هـ- ملازمة الجماعة وعدم الخروج عن إجماع المسلمين.
وهنا أخذ جل وعلا يؤنب حملة الكتاب من رجال الدين اليهودي على أمر شائع فيهم هو أنهم يأمرون الناس باتباع التوراة، ويحللون لهم ويحرمون، بينما هم أنفسهم لا يعلمون وفق ما يفتون فقال: ﴿أتأمرون الناس بالبرِ وتنسون أنفسكم﴾ فلا تأمرونها بما أمرتم غيركم به من طاعة الله، وفعل الخير، والكف عن المعاصي، والمعنى إذا كنتم موقنين بوعد الله ووعيده فكيف نسيتم أنفسكم، ولم تجعلوها مذعنة لطاعته، والإنسان من شأنه أن لا ينسى نفسه من الخير ﴿وأنتم تتلون الكتاب﴾ فتفهمون الحقيقة أكثر من سواكم ﴿أفلا تعقلون﴾ لأن العاقل إذا اقتنع بأمر فيه مصلحته فهو أحق باتباعه، فإن لم يتبعه فليس بعاقل، ويكون كمن يعرف طريقًا ممهدًا مضيئًا فيتركه ويمشي في طريق وعر مظلم، فإذا ما صادفه آخر على مثل حاله دله إلى الطريق السالك المضيء، ونصح له أن لا يمشي معه، وظل هو يتخبط على غير هدى ﴿واستعينوا﴾ في معالجة أنفسكم من هذا المرض العقلي، أو النقص الخلقي ﴿بالصبر﴾ على مقاومة النفس الأمارة بالإذعان للحق أو إلى شريعة هذا النبي الكريم ﴿والصلاة﴾ التي هي عماد شريعة هذا النبي الكريم إذ هي كفيلة بتهذيب النفس وإصلاحها وإخضاعها لبارئها ﴿وإنها لكبيرةٌ﴾ في ظاهرها على المتكبرين الأنانيين بالنظر لما فيها من تمام الذلة والخضوع بالسجود بين يدي الله ﴿إلا على الخاشعين﴾ المقربين لله ***************************************************************************************************** يوجد سقط في pdf ص٣٨، ٣٩ ربكم الذي نجاكم من الغرق، ومن آل فرعون ﴿ثم عفونا عنكم من بعد ذلك﴾ العناد والكفر بالله وعبادة غيره ﴿لعلكم تشكرون﴾ الله على العفو الذي هو من أجل النعم المحسوبة عليكم والشكر على العفو عنوان على الاعتراف بالذنب وإذعان بالحاجة إلى الغفران ﴿و﴾ اذكروا ﴿إذ آتينا موسى الكتاب والفرقان﴾ بعد ذلك هاديًا لكم إلى الصراط السوي ﴿لعلكم تهتدون﴾ بالتوراة إلى ما يرضي الله بالفرقان من المعجزات إلى معرفة قدرة الله والإيمان به وتأييد نبيه وقد جمعت هذه الآيات دروسًا إرشادية تتخلص فيما يأتي:
أيضًا؟ فأمر الله نبيه أن يجيب عن هذا السؤال بقوله ﴿قل قتال فيه كبير﴾ أي سيقع فيه قتال كبير من المشركين ﴿وصد عن سبيل الله﴾ أي وسيقع فيه أيضًا صد لكم عن سبيل الله بمنعكم من إقامة شعائره ﴿وكفر به﴾ أي وكفر بالله بجحود استحقاقه للعبادة ﴿والمسجد الحرام﴾ أي ومنع الناس من أداء الواجب والوصول إلى المسجد الحرام والصلاة فيه والطواف به ﴿وإخراج أهله منه﴾ وإخراج أهل المسجد الحرام منه بإقصائهم عنه كل هذا ﴿أكبر عند الله﴾ أعظم وزرًا من القتال في الأشهر الحرم فحدوث كل هذا فيه منهم مما يوجب مقاتلتهم ولو كان ذلك في الشهر الحرام ﴿والفتنة﴾ في الدين بإلقاء الشبه في قلوب المؤمنين وإضلالهم بشتى الوسائل من الإيذاء والتعذيب ﴿أكبر﴾ عند الله ﴿من القتل﴾ لأنها تفعل في النفوس ما لا تفعله الذوابل السمر ولأنها تولد المشاكل وتفصم عرى الإخاء، فهي في الواقع أشد ضررًا من القتل، والفتنة في الدين قد تؤدي إلى الكفر والعذاب، وأما جريمة القتل فهي في ذاتها خاصة، وإن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ﴿ولا يزالون﴾ أي المشركون ومن على غير دينكم ﴿يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم﴾ أي وفوق ذلك فإنهم قد بيتوا النية وأصروا على مقاتلتكم إلى أن يرغموكم على الانفكاك عند دينكم ﴿إن استطاعوا﴾ ووجدوا إلى ذلك سبيلًا وما دام الأمر كذلك فقد أصبح قتالهم عليكم واجبًا في الشهور كلها ﴿ومن يرتدد منكم عن دينه﴾ ولما كان غرض المشركين من المقاتلة هو ارتدادكم عن دينكم فاحذروا ذلك واعلموا أن من يرتدد منكم عن دينه ﴿فيمت وهو كافر﴾ مصر على الكفر ﴿فأولئك﴾ أي المرتدون الذين يموتون على الكفر ﴿حبطت﴾ بكسر الباء وقرئ بفتحها أي ذهبت سدى ﴿أعمالهم في الدنيا والآخرة﴾ بمجرد الردة لقوله تعالى ﴿ومن يكفر بالإيمان فقد حبط عمله﴾ ﴿وأولئك﴾ المرتدون الذين يموتون على الكفر ﴿أصحاب النار هم فيها خالدون﴾ جزاء إصرارهم على الكفر حتى يلقوا ربهم.
بعد أن كتب الله على المؤمنين القتال أراد أن يبين لهم ميزة العاملين لنصر دينه وإعلاء كلمته وما لهم من الدرجة السامية عنده فقال ﴿إن الذين آمنوا﴾ بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر لأن صفة الإيمان لا تتحقق بغير ذلك
العذاب في هذه الحياة (كما حملته على الذين من قبلنا) من الأمم السابقة التي دمرت وهلكت بسبب ذنوبها هلاكًا حسيًا أو معنويًا (ربنا) وخالقنا الخبير بمبلغ قدرتنا ومدى استعدادنا ترفق بنا (ولا تحملنا) من الفتن والابتلاء (ما لا طاقة لنا به) أي لا قدرة لنا على تحمله والتخلص منه (واعف عنا) إذا زللنا بتجاوزك عن عقوبتنا (واغفر لنا) بستر ما صدر منا (وارحمنا) بعدم تعريضنا إلى ما يوجب سخطك ويؤدي إلى عذابك (أنت مولانا) الذي لا ملاذ لنا ولا نصير سواك ونحن عبيدك الضعفاء الذين لا حول لهم ولا طول ولا قوة (فانصرنا) بأمرك ومحض كرمك وعظيم مددك (على القوم الكافرين) بآياتك المناوئين لدينك، المكذبين لرسلك، والصادين عن سبيلك، إنك على ما تشاء قدير.
ومن الفرق بينهما أن إرادة الإنسان قد تحصل من غير أن تتقدمها إرادة الله، فالإنسان يريد أن لا يموت ويأبى الله ذلك لأن مشيئته قد سبقت بالموت بخلاف مشيئة العبد فإنها لا تكون إلا بعد مشيئة الله لقوله تعالى: ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله﴾ كذلك مشيئة الله إنما تتعلق بوضع السنن والأنظمة الكونية والآجال والأرزاق وما شابه ذلك من الأمور الكلية التي لا تبديل فيها أما إرادته فإنها تتناول باقي شئون خلقه ويجري تطبيقها وفق سننه في خلقه، فالله سبحانه وتعالى قد قضت مشيئته سن السنن ووضع القواعد وخلق الخلق وتقدير أعمارهم وأرشدهم إلى طريق الخير ومواضع الذلل وترك لهم الحرية فيما يعملون وما يختارون من سبل ضمن الدائرة التي رسمها لهم، فكل عمل يؤديه المرء في الحياة لاشك داخل ضمن السنن ولم يخرج عن كونه بمشيئة الله التي اقتضتها سننه، كذلك خلق الله جنة ونارًا وقضت مشيئته أن تملأ كل منهما بحسب أعمال العباد ﴿فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون * وهذا صراط ربك مستقيما قد فصلنا الآيات لقوم يذكرون﴾ فهزيمة المقاتلين في أحد كانت ناشئة عن أعمالهم المخالفة لإرادة الله وهي في نفس الوقت موافقة ومطابقة لمشيئته لا من حيث أشخاصهم بل من حيث إنها قضت بأن الفشل والتنازع والعصيان من شأنه أن يسبب الهزيمة ولولا ما صدر منهم لنالوا النصر بمقتضى مشيئة الله أيضًا القاضية بأن الجهاد لله مع الثبات والطاعة من موجبات النصر. وقتل من قتل من المسلمين في أحد أيضًا كان موافقًا لما قضت به مشيئته من انتهاء أعمارهم وإن كان خروجهم إلى القتال الذي هو من كسب أعمالهم ومحض اختيارهم موافقًا لإرادة الله لهم الخير بالاستشهاد في سبيله ومن أجل ذلك استحقوا الثواب ونالوا السعادة. ﴿يقولون هل لنا من الأمر من شيء﴾ هل نملك نصر أنفسنا؟ ﴿قل إن الأمر كله﴾ بفتح اللام وقرئ برفعها ﴿لله﴾ لا أمر النصر وحده، فكل أمر يجري في الكون إنما هو حسب سننه تعالى في خلقه ونظامه الذي ربط فيه الأسباب الظاهرة أو الخفية بمسبباتها واحتفظ لذاته العلية بنصر من يريد ﴿يخفون في أنفسهم﴾ عند قولهم: ﴿هل لنا من الأمر من شيء﴾ ﴿ما لا يبدون لك﴾ من الاعتراض إذ يحدثون أنفسهم بقولهم مادام الله قد شاء لنا الهزيمة فلم نلام إن ولينا أو غلبنا ولكنهم لا يصرحون بهذا كما كان يقول المشركون بل ﴿يقولون﴾ بأفواههم شيئًا مشابهًا لهذا وهو ﴿لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا﴾ بل كنا ندرأ عن أنفسنا
من التقلب والتعرض لمكايد الشيطان أخذ يخبره بأمر آخر جبل عليه الناس ولا سبيل إلى كفهم عنه وهو من شأنه أن يجعل الرقابة عليهم في حكم المستحيل وذلك أنهم لا يستطيعون السيطرة على ألسنتهم وكفها عن التحدث بما ترى أو تسمع حتى من الأخبار السرية التي يكون فيه إذاعتها أو التحدث عنها أضرار عظيمة فقال تعالى: ﴿وإذا جاءهم أمر﴾ أي بلغهم أو اتصل بهم خبر ﴿من الأمن أو الخوف﴾ أي: من الأخبار المتعلقة بالسلم أو الحرب مما له علاقة بسياسة الدولة ﴿أذاعوا به﴾ أي: أشاعوه في الناس وقد يكون صدقًا وقد يكون كذبًا وقد يكون في إذاعة مثل تلك الأخبار ما يضر بسلامة الدولة ويفسد خطط القيادة العامة أو يدخل الرعب في القلوب ويضيع على الأمة مصالحها فهل في استطاعتك أيها الرسول أن تكم الأفواه وتسيطر على ألسنة الجماهير في غدواتهم وروحاتهم؟ لا، ﴿ولو﴾ أنهم ﴿ردوه﴾ أي: ذلك الأمر الذي خاضوا فيه وأذاعوا به ﴿إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم﴾ من القادة وأهل الرأي والمعرفة بالشئون العاملة من المسلمين ﴿لعلمه﴾ من يستحق العلم به من ﴿الذين يستنبطونه﴾ استنبط الشيء أظهره بعد خفاء أي الذين يملكون حق نشر الأخبار ﴿منهم﴾ أي من الرسول وولاة الأمور ليتصرفوا في الأمر بما يرون فيه المصلحة ﴿ولولا فضل الله عليكم ورحمته﴾ بكم أيها المسلمون بما أنزله عليكم من القرآن الذي يدلكم على ما ينفعكم وما يضركم من القول والعمل ﴿لاتبعتم الشيطان﴾ بما يزينه لكم من النكول عما تعهدتم به من طاعة ومن إذاعة ما لا ينبغي أن يذاع من الأخبار إلا بإذن ولي الأمر ﴿إلا قليلًا﴾ ممن عصم الله من الوقوع في ذلك. ﴿فقاتل﴾ أيها الرسول وخطاب الرسول خطاب للأمة ﴿في سبيل الله﴾ بمفردك امتثالًا لأمر ربك دون النظر إلى غيرك قاتل أم لم يقاتل فيمن أطاع الله لا يضره عصيان من عصاه ﴿لا تكلف إلا نفسك﴾ أي: لا تكليف إلا بقدر ما
فرعون لهم (قَالُوا يَا مُوسَى) لا تحاول أن تقنعنا أنت وأنصارك بأمر لا تطمئن إليه نفوسنا فقد قررنا جميعا (إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ) بما عودك من خوارق العادات (فَقَاتِلَا) من في البلدة حتى تخرجوهم منها ثم ادعنا نأتي إليك (إِنَّا هَا هُنَا قَاعِدُونَ) ننتظر إشارة منك (قَالَ) موسى (رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي) هارون فكلانا طائعان لك مستعدان لتنفيذ أمرك إن أمرتنا بدخول البلدة دخلناها ولم نبال من فيها ولا ثقة لنا في غيرنا حتى ولا في الرجلين الواعظين فالذي يجرأ على القتال مع الجيش الكثير قد لا يجرأ عليه مع النفر القليل (فَافْرُقْ) أي افصل في الحكم (بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) ولا تعاقبنا بذنوبهم في الدنيا والآخرة (قَالَ) الله لموسى ما داموا لم يطيعوا الأمر بدخول البلاد مجاهدين (فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً) أي حكمت عليهم في هذه الحياة أنهم سوف لا يصلون إليها بل (يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ) أي أنهم سيظلون تائهين متحيرين لا يدركون الطريق الموصل إليها مع قربهم منها لاندارس معالمها ووعورة أطرافها وقد أطلق على تلك البقعة «تيه بني إسرائيل» (فَلَا تَأْسَ) أي تحزن وقرئ «تاس» بإبدال الهمزة ألفا (عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ) لأنهم قد استحقوا هذا التأديب الإلهي وفي هذا إشارة إلى أنه لا ينبغي أن يحزن الإنسان على ما يصيب الفسقة من أذى في الدنيا نتيجة عصيانهم أوامر الله.
بعد أن بين الله لنبيه السر في كفر النصارى واليهود وعدد لهم مساويهم التي استحقوا بها عذابه أمره أن يوضح لأهل الكتاب جانباً من أسرار التشريع ليعلموا أنه
<٤٨>
سبحانه وتعالى لا يصدر في أحكامه إلا عن حكمة وفي سبيل الصالح العام للبشر كافة فقال (وَاتْلُ) أيها الرسول (عَلَيْهِمْ) أي على أهل الكتاب (نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ) لصلبه وهما قابيل وهو ابن آدم البكر وهابيل (إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا) أي اشتركا في التقرب إلى الله بذبح قربان واحد (فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا) وهو هابيل الابن الأصغر وقد كان تقياً في نفسه مخلصاً في نيته لوجه ربه فبسط الله له في رزقه وبارك له فيه كما في قوله تعالى (ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب) (وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ) وهو الأكبر فلم يوفق في أعماله ولم يسعد في حياته لأنه كان سيئ النية حسوداً مجرماً كما بدا من أعماله إذ (قَالَ)
لذاته ويكون له أجر؟ قال: أليس إذا وضعها في الحرام يكون عليه وزر، قالوا: نعم، قال كذلك إذا وضعها في الحلال يكون له أجر».
بعد أن أخبر الله رسوله بما يكون عليه حال المكذبين بآيات الله، والمنكرين للبعث والحياة الأخرى، أخذ يكاشفه بما يعلمه تعالى مما كان يداخل قلبه عليه الصلاة والسلام من الحزن عند تكذيبهم له، ويسري عنه ذلك الحزن فقال ﴿قد نعلم﴾ أي لقد كنا نعلم مما أودعناه في قلبك من عاطفة الرحمة ﴿إنه ليحزنك﴾ بفتح الياء وضم الزاي وقرئ بضم الياء وكسر الزاي ﴿الذي يقولون﴾ في تكذيب ما جئت به. وما يكون لك أن تحزن ﴿فإنهم﴾ في الواقع ﴿لا يكذبونك﴾ بتشديد الذال وقرئ بضم الياء وتخفيف الذال أي إنهم لا يطعنون في صدقك ولا يعتقدون أنك كذبت على الله فيما جئتهم به، فهم لم ينالوا من شخصك ولم يحتقروا ذاتك ﴿ولكن﴾ ما حدث هو أنهم قد ظلموا أنفسهم بعدم إصغائهم لما جئت به وتدبره حتى يتبين لهم الحق من سواه، فهم لم يستفيدوا من مزايا السمع. وقد قضت سنة الله في خلقه أن ﴿الظالمين﴾ أنفسهم باستعمال مواهبهم في غير ما خلقت له، استكبارًا وعنادًا، من شأنهم أنهم ﴿بآيات الله يجحدون﴾ الجحود: إنكار الأمر مع العلم به. أي أن أقوالهم لم تكن ناشئة عن شكهم في صدقك، وإنما هي منبعثة عن جحودهم آيات الله ﴿ولقد كذبت رسل من قبلك﴾ أي ولقد أتهم غيرك من الرسل السابقين بالكذب صراحة بمعنى طعن في أشخاصهم ﴿فصبروا على ما كذبوا﴾ أي على ذلك الاتهام ﴿وأوذوا﴾ بأنواع الأذى، واحتملوه بكل جلد، احتسابًا لوجهه، وانتظارًا لمدده ﴿حتى أتاهم نصرنا﴾ أي إلى أن حان الحين الذي قدرناه موعدًا للنصر. فنصر الله لا بد أن يأتي لكل من استنصر به. إنما في الوقت الذي يراه سبحانه، أو الذي تقطع فيه الآمال من غيره، وتنحصر الثقة واليقين فيه جل وعلا حيث تتجلى هنالك قدرة الله ورحمته بعباده ﴿ولا مبدل لكلمات الله﴾ التي وعد بها عباده المؤمنين به والداعين إليه والمجاهدين في سبيله لقوله: ﴿وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين﴾ وقوله: ﴿ولينصرن الله من ينصره﴾ وقوله: ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾.
﴿ولقد جاءك﴾ أيها الرسول ﴿من نبأ المرسلين﴾ السابقين ممن قصصناهم عليك ما يصور لك مبلغ ما أصابهم من أذى، وما كانوا عليه من صبر، وما منحهم الله من نصر مبين ﴿وإن كان﴾ ما أصابك من الحزن لم يكن من أجل نفسك بل لأنه ﴿كبر عليك إعراضهم﴾ عن سلوك سبل
بعد أن فصل الله ما كان من أمر تكريمه للإنسان بأمره الملائكة بالسجود له وامتناع إبليس عن السجود دون إخوانه من الجن ومحاولته تبرير موقفه أمام الله بما أوحته إليه نفسه الشريرة من الأعذار ومبالغته في العدوان حتى أدى به الأمر إلى حلول نقمة الله عليه وسلب نعمة الحرية منه وجعله مسخرًا للشر والإثم على الدوام ووعده ومن اتبعه وسار على نهجه بنار جهنم أخذ يفصل جل جلاله ما كان من شأنه تعالى مع آدم بعد ذلك فقال ﴿و﴾ قلنا ﴿يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة﴾ يظن الكثير من الناس أن آدم كان في جنة من جنان السماء وأنه بسبب اقترافه الخطيئة أمر بالهبوط إلى الأرض ويلوح لي من بين ثنايا الآيات أن آدم لم يكن في السماء بل في الأرض التي خلق منها بدليل أن الله قد قال للملائكة قبل خلقه ﴿إني جاعل في الأرض خليفة﴾ أي من طينها إذ قال تعالى: ﴿منها خلقناكم وفيها نعيدكم﴾ ولعلها كانت بأعلى طبقات الأرض وأنها كانت عبارة عن جنة ذات ثمار تجنى من غير تعب ولا نصب ثم قال له ﴿أسكن أنت وزوجك الجنة﴾ ولم يقل أدخل إشارة إلى أنه كان بها وقال ﴿إن لك أن لا تجوع فيها ولا تعرى﴾ وأن إبليس كان معه أيضًا فلم يقنع آدم بهذا النعيم والراحة وطمع فيها سوله له الشيطان من الملك والحياة الدائمة فأمر بالهبوط إلى الأرض السفلى وهي أرض قاحلة لا تنبت إلا بالجهد ولا تستخرج كنوزها إلا بشقاء الأنفس حيث الملك والسيطرة ودوام النسل كما حصل لقوم موسى من بعد لما لم يقنعوا بما أنعم الله به عليهم من المن والسلوى من غير جهد ورغبوا في مثل الحبوب والخضروات التي لا تنال إلا بالزراعة والفلاحة والكد والتعب ﴿قالوا فادع لنا ربك يخرج لنا مما تنبت الأرض من بقلها وقثائها وفومها وعدسها وبصلها قال أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير اهبطوا مصر فإن لكم ما سألتم﴾ وجرت تلك سنة الله في خلقه من لم يرض بنعم الله ولم يقدر قيمتها ينزله الله إلى ما هو دونها ﴿فكلا من حيث شئتما﴾ أي مما لذ وطلب لكما من أثمارها الناضجة ﴿ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين﴾ قلنا عند تفسيرنا لمثل هذه الآية في سورة البقرة بأن الله لم يسم الشجرة فاختلفت الظنون في حقيقتها فقال بعض المفسرين إنها الحنطة وقال آخرون إنها التفاح ولا دليل لهم على ذلك وأمسك الكثير عن البحث فيها ولكني وأنا أتأمل في كلام الله يلوح لي أن المراد منها شجرة "السلالة البشرية" وقد منعهما الله من القرب منها الذي هو الجماع لأن الله قد كنى بالقرب عن الجماع في قوله تعالى: ﴿فاعتزلوا النساء في المحيض ولا تقربوهن حتى يطهرن﴾ وأقمنا الأدلة على ذلك ص ٣١ من الجزء الأول ونكتفي هنا بمجرد التفسير على ضوء ما تقدم من أن
جلده فقال ﴿واتل عليهم﴾ التلاوة القراءة وإلقاء الكلام الذي يعاد ويكرر للاعتبار به والضمير عليهم عائد إلى المخاطبين من بني آدم ﴿نبأ الذي آتيناه آياتنا﴾ لم يبين الله ولا رسوله من هو ذلك الرجل ولعل المراد به كل من آتاه الله آياته الدالة على وجود الله وعظيم سلطانه ﴿فانسلخ منها﴾ أي تخلى عنها ولم يعمل بها كأنها لم تكن من أساس فطرته وأن وجوده شاهد بصحة ما توحي به من الإيمان بالله كما تنسلخ الثعابين من جلودها أحيانًا كأنها لم تكن جزءًا منها منذ خلقت وهنا تكون عرضة للتأثر بأنواع المؤثرات ﴿فأتبعه الشيطان﴾ أي فترتب على انسلاخه عن فطرته وتجرده من حكم عقله باختياره أن لحقه الشيطان وتمكن من الوسوسة له إذ لم يعد له ضمير يؤنبه على إنكار خالقه ولا عقل يحمله على الإيمان بوحدانيته ﴿فكان من الغاوين﴾ الضالين المنقادين للهوى والشهوات ﴿ولو شئنا لرفعناه بها﴾ أي لو كانت مشيئتنا تقضي بأن كل من عقل أو أوتي العلم بكتاب الله يهتدي به ويعمل وفق تعاليمه لحملناه على الهداية طوعًا وكرهًا ورفعناه إلى أقصى درجات السمو والكمال ولضمنا له الجنة من غير جدال، غير أن هذا مخالف لمشيئتنا التي منحت الناس الحرية الكاملة في اختيار ما يريدون لأنفسهم ويشاءونه بأعمالهم بعد ما أوضحناه لهم من سبل الهداية ومواقع الزلل ﴿ولكنه﴾ بما منحناه من المشيئة الخاصة ﴿أخلد إلى الأرض﴾ أي اختار لنفسه التسفل المنافي لتلك الرفعة ومال إلى الأرض وزينتها ﴿واتبع هواه﴾ أي جعل غايته من الحياة التمتع بما فيها من اللذائذ الجسدية وأبى أن يسلك طريق الهداية الذي رسمناه له ﴿فمثله﴾ أي مثل هذا الذي أخلد إلى الأرض واتبع هواه ﴿كمثل الكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث﴾ اللهث: التنفس الشديد مع إخراج اللسان الذي يصيب الإنسان من شدة التعب والإعياء أو العطش، أما الكلب فإنه يلهث في جميع أوقاته وسائر أحواله سواء أحملت عليه أم تركته وادعًا آمنًا والمعنى أن شأن من كان همه الدنيا ولذاتها فقط كشأن الكلب في دوام لهثه أي أنه في هم دائم وتعب مستمر يسعى ويكد وكلما حصل على نعمة طمع إلى ما هو فوقها وكلما أدرك شهوة عمل على الاستزادة منها فلا يشعر بلذة الرضا والطمأنينة في نفسه قط ﴿ذلك مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا﴾ التي تدعو إلى الإيمان بالله واليوم الآخر، أما من يؤمن بالله وآياته ويتبع هدى ربه ويعلم بأن الموت حق لا مفر منه والحياة الدنيا قصيرة الأمد وما هي إلا مزرعة للآخرة فإنه يزهد فيها إلا بالقدر الذي ينال بها سعادته في دنياه من مأكل ومشرب وملبس ولذة مشروعة وإنما يعمل لرضاء
حدث خطير
لقد تم لرسول الله ﷺ ما يريد من تكوين دولة إسلامية مهيبة الجانب موفورة الكرامة ومن تطهير البيت الحرام من الأوثان التي كانت منصوبة بداخله وعلى جوانبه والتي من أجلها كان يؤمه الناس من مختلف الجهات ليؤدوا شعائر العبادة لتلك الآلهة التي يشركونها مع الله ويزعمون أنها تقربهم إلى الله زلفى وهي موجودة وقائمة هنالك. فلما هدمها الرسول ونهى المؤمنين عن عبادة غير الله لم ينته غيرهم من ارتياد تلك الأماكن لإقامة طقوسهم المعتادة فيها، وفي هذا ما فيه من التحدي لرسول الله ودينه الحق فالله جل وعلا عندما اتخذ له في تلك البقعة المشرفة بيتًا يتجه إليه من أراد عبادته وجعله مثابة لقاصديه وأمنًا عهد إلى إبراهيم وإسماعيل أن يطهرا ما حوله للطائفين والعاكفين والركع السجود ثم جاء المشركون فأقاموا لهم في ذلك البيت أصنامًا عبدوها من دونه وكان هذا منهم شركًا ينافي التوحيد فإذا هدمت تلك الأصنام فلا معنى لبقاء عبادتها من دون الله في ذلك المكان.
ولما كانت رسالة النبي الكريم إنما تقوم على أساس محاربة الوثنية وعبادة الله وحده فليس من المعقول أن يقر الشرك بالله بأي صورة من الصور وفي أي جهة من الجهات التي يبسط عليها سلطانه. فكيف تهضم نفسه أن يرى المشركين يحجون إلى مكة ويقيمون طقوسهم على مرأى ومسمع منه وما هو السبيل إلى منعهم من ذلك وقد أخذ على نفسه عهدًا عامًّا أن لا يصد عن البيت أحدًا جاءه وأن لا يجعل أحدًا يخاف في الشهر الحرام كما كان بينه وبين بعض القبائل من العرب عهود خاصة إلى آجال مسماة.
وغير هذا فإنه عليه الصلاة والسلام إنما أرسل للناس كافة ومن أهم مبادئ شريعته حرية الرأي وعدم التعرض للناس بالأذى في عقائدهم وشعورهم فكيف يكره الناس على الإيمان به وهو إلى جانب هذا أيضًا مأمور أن ينفذ ما أمر به جده إبراهيم عليه السلام مؤسس الشريعة الإسلامية. من تطهير بيته من كل ما لا يصح أن يكون بجواره من الرجس الحسي كالأصنام وقد حصل وأزيلت والرجس المعنوي كعبادة غير الله وهذا ما يجب أن يكون بتخصيص مكة لمن آمن به تعالى من الطائفين والعاكفين والركع السجود وله كامل الحق في هذا من عدة وجوه يتلخص ما نتصوره منها فيما يأتي:
السعيد الهادئ في دار سلمت من العداوة والخصام وأنواع المصائب والمنغصات وهي جنة الخلد: ﴿ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم﴾ لقد أجمع المفسرون على أن الفاعل في يشاء عائد إلى الله أي إن هداية الله الناس عائد إلى محض المشيئة بمعنى الإرادة التي لا علم لنا بها وقد بينا خطأ هذا في عدة مواضع وقلنا إن الضمير في يشاء يرجع إلى أقرب مذكور وهو اسم الموصول يعني العبد فيكون المعنى إن الله قد أخذ على نفسه عهدًا أن يمن بالهداية إلى الطريق الموصل إلى دار السلام من غير اعوجاج ولا التواء، على كل من يشاء لنفسه ذلك، وقد وفى الله لعباده بهذا العهد بما أنزله على رسوله من القرآن الذي أخبرنا أن اتباعه هو سبيل الهداية كما جاء في سورة الإسراء بقوله: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا﴾ وقوله في سورة المائدة: ﴿قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيمٍ﴾ ومما يؤيد ما جنحنا إليه أنه تعالى في هذه الآية قد قطع على نفسه لعباده وعودًا لا يمكن أن يرجع فيها أبدًا، الوعد الأول قوله: ﴿للذين أحسنوا﴾ أعمالهم في هذه الحياة الدنيا بمعنى جعلوها خالصة لوجهه تعالى: ﴿الحسنى﴾ وهي مضاعفة الحسنات بعشر أمثالها كما قال تعالى: ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها﴾.: ﴿وزيادةٌ﴾ أي ويزيد على ذلك كما قال في آية أخرى: ﴿فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله﴾ الوعد الثاني قوله: ﴿ولا يرهق﴾ أي لا يلحق: ﴿وجوههم قترٌ﴾ وهي الدخان المتصاعد بالسواد من الحطب وكل غبرة فيها سواد: ﴿ولا ذلةٌ﴾ أي إهانة وفضيحة أي إنهم سيبعثون يوم القيامة ووجوههم ناصعة البياض مرفوعي الرؤوس لا يغشى وجوههم شيء مما يغشى وجوه الكفرة الفجرة من الظلمة والكسوف والذلة: ﴿أولئك﴾ أي الموصوفون بما ذكر: ﴿أصحاب الجنة﴾ دار السلام التي خلقت من أجلهم: ﴿هم فيها خالدون﴾ لا يبرحونها أبدًا والوعد الثالث قوله: ﴿والذين كسبوا السيئات﴾ أي ارتكبوا المعاصي في هذه الحياة: ﴿جزاء سيئة بمثلها﴾ أي لا يزادون عذابًا على ما يستحقون كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون﴾ وهذا من ضمن فضل الله ورحمته بعباده: ﴿وترهقهم ذلةٌ﴾ أي وتغشاهم ذلة وفضيحة وخزي بما يظهره حسابهم من عظيم السيئات: {ما لهم من الله من
المجتمع وأنه إذ شرع بعض الأعمال التعبدية فإنما ذلك لترويض نفوسهم على الخير وتزكيها وصيانتها عن الوقوع في الشر، ومن أجل هذا جعلها سبحانه وسيلة لتكفير السيئات ونيل رضوان الله، فقد روى الشيخان والترمذي عن ابن مسعود أن رجلًا أصاب من امرأة قبلة فأتى النبي ﷺ فذكر ذلك له فنزلت هذه الآية: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار﴾ الآية، فقال يا رسول الله ألي هذه فقال «هي لمن عمل بها من أمتي»، وفي رواية لغير البخاري وأبي داود أن الرجل قال للنبي إني وجدت امرأة في البستان ففعلت بها كل شيء غير أني لم أجامعها قبلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك فافعل بي ما شئت فلم يقل له رسول الله ﷺ شيئًا فذهب الرجل فقال عمر: لقد ستر الله عليه لو ستر على نفسه فأتبعه رسول الله بصره ثم قال «ردوه عليّ» فردوه. فقرأ عليه: ﴿وأقم الصلاة طرفي النهار﴾ الآية فقال معاذ بن جبل يا رسول الله، أله وحده أم للناس كافة قال: «بل للناس كافة»، وقد سمى بعض الرواة الرجل «بأبي اليسر»، وفي رواية عند أحمد ومسلم وأبي داود وغيرهم أن الرجل قال يا رسول الله أقم فيّ حد الله مرة أو مرتين فأعرض عنه ثم أقيمت الصلاة فلما فرغ منها قال الرسول: «أين الرجل» قال أنا ذا قال: «أتممت الوضوء وصليت معنا آنفًا» قال نعم قال: «فإنك خرجت من خطيئتك كيوم ولدتك أمك فلا تعد»، وفي رواية عن ابن عباس أن صحابيًّا كان يحب امرأة فاستأذن النبي ﷺ في حاجة فأذن له فانطلق في يوم مطير فإذا هو بالمرأة على غدير ماء تغتسل فلما جلس منها مجلس الرجل من المرأة ذهب يحرك ذكره فإذا هو به هدبة فقام فأتى النبي ﷺ فذكر له ذلك فقال له صل أربع ركعات فنزل قوله تعالى: ﴿وأقم الصلاة﴾ الآية، وإنما كانت الصلاة كفارة لصغائر الذنوب لأنها تغرس في قلب المؤمن خوف الله فالمصلي إذا ما أجاب داعي الله باشتياق ووقف بين يديه في اليوم خمس مرات بخشوع وحضور قلب لا يلبث أن يجد في نفسه رادعًا عن فعل ما يغضب الله كما قال تعالى: ﴿إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر﴾ وهذا بلا شك هو الذي حمل الرجل في الحديث على أن يأتي للرسول يعترف بذنبه ويريد أن يعرف حكم الله فيه، وهو الذي كان يحمل الرجل في عهد الرسول ﷺ على الاعتراف بارتكاب جريمة الزنا ويطلب منه إقامة الحد عليه في الدنيا قبل الآخرة، ومن أجل هذا جعل الله اجتناب الكبائر سبيلًا لتكفير السيئات، والحصول على وافر الرحمات،
من تطورات تثبت عظيم سلطاننا على كل شيء كما هو مشاهد محسوس. ذلك: ﴿أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها﴾ إذ نرميها بالخراب بعد العمار والموت بعد الحياة والذل بعد العز والنقص بعد الكمال فما الذي يمنعنا من إذلالهم وقهرهم وتخريب ديارهم في حال كفرهم وإصرارهم على العناد: ﴿والله﴾ سبحانه وتعالى واضع السنن المسيطر على جميع الكائنات هو الذي: ﴿يحكم﴾ في جميع القوى والماديات وسائر الحركات والسكنات وحكمه نافذ لا يرد: ﴿لا معقب لحكمه﴾ أي ليس هناك من يحكم بعد حكمه ينقض أو إبرام: ﴿وهو سريع الحساب﴾ أي أنه سريع في إحصاء أعمال العباد من خير وشر لا يغفل عن مقداره ذرة فيعاقب العاصي ويثيب المطيع: ﴿وقد مكر الذين من قبلهم﴾ المكر صرف الغير عما يقصده بحيلة أي أن الذين كفروا من الأمم السابقة كثيرًا ما حاولوا خداع أنبيائهم وصرفهم عن أداء الرسالة: ﴿فلله المكر جميعًا﴾ أي فكان مكرهم في الواقع موجهًا إلى الله تعالى فلم ينجحوا في مكرهم لأنه تعالى: ﴿يعلم ما تكسب كل نفس﴾ أي لا يخفى عليه شيء مما يجول في النفس من المقاصد والنيات: ﴿وسيعلم الكفار﴾ وقرئ «الكافر» بلفظ المفرد يوم القيامة: ﴿لمن عقبى الدار﴾ أي لمن تكون العاقبة الحميدة: ﴿ويقول الذين كفروا﴾ بالله: ﴿لست مرسلًا﴾ أي ينكرون رسالتك: ﴿قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم﴾ أي لا يهمني إنكاركم لرسالتي وحسبي أن يكون الله شاهدًا على أنني قد بلغتكم رسالة ربي وأبيتم الاعتراف بها: ﴿ومن عنده علم الكتاب﴾ أي وكل من آمن بإعجاز القرآن وتدبر في آياته وعلم بما حواه من فصاحة وبلاغة وما اشتمل عليه من علوم الغيب ومختلف العلوم الكونية أيضًا يشهد برسالتي عن الله جل وعلا.
بعد أن ضرب الله مثلًا لضلال من يشبهونه بخلقه أخذ يذكر ما اختص به جل جلاله من كمال العلم وعظيم القدرة فقال: ﴿ولله﴾ تعالى خاصة لا لأحد سواه: ﴿غيب السموات والأرض﴾ أي كل ما كان خفيًا وغائبًا من علوم المخلوقين، وما لم تصل إليه أفكارهم مما في السموات والأرض من قوى ومخلوقات: ﴿وما أمر الساعة﴾ أي قيام الساعة يعني يوم القيامة الذي أخبر الله عنه وأنكره الكافرون لأنه من الأمور الغيبية التي لا يتصورها الكافرون: ﴿إلا كلمح البصر﴾ أي إن وقوعه سيكون في منتهى السرعة كانتقال الجسم المسمى بالطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها: ﴿أو هو أقرب﴾ من ذلك مما هو فوق تصور البشر: ﴿إن الله على كل شيء قدير والله﴾ الذي اتصف بكمال العلم وعظيم القدرة هو الذي: ﴿أخرجكم من بطون أمهاتكم﴾ بضم الهمزة وقرئ بكسرها: ﴿لا تعلمون شيئًا﴾ أي مفطورين على عدم المعرفة والإدراك: ﴿وجعل لكم السمع والأبصار﴾ من الحواس الظاهرة وسائل لإدراك الأشياء الحسية: ﴿والأفئدة﴾ أي العقول للعلم بما هو فوق الحس من المعلومات: ﴿لعلكم﴾ تهتدون بواسطتها إلى معرفة خالقها وواهبها لكم طورًا بعد طور الأمر الذي يجعلكم: ﴿تشكرون﴾ الله بالإيمان به والإقرار بوحدانيته: ﴿ألم يروا﴾ أي من سبق ذكرهم من الكفار وقرئ «تروا» بالتاء أيها المخاطبون: ﴿إلى الطير مسخرات﴾ أي مذللة ومنقادة للطيران بما خلق الله لها من الأجنحة: ﴿في جو السماء﴾ أي في الفضاء الواسع: ﴿ما يمسكهن﴾ عن السقوط حين قبض أجنحتهن حيث تصبح كجرم ثقيل معلق في الهواء: ﴿إلا الله﴾ الذي جعل في الهواء قوة كهربائية متماسكة من قوى الله الخفية التي تحمل الطير وما هو أثقل منه: ﴿إن في ذلك﴾ أي فيما عمله الله للطير من طريقة الطيران وما أودعه في الهواء من قوة على حمل الأثقال: ﴿لآيات﴾ للدلالة على وحدانية الله لا شريك له: ﴿لقوم يؤمنون﴾ بأنه لا بد لكل صنعة من صانع ولا بد لهذا الكون العظيم والقوى المنبثة فيه من خالق قدير حكيم، أما من عميت بصائرهم وقصرت مداركهم عند حد المادة أن يعزون كل شيء إلى الطبيعة فلا سبيل إلى هدايتهم وإقناعهم بمثل هذه الآيات.
بعد أن ذكر الله شيئًا مما اختص به تعالى من كمال العلم وعظيم القدرة أخذ يعدد ما أعده لصالح عباده وألهمهم طرق الاستفادة منه فقال: ﴿والله جعل لكم من بيوتكم﴾ التي تبنونها من الحجر والطين والخشب والحديد: ﴿سكنًا﴾ أي موضعًا تسكنون إليه في حال الإقامة: {وجعل لكم من
السعيد الهادئ في دار سلمت من العداوة والخصام وأنواع المصائب والمنغصات وهي جنة الخلد: ﴿ويهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم﴾ لقد أجمع المفسرون على أن الفاعل في يشاء عائد إلى الله أي إن هداية الله الناس عائد إلى محض المشيئة بمعنى الإرادة التي لا علم لنا بها وقد بينا خطأ هذا في عدة مواضع وقلنا إن الضمير في يشاء يرجع إلى أقرب مذكور وهو اسم الموصول يعني العبد فيكون المعنى إن الله قد أخذ على نفسه عهدًا أن يمن بالهداية إلى الطريق الموصل إلى دار السلام من غير اعوجاج ولا التواء، على كل من يشاء لنفسه ذلك، وقد وفى الله لعباده بهذا العهد بما أنزله على رسوله من القرآن الذي أخبرنا أن اتباعه هو سبيل الهداية كما جاء في سورة الإسراء بقوله: ﴿إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا كبيرًا﴾ وقوله في سورة المائدة: ﴿قد جاءكم من الله نورٌ وكتابٌ مبينٌ يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراطٍ مستقيمٍ﴾ ومما يؤيد ما جنحنا إليه أنه تعالى في هذه الآية قد قطع على نفسه لعباده وعودًا لا يمكن أن يرجع فيها أبدًا، الوعد الأول قوله: ﴿للذين أحسنوا﴾ أعمالهم في هذه الحياة الدنيا بمعنى جعلوها خالصة لوجهه تعالى: ﴿الحسنى﴾ وهي مضاعفة الحسنات بعشر أمثالها كما قال تعالى: ﴿من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها﴾.: ﴿وزيادةٌ﴾ أي ويزيد على ذلك كما قال في آية أخرى: ﴿فأما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم ويزيدهم من فضله﴾ الوعد الثاني قوله: ﴿ولا يرهق﴾ أي لا يلحق: ﴿وجوههم قترٌ﴾ وهي الدخان المتصاعد بالسواد من الحطب وكل غبرة فيها سواد: ﴿ولا ذلةٌ﴾ أي إهانة وفضيحة أي إنهم سيبعثون يوم القيامة ووجوههم ناصعة البياض مرفوعي الرؤوس لا يغشى وجوههم شيء مما يغشى وجوه الكفرة الفجرة من الظلمة والكسوف والذلة: ﴿أولئك﴾ أي الموصوفون بما ذكر: ﴿أصحاب الجنة﴾ دار السلام التي خلقت من أجلهم: ﴿هم فيها خالدون﴾ لا يبرحونها أبدًا والوعد الثالث قوله: ﴿والذين كسبوا السيئات﴾ أي ارتكبوا المعاصي في هذه الحياة: ﴿جزاء سيئة بمثلها﴾ أي لا يزادون عذابًا على ما يستحقون كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿ومن جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها وهم لا يظلمون﴾ وهذا من ضمن فضل الله ورحمته بعباده: ﴿وترهقهم ذلةٌ﴾ أي وتغشاهم ذلة وفضيحة وخزي بما يظهره حسابهم من عظيم السيئات: {ما لهم من الله من
لإسماعيل إذ نجاه الله من الذبح وفداه بذبح عظيم: ﴿وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ﴾ أي وهكذا كل من يؤمن بالله: ﴿يَهْدِ قَلْبَهُ﴾ أي يلهمه الله تجنب الأخطار والوقوع في المصائب ويرشده إلى سبيل الخير وأسباب السعادة: ﴿وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ أي أنه تعالى يعلم بجميع الحوادث العامة قبل وقوعها فيتدارك بلطفه من يريد اللطف به من عباده برغم وقوع الحادث: ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ﴾ أي فمن واجبكم والحالة هذه أن تحكموا الصلة بالعمل وفق هديه فإن تحكموها يهدكم إلى ما فيه خيركم ونجاحكم فطاعة العبد لسيده من شأنها أن تستجلب رضاه وتستدر عطفه وعطاياه فكيف بالله أكرم الأكرمين: ﴿فَإِن تَوَلَّيْتُمْ﴾ أي أعرضتم عن طاعة الله ورسوله: ﴿فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ﴾ أي أن الرسول لم يطلب منه إلا أن يبلغكم بما ذكر دون أن يبذل أي مجهود في سبيل إقناعكم بضرورة الطاعة كما أنه لم يؤمر بتكليفكم باتباعه بالقوة والله الذي يدعوكم الرسول لطاعته هو: ﴿اللَّهُ﴾ الذي: ﴿لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ﴾ بمعنى لا يستحق أن يكون إلهًا يعبد سواه: ﴿وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ لقد أثبت العلم ما للذرة من قوى هائلة تدك الجبال وتدمر المدن وأن جسم الإنسان مكون من ملايين الذرات وقد عجز العلم عن إدراك حقائق هذه الذرات بأكثر من أنها قوة من قوى الله الخفية فإذا سلمنا بهذا وسلمنا بأن الروح التي نفخها الله فينا فأكسبتنا الحركة والنمو هي أيضًا قوة من قواه الخفية أدركنا مبلغ تسلطه تعالى علينا وإمداده لنا وأنا إنما نسير ونبطش ونحقق آمالنا في الحياة بسر ما أودعنا من قوى لولاها لما استطعنا شيئًا من هذا كله، وهنا يتجلى قوله تعالى: ﴿لا قوة إلا بالله﴾ وهذا ما يجعلنا نؤمن بأنا إذ نحارب أعداءنا لإعلاء كلمة الله فإنما نحارب بقوة الله لا بقوتنا وننتظر تأييده بأن يطيل في آجالنا ويثبت أقدامنا ونطمع في ثوابه فلا بد أن ينصرنا الله عليهم ويحقق لنا غايتنا وفقًا لقوله: ﴿ولا تهنوا في ابتغاء القوم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لا يرجون وكان الله عليمًا حكيمًا﴾ فالاتكال على الله معناه الثقة التامة بولايته تعالى للإنسان، وهذا هو واجب المؤمن من شأنه أن يكسبه قوة في النفس تحمله على استصغار كل صعب وتجعله يجزم بأن الله الذي وثق به واتكل على عونه لا بد أن يجعل له من ضيقه فرجًا ومخرجًا فالإنسان إذ يدخل على بلد يعرف أن له صلة قوية يملكها أو حاكمها لا بد أن يشعر في نفسه بطمأنينة وعزة وقوة لا يشعر بها سواه ممن لا تكون له تلك الصلة فكيف بمن تكون صلته بالله رب العالمين، والاتكال على الله لا يعني ترك الأسباب أنه يوجب مزاولتها فمن طلب
الوقوع لا بد منه: ﴿إن هذه﴾ أي ما سبق من الآيات: ﴿تذكرة﴾ وهي ما تستذكر به الحاجة بمعنى أن الغاية منها التنبيه ومنع الغفلة: ﴿فمن شاء﴾ أن يعمل بما توحي به هذه التذكرة فقد: ﴿اتخذ إلى ربه سبيلًا﴾ أي فقد أحكم صلته بالله ونال جزاء عمله لا محالة: ﴿إن ربك يعلم أنك تقوم أدنى من ثلثي الليل ونصفه وثلثه﴾ بفتح الفاء والثاء وقرئ بجرهما بمعنى أنك كنت تقوم بواجب الصلاة تارة بزيادة وأخرى بنقص: ﴿وطائفة من الذين معك﴾ أيضًا مثلك فلم يعتبركم مقصرين لسببين:
الأول قوله: ﴿والله يقدر الليل والنهار﴾ بمعنى أن تقدير ساعات الليل والنهار من الأمور العائدة إليه جل وعلا بحسب الفصول وهذا ما يشق عليكم التأكد منه ومعرفته بدقة إلا عن طريق علم الفلك.
والسبب الثاني قوله: ﴿علم أن لن تحصوه﴾ أي أن الله قد علم في أزله عدم استطاعتكم إحصاء أجزاء الليل والنهار إلا على سبيل الظن والاحتياط: ﴿فتاب عليكم﴾ أي رفع التبعة عنكم على عدم التقيد بالوقت المقرر للصلاة: ﴿فاقرؤوا ما تيسر من القرآن﴾ في الصلاة ثم إنه قال أيضًا: ﴿علم أن سيكون منكم مرضى﴾ لا يستطيعون قيام الليل: ﴿وآخرون يضربون في الأرض﴾ بمعنى يكثرون الأسفار: ﴿يبتغون من فضل الله﴾ أي من أجل طلب العيش والبحث عن أسباب الرزق فتصعب عليهم صلاة الليل أيضًا: ﴿وآخرون يقاتلون في سبيل الله﴾ وهم الجند المعدون للقاء الأعداء وصدهم عن ديار المسلمين والدفاع عن بيضة الإسلام فهؤلاء يصعب عليهم أيضًا قيام الليل ومن أجل هذا رفع عنكم هذه الفريضة كليًا: ﴿فاقرؤوا ما تيسر منه﴾ أي فاقرؤوا من القرآن ما ذكرتم منه أو ما تسنى لكم قراءته ليلًا أو نهارًا: ﴿وأقيموا الصلاة﴾ أي استبدلوا بقيام الليل الصلوات المكتوبة عليكم: ﴿وآتوا الزكاة﴾ أي استبدلوا بتلاوة القرآن التي كانت تذكركم دائمًا بالله إخراج الزكاة فإنها تطهر نفوسكم وتستدعي عفوه ورضاه: ﴿وأقرضوا الله﴾ القرض ما تعطيه لغيرك من مال بشرط أن يعيده لك بعد أجل معلوم وهذا لا يتحقق إلا بإنفاق المال للمساكين الذين لا يرجى رد ذلك منهم بل إنما يرجى رده من الله تعالى ويلحق بالمال كل ما يفعل من الخير: ﴿قرضًا حسنًا﴾ القرض الحسن هو الذي لا يتبعه منَّ ولا أذى ولا يرجى من ورائه نفع من المعطي له: ﴿وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه﴾ أي الخير: ﴿عند الله هو خيرًا﴾ مما تؤخرون من وصية إلى ما بعد الموت فخير البر عاجله: ﴿وأعظم أجرًا﴾ عند الله لأنه صادر من قلب مملوء بالأمل في
الله: ﴿وَأَمَّا مَن بَخِلَ﴾ بماله عن أن ينفق منه شيئاً في أوجه الخير ابتغاء مرضاة الله: ﴿وَاسْتَغْنَى﴾ بما لديه من مال عن الناس فلم يحس بإحساسهم ويشعر بشعورهم فلم يواس فقيرهم ولم يرحم عاجزهم بل إنه يصرف ماله في ملذاته ومتعه الشخصية ولسان حاله يقول: دع الخلق للخالق، وإنما أوتيت هذا المال بكدي وجهدي فلا ينبغي أن أنفقه على المتعطلين،: ﴿وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى﴾ أي لم يصدق بدين الله الحق: ﴿فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى﴾ أي فسنن الله قد قضت بأن تمهد أمامه السبيل إلى الجهة الصعبة التي تؤدي إلى غضب الله وعذابه وكل هذا وفق نظم الله في سنن الكائنات التي تقضي بأن من سار إلى الشرق لا يمكن أن يصل إلى الغرب ومن سار إلى الغرب لا يمكن أن يصل إلى الشرق وكلما توغل الإنسان في السير إلى جهة لا بد أن يصل إلى نهايتها سواء أكانت مما ترضي الله أم تغضبه: ﴿وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ﴾ أي وماذا يفيده المال؟!: ﴿إِذَا تَرَدَّى﴾ أي سقط في هوة بل إن الذي ينفعه هو أن يكون إلى جانبه من يعينه وينتشله من سقطته ليدرك عندئذ الحكمة فيما أمر الله به من الإنفاق والتقوى وما نهى عنه من البخل والاستغناء عن الناس،: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى﴾ أي وقد ألزمنا أنفسنا بهداية الناس إلى ما ينفعهم ويرضينا وما يضرهم ويغضبنا من أجل هذه الغاية أرسلنا الرسل وأنزلنا الكتب وجعلنا لهم الخيار الكامل في اتباع ما يشاءون لأنفسهم ولو شئنا لعصمناهم قهراً: ﴿وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ وَالأُولَى﴾ أي ونحن المالكون للحياتين، العالمون بما يصلح لهما فلا نضن على أحد بما يشاء منهما ولا تنفعنا طاعة عبادنا ولا تضرنا معصيتهم، وقدم الله هنا الآخرة على الأولى لأنها هي الحياة الدائمة فما هي إلا بمثابة قنطرة موصلة إلى الآخرة: ﴿فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تَلَظَّى﴾ أي وبمقتضى ما ألزمنا أنفسنا به من الهداية أخطرناكم بما سيكون في الآخرة التي تجهلون حقيقتها من نار تتوقد وتلتهب: ﴿لا يَصْلاهَا﴾ أي لا يعذب فيها: ﴿إِلاَّ الأَشْقَى﴾ الذي هو أكثر شقاء من غيره وهو: ﴿الَّذِي كَذَّبَ﴾ بمزايا الإنفاق والتقوى: ﴿وَتَوَلَّى﴾ أعرض في حياته الدنيا عن العمل وفق أوامر الله وإنما استحق هذا الجزاء وعُدَّ أشقى من غيره لأنه بعمله هذا قد أساء إلى المجتمع إضافة إلى الكفر بالله،: ﴿وَسَيُجَنَّبُهَا﴾ أي يمر بجانبها دون أن يصطلي بنارها: ﴿الأَتْقَى﴾ من كان أكثر تقاة من غيره وهو: ﴿الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ﴾ أي يعطي ماله: ﴿يَتَزَكَّى﴾ أي بقصد تطهير نفسه من حب المادة والتكالب عليها فلم ينفق ماله على الناس رياء ولا سمعة ولا يريد منهم جزاء ولا شكوراً: ﴿وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى﴾ أي لم يكن عطاؤه ذلك مكافأة على فضل أو جميل