(١) أن من كان في موقف حرج وهيأ الله له طريق الخلاص منه أو كان له أعداء فنصره الله عليهم فلابد له من تقدير هذه النعمة لربه وشكرانه عليها.
(٢) أن التعجل في اتباع كل ناعق من غير تدبر مما يؤدي إلى الهلاك.
(٣) أن خير الهدى ما جاء من عند الله، وخير الأدلة على عظمة الله ما يلمسه الإنسان بنفسه من آياته.
(٤) أن الله يحاسب العباد في الآخرة على النعم التي أغدقها عليهم في الدنيا. فعلى العاقل أن يحاسب نفسه في الدنيا قبل أن يحاسب، فيذكر نعم الله عليه ليوفيها حقها من الشكر وشكر النعم هو الاعتراف بها لمسديها بالبذل والإحسان.
وبعد أن ذكّر الله بني إسرائيل بنعمه عليهم أخذ يذكرهم أيضًا بما كان من معاتبة نبيهم لهم على ما بدر منهم، وما كان من إجابتهم على ذلك حيث قال ﴿و﴾ اذكروا ﴿إذ قال موسى لقومه﴾ وهم آباؤكم ﴿يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل﴾ إلهًا عبدتموه من دون الله، فقالوا وماذا نفعل وقد فرط منا ما فرط قال: ﴿فتوبوا إلى بارئكم﴾ قالوا وكيف تكون التوبة؟ قال: ﴿فاقتلوا أنفسكم﴾ أي اكسروا حدتها وأخضعوها لله تسمو وترتفع عن محيط المادة الضيق ﴿ذلكم﴾ أي الرجوع إلى الله بالتوبة وقهر النفس ﴿خير لكم عند بارئكم﴾ فلما تبتم واستسلمتم لأمر ربكم رضي عنكم ﴿فتاب عليكم﴾ مما اقترفتم من الذنوب ﴿إنه هو التواب﴾ الذي يقبل التوبة من عباده ﴿الرحيم﴾ الذي لا يقصد التنكيل بهم، وسلبهم الحياة، وإنما يريد بهم الهداية والصلاح ﴿و﴾ لكنه سرعان ما تبدل حالكم، ورجعتم إلى جحودكم وعنادكم ﴿إذ قلتم﴾ ﴿يا موسى لن نؤمن﴾ برسالتك ونذعن ﴿لك﴾ بقلوبنا ﴿حتى نرى الله جهرة﴾ كما نراك عيانًا أمامنا ﴿فأخذتكم الصاعقة﴾ فمرت بكم صاعقة أفقدتكم رشدكم، وغشي عليكم، وفقدتم الحياة من الرعب ﴿وأنتم تنظرون﴾ أي في الساعة التي كنتم فيها تنتظرون إجابة طلبكم، وإذا كنتم لم تملكوا حواسكم، ومشاعركم أمام قوة الصاعقة، فما يكون لكم أن تفكروا في أن أماكنكم الثبات أمام قوة الله إذا تجلى سبحانه وتعالى عليكم ﴿ثم بعثناكم﴾ بطريقة خارقة للعادة ﴿من بعد موتكم﴾ بتأثير الصاعقة ﴿لعلكم﴾ تتوبون إلى الله من أمثال هذه العادات و ﴿تشكرون﴾ بعثه لكم من جديد بعد أن أصبحتم في عداد الموتى، وقد والينا عليكم أيضًا من النعم الجسام
﴿وهاجروا﴾ فرارًا بدينهم من الفتنة ﴿وجاهدوا﴾ بأموالهم وأنفسهم سواء عن طريق السيف أو القلم أو الجهر بالحق بألسنتهم ﴿في سبيل الله﴾ إعلاء لكلمته وتأييدًا لشريعته ﴿أولئك﴾ هم الذين من حقهم أن يطمئنوا برضوان الله عنهم وقبوله لأعمالهم و ﴿يرجون رحمة الله﴾ ويثقون بوعده لهم بالمغفرة وينتظرون ثوابه ولو لم يكونوا كذلك لما آمنوا ولما هاجروا ولما جاهدوا في سبيل الله ﴿والله غفور﴾ لمن تاب وطلب غفرانه بالآيات والعمل الصالح ﴿رحيم﴾ بمن يستحق الرحمن من عباده الموحدين المتقين.
عندما أخبر الله نبيه بأن المؤمنين المهاجرين والمجاهدين هم الذين يرجون رحمة الله، وكان العرب إذ ذاك يتعودون شرب الخمر وينحرون الجزور ويجعلونه أقسامًا يتقامرون عليها بالقداح على عادة لهم فمن خرج له قدح نظروا إلى ما عليه من اسم فيحكمون له بما تقتضيه أسماء القداح أرادوا سؤال النبي ﷺ عما إذا كان في ذلك ما يتنافى مع رجاء رحمة الله فأخبر الله نبيه بما يجول في صدورهم وبما ينبغي أن يرد به على هذا السؤال فقال ﴿يسألونك عن الخمر والميسر قل فيهما إثم كبير﴾ وقرئ ﴿إثم كثير﴾ فشرب الخمر يذهب بالعقل ويفني المال ويسهل سبيل الإجرام وألوان المحرمات، وتعاطي القمار من شأنه أنه يولد الحقد والبغضاء في النفوس ويعود الناس على التكاسل وطلب الربح من غير طريقه المشروع ﴿ومنافع للناس﴾ أي وفيهما منافع للناس، فالقليل من الخمر قد يفيد الصحة والاتجار به يدر أرباحًا طائلة والميسر ربما عاد على بعض الناس بثروة عظمى غير منتظرة ﴿وإثمهما أكبر من نفعهما﴾ ولكن الإثم فيهما أكبر من النفع المرجو منهما وذلك لأن المضار التي تتولد منهما يعود أثرها على المجموع، بخلاف المنافع التي تجنى من ورائهما فإنها إنما تعود على الشخص نفسه مشوبة بأضرار أخرى صحية واجتماعية.
وعلى ذكر ما أخبر به الله نبيه من أن المهاجرين والمجاهدين هم الذين يرجون رحمة الله، والجهاد يشمل الجهاد بالمال والنفس وقد سبق للمؤمنين أن سألوا الرسول ﷺ عما ينفقون وأمر الله نبيه بأن يبين لهم ما يصلح للنفقة وجهات صرفها فأصبح يجول في صدورهم المقدار الواجب إنفاقه هل هو كل ما يملكون أم
سورة آل عمران:
الم (١) اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (٢) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (٣) مِن قَبْلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انتِقَامٍ (٤) إِنَّ اللَّهَ لاَ يَخْفَىَ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ (٥) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦) هُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألْبَابِ (٧) رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ (٨) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (١٠) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (١١) قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٢) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأَبْصَارِ (١٣) زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (١٤) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُم بِخَيْرٍ مِّن ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (١٥) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (١٦) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ (١٧) شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلاَئِكَةُ وَأُوْلُواْ الْعِلْمِ قَآئِمًَا بِالْقِسْطِ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (١٨) إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الإِسْلاَمُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩) فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُل لِّلَّذِينَ أُوْتُواْ الْكِتَابَ وَالأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (٢٠) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الِّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (٢١) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا
القتل ونتحاشاه فنحن لا نريد القتل وما جئنا لنقتل ﴿قل﴾ لهم أيها الرسول إن موضوع الموت أمر محتم محدود قضت به مشيئة الله فلا مرد له، وأما التعرض له فمن كسب الإنسان وإرادته، إذ ﴿لو كنتم في بيوتكم﴾ وحان وعد انتهاء آجالكم ﴿لبرز الذين كتب عليهم القتل﴾ بباعث نفسي واختيار منه ﴿إلى مضاجعهم﴾ للمواضع التي قدر لنفوسهم أن تقبض فيها وقد لا تكون هذه المواضع ميادين حرب ونزال بل أماكن سرور ومرح، ولو لم تنته آجالكم فلن تموتوا ولو تعرضتم للقتل وأعظم الأخطار فأنتم لا تعلمون مواضع الموت حتى تتحاشونها ولا يغني حذر من قدر ﴿و﴾ ما كان الأمر بالجهاد إلا ﴿ليبتلي الله ما في صدوركم﴾ من حب الله ورسوله ورغبة في طاعتهما ﴿وليمحص ما في قلوبكم﴾ من إيمان بقضاء الله وقدره ﴿والله﴾ في الماضي والمستقبل ﴿عليم بذات الصدور﴾ لا تخفى عليه من أمركم خافية، فالابتلاء لم يكن لأنه يخفى عليه ما في صدوركم بل ليرتب لكم الثواب والعقاب. ﴿إن الذين تولوا﴾ هاربين من المعركة بعد الهزيمة، وبعضهم أشرف على أبواب المدينة ﴿منكم﴾ لم يخرجوا عن كونهم مؤمنين مثلكم ﴿يوم التقى الجمعان﴾ في أحد ﴿إنما استزلهم الشيطان﴾ إذ أدخل في قلوبهم الرعب ﴿ببعض ما كسبوا﴾ بالعمل الذي ارتكبوه وهو الفرار من الميدان الذي هو من كسبهم ﴿ولقد عفا الله عنهم﴾ عفوًا خاصًا بالفارين يوم أحد وإلا فإن الفرار من المعركة من الجرائم التي يعاقب عليها في الدنيا والآخرة.
روي أن عثمان بن عفان عوتب في هزيمته يوم أحد فقال إن ذلك خطأ عفا الله عنه. ﴿إن الله غفور﴾ لمن تاب وأناب ﴿حليم﴾ لا يعجل العقوبة ليدع ميدانًا للتوبة وفعل الصالحات.
بعد أن نهى الله سبحانه المؤمنين عن طاعة الكفار وأقام الأدلة الملموسة على فضيلة الانصياع لأحكامه وما يترتب على طاعته ومعصيته من نتائج، وأشار إلى ما يؤدي إليه حب النفس من شك في العقيدة وتجاهل للحقائق، أخذ ينهاهم عن تقليد الكفار في أقوالهم التي مع الإيمان بالله فقال ﴿ياأيها الذين آمنوا﴾ بقضاء الله وقدره ﴿لا تكونوا كالذين كفروا﴾ لا تقلدوهم في العقائد فتظنوا أن أعمال العباد قد تحول دون تنفيذ ما اقتضته مشيئة الله من نظام قضائه وقدره وإن كل شيء لا ينفذ إلا بإذنه جل وعلا ﴿وقالوا﴾ أي لا تقولوا كما يقولون ﴿لإخوانهم﴾ اللام بمعنى عن أو في، فحروف الجر تنوب عن بعضها، والمراد بإخوانهم في الوطن: أي الذين كانوا مقيمين معهم
يستطيع الإنسان وتطيقه نفسه ﴿وحرض﴾ غيرك من ﴿المؤمنين﴾ على القتال بالحث والتشويق لا بالضغط والإكراه فالإنسان إذا بدأ بنفسه بالطاعة كان لأمره بها آثره في حمل غيره عليها ﴿عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا﴾ عنكم لما يرونه من قوة إيمانكم وماضي عزائمكم وتهافتكم على القتال واستعدادكم للتضحية بالنفس والمال في سبيل الله ﴿والله﴾ الذي يعصونه بعدم طاعتك ﴿أشد بأسًا﴾ منهم ﴿وأشد نكيلًا﴾ بمن يتردد في تنفيذ أوامرك فهو القادر على رميهم بمختلف النوازل التي تجعلهم عبرة لمن اعتبر...
بعد أمر الله نبيه بالقتال وتحريض المؤمنين عليه وقد علم من الآيات السابقة فضائل القتال أخذ جل وعلا ليبين هنا ثمرة الحث عليه فقال: ﴿من يشفع شفاعة﴾ الشفاعة مأخوذة من الشفع وهو أن يصير الإنسان نفسه شفعًا لصاحب الحاجة حتى يجتمع معه في المسألة ﴿حسنة﴾ أي: يدعوا إلى طاعة وعمل خير ويصير نفسه شفعًا لمتبعية في تحصيل الأغراض المتعلقة به ﴿يكن له نصيب منها﴾ أي: حظ معين من ثواب الحسنة عائدًا إلى تقدير الله إذ الداعي للخير كفاعله ﴿ومن يشفع شفاعة سيئة﴾ بأن يثبط الناس عن الطاعة ويدعوا إلى مخالفة أوامر الله أو يعين على ارتكاب السيئات ﴿يكن له كفل﴾ الكفل الضعف من الأجر أو الإثم ﴿منها﴾ أي: من تلك السيئة فينال ضعف الجزاء المقرر عليها وبعدد من عمل بها ﴿وكان الله على كل شيء مقيتًا﴾ أي: يعطي كل شيء حقه من الحفظ وعلى ذكر الحض على عمل الخير وعقاب الصادين عنه أراد جل وعلا أن يصف للمؤمنين الوسيلة التي تساعد على قبول كلامهم والاتعاظ بمواعظهم وتؤدي إلى إحكام روابط الود بين الناس وهي مقابلة الإحسان بأحسن منه فقال: ﴿وإذا حييتم بتحية﴾ من مؤمن أو كافر أو صديق أو عدو ﴿فحيوا بأحسن منها﴾ والتحية
لأخيه هابيل والحسد يتأجج في قلبه إذ يرى من هو أصغر منه سناً أسعد حظاً (لَأَقْتُلَنَّكَ) لما أعطاك الله من نعمة تميزت بها علي مع أننا جميعاً كنا مشتركين في التقرب إلى الله (قَالَ) هابيل بما آتاه الله من علم وتقوى لا داعي للحسد والقتل فإن ما تراه لدي من نعمة دلتك على قبول الله قربتي من دونك إنما يرجع إلى مادة من مواد دستور الله الأزلي وهي (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ) فحاسب نفسك واتق الله في سرك يتقبل الله قربانك ويفيء عليك بمثل ما أفاء به علي من النعم ثم إنه أراد أن يلقنه درساً في التقوى التي كانت سبباً في قبول قربانه ويظهر له منتهى الاستسلام ليكسر شوكة الحقد في قلبه ويغرس فيه خوف الله فقال (لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي) أي وأنت تقصد قتلي (مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ) أي سوف لا أهم بقتلك رغم ما أعلنته من سبق الإصرار على قتلي وأخذك بأسباب ذلك (إِنِّي أَخَافُ اللهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ) المطلع على السرائر وأخشى أن يعذبني على نية السوء ولو كانت بقصد الدفاع عن النفس بل (إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي) أي بما أنا مثقل به من ذنوب (وَإِثْمِكَ) الذي يترتب عن قتلي وغيره مما سبق منك من ذنوب (فَتَكُونَ) بما حملت من الإثمين (مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ) أي الذين أعدت
<٤٩>
النار خصيصاً لهم فقد روي أن الظالم إذا لم يجد يوم القيامة ما يرضي خصمه أخذ من سيئات المظلوم وحملها عنه (وَذَلِكَ) هو (جَزَاءُ الظَّالِمِينَ) الذي اقتضاه عدل الله فحذار أن تكون منهم وقد نصحتك فافعل ما بدا لك فلم يتعظ بقوله ولم يخش الله فيه (فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ) أي فشجعته على (قَتْلَ أَخِيهِ) تحت تأثير الحسد الكمين فيها (فَقَتَلَهُ) عمداً مع سبق الإصرار (فَأَصْبَحَ) بعمله هذا الذي سن به سنة الإجرام والقتل العمد (مِنَ الْخَاسِرِينَ) إذ ظلت جثة القتيل ملقاة على الأرض تشهد بظلم قابيل لأخيه ونقمة والديه وأخواته عليه وظل هو في حيرة من أمره كيف يستر جريمته وإساءته عن الأنظار وهنا تجلت صفة من صفات الله تعالى على عبده وهي «الستر» (فَبَعَثَ اللهُ غُرَابًا يَبْحَثُ) أي يحفر بيديه (فِي الْأَرْضِ) إلى جانب القتيل كأنه يبحث عن شيء بها وقابيل ينظر إليه (لِيُرِيَهُ) الله (كَيْفَ) ينبغي له أن يفعل حتى (يُوَارِي) في باطنها (سَوْأَةَ) وهي تطلق على العورة وعلى الفضيحة لقبحها وعلى الجثة لاشمئزاز الناس منها (أَخِيهِ) وعندئذ اهتدى إلى ما يطلب وأدرك أنه كان من السذاجة في درجة تجعله
الهداية التي عرضها عليهم، وكان بودك المزيد من الآيات التي تحملهم على الإيمان بالله ﴿فإن استطعت أن تبتغي﴾ الابتغاء طلب ما في طلبه كلفة ومشقة. أي إن أمكنك أن تتكلف العسير وتقيم ﴿نفقًا في﴾ أعماق ﴿الأرض﴾ وهو أمر في غاية المشقة ﴿أو سلمًا في﴾ أعالي ﴿السماء﴾ وهو أصعب وأصعب ﴿فتأتيهم بآية﴾ من تلقاء نفسك تقنعهم بها على رسالتك، وتحملهم على الإيمان بالله، فافعل ذلك. والمعنى أنه ليس في مقدورك، مهما أوتيت من قوة، ومهما بذلت من جهد، أن تهديهم إلى الإيمان، لأنه ليس هذا من اختصاصك، إذ لا سلطان لك على قلوب العباد، وإنما ذلك عائد إلى الله وحده ﴿ولو شاء الله﴾ أي لو كانت مشيئته تعالى قضت بهداية كافة البشر ﴿لجمعهم على الهدى﴾ وسخرهم لطاعته وجعلهم كالملائكة ﴿لا يعصون الله ما أمرهم يفعلون ما يؤمرون﴾ ﴿فلا تكونن من الجاهلين﴾ الذين يقولون لماذا لم يهد الله هؤلاء القوم للإيمان ويجعلهم يعتنقونه. وما علموا أن هذا الأمر عائد لهم نتيجة لما منحهم الله من نعمة الحرية في النية والقول والعمل، والتي بمقتضاها أصبح لهم كامل الخيار في جميع اتجاهاتهم. وهذا ما يستلزم أن يكون منهم العاصي والمطيع والضال والمهتدي. وقد أنذرهم سبحانه بأنه تعالى سيعاقب الأول ويثيب الثاني. ولولا ذلك لما كان هناك معنى لتعبيد طريق الخير وطريق الشر، ولا لإرسال الرسل، ولا لتنزيل الكتب. وتركهم يستعملون مواهبهم فيما يروق لهم، ويختارون لأنفسهم ما يشاؤون. فلا تذهب نفسك عليهم حسرات.
بعد أن أخبر الله رسوله أنه ليس في استطاعته هداية الناس، مهما بذل من جهد ومشقة، بل لا بد من التقيد بسنن الله، التي تقضي بحرية الناس فيما يقصدون وما يقولون وما يفعلون، ليتحملوا وزر ذلك، ونهاه عن أن يتجاهل هذه الحقيقة، أخذ يؤكد له أنه تعالى قد جعل للهداية سننا وأخذ على نفسه تنبيه الغافلين إليها قال ﴿إنما يستجيب﴾ لدعوة الإسلام أي يتقبلها ويعمل بها كما يقال استجاب الله دعاء فلان متى قبله وقضى حاجته ﴿الذين يسمعون﴾ كلام الله سماع فهم وتدبر، فيعقلون معاني الآيات، ويذعنون لما يتبين لهم من الحق، ويعملون بمقتضاه. كما أشار الله إلى هذا بقوله: ﴿وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين﴾ وقوله: ﴿وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير﴾.
الله عندما قال لا تقربا هذه الشجرة أشار إلى جهة معينة من جسم آدم وحواء الذين كانا في الجنة مكسوين فلما يعلما ما هيئة الشجرة ولا أن وراء الستر شيء يلتذ به ﴿فوسوس لهما الشيطان﴾ أي همس في أذنهما بصوت خفي أو ألقى في نفسهما خواطر سيئة أن ينتزعا عن جسدهما ذلك الكساء ﴿ليبدي لهما ما ووري عنهما من سوآتهما﴾ أي أن أول عمل قام به إبليس هو أنه حبب إليهما العرى ليطلعهما على ما كان متواريًا عنهما من السوءتين أو ليوقظ بذلك شهوتهما إذ يقال وَرِيَ الزند إذ خرجت ناره ولعل هذا هو الأقرب ﴿وقال﴾ لهما ﴿ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة﴾ التي لم يكونا يعرفانها إلا بعد أن بدت لهما سوءاتهما وإلا لما كان هنا حاجة لأن يوسوس لهما الشيطان أولًا بانتزاع الكساء والكشف عنهما ﴿إلا﴾ لأحد أمرين لا ثالث لهما وهما ﴿أن تكونا ملكين﴾ بفتح اللام وقرئ بكسرها «ملكين» أي حاكمين في الدنيا يؤيد هذا قول إبليس في آية أخرى ﴿يا آدم هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى﴾.
﴿أو تكونا من الخالدين﴾ أي بدوام نسلكما وهذا بناء على ما علمه إبليس من أن الله سيجعل آدم خليفة له يحكم في أرضه ﴿وقاسمهما﴾ أي أقسم لهما بأغلظ الأيمان قائلًا ﴿إني لكما لمن الناصحين﴾ فخدعا بقسم إبليس ولم يخطر ببالهما أن يحلف مخلوق بالله كاذبًا ﴿فدلاهما بغرور﴾ أي فأوقعهما فيما أراد بالخداع والمكر حتى تحركت فيهما عاطفة الشهوة واستجابا لما أرشدهما إليه من الوقاع ﴿فلما ذاقا الشجرة﴾ بمعنى حصل الجماع فقد كنى رسول الله بالذوق عن الجماع في قوله «لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك» ﴿بدت لهما سوآتهما﴾ أي تبين لهما سوء فعلهما أو أن العورة محل السوء لأنهما عصيا الله بها وأدركا أن من واجبهما أن يعملا على سترهما ﴿وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة﴾ أي يلزقان على سوءتيهما من ورق الجنة ليستراها ويخلصا من شرها ﴿وناداهما ربهما﴾ قائلًا ﴿ألم أنهكما عن﴾ القرب من ﴿تلكما الشجرة﴾ وهي شجرة السلالة البشرية التي تولدت من اجتماع السوءتين في داخل الأحشاء بتكوين الجنين ﴿وأقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين﴾ وهذا القول هو ما ورد في سورة طه ونصه ﴿فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى﴾.
﴿قالا ربنا ظلمنا أنفسنا﴾ بطاعتنا للشيطان وعصياننا لك كما أنذرتنا ﴿وإن لم تغفر لنا﴾ هذه الخطيئة ﴿وترحمنا﴾ بهدايتك لنا والتجاوز عن ذنوبنا ﴿لنكونن من الخاسرين﴾ الهالكين ﴿قال﴾ الله جل جلاله ﴿اهبطوا﴾ أي من هذه الجنة المليئة بالأشجار والتي تأكلون منها بغير كد ولا عناء إلى أرض قاحلة تستثمرونها بالجد والاجتهاد
الله ونيل السعادة الحقة في الحياة الأخرى الخالدة وهذا ما لا يكلفه أدنى مشقة أو إجهاد ﴿فاقصص﴾ أيها الرسول ﴿القصص﴾ من حال ذلك الرجل المشابهة حاله لحال هؤلاء المكذبين بما جئت به من الآيات البينات ﴿لعلهم يتفكرون﴾ في أمرهم وينظرون في مدى انطباق هذا المثل على أنفسهم فيتوبوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى ربهم فينالوا رضوانه ﴿ساء مثلا القوم الذين كذبوا بآياتنا وأنفسهم كانوا يظلمون﴾ أي قبحت صفتهم في الصفات وما اختاروه لأنفسهم من الإعراض عن التفكير في آيات الله وهم بذلك يظلمون أنفسهم بحرمانهم من الاهتداء بها وما يترتب على ذلك من عدم تذوقهم طعم السعادة في الدارين.
بعد أن أخبر الله رسوله بأنه قد فطر الناس على الإيمان وآتاهم من العقل ما يصدهم عن الكفر وأمره أن يصور لهم من يتجرد عن فطرته ولا يحكم عقله في تدبر آيات الله العقلية والكونية للاستدلال بها على وجوده والإيمان به بل يحصر همه في أمر دنياه فقط بصورة الثعبان الذي ينسلخ من جلده والكلب الذي يلهث على الدوام بسبب ومن غير سبب، أخذ ينبهه إلى حقيقة يجب أن يؤمن بها الناس جميعًا وهي أن الهدى والضلال كلاهما بتقدير الله وخاضعان لسنن هو واضعها فلا ينبغي أن يتصور إنسان أنه في حال ضلاله وعصيان أمر ربه قد استطاع أن يتغلب على قدر الله ويخرج عن نظام مشيئته كلا ثم كلا بل هو في حال استعماله لمواهبه الفطرية والعقلية والحسية فيما يرضي الله أو يبغضه إنما يتمتع بنعمة الحرية التي منحها الله له والتي نص عليها سبحانه وتعالى في القرآن بقوله: ﴿إنا هديناه السبيل إما شاكرًا وإما كفورًا﴾ أي أنه تعالى هو الذي هدى الناس بمعنى أرشدهم إلى طريق الهدى والضلال معًا ولم يخف عنهم شيئًا من ذلك وحبب إليهم سلوك سبيل الهدى وحذرهم من فتنة الشيطان الذي يزين لهم سبيل الضلال وجعل لهم من أنفسهم ما ينبههم إلى ما هم عليه من هدى وضلال وبمقتضى هذا فإن ﴿من يهد الله﴾ أي من وجد نفسه منشرح الصدر للإيمان متبعًا للقرآن الذي جعله الله هدى للمتقين ﴿فهو المهتدي﴾ أي فهو الذي يعتبر بحسب سنن الله ودستوره في خلقه مهتديًا ﴿ومن يضلل﴾ أي من وجد نفسه ضيق الصدر من سماع آيات القرآن فلم يتبع هداه بل إنه يؤثر عليه اتباع وساوس الشيطان ﴿فأولئك هم الخاسرون﴾ أي الضالون الذين خسروا الصفقة من الأساس بعدم طلبهم الهدى فكان نصيبهم الضلال ولأجل أن لا يفهم الناس من هذا أن الله يخلق الضلال في نفوس فريق من عباده ويجعله لهم طبعًا
١ - لأن عبادة غير الله أمام بيت الله وعلى مرأى ومسمع من المؤمنين الذين لا يدينون لغيره يعد تحديًا لهم وجرحًا لإحساسهم ومضايقة لحريتهم وربما كان هذا سببًا لتشكيك المسلمين في دينهم وتذكيرهم بدين آبائهم.
٢ - لأن النبي ﷺ بصفته رسولًا من مالك السماء والأرض التي نعيش فيها من حقه أن يخصص منها ما يشاء لمن يريد وفيما يراه.
٣ - لأن النبي ﷺ بوصفه رسولًا من الله رب العالمين للناس أجمعين من واجبه أن يدافع عن شعور من آمن به ويحمي عقائدهم ويتخذ ما يراه من الوسائل لهداية غيرهم إلى ما فيه مصلحتهم من سعادة الدين وخير الحياتين.
٤ - لأن النبي ﷺ لكونه رسولًا من قبل الله المربي لعباده من واجبه أن يستعمل جميع وسائل التربية لتقويم اعوجاج الناس وإخضاعهم لأحكام ربهم والعمل وفق ما أنزل الله عليه في كتابه الكريم.
٥ - لأن شريعة النبي ﷺ لا تقتصر على مجرد الشرائع الدينية بل إنها مجموعة من الأحكام الإلهية التي تنافي ما كان عليه المشركون من عادات وتقاليد يجب القضاء عليها كوأد البنات وارتكاب الموبقات.
كل هذه أفكار يغلب على الظن أنها لم تعزب عن رسول الله ﷺ وقد تكون هي التي حالت دونه ودون أداء فريضة الحج في ذلك العام عام تسع وقد كان من عادة أهل الجاهلية أن الحج لا يقع في ذي الحجة إلا في كل ست وثلاثين سنة مرة واحدة وقد وافق ذلك العام أيام الحج من ذي الحجة فسماه الله الحج الأكبر فما وسع الرسول ﷺ إلا أن يبعث أبا بكر أميرًا من قبله على المسلمين يقيم للمسلمين حجهم فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين من المدينة في آخر شهر ذي القعدة يبتغي الحج الأكبر وأمره أن يذيع على الناس ما يأتي: أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ولا يحج بعد العام مشرك ولا يطوف بالبيت عريان ومن كان له عند الرسول عهد فهو لمدته وإذا الوحي يأتيه بما يسر خاطره ويهدئ باله ويجعله في حل مما كان بينه وبين المشركين عامة أو خاصة بعد موعد محدد ويأمره تعالى بمنع المشركين من دخول الحرم بعد ذلك العام حيث أنزلت عليه آيات من أوائل سورة التوبة أو براءة فبادر بإرسال علي بن أبي طالب
عاصمٍ} أي ليس لهم من يستطيع أن يرد عنهم العذاب، وهذا مما يدل على أن المراد بالسيئات إنها هي الشرك بالله واتخاذ الشفعاء والوسطاء لا مطلق المعاصي فقد قال تعالى في سورة الزمر: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم﴾ وقد وصف الله لنا يوم الحساب بقوله: ﴿يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله﴾.: ﴿كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا﴾ لأي كأنما غطيت وجوههم بقطع من أديم الليل حالك الظلمة من شدة السواد: ﴿أولئك﴾ الذين يأتون يوم البعث بهذه الصفة: ﴿أصحاب النار﴾ التي خلقت من أجلهم: ﴿هم فيها خالدون﴾ أي لا يبرحونها أبدًا.
بعد أن وصف الله حال المسيئين إلى أنفسهم بإنكار البعث أو الطعن في طريقة حكمه تعالى باتخاذ الشركاء إليه أردف ذلك بما يثبت أن هناك عدلًا كاملًا قائمًا على أساس حساب صحيح لا محاباة فيه ولا شفاعات بل يطبق فيه نظام المرافعات بكل دقة ويجمع فيه بينهم وبين من كانوا يتخذونهم شركاء وشفعاء ويناقش كلًّا منهم الحساب لتقرير مدى مسئوليتهم فقال: ﴿ويوم نحشرهم جميعًا﴾ أي وأعلن أيها الرسول لفريقي الناس الذين ضربنا لهم ما سبق من الأمثال وأوضحنا ما سولت لهم به نفوسهم من الأعمال أنا سنحشرهم جميعًا يوم الموقف للحساب: ﴿ثم نقول للذين أشركوا﴾ قفوا: ﴿مكانكم﴾ لا تبرحوه حتى ننظر في أمركم: ﴿أنتم وشركاؤكم﴾ الذين جعلتموهم شركاء لنا في الحكم أو شفعاء لدينا لنفصل بينكم في الأسباب التي حملتكم على ذلك هل كان ذلك بأمر منهم فيتحملوا تبعتكم أم كان ذلك بباعث من أنفسكم فتنالوا جزاءكم: ﴿فزيلنا بينهم﴾ أي فرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله وميزنا بعضهم من بعض في الموقف كما يميز بين الخصوم عادة ساعة التقاضي للاستماع إلى دفاع كل عن نفسه: ﴿وقال شركاؤهم﴾ أي بدأ الذين كان يوجه إليهم الدعاء من دون الله بمجابهة المشركين أو الداعين بقولهم: ﴿ما كنتم إيانا تعبدون﴾ فنحن لم نأمركم بعبادتنا والاستغاثة بنا ولم نكن نعلم بشيء مما كان يصدر منكم بالنسبة إلينا: ﴿فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم﴾ أي وكفانا شاهدًا على ذلك علم الله ببراءتنا من كل ذلك: ﴿إن كنا﴾ في واقع الأمر: ﴿عن عبادتكم لغافلين﴾ فلم يكن لنا من العلم ما يجعلنا ندرك حقيقة ما كنتم تعتقدونه فينا وتنسبونه إلينا من
حيث قال: ﴿إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلًا كريمًا﴾ كما جعل من شأن الصلاة تكفير ما يصدر خلالها من صغائر الذنوب. فخوف الله في السر والرجوع إليه بالتوبة والندم هما سبيل الغفران، ونيل الرضوان، ولذا قال تعالى: ﴿ولمن خاف مقام ربه جنتان﴾ وقال أيضًا: ﴿ولمن خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى﴾ أما الصلاة التي لا تغرس خوف الله في القلوب ولا تؤثر في النفوس هذا الأثر المطلوب فإنها قد لا تكون مقبولة عند الله فليس لها هذا الثواب كما قال صلى الله عليه وسلم: «رب مصل لا يناله من صلاته غير التعب والنصب»، أما الطريقة الثانية التي تؤدي إلى الاستقامة المطلوبة فهي قوله: ﴿واصبر﴾ على ما تبتلى به من أنواع المصائب التي فصلها الله تعالى في سورة البقرة بقوله: ﴿ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين * الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنا لله وإنا إليه راجعون * أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون﴾،: ﴿فإن الله لا يضيع أجر المحسنين﴾ أي وذلك لأن الله قد قضى في دستوره العادل أنه لا يضيع على محسن شروى نقير فكيف بمن أحسن الصبر على ابتلاء رب العالمين نسأله تعالى أن يقدرنا على إقامة صلواته وأن يلهمنا الصبر على بلوائه بفضله ورحمته إنه أكرم الأكرمين.
بعد أن أشار الله فيما سبق إلى أن السر في عدم القضاء على قوم موسى بعذاب الاستئصال يرجع إلى اختلافهم في الكتاب ومن أجل ذلك أمر رسوله والمؤمنين بالاستقامة عند الحد الذي أمروا به وعدم الطغيان، ورسم لهم السبيل الموصل إلى ذلك بإقامة الصلاة والصبر على الابتلاء أخذ يشير إلى أن هنالك من الأسباب ما لو وجد لحال دون هلاك أولئك الأقوام الذين قص الله على رسوله قصصهم ممن رماهم الله بعذاب الاستئصال. «السبب الأول» أنه ما كان فيهم قوم ينهون عن الفساد في الأرض وقد أشار الله إليه بقوله: ﴿فلولا كان من القرون﴾ أي هلا كان من الأمم والأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض: ﴿من قبلكم﴾ جماعة: ﴿أولو بقية﴾ من نفوذ وسلطان يؤهلهم أن: ﴿ينهون﴾ الناس: ﴿عن الفساد في الأرض﴾ أي الأعمال التي تضر المجتمع كالظلم والجرائم والاعتداء على الحقوق فيحول نهيهم إياهم دون هلاكهم فإن من سننا أنا لا نهلك قومًا إلا إذا عم الفساد والظلم أكثرهم: ﴿إلا قليلًا ممن نجينا منهم﴾ أي ولم يكن
سورة إبراهيم
{الَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (١) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (٢) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (٣) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (٥) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاءٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (٦) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (٧) وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (٨) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (٩) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (١٠) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَعلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١١) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (١٢) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (١٣) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (١٤) وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (١٥) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاءٍ صَدِيدٍ (١٦) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (١٧) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (١٨) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٩) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (٢٠) وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم
جلود الأنعام} ما يصلح لأن تتخذوه: ﴿بيوتًا﴾ متنقلة: ﴿تستخفونها﴾ أي يسهل عليكم حملها واستعمالها بيوتًا: ﴿يوم ظعنكم﴾ بسكون العين وقرئ بفتحها أي في حال تنقلكم ورحلاتكم: ﴿ويوم إقامتكم﴾ في الصحراء: ﴿ومن أصوافها﴾ المستخرجة من الضأن: ﴿وأوبارها﴾ المستخرجة من الإبل: ﴿وأشعارها﴾ المستخرجة من المعز: ﴿أثاثًا﴾ تستعملونها بساطًا وغطاء ثابتًا لبيوتكم: ﴿ومتاعًا﴾ تكتسون به: ﴿إلى حين﴾ أي لأجل الستر أو عند إرادة التجمل أمام الناس: ﴿والله جعل لكم مما خلق﴾ أي من ضمن ما خلق: ﴿ظلالًا﴾ أي أنواعًا من الشجر تستظلون تحتها من حرارة الشمس: ﴿وجعل لكم من الجبال أكنانًا﴾ أي مغارات تختبئون فيها وتستترون من أعين الناس: ﴿وجعل لكم سرابيل﴾ أي ثيابًا من القطن والكتان ونحو ذلك: ﴿تقيكم الحر﴾ أي تمنع عنكم حرارة الطقس وتمتص ما يتقاطر منكم من العرق فتبرد أجسامكم كما إنها إذا ضوعفت وقت الإنسان من زمهرير البرد: ﴿وسرابيل تقيكم بأسكم﴾ أي البأس الذي يوجهه بعضكم لبعض ويراد بها الدروع من الحديد التي يتقي بها شدة الطعن والرمي بالرماح: ﴿كذلك﴾ أي بمثل ما خلقه الله من أجل مصلحة الإنسان في حالي الإقامة والسفر وفي حال السلم والحرب: ﴿يتم نعمته عليكم﴾ إذ لولا فضل الله عليكم كنتم في كرب عظيم: ﴿لعلكم تسلمون﴾ أي لعلكم تذكرون كل هذه النعم فتشكرون الله عليها وتؤمنون به وحده وتنقادون لأوامره فتكونون من المسلمين وقرأ ابن عباس: ﴿تسلمون﴾ بفتح التاء أي من العذاب أو من الشرك: ﴿فإن تولوا﴾ أي أعرضوا عن الإسلام ولم يتعظوا بما ذكر من العبر والبينات: ﴿فإنما عليك﴾ أيها الرسول: ﴿البلاغ المبين﴾ أي فما عليك إلا ما فعلت من التبليغ التام ولا قصور من جهتك وإنما جرمهم على أنفسهم إذ همّ بالإعراض عنك: ﴿يعرفون نعمة الله﴾ التي ذكرتهم بها: ﴿ثم ينكرونها﴾ بأعمالهم حيث يعبدون غير المنعم بها: ﴿وأكثرهم الكافرون﴾ لعله يريد بالأكثر البالغين من الكافرين ليخرج الأطفال فإنهم أقلية.
بعد أن عدد الله مننه على عباده وحدد مهمة رسوله في مجرد تذكير الناس بها لأنه لا ينكرها أو يكابر فيها إلا الكافرون أتبع ذلك بذكر ما يكون من أمرهم يوم القيامة فقال: ﴿ويوم نبعث من كل أمة شهيدًا﴾ هو الرسول الذي أرسل إليها يشهد لمن استجاب لدعوته وآمن به ومن أعرض عنه وكفر بما أنزل عليه: ﴿ثم لا يؤذن للذين كفروا﴾ أي لمن شهد ضدهم الرسل بتكذيبهم في
عاصمٍ} أي ليس لهم من يستطيع أن يرد عنهم العذاب، وهذا مما يدل على أن المراد بالسيئات إنها هي الشرك بالله واتخاذ الشفعاء والوسطاء لا مطلق المعاصي فقد قال تعالى في سورة الزمر: ﴿قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعًا إنه هو الغفور الرحيم﴾ وقد وصف الله لنا يوم الحساب بقوله: ﴿يوم لا تملك نفس لنفس شيئًا والأمر يومئذ لله﴾.: ﴿كأنما أغشيت وجوههم قطعًا من الليل مظلمًا﴾ لأي كأنما غطيت وجوههم بقطع من أديم الليل حالك الظلمة من شدة السواد: ﴿أولئك﴾ الذين يأتون يوم البعث بهذه الصفة: ﴿أصحاب النار﴾ التي خلقت من أجلهم: ﴿هم فيها خالدون﴾ أي لا يبرحونها أبدًا.
بعد أن وصف الله حال المسيئين إلى أنفسهم بإنكار البعث أو الطعن في طريقة حكمه تعالى باتخاذ الشركاء إليه أردف ذلك بما يثبت أن هناك عدلًا كاملًا قائمًا على أساس حساب صحيح لا محاباة فيه ولا شفاعات بل يطبق فيه نظام المرافعات بكل دقة ويجمع فيه بينهم وبين من كانوا يتخذونهم شركاء وشفعاء ويناقش كلًّا منهم الحساب لتقرير مدى مسئوليتهم فقال: ﴿ويوم نحشرهم جميعًا﴾ أي وأعلن أيها الرسول لفريقي الناس الذين ضربنا لهم ما سبق من الأمثال وأوضحنا ما سولت لهم به نفوسهم من الأعمال أنا سنحشرهم جميعًا يوم الموقف للحساب: ﴿ثم نقول للذين أشركوا﴾ قفوا: ﴿مكانكم﴾ لا تبرحوه حتى ننظر في أمركم: ﴿أنتم وشركاؤكم﴾ الذين جعلتموهم شركاء لنا في الحكم أو شفعاء لدينا لنفصل بينكم في الأسباب التي حملتكم على ذلك هل كان ذلك بأمر منهم فيتحملوا تبعتكم أم كان ذلك بباعث من أنفسكم فتنالوا جزاءكم: ﴿فزيلنا بينهم﴾ أي فرقنا بين الشركاء ومن أشركوهم مع الله وميزنا بعضهم من بعض في الموقف كما يميز بين الخصوم عادة ساعة التقاضي للاستماع إلى دفاع كل عن نفسه: ﴿وقال شركاؤهم﴾ أي بدأ الذين كان يوجه إليهم الدعاء من دون الله بمجابهة المشركين أو الداعين بقولهم: ﴿ما كنتم إيانا تعبدون﴾ فنحن لم نأمركم بعبادتنا والاستغاثة بنا ولم نكن نعلم بشيء مما كان يصدر منكم بالنسبة إلينا: ﴿فكفى بالله شهيدًا بيننا وبينكم﴾ أي وكفانا شاهدًا على ذلك علم الله ببراءتنا من كل ذلك: ﴿إن كنا﴾ في واقع الأمر: ﴿عن عبادتكم لغافلين﴾ فلم يكن لنا من العلم ما يجعلنا ندرك حقيقة ما كنتم تعتقدونه فينا وتنسبونه إلينا من
الشيء ووثق بنيله بذل معظم الجهد في تحقيقه فكيف بمن يثق بوعد الله ولا يشك في أن كل ما يناله الإنسان لم يكن بمجرد سعيه واجتهاده بل بمعونة الله وتيسيره، وهو بمثابة الاستعانة به، والتفويض إليه في ما وراء الأسباب العامة، التي جعل الله للإنسان كسبًا فيها من الأمور الغيبية، التي لا يملك أمرها أحد سواه، ولذا قرن الله التوكل بالعبادة في كثير من الآيات، والتوكل محله القلب، والعمل بالأسباب محله الأعضاء والجوارح، ولا تعارض بينهما بل لا بد في التوكل من الأخذ بالأسباب، وترك الأسباب بدعوى التوكل لا يكون إلا عن جهل بالشرع، أو فساد في العقل، وما مثل المؤمن المتوكل إلا كالولد المعتمد على والديه، هل يعقل أن يقصر في واجب رعايته وتعهد شؤونه، ويتركانه عرضة للفقر والمسكنة حتى يظن أن يتخلى الله عن عبيده المتوكلين عليه، والله أرحم بعباده من المرأة بولدها، وهنا أراد سبحانه وتعالى أن ينبه عباده المؤمنين إلى بلاء عظيم قد يصيب الإنسان وهو لا يشعر وذلك هو إذعانه لعاطفته والاستسلام لما تدعو إليه ولما كانت الزوجة والأولاد هما في مقدمة ما يسيطر على عواطف الإنسان في هذه الحياة قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ولم يقل يا أيها الناس إشارة إلى أن الأمر الذي سيبينه لا يخص الناس كافة بل المؤمنين منهم: ﴿إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ﴾ الذي تحبونهم وتبالغون في العطف عليهم: ﴿عَدُوًّا لَّكُمْ﴾ ليس المراد بالعداوة الخصومة والكيد والحرب بل هي ما وضحها ابن عباس رضي الله عنهما إذ سُئل عن الآية فقال: هؤلاء رجال من أهل مكة أسلموا وأرادوا الهجرة إلى المدينة فلم يدعهم أزواجهم وأولادهم، أي أن من الأزواج والأولاد ما يثبطون همة المؤمن عن طاعة الله وواجب الجهاد فهؤلاء هم أعداؤكم أيها المؤمنون إذ لو كانوا يحبونكم حقًّا لما تمسكوا بكم وحالوا دونكم ودون ما يرضي الله ويرفع مكانتكم وينيلكم جنة عرضها السماوات والأرض: ﴿فَاحْذَرُوهُمْ﴾ أي احذروا أن يؤثروا في عواطفكم ويصدوكم عن طاعة الله: ﴿وَإِن تَعْفُوا﴾ عن عداوة هؤلاء الأزواج والأولاد: ﴿وَتَصْفَحُوا﴾ عما بدر منهم من أمر أساسه العاطفة لا قصد إلحاق الضرر بكم: ﴿وَتَغْفِرُوا﴾ بمعنى عدم مؤاخذتهم فلا تهجروهم ولا تتخذوهم أعداء حقيقيين من أجل ذلك: ﴿فَإِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ أي فإنه تعالى بمقتضى عدله لن يؤاخذكم على ذلك لأنه لا يعذب على الأعمال إلا ما كان منها بقصد السوء أو المعونة للكافرين ضد المؤمنين أما هؤلاء فإنهم لم يقصدوا شيئًا من هذا: ﴿إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ﴾ أي والحقيقة التي لا ريب فيها هي أن الله قد جعل
الحياة لا يخشى الفقر من كثرة الإنفاق لعظيم ثقته بقدرة الله على سداد هذا القرض له في الدنيا قبل الآخرة بخلاف من يؤخر الإنفاق ويؤجله بالوصية إلى ما بعد الموت فهذا إنما ينفق من شيء عرف أنه سيذهب من يده ولن يكون له عليه أي سلطان فهو إنما يرجو بوصيته مجرد الثواب في الآخرة فقط ولم يحاول أن يحصل على ثواب القرض بزيادة الرزق في الدنيا وثواب الله في الآخرة معًا: ﴿واستغفروا الله إن الله غفور﴾ لمن استغفره: ﴿رحيم﴾ بمن يستحق الرحمة ممن لا يناصبه العداء بالإصرار على المعاصي وعدم المبالاة بالحساب والعقاب.
أو نعمة سابقة من الذي أنفق المال من أجله: ﴿إِلاَّ ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ﴾ إلا أن يكون الإنفاق خالصاً لوجه الله ومقابل نعمه الوافرة عليه لا انتظاراً للجزاء والمكافأة من سواه: ﴿الأَعْلَى﴾ المتصف بالعلو المتفضل بالنعم كافة: ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾ أي وسيرضى ربه لا محالة بمثل هذه الأعمال التي لا يراد بها غير وجهه الكريم فهذا وعد قطعه على نفسه فلا محل لتشكك الإنسان في رضاء الله عنه ما دام يعرف في نفسه أنه كان مخلصاً في أعماله ابتغاء مرضاة الله فقط؛ بمعنى أن الإخلاص في العمل هو سبيل مرضاة الله على أن الخوف مطلوب لأن الإنسان قد تدخل عليه دسائس شيطانية لا ينتبه إليها.
سورة الضحى
مكية عدد آياتها إحدى عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿وَالضُّحَى (١) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (٢) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (٣) وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (٥) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوَى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدَى (٧) وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١)﴾
سورة الضحى: لقد وضح الله في السورة السابقة ما اقتضته سنته في خلقه من أنه تعالى أعطى للناس كامل الحرية في القول والعمل وأنزل الكتب وأرسل الرسل لهدايتهم إلى ما فيه خيرهم وفلاحهم وأنه تعالى قد ضمن الجنة لمن توفرت فيه ثلاث خصال إيتاء المال وتقوى الله والتصديق بالدين الحق هو الإسلام وختم السورة بما يشير إلى أن من أعمال المرء في الدنيا ما يبشره برضوان الله عنه في الآخرة ثم أخذ في هذه السورة ينبه رسوله إلى شيء آخر هو أنه تعالى قد تفضل على عباده بوافر النعم التي من شأنها أن تجذبهم إليه بالمحبة وخالص العمل وهو لا يتخلى عنهم أبداً متى قدروا له تلك النعم حق قدرها وضرب لهم مثلاً بحاله عليه الصلاة والسلام وما كان يملأ نفسه في أثناء تأخر الوحي عنه أياماً من الحزن والألم خشية أن يكون السبب في ذلك راجعًا إلى تخلي الله عنه، وبدأ بتطمينه بما يشعره أن ما حدث له لم يخرج عن كونه سنة من السنن الاجتماعية التي تقضي بأن الحياة فرح وترح وانبساط وانقباض وضياء وظلمة ولذا أقسم سبحانه بما يشير إلى


الصفحة التالية
Icon