل منه فبايعوه على السمع والطاعة لرسوله فيما استطاعوا فلما فرغ رسول الله من بيعة الرجال اجتمع إليه نساء من قريش فبايعنه ثم نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره» فكسروا الأصنام التي كانت في بيوتهم.
وهكذا طهرت أم القرى وما حولها من عبادة الأوثان واعتنق الجميع الإسلام وانضموا تحت لواء رسول الله لنشر دينه وإعزاز كلمته وحرب أعدائه وقد تخلوا عن جميع معتقداتهم الفاسدة وما وجدوا عليه آباءهم من عادات الجاهلية وتساوي الناس في الحقوق وقضي على الفسق والفجور وحرم وأد البنات واستعباد النساء وأمن الناس على أرواحهم وأموالهم وشعروا بلذة النصر العزيز وصدق الله الكريم إذ يقول: ﴿يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾.
أخذت الأرض زخرفها} باستكمال جميع أنواع النباتات: ﴿وازينت﴾ بما استخرج منها من أنواع المعادن ومختلف الحلي والجواهر: ﴿وظن أهلها أنهم قادرون عليها﴾ أي بلغ أهلها من النضوج الفكري والعلم بسنن الكائنات واكتشاف وسائل إيجاد معظم المخترعات ما يجعلهم يحسبون لأنفسهم القدرة على التصرف في كل شيء فيها من دون الله ويمعنون في الكفر والغرور بأنفسهم إلى حد أن يقولوا كما قال فرعون: ﴿يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا﴾ فإذا ما بلغ حال الأرض ومن عليها إلى هذا الحد: ﴿أتاها أمرنا﴾ المقدر لهلاكها: ﴿ليلًا أو نهارًا﴾ وفق ما رسمناه من سنن قد يكون منها ما توصل إليه العلم الأخير من وسائل التدمير عن طريق القنابل الذرية والصواريخ الموجهة وقيام حرب عالمية كبرى لا تبقي ولا تذر تنتهي بخراب العالم ويعقبها يوم القيامة: ﴿فجعلناها حصيدًا﴾ أي كالأرض المحصودة التي استؤصل زرعها: ﴿كأن لم تغن بالأمس﴾ أي هلكت فجأة واندرست معالمها كأنه لم يكن بها شيء سابق من معالم العمران والحضارة التي عملوا على تحسينها السنين الطوال: ﴿كذلك﴾ أي بمثل هذا المثل الظاهر للعيان في شأن إنزال الماء من السماء وما يترتب على ذلك من نبات الزرع ثم فنائه بفعل الإنسان والأنعام: ﴿نفصل الآيات﴾ الدالة على بدء الحياة ونهايتها عن طريق الإنسان نفسه: ﴿لقومٍ يتفكرون﴾ أي يستعملون عقولهم وأفكارهم في نظرتهم إلى الحياة فلا يركنون إليها بل عليهم أن يحكموا صلتهم بالله ويعملوا لما ينفعهم في الآخرة من الحسنات ولا يغرنهم ما في الحياة الدنيا من أنواع الملذات ولا يحملهم ما وصلوا إليه من علم وقدرة على الاختراع على تجاهل نعم الله ومنافسته في القدرة على كل شيء فذلك هو نذير الدمار بحسب سنن الله وما أخبرنا به جل وعلا في هذه الآية ومن أنذر فقد أعذر. وإن فيما تعده روسيا وأمريكا من وسائل لغزو الفضاء «وشق القمر» وما يهددان به العالم من التخريب والتدمير لما يشير إلى دنو ساعة الخطر وإتيان أمر الله ليلًا أو نهارًا لقوم يتفكرون.
بعد أن وصف الله الحياة الدنيا على حقيقتها بحيث لا يركن إليها ويقنع بها كل من حكم عقله وأطال فيما ذكر تفكيره قفا على ذلك بيان ما يدعو إليه سبحانه وتعالى من سعادة الآخرة ووصف حال المحسنين فيها فقال: ﴿والله يدعو﴾ عباده: ﴿إلى دار السلام﴾ أي إلى العيش
والصبر على المكاره اللتين قال تعالى عنهما: ﴿يا أيها الذين آمنوا استعينوا بالصبر والصلاة إن الله مع الصابرين﴾ فقال: ﴿وأقم الصلاة﴾ التي هي عماد الدين لما تشتمل عليه من وقوف بين يدي الله بكل تواضع وخضوع وتوجه إليه بالحمد والثناء وخالص الدعاء، الأمر الذي من شأنه أن يهذب النفس ويحسن الخلق وينهى عن الفحشاء والمنكر: ﴿طرفي النهار﴾ الطرف الناحية والطائفة من كل شيء لقوله تعالى: ﴿ليقطع طرفًا من الذين كفروا﴾،: ﴿وزلفًا من الليل﴾ الزلف ساعات الليل الآخذة من النهار وساعة النهار الآخذة من الليل وقد اختلف في تعيينها، ورُوِيَ عن الحسن رضي الله عنه أن صلاة طرفي النهار الفجر والعصر وزلف الليل هما صلاة المغرب وصلاة العشاء فتخرج بهذا صلاة الظهر، وعندي أن الفجر لا يمكن أن يكون من طرفي النهار بل إنه في حكم المغرب والعشاء اللذين هما من زلفى الليل وإن المراد من طرفي النهار ما يقرب من طلوع الشمس وغروبها وهما الظهر والعصر فإن ما يقرب من الشيء يجوز أن يطلق عليه اسمه. ولأجل أن يبين الله الحكمة في أمره تعالى بإقامة الصلاة في هذه الأوقات وهي أن تكون وسيلة لتكفير ما بينها من سيئات كما قال صلى الله عليه وسلم: «الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر» وقال أيضًا: «ما من امرئ مسلم تحضره صلاة مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة لما قبلها من الذنوب ما لم يؤت كبيرة وكذلك الدهر كله» وقال أيضا «أرأيتم لو أن نهرًا بباب أحدكم يغتسل فيه كل يوم خمس مرات ما تقولون ذلك أيبقي عليه دونه؟ قالوا لا يبقي من دونه شيئًا قال فكذلك مثل الصلوات الخمس يمحو الله بها الخطايا»، ولذا قال تعالى: ﴿إن الحسنات يذهبن السيئات﴾ أي أن حكمة الله أو سننه في نظام حكمه قد قضت بأن للأعمال الحسنة من الأجر عند الله ما من شأنه أن يمحو أو يزيل ما يكون للأعمال السيئة من أثر كما ورد في الحديث قوله «أتبع السيئة الحسنه تمحها».
﴿ذلك﴾ أي فيما ذكر من الوصايا من الأمر بالاستقامة وسبل الحصول عليها: ﴿ذكرى للذاكرين﴾ أي موعظة لكل من أجال الفكر وأمعن النظر في الغاية من هذه العبادات ومزاياها ليتبين له أن الله جل جلاله إذ نهى عباده عن المعاصي لم يكن ذلك لأمر يعود عليه بالنفع، بل لصيانتهم من كل ما يضرهم من الخبائث والمنكرات وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى فساد
وعمرًا مديدًا بمحض كرمه فلا راد لفضله، والإنسان الخامل الذي يقضي نظام القدر في حقه أن يعيش مثلًا في بؤس ونكد قد يمحو الله بؤسه ويهبه من الرزق ما يحول حاله إلى أحسن حال من السعادة، ورغد العيش نتيجة صدقة تصدق بها أو دعوة تقبلها الله منه أو غير ذلك، والرجل الذي تتوفر الأسباب التي تقضي بموته قد يوقف الله مفعولها ويبطل تأثيرها ويثبت له عمرًا جديدًا لسبب خفي كعمل بر أو صلة رحم مثلًا كما قال صلى الله عليه وسلم: «إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ولا يرد القضاء إلا الدعاء ولا يزيد في العمر إلا البر» وفي الصحيح «إن صلة الرحم تزيد في العمر» فالمحو والإثبات فيما كتب عن مثل هذه الآجال والأحوال هو حق من حقوقه جل وعلا دون أن يكون في ذلك أي مساس بما في علم الله من الأزل بكل ذلك ولذا قال: ﴿وعنده أم الكتاب﴾ أي الذي دون الله فيه جميع ما يعلمه من أحوال العباد وخاتمة أمرهم من قبل خلقهم وهو الحق الذي لا تبديل فيه ولا تغيير فهو سبحانه إذ دوَّن في علمه مثلًا أن عبده فلانًا سيذنب دوّن فيه إلى جانب هذا أنه سيستغفر أو لا يستغفر وأنه سيتقبل توبته أو لا يتقبلها وأنه سيكون سعيدًا أم شقيًا مؤمنًا أم كافرًا والخلاصة فإن ما في علم الله أمر منزه عن التغيير أما أحكام الله القدرية التي تترتب عليها الآجال فإنها عرضة للتغيير والمحو والإثبات بحسب ما أخذ الله على ذاته العلية من العدل أو الرحمة وإجابة الدعاء.
بعد أن أخبر الله رسوله بأن من الأحزاب من ينكر بعض القرآن ويؤوله على هواه وأمره أن يقرر القاعدة الأساسية التي أنزل القرآن من أجلها ونهاه عن اتباع الأهواء وفند شبه الأحزاب التي يتذرعون بها في عدم الاعتراف برسالته والطعن فيه التي منها عدم نصر الله له عليهم ورد على ذلك بما تقتضيه سنن الله في أمثالهم من قبل وأنه تعالى جعل: ﴿لكل أجل كتاب يمحو الله ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب﴾ أخذ يطمئنه بنجاحه في دعوته ويؤكد له نصر الإسلام وخذلان الكافرين سواء في عهده ﷺ أم بعد وفاته فقال: ﴿وإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك﴾ أي سواء أريناك بعض الذي نعدهم به من العذاب والخذلان أو توفيناك قبل أن تراه: ﴿فإنما عليك البلاغ﴾ أي فالمهم هو أن تؤدي ما أمرت به من التبليغ وما عليك بعد هذا ماذا يكون من أمرهم، أأسلموا ونالوا ثواب إيمانهم أم كفروا وحل بهم العذاب: ﴿وعلينا الحساب﴾ إذ نجزي كلًّا بعمله: ﴿أو لم يروا﴾ أي أولئك المعاندون ما لنا في الخلق من سنن وما يحدث في الدنيا
لضلال أولئك الذين يشبهونه تعالى بخلقه: ﴿عبدًا مملوكًا لا يقدر على شيء﴾ أي عاجزًا عن الكسب: ﴿ومن﴾ أي وعبدًا آخر: ﴿رزقناه منا رزقًا حسنًا﴾ بمعنى ملكناه وقدرناه على السعي لنيل الرزق فهو: ﴿ينفق منه﴾ أي من رزق الله: ﴿سرًّا وجهرًا﴾ أي كثير الإنفاق: ﴿هل يستوون﴾ أي هل يجوز أن نشبههما ببعض ونسوي بينهما في المقام والاحترام لاستوائها في البشرية والعبودية لا شك إن العقل لا يسلم بذلك فكيف يجوز للعاقل أن يشبه الله الخالق الرازق صاحب الأفضال والنعم العظيمة بغيره من المخلوقات: ﴿الحمد لله﴾ الذي جعل العقول كلها تجمع على عدم جواز ذلك إذن فما الذي يحمل الناس على ضرب الأمثال به جل وعلا إذ يشبهونه بملوك الدنيا في الاستبداد في الحكم ويجيزون التقرب إليه بالوسطاء والشفعاء من خلقه، هل فقد هؤلاء عقولهم؟ هذا ما أجاب عنه سبحانه بقوله لا: ﴿بل أكثرهم لا يعلمون﴾ أي إن العلة في ذلك هو جهلهم بأن هذا لا يليق بمقام الألوهية فما يراه العقل جائزًا قد لا يرضى الله بنسبته إليه: ﴿وضرب الله مثلًا﴾ آخر لمن هم أشد ضلالًا وبعدًا عن منطق العقل وهم الذين يعبدون الأصنام من دون الله فقال: ﴿رجلين﴾ متساويين في الجنس مختلفين في الطبائع والصفات: ﴿أحدهما﴾ متصف بأربع خصال فهو: ﴿أبكم﴾ لا يحسن النطق و: ﴿لا يقدر على شيء﴾ من الأعمال إذ هو ضعيف البنية: ﴿وهو كل﴾ أي عبء ثقيل: ﴿على مولاه﴾ أي من يعوله ويلي أمره لأنه يتعب في العناية به بدلًا من الاستفادة منه حتى الأمور البسيطة: ﴿أينما يوجهه﴾ أي يرسله مولاه برسالة تافهة: ﴿لا يأت بخير﴾ أي لا يستطيع أن يؤدي الرسالة كما ينبغي فلا يعود عليه بخير أبدًا: ﴿هل يستوي هو﴾ أي من يتصف بهذه الصفات: ﴿ومن يأمر بالعدل﴾ أي رجل آخر أوتي من العلم والذكاء والفهم ما يؤهله لدرجة الحكم وإقامة العدل بين الناس: ﴿وهو على صراط مستقيم﴾ أي وهو في ذاته وأحواله الشخصية مثال الخلق الطيب والاستقامة في العمل لا شك إن العقل لا يسلم قطعًا بأن يسوي بين الرجلين في الفضل والشرف أو أن يشبه أحدهما بالآخر مع استوائهما في البشرية فما بالك بمن يجعل الأصنام من الجمادات أو غيرها مساويًا لرب العالمين في الألوهية والتقديس فيضرب به الأمثال والله: ﴿ليس كمثله شيء﴾ تعالى عما يصفون.
أخذت الأرض زخرفها} باستكمال جميع أنواع النباتات: ﴿وازينت﴾ بما استخرج منها من أنواع المعادن ومختلف الحلي والجواهر: ﴿وظن أهلها أنهم قادرون عليها﴾ أي بلغ أهلها من النضوج الفكري والعلم بسنن الكائنات واكتشاف وسائل إيجاد معظم المخترعات ما يجعلهم يحسبون لأنفسهم القدرة على التصرف في كل شيء فيها من دون الله ويمعنون في الكفر والغرور بأنفسهم إلى حد أن يقولوا كما قال فرعون: ﴿يا هامان ابن لي صرحًا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فاطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذبًا﴾ فإذا ما بلغ حال الأرض ومن عليها إلى هذا الحد: ﴿أتاها أمرنا﴾ المقدر لهلاكها: ﴿ليلًا أو نهارًا﴾ وفق ما رسمناه من سنن قد يكون منها ما توصل إليه العلم الأخير من وسائل التدمير عن طريق القنابل الذرية والصواريخ الموجهة وقيام حرب عالمية كبرى لا تبقي ولا تذر تنتهي بخراب العالم ويعقبها يوم القيامة: ﴿فجعلناها حصيدًا﴾ أي كالأرض المحصودة التي استؤصل زرعها: ﴿كأن لم تغن بالأمس﴾ أي هلكت فجأة واندرست معالمها كأنه لم يكن بها شيء سابق من معالم العمران والحضارة التي عملوا على تحسينها السنين الطوال: ﴿كذلك﴾ أي بمثل هذا المثل الظاهر للعيان في شأن إنزال الماء من السماء وما يترتب على ذلك من نبات الزرع ثم فنائه بفعل الإنسان والأنعام: ﴿نفصل الآيات﴾ الدالة على بدء الحياة ونهايتها عن طريق الإنسان نفسه: ﴿لقومٍ يتفكرون﴾ أي يستعملون عقولهم وأفكارهم في نظرتهم إلى الحياة فلا يركنون إليها بل عليهم أن يحكموا صلتهم بالله ويعملوا لما ينفعهم في الآخرة من الحسنات ولا يغرنهم ما في الحياة الدنيا من أنواع الملذات ولا يحملهم ما وصلوا إليه من علم وقدرة على الاختراع على تجاهل نعم الله ومنافسته في القدرة على كل شيء فذلك هو نذير الدمار بحسب سنن الله وما أخبرنا به جل وعلا في هذه الآية ومن أنذر فقد أعذر. وإن فيما تعده روسيا وأمريكا من وسائل لغزو الفضاء «وشق القمر» وما يهددان به العالم من التخريب والتدمير لما يشير إلى دنو ساعة الخطر وإتيان أمر الله ليلًا أو نهارًا لقوم يتفكرون.
بعد أن وصف الله الحياة الدنيا على حقيقتها بحيث لا يركن إليها ويقنع بها كل من حكم عقله وأطال فيما ذكر تفكيره قفا على ذلك بيان ما يدعو إليه سبحانه وتعالى من سعادة الآخرة ووصف حال المحسنين فيها فقال: ﴿والله يدعو﴾ عباده: ﴿إلى دار السلام﴾ أي إلى العيش
له: ﴿وَرَسُولِهِ﴾ نبيًّا صادقًا في دعوته إلى ربه إذ لو لم يكن صادقًا لادعى الألوهية لنفسه كما ادعاها فرعون من قبل: ﴿وَالنُّورِ﴾ أي وآمنوا بالنور وهو الضوء الذي يبين الأشياء: ﴿الَّذِي أَنزَلْنَا﴾ ويراد به القرآن الذي أنزله الله على نبيه محمد ﷺ ليبين الحق من الضلال والصالح من الطالح والنافع من الضار: ﴿وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ﴾ أي عارف بحقيقة أعمالكم وما تقصدون منها فيجزيكم بمقتضى تلك الخبرة: ﴿يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ﴾ أي يوم القيامة الذي قال عنه تعالى في آية أخرى: ﴿قل إن الأولين والآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم﴾.
﴿ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ﴾ الغبن أن تبخس صاحبك في معاملة بينك ونبيه دون أن يشعر وسمي يوم القيامة يوم التغابن لأنه اليوم الذي يحاسب فيه كل إنسان على غبنه أخاه الإنسان في الحياة الدنيا: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا﴾ فقد قطع الله له وعدًا لن يخلفه بأن: ﴿يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ﴾ أي يغطيها ويسترها: ﴿وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا﴾ الأبد عبارة عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ أي مدة غير متناهية: ﴿ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ الذي ما فوقه فوز والسعادة التي لا تضاهيها سعادة: ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالله ورسوله المبلغ لأحكامه: ﴿وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا﴾ أي أنهم أنكروا أنها كلام الله فلم يعملوا بهديها: ﴿أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ﴾ أي الذين أعدت النار لتكون مقرًّا دائمًا لهم: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا﴾ جزاء كفرهم وتكذيبهم بآيات الله: ﴿وَبِئْسَ﴾ هذا: ﴿الْمَصِيرُ﴾ مصيرًا للناس يوم القيامة وبعد أن أطرى الله جليل عظمته ومبلغ عدله ونظامه في خلقه وأمر رسوله بأن يؤكد للناس أمر البعث وما يكون فيه من عرض لسائر الأعمال وأن يبلغهم بما قطعه تعالى على نفسه من وعد بتكفير سيئات المؤمنين الصالحين وتعذيب الكافرين المكذبين في الآخرة أردف ذلك بذكر ما له من سلطان على السنن التي هو واضعها بحيث يقي سبحانه ما يشاء من تأثيرها رحمة منه وفضلًا في هذه الحياة الدنيا نتيجة الإيمان به فقال: ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ﴾ أي ما من مصيب تقع على الإنسان نتيجة اتباعه للسنن التي سنها الله للبلاء لا تنفذ: ﴿إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ﴾ فالنار مثلًا من شأنها أن تحرف والسكين من شأنه أن يقطع بما أودعها الله من هاتين الخصوصيتين غير أن هذا لا ينفذ في أي شخص إلا بإذن الله بنفاذه فيه بمعنى أنه تعالى إذ يريد حماية إنسان من الحريق بالنار أو القطع بالسكين لا يأذن ذلك ويحميه منه بمختلف الطرق ولو بخوارق العادات كما حصل مع إبراهيم إذ قال تعالى: ﴿وقلنا يا نار كوني بردًا وسلامًا على إبراهيم﴾ وكما حصل
فوض إليه كل أمورك وأسلم له قيادك وأسأله أن يختار لك ما هو خير لك في دنياك وآخرتك: وبعد أن فرض الله على رسوله قيام الليل وما يلازمه من ترتيل القرآن وذكر الله والتبتل إليه والتوكل عليه أمره بالصبر الذي هو من لوازم التوكل فقال: ﴿واصبر على ما يقولون﴾ أي لا نحزن ولا تغضب في سرك لما يقوله خصومك عنك من مفتريات أنت بريء منها: ﴿واهجرهم﴾ أي قاطعهم واتركهم وشأنهم: ﴿هجرًا جميلًا﴾ أي من غير أن تحاول الانتقام لنفسك أو تتمنى إنزال العذاب بهم بل أحل أمرهم في سرك إلى الله يعاملهم بما يستحقون أو بما تقتضيه حكمته: ﴿وذرني والمكذبين﴾ أي لا تخاطبني في شأنهم سواء بالشفاعة لهم أو الدعاء عليهم: ﴿أولي النعمة﴾ بفتح النون رغد العيش ونضارته وقرئ بكسر النون ما ينعم به الله من رزق وغيره ويعني به الطغاة الجاحدين نعم الله عليهم: ﴿ومهلهم قليلًا﴾ أي قل لهم انتظروا ماذا سيقضي الله به في شأنكم لعل هذا ما يخيفهم منه ويحملهم على الرجوع إليه بالندم والتوبة وصالح العمل وإلا فإنهم سيلقون جزاءهم يوم القيامة: ﴿إن لدينا﴾ ما يضاد نعيمهم الذي نالوه في الدنيا: ﴿أنكالًا﴾ جمع نكال وهو اسم لما يجعل من العقوبات عبرة للآخرين: ﴿وجحيمًا﴾ كل نار شديدة التأجج: ﴿وطعامًا ذا غصة﴾ أي يقف في الحلق ولا يمكن ابتلاعه: ﴿وعذابًا أليمًا﴾ أي وأنواعًا أخرى من كل ما لا يحتمل لشدة الإيلام وما لا يمكن أن يتصوره العقل البشري في هذه الحياة ولكنه سينجلي بحقيقته: ﴿يوم ترجف﴾ تهتز وتتحرك بشدة حركة غير إرادية: ﴿الأرض والجبال﴾ وذلك هو يوم القيامة: ﴿وكانت الجبال كثيبًا﴾ تلالًا من الرمل: ﴿مهيلًا﴾ أي منصبًّا يقال هال عليه التراب بمعنى انصب فوقه: ﴿إنا أرسلنا إليكم﴾ أيها الناس: ﴿رسولًا شاهدًا عليكم﴾ يشهد يوم القيامة على من كذبه ولم يؤمن به: ﴿كما أرسلنا إلى فرعون﴾ من قبل: ﴿رسولًا﴾ شاهدًا عليه وهو موسى عليه السلام: ﴿فعصى فرعون الرسول﴾ أي أبى اتباعه ولم يصدق بما جاء به من المعجزات: ﴿فأخذناه أخذًا وبيلًا﴾ أي شديدًا في حياته الدنيا وذلك بأن أغرقناه وقومه في لحظة واحدة دون إمهال: ﴿فكيف تتقون﴾ تحذرون وتدفعون عن أنفسكم عذابًا منتظرًا: ﴿إن كفرتم﴾ أي في حال كفركم: ﴿يومًا﴾ لا بد من مجيئه وهو يوم القيامة الذي: ﴿يجعل الوالدان شيبًا﴾ أي يشيب من هوله الأطفال الصغار: ﴿السماء منفطر به﴾ هذا وصف ثان لليوم بأنه الذي تنفطر روعة لهوله السماء على عظمتها وقوتها فما بالك بغيرها من الخلائق: ﴿كان وعده مفعولًا﴾ أي كان الوعد بمجيئه أمرًا واجب
سورة الليل
مكية وعدد آياتها إحدى وعشرون

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (١) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (٢) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤) فَأَمَّا مَن أَعْطَى وَاتَّقَى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (٧) وَأَمَّا مَن بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (١٠) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (١١) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (١٢) وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى (١٣) فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاهَا إِلاَّ الأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى (١٩) إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (٢١)﴾
سورة الليل: بعد أن أكد الله في السورة السابقة سيطرة الإنسان على نفسه ومسئوليته عن جميع تصرفاته بما أعطى له من كامل الحرية والقدرة عليها بحيث يستطيع بمحض إرادته أن يطهرها ويزكيها أو يوردها موارد الهلاك بكسبه وعمل يده أخذ يوضح في هذه السورة ما اقتضته سنة الله بالنسبة لأعمال بني الإنسان ومدى ارتباط ذلك بقدرته تعالى وسننه في خلقه فأقسم سبحانه وتعالى بالليل والنهار وخلْق الكائنات الحية – بأن أعمال العباد عائدة إليهم ولذلك فإنها تتفاوت بحسب ميولهم ورغباتهم فقال: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى﴾ أي حين يغطي بظلامه الدامس كل شيء: ﴿وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى﴾ أي ظهر وتكشف: ﴿وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالأُنثَى﴾،: ﴿مَا﴾ مصدرية أي وخلْقه تعالى الذكر والأنثى، وهذه الجمة الآتية جواب القسم المتقدم أول السورة: ﴿إِنَّ سَعْيَكُمْ﴾ في الحياة الدنيا: ﴿لَشَتَّى﴾ أي مختلف ومتباعد تبعًا لميول الإنسان ورغباته في الحياة، منه الحسن، ومنه القبيح، ومنه الخير، ومنه الشر، وقد أعطى الله للإنسان كامل الحرية في العمل لما يريد وجعل لكل إنسان هدفًا يسعى إليه، وتعهد سبحانه بأن ييسر لكل عامل سبيل الوصول إلى غايته التي يعمل لها مهما كانت من صلاح وضلال وبمقتضى هذا جاء التفصيل: ﴿فَأَمَّا مَن أَعْطَى﴾ من ماله شيئاً لوجه الله: ﴿وَاتَّقَى﴾ الله في أعماله أي لم يتعد حدوده ولم يعتد على حقوق الناس،: ﴿وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى﴾ أي بشريعة الإسلام التي هي أحسن الشرائع وأكمل الأديان،: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى﴾ أي فإن مشيئة الله قد قضت بأن يوفق ويعان ويسهل عليه السبيل إلى المضي قُدماً إلى الجهة السهلة الميسّرة التي ترضي


الصفحة التالية
Icon