ما لا تستطيعون إنكاره ﴿وظللنا عليكم الغمام﴾ في أوقات الحرارة ﴿وأنزلنا عليكم﴾ في أيام القحط بدلًا من النبات والبقول ﴿المن﴾ وهي مادة تنعقد على بعض الشجر عسلًا، وتجف جفاف الصمغ ﴿والسلوى﴾ طائر يعرف بالسمان، وقلنا لكم ﴿كلوا من طيبات ما رزقناكم﴾ واشكروا هذه النعم، وقدروها حق قدرها. ثم خاطب الله نبيه بعد هذا بقوله: ﴿وما ظلمونا﴾ أولئك القوم بكفرهم وجحودهم ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ بتعريضها للرزايا واستحقاقها للعذاب الأليم. وكان من نعم الله التي عددها على بني إسرائيل أن ذكرهم بما قد تفضل به عليهم من قبل تمكينهم من الدخول إلى الأرض المقدسة التي كانوا يحبونها – ولعلها بيت المقدس – منتصرين فائزين بعد نكولهم عن الجهاد في سبيلها، فقدر عليهم البقاء في التيه بضع سنوات عقوبة لهم، ثم عفا عنهم، ويسر لهم سبيل الوصول إليها، وأمرهم بدخولها شاكرين خاضعين مستغفرين، حيث قال: ﴿و﴾ اذكروا يا بني إسرائيل ﴿إذ قلنا﴾ لآبائهم ﴿ادخلوا هذه القرية﴾ التي كنتم تحنون إليها ﴿فكلوا منها حيث شئتم رغدًا﴾ ولكن بشرط أن تعترفوا في أنفسكم بأنه لا فضل لكم في هذا الدخول، بل هو من محض كرم الله وإنعامه عليكم، فإذا شارفتم المدينة، فاحمدوه سبحانه على ذلك ﴿وادخلوا الباب سجدًا﴾ خاضعين خاشعين من غير زهو، ولا خيلاء ﴿وقولوا﴾ كلمة سهلة موجزة وهي ﴿حطة﴾ أي تجاوز عما فرط منا عن التقاعس عن الجهاد الذي فرضته علينا في سبيل دخولنا الأرض المقدسة ﴿نغفر﴾ وقرئ يغفر بالياء ﴿وتغفر﴾ بالتاء بالبناء للمجهول ﴿لكم خطاياكم﴾ وكل ما صدر منكم ﴿وسنزيد﴾ في ثواب ﴿المحسنين﴾ الذين لم يشتركوا في التراخي والتقاعد عن الجهاد ساعة الأمر، وإنما أخذوا بجرمكم، وقاسوا ما قاسوه بسببكم ﴿فبدل الذين ظلموا﴾ وهم الذين نكلوا من قبل وقالوا ﴿إن فيها قومًا جبارين﴾ – ﴿قولًا غير الذي قيل لهم﴾ وهو ﴿حطة﴾ استخفافًا بها، واستهتارًا، ولم يراعوا نص ما أمروا به، بل جاءوا بكلام حسبوه أبلغ من كلام الله ﴿فأنزلنا على الذين ظلموا﴾ ممن ذكرنا ﴿رجزًا﴾ بكسر الراء وقرئ بضمها أي عذابًا ﴿من السماء﴾ جزاء لهم ﴿بما كانوا يفسقون﴾ فعاجلناهم بالعذاب نتيجة فسقهم، وعصيانهم المتكرر وتبديلهم للنص الذي أمروا به من عند الله على بساطته. فلا اجتهاد مع النص، وليس من الطاعة التصرف فيه بتغيير أو تبديل. وكان من نعم الله العظمى التي عددها على بني إسرائيل
بعضه؟ ولو أجابهم على ذلك من قبل لاكتفوا بذلك ولم يسألوا عن مصرفها وهذا أمر له أهميته في نظر الشرع ومن أجل هذا قدمه، ثم أمر الله نبيه في هذه المرة أن يجيبهم عن المقدار فقال ﴿ويسألونك ماذا ينفقون﴾ من المال حتى يبلغوا درجة المجاهدين وحتى يدخلوا تحت من عناهم الله بقوله ﴿أولئك يرجون رحمة الله﴾.
﴿قل العفو﴾ بفتح الواو وقرئ بضمها أي ما سهل وتيسر لكم مما يكون فاضلًا عن الحاجة والكفاية ووضح ذلك رسول الله ﷺ بقوله «خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى وابدأ بمن تعول» وقوله «خير الصدقة ما أبقت غنى واليد العليا خير من السفلى وابدأ بمن تعول». تقول المرأة أنفق علي أو طلقني ويقول المملوك أنفق علي أو بعني ويقول ولدك لك إلى من تكلني ﴿كذلك﴾ أي وبمثل هذه الطريقة من السؤال والجواب ﴿يبين الله لكم﴾ مقاصد ﴿الآيات﴾ الصادرة في الأحكام ﴿لعلكم تتفكرون﴾ أي لعلكم تجيلون الفكر في تحري مقاصد التشريع في كل أمر وتحاولون الوصول إلى ما فيه نفعكم ﴿في الدنيا والآخرة﴾ فلا تقفون عند حد الظاهر وتأتون في العبادات بالقدر الذي يخرجكم من التكليف ظاهرًا دون مراعاة الغاية التي يرمي إليها مما فيه نجاتكم من عذاب الآخرة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «رب مصل لا يناله من صلاته غير التعب والنصب، غير الجوع والسهر».
وعلى ذكر تعداد بعض الأحكام العامة، وقد كان الناس في الجاهلية يعتادون الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعًا في مالها فلما أنزل الله تعالى قوله ﴿إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا﴾ انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه عن طعامه وشرابه عن شرابه فإذا فضل شيء من طعامه حبسه له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله ﷺ فأنزل الله قوله ﴿ويسألونك عن اليتامى﴾ كيف نسير في معاملتهم أنفردهم في المأكل والمشرب ولا نشاركهم في التجارة أم نشترك معهم في ذلك؟ فأمر الله نبيه بأن يجيبهم بقوله ﴿قل﴾ أيها الرسول ﴿إصلاح لهم خير﴾ فالمطلوب منكم بالنسبة له هو العمل على كل أمر فيه إصلاح لشؤونهم فأيما عمل يعود عليهم بالإصلاح والخير فهو الخير وهو
وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٢٢) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوْتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ وَهُم مُّعْرِضُونَ (٢٣) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (٢٤) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (٢٥) قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَن تَشَاءُ وَتَنزِعُ الْمُلْكَ مِمَّن تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٦) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي الْنَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الَمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٢٧) لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (٢٨) قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٢٩) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوَءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفُ بِالْعِبَادِ (٣٠) قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٣١) قُلْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (٣٢) إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (٣٣) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٣٤) إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٥) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (٣٦) فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (٣٧) هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٨) فَنَادَتْهُ الْمَلآئِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ (٣٩) قَالَ رَبِّ أَنَّىَ يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (٤٠) قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّيَ آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزًا وَاذْكُر رَّبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالإِبْكَارِ (٤١) وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (٤٣)
﴿إذا ضربوا في الأرض﴾ بقصد التجارة وطلب الرزق ﴿أو كانوا غزى﴾ أي غزاة مجاهدين في سبيل الله ثم أصابتهم مصيبة الموت ﴿لو كانوا عندنا ما ماتوا﴾ أولئك المسافرون ﴿وما قتلوا﴾ أولئك الغزاة. وهذا قول ظاهر الفساد منطقًا وشرعًا، فهم لا يملكون الحياة حتى يهبوها لهم إن كانوا عندهم، وهم أنفسهم معرضون للموت فكيف يمنعونه عنهم، والله سبحانه قضى بالموت وقدر الآجال، وقال عز من قائل: ﴿أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة﴾. ﴿ليجعل الله ذلك﴾ عدم اعتقادكم كعقيدتهم وعدم قولكم كقولهم وما ينشأ عن ذلك من قوة عزيمتكم لا يصدكم خوف الموت عن القتال ولا يحول دونكم ودون العمل لنيل أمانيكم ﴿حسرة في قلوبهم﴾ لعدم تأثركم بأقوالهم وما كانوا يرجونه من ضعفكم وذهاب إيمانكم وتلاشي عقيدتكم ﴿والله﴾ في الواقع ونفس الأمر هو الذي ﴿يحيي﴾ يهب الحياة ﴿ويميت﴾ فلا دخل لكثرة الأسفار ولا للتعرض لأعظم الأخطار ﴿والله بما تعملون﴾ أي ما تزاولون من أسباب تؤدي بكم إلى تنفيذ ما قضت به مشيئته. وقرئ "يعملون" بالياء بدل التاء ﴿بصير﴾ ينظر إلى جميع حركاتكم وسكناتكم ويطلع على ما تكنه صدوركم من النيات ﴿ولئن قتلتم﴾ في ميدان الجهاد ﴿في سبيل الله﴾ ومن أجل إعلاء كلمته ونصر دينه ﴿أو متم﴾ بضم الميم الأولى وقرئ بكسرها في بيوتكم وأنتم عاملون لهذه الغاية السامية ﴿لمغفرة﴾ مستحقة ومقررة لكم ﴿من الله﴾ لما ارتكبتموه في الدنيا من الآثام ﴿ورحمة﴾ في الآخرة يظفر بسببها الإنسان في الجنة بأعلى الدرجات ﴿خير﴾ لكم ﴿مما يجمعون﴾ أي أولئك الكفار وقرئ "تجمعون" بالتاء بدل الياء في هذه الدنيا من حطام زائل ونعيم غير دائم سيتركونه بعد موتهم ولا ينفعهم في الآخرة شيئًا ﴿ولئن متم أو قتلتم﴾ في سبيل الله لا في سبيل غيره. ﴿لإلى الله تحشرون﴾ فمردكم في الحالين إليه سبحانه وتعالى وهو الذي سيتولى جزاءكم وعقابكم.
بعد أن أرشد الله المؤمنين في الآيات المتقدمة إلى ما ينفعهم في معاشهم ومعادهم، وكان من جملة ذلك أن عفا عنهم، أراد أن ينبههم إلى أن من ضمن نعمه عليهم أن جعل نبيه عليه الصلاة والسلام لا يؤاخذهم على عصيانهم وفرارهم من المعركة بالقسوة كما هو شأنه مع كل معتد على حرمات الله، بل إنه ﷺ قابلهم بالحسنى ولين الجانب فوجه الخطاب إلى رسوله فقال ﴿فبما﴾ بسبب ما أودعه الله في قلبك من ﴿رحمة من الله﴾ بقومك في تلك اللحظة ﴿لنت لهم﴾ أحسنت مقابلتهم فلم تعاتبهم على ما صدر منهم مع أنهم خالفوا أمرك وسببوا إيقاع الأذى بك
تشمل السلام وغيره والمعنى إذا سلم واحد من الناس عليكم فردوا عليه سلامه بأحسن مما أدى وبالغوا في الحفاوة بمن احتفى بكم لتمكنوا بها الحب في القلوب ﴿أو ردوها﴾ بمثلها على الأقل فهذا من دواعي الألفة والإصغاء للنصح وفي عدم الرد أو عدم مقابلة الإحسان بمثله ما يترك أثرًا سيئًا من النفوس ويحملها على عدم الاستجابة لما تدعون إليه من الطاعات ﴿إن الله كان على كل شيء حسيبًا﴾ فهو إذ يحاسب الناس على عدم استجابتهم لما تحضونهم عليه من الأمور يحاسبكم على ما يكون سببًا لذلك من عدم ردكم على تحيتهم بمثلها أيضًا وفي هذا إشارة إلى ضرورة الجزم باتصافه تعالى بالعدل إلى جانب الإيمان بوحدانيته ولذا قال: ﴿الله لا إله إلا هو﴾ الذي أمرتم بطاعته ﴿يجمعنكم إلى يوم القيامة﴾ للتقاضي بين يديه ﴿لا ريب فيه﴾ في ذلك اليوم وما يكون فيه من الجزاء والعقاب ﴿ومن أصدق من الله حديثًا﴾ فهو جل وعلا الذي شرع الصدق وأمر به لا يتصور منه الكذب لأن كلامه تعالى لا يصدر إلا عن علم تام بكل شيء بخلاف كلام غيره فإنه تحتمل الصدق والكذب عن عمد أو عن جهل وهو مما يتنزه عنه جل وعلا سبحانه ـ ﴿لا يضل ربي ولا ينسى﴾.
بعد أن حدد الله موقف رسوله من الناس في دائرة تبليغ الرسالة ونهاه عن تجاوزها إلى الرقابة عليهم وبرهن على عدم قدرته على القيام بأعبائها أمره بقتال أعداء الله وتحريض المؤمنين على ذلك وختم الموضوع ببيان مزايا التحريض وما يضمن نجاحه وقد حدث أن رسول الله ﷺ خرج إلى أُحد فرجع إلى المدينة بعض من خرج معه فقال قائل من أصحاب رسول الله ﷺ نقتلهم وقال آخرون: لا نقتلهم واختلفا في أمرهم فأنزل الله قوله: ﴿فما لكم في المنافقين فئتين﴾ أي: فما الداعي
يحتاج إلى من يعلمه كيف يستر جريمته (قَالَ يَا وَيْلَتَا) الويلة الفضيحة والبلية بمعنى «وافضيحتاه» (أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ) في الذكاء والعلم والعمل فلا أستطيع أن أحفر حفرة عميقة (فَأُوَارِيَ سَوْأَةَ أَخِي) بجوفها (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) على أنه لم يهتد إلى ما اهتدى إليه الغراب وشعر بعجزه وحاجته إلى هداية الله في كل شيء غير أنه لم يرد في القرآن أنه استغفر ربه منها فالله أعلم بمصيره وقد قلت في هذا:
@علمتنا ما لم نكن ندري به
#حتى ملأت الأرض مخترعات
@فالعلم منك وقد صنعنا طبقما
#ألهمتنا من أحدث الآلات
@هي ضمن خلقك أصلها وجميع ما
#آلت إليه بملهم الفكرات
@فالطير في جو السما أمسكتها
#وبها اقتدى الطيار في الرحلات
@والحوت يسبح في المياه كمرشد
#لسفائن تجري على الموجات
@وكذاك صيرت الغراب معلما
#قابيل كيف يواري السوءات
<٥٠>
(مِنْ أَجْلِ) وقرئ بحذف الهمزة وفتح النون (ذَلِكَ) أي بسبب الجرم والقتل الناشئ عن الحسد (كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ) الذين ما نقموا على الرسول إلا بدافع الحسد في جعل الرسالة في بني إسماعيل بدلاً من أولاد يعقوب ابن إسحاق والذين عرفوا بالإسراف في قتل الأنبياء بغير حق (أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ) أي بغير سبب القصاص الذي شرعه الله تعالى في قوله (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)
﴿والموتى﴾ أي موتى القلوب الذين لا يسمعون كلام الله سماعًا يصل صداه إلى القلب. وهم من أشار إليهم سبحانه بقوله: ﴿ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون﴾ وقوله: ﴿يحرفون الكلم عن مواضعه ويقولون سمعنا وعصينا﴾ فأمثال هؤلاء ﴿يبعثهم الله﴾ البعث إثارة الشيء وتوجيهه. يقال بعثت البعير أي أثرته من مبركه وسيرته إلى المرعى. أي أن الله سبحانه قد أخذ على ذاته العلية أمر إثارتهم وتوجيههم إلى معرفته والإيمان به، بما يلوح لهم به من الدلائل الكونية والعبر الشخصية والآيات القرآنية، التي ستتلى عليهم من محطات الإذاعة في العالم حتى قيام الساعة ﴿ثم إليه يرجعون﴾ يوم القيامة فيحاسبهم على ذلك إذ يقول ﴿ألم تكن آياتي تتلى عليكم فكنتم بها تكذبون * قالوا ربنا غلبت علينا شقوتنا وكنا قوما ضالين * ربنا أخرجنا منها فإن عدنا فإنا ظالمون * قال اخسئوا فيها ولا تكلمون﴾.
﴿وقالوا﴾ أي أولئك الظالمون لأنفسهم المكذبون لآيات الله المعاندون رسوله بعدم استجابتهم لدعوته ﴿لولا نزل عليه آية من ربه﴾ تلجئ الناس وتضطرهم إلى الإيمان به فلا يحزن ولا يتحسر على عدم هدايتهم ﴿قل إن الله قادر على أن ينزل﴾ بتشديد الزاي وقرئ بتخفيفها ﴿آية﴾ يستوي في الاهتداء بها العالم والجاهل والمسلم والمعاند ﴿ولكن أكثرهم لا يعلمون﴾ السر في عدم إقدامه على هذه الأمر. وهو أن قهرهم على الإيمان يتنافى مع الحرية التي منحها الله لهم.
بعد أن أكد الله لرسوله أنه جعل لنيل الهداية سننًا، وأخذ على نفسه تنبيه الغافلين إليها، أردف هذا بما يشير إلى أنه تعالى قد جعل لكل حي في الوجود دستورًا يسير عليه، وسننًا لا بد من اتباعها، فقال ﴿وما من دابة في الأرض﴾ الدابة: هي كل ما يدب على الأرض من الحيوان، والدب المشي الخفيف ﴿ولا طائر يطير بجناحيه﴾ في الفضاء ﴿إلا أمم أمثالكم﴾ مصنفين أصنافًا تعرف بأسمائها، كأمة الطير وأمة النمل وأمة الإنس وأمة الجن. ولكل أمة نظام حياتها ومعاشها وسبيل تفاهمها واتصالها ببعض، كما لها كامل الحرية أن تسير في الحياة كيفما تريد، ضمن تلك النظم والسنن التي قدرت لها، ولا تستطيع أن تحيد عنها ﴿ما فرطنا في الكتاب﴾ أي القرآن الذي بين أيديكم ﴿من شيء﴾ يدل على الله من سنن كونية ونواميس طبيعية وأنظمة مرعية، وأنه تعالى لم يخلق حيًّا في الوجود إلا عن حكمة ولغاية، وقد رسم له السبيل الذي يسير عليه. وكل شيء عنده بمقدار ﴿ثم إلى ربهم﴾ يوم القيامة ﴿يحشرون﴾ أي أن البعث أمر لا بد منه لكل حي، لا فرق
﴿بعضكم﴾ وهو إبليس وذريته ﴿لبعض﴾ وهو الإنسان ونسله ﴿عدو﴾ لأنه أخذ على نفسه إضلاله وإغوائه كما قال تعالى في آية أخرى ﴿إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوًّا﴾ يستدل من هذا على أن الإنسان لم يكن عدوًّا للشيطان رغم ما بدا منه بل إنه ليتخذه صديقًا فينقاد له في كثير من الأحيان ﴿ولكم في الأرض مستقر﴾ أي مكان تقرون فيه ﴿ومتاع إلى حين﴾ المتاع ما ينتفع به والمراد بالحين مدة الحياة ﴿قال﴾ الله ﴿فيها﴾ أي في الأرض التي منها خلقناكم ﴿تحيون﴾ تقضون مدة العمر المقدرة لكم ﴿وفيها تموتون﴾ عند انتهاء آجالكم ﴿ومنها تخرجون﴾ يوم القيامة للحياة الأخرى.
بعد أن فصل الله ما كان من شأنه تعالى مع آدم عليه السلام واستجابته لوسوسة إبليس واقتراف ما نهاه الله عنه رغم تحذيره منه ثم رجوعه إليه تعالى بالتوبة وطلب الغفران وصدور أمر الله عليه بالهبوط إلى أسفل طبقات الأرض وجه سبحانه الخطاب إلى أبنائه من بعده بما يشير إلى أنه تعالى الذي خلق الإنسان في الحياة عاريًا لا يرضى لهم العرى في هذه الدنيا لأن ذلك هو السبيل الذي توصل به إبليس إلى سلب إرادة آدم ووقوعه في ما حرم الله عليه فقال ﴿يا بني آدم قد أنزلنا عليكم لباسًا﴾ أي مادة تصلح لعمل الألبسة كالقطن والصوف والوبر والحرير وغيرها وعلمناكم وسيلة صنعها واستعمالها ﴿يواري سوآتكم﴾ أي لأجل تسترون به سوءآتكم كما علمنا آدم التستر بورق الشجر عند الخطيئة ﴿وريشًا﴾ أي وأنزلنا لكم ريش الطير الذي هو أسهل شيء بحيث لا يكلفكم جمعه صعوبة ما وربما كان المراد أنه تعالى أنعم عليهم بمختلف أنواع الألبسة التي تستر السوءة عن أعين الناس وكذلك أنواع الحلل التي تشبه ريش الطير في وقاية سائر البدن من الحر والبرد إلى غير ذلك من أنواع الزينة ﴿ولباس﴾ بالرفع وقرئ بالنصب عطفًا على قوله ﴿لباسًا﴾.
﴿التقوى﴾ الذي أمرناكم به من غض البصر وتجنب المحرمات خوفًا من الله ﴿ذلك خير﴾ من كل ستر مادي إذ به لا يفكر الإنسان فيما وراء الستر من السوءتين بل لا يرضى بكل ما من شأنه أن يثير الشهوة من أنواع الزينة ويؤدي إلى ارتكاب المعاصي ﴿ذلك﴾ أي ما ذكر من نعم الله المادية والمعنوية ﴿من آيات الله﴾ التي أنعم بها سبحانه على عباده لاتقاء الفتنة والوقوع في المعاصي ﴿لعلهم يذكرون﴾ ما أصاب آدم من الزلل بسبب كشف السوءة فيحرصون على عدم التفريط في أمر سترها ﴿يا بني آدم﴾ وقد قصصنا عليكم ما وسوس به الشيطان إلى أبيكم آدم ﴿لا يفتننكم الشيطان﴾ بما يسديه إليكم من النصح ومختلف المغريات فيحملكم على عصيان الله {كما
ثابتًا فيهم فشكل عليهم أمر عقابهم عليه قال تعالى ﴿ولقد ذرأنا﴾ الذرء إظهار الله تعالى ما أبداه يقال ذرأ الله الخلق أي أوجد أشخاصهم والمعنى إن الله قد أوجد وأظهر على وجه البسيطة ﴿لجهنم﴾ أي لأجل إسكانهم فيها ﴿كثيرًا من الجن والإنس﴾ وصفهم بصفات ثلاث الصفة الأولى قوله: ﴿لهم قلوب لا يفقهون بها﴾ أي الذين منحهم الله عقولًا توصلوا بها إلى معرفة كثير من الأشياء ولكنهم لم يفقهوا بها أمور الكائنات الروحية وسنن الله الاجتماعية وتأثير العقائد الدينية إلى غير ذلك من الأشياء التي تهديهم إلى الإيمان بالله خالقها ومدبرها وفي هذا يقول تعالى: ﴿يعلمون ظاهرًا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة غافلون﴾. الصفة الثانية قوله: ﴿ولهم أعين لا يبصرون بها﴾ أي الذين منحهم الله عيونًا قصروها على مجرد النظر إلى ما حولهم من موجودات دون أن يبصروا بها عظمة الله خالقها.
@وفي كل شيء له آية
#تدل على أنه الخالق
وفي هذا يقول تعالى: ﴿أولم يروا أنا نسوق الماء إلى الأرض الجرز فنخرج به زرعًا تأكل منه أنعامهم وأنفسهم أفلا يبصرون﴾.
الصفة الثالث قوله: ﴿ولهم آذان لا يسمعون بها﴾ أي الذين منحهم الله آذانًا يسمعون بها كلام الله بما فيه من إرشاد وتنبيه وغير ذلك فلا يتدبرون ولا يستفيدون منه وفي هذا يقول تعالى: ﴿أولم يهد لهم كم أهلكنا من قبلهم من القرون يمشون في مساكنهم إن في ذلك لآيات أفلا يسمعون﴾.
﴿أولئك﴾ أي من كانت هذه صفاتهم فهم بلا شك ﴿كالأنعام﴾ لأنه لا حظ لهم من عقولهم ومشاعرهم التي استعملوها فيما يتعلق بمعيشتهم في هذه الحياة الدنيا ومتاعها الزائل ولم يوجهوها إلى ما ينيلهم السعادة في الحياة الدنيا وما بعدها من الحياة الدائمة ﴿بل هم أضل﴾ سبيلًا من الأنعام التي لا تعقل ولم يأتها من الله هدى أما هم فإنهم قد أنعم الله عليهم بنعم العقل والسمع والبصر التي هي آلات العلم والعرفان ووسائل الهدى والإيمان فلم ينتفعوا بها ولذلك وصفهم الله في نهاية الآية بقوله ﴿أولئك هم الغافلون﴾ أي عن استعمال عقولهم ومشاعرهم في أفضل ما خلقت له من معرفة الله والغافلون عن آيات الله في الأنفس والآفاق وما ينفعهم في هذه الحياة ويوم التلاق،
إلى مكة وأمره أن يعلن ذلك على الناس في يوم النحر ولما كان القرآن في جملته بلاغًا للناس من رب العالمين لعباده وكانت تلك الآيات من سورة براءة أنزلت فاتحة لعهد جديد من الدعوة الإسلامية التي بدأت في مكة بالوعظ والإرشاد ثلاثة عشر عامًا ثم تطورت في المدينة إلى تنفيذ أوامر الله بالحكم بين الناس والدفاع عن كيان تلك الدولة الإسلامية الناشئة ومعالجة الأمور بالسياسة واللين تارة والحزم والشدة تارة أخرى.
ولما آن الأوان لنشر الدعوة العامة على البشر كافة بعث الرسول الكتب وبلغ الرسالة إلى الملوك والأمراء الذين هم زعماء الأمم وقادتها ودعاهم إلى الإسلام وأنذرهم عذاب الله ومن أنذر فقد أعذر فما بقي إلا أن يتبع القول بالفعل ويضع حدًّا لجهل الجاهلين وجحود الجاحدين ويعلن قدسية بيت ربه ويصد المشركين عنه ويعلي راية التوحيد ويضرب بيد من حديد على من يأبى الانضواء تحت ظلها فالناس كلهم عبيد الله الذي خلقهم وسواهم ومنحهم نعمة العقل ليهتدوا بهدايته وأرسل لهم الرسل للدلالة عليه وأنزل لهم القرآن دستورًا عالميًا كاملًا جامعًا لكل ما هم في حاجة إليه فمن واجبهم أن ينصاعوا جميعًا إليه وينقادوا طواعية له ومن شذ منهم عن ذلك طبق عليه حكم الله ومن واجب كل مسلم يؤمن بالله ورسوله أن يتلو كتابه ويتبع أحكامه ويجاهد بنفسه وماله في سبيل إعلاء كلمته وإقامة شرعه وحماية دينه.
لقد صدع رسول الله بتبليغ الرسالة وانتقل بالهجرة إلى المدينة لقيادة الأمة العربية وسياسة الدولة الإسلامية، وجاء دور إخضاع العالم أجمع إلى عبادة الله رب العالمين. فأوحى الله إليه بأوائل سورة التوبة. فهو إذ يعلنها على الناس لا يقصد بها إخضاعهم إلى دينه الخاص أو النزول على حكمه وإنما يأمرهم باستعمال مواهبهم في تبيين الحقائق والاتصال بالله خالقهم. والرجوع إليه جل شأنه ليصلح أمرهم ويحسن أحوالهم، هو لا يريد أن يستعبد الناس أو يملي عليهم سلطانه وإنما يريد أن يخلصهم من ربقة العبودية لغير الله من تلك الآلهة التي لا تنفع ولا تغني من الله شيئًَا يريد أن يحررهم من تلك القيود التي فرضها عليهم كبراؤهم ليملوا عليهم إرادتهم وليجعلوا خاضعين لسلطانهم ورحمتهم في جميع الأحوال.
وهو إلى جانب هذا لا يريد إلا أن يغرس روح المحبة بين البشر كافة ويجعلهم جميعًا إخوة لا تفاضل بينهم ولا تحاسد ولا تباغض وفي سبيل هذه الغاية النبيلة لا حرج ولا تثريب إن هو عمد
نفع أو ضر أو قدرة على الشفاعة وهذا كما قال تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله﴾ ولا نذهب بعيدًا فأهل الهند يلقبون الشيخ عبد القادر جيلاني بالغوث الأعظم وينسبون له من التصرفات ما هو خاص بذات الله ويعلقون عليه كل الآمال مع أني اطلعت على كتاب له اسمه «فتوح الغيب» يقول فيه: «وكن بين يد الله كالميت في يد الغاسل ولا تركن إلى غيره فإن ركنت إلى غيره فقد أشركت به وحرم الله عليك الجنة» فأين هذا مما ينسبه إليه خلفاؤه ومريدوه: ﴿هنالك﴾ أي في ذلك المكان المعد للحساب: ﴿تبلو﴾ أي تختبر وتحاسب: ﴿كل نفسٍ﴾ من تلك النفوس التي كانت تعتقد في غير الله: ﴿ما أسلفت﴾ أي ما قدمت في حياتها من عمل نتيجة تلك العقائد الفاسدة وما الذي حملها عليه لتنظر هل لديها من مستند ترد به على ما قيل: ﴿وردوا إلى الله مولاهم الحق﴾ أي ارجعوا إلى الله ليدفعوا عن أنفسهم: ﴿وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ أي ذهبت عنهم تلك الحجج التي كانوا يسوغون بها دعاء غير الله وأن حكمه تعالى قائم على أساس شفاعة الشفعاء إذ هي نزعات لا تستند على شيء من كلام الله ورسوله وقد أنكرها من كانوا يزعمونهم شركاء وشفعاء فلم تعد لها أي قيمة.
بعد أن أمر الله رسوله أن يثبت عدله تعالى بوصفه لطريقة التقاضي بين من يعتقدون بوجود شركاء أو شفعاء لديه وبين المعتقد فيهم من دون الله أمر رسوله أن يعيد الكرة على أولئك القوم ويثبت وحدانيته وصحة البعث بأسلوب آخر هو أسلوب السؤال والجواب ويليه إثبات النبوة والرسالة والقرآن فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول لهؤلاء المعاندين: ﴿من يرزقكم من السماء والأرض﴾ بما ينزله من السماء من المطر وما ينبته في الأرض من أنواع النباتات: ﴿أمن يملك السمع والأبصار﴾ أي من هو المالك لهاتين الحساستين اللتين عليهما مدار الحياة الحيوانية الذي جعلهما يختلفان باختلاف الأحياء فيهما عند الحيوان الأعجم غيرهما عند الإنسان وهما في الإنسان يتفاوتان قوة وضعفًا وإدراكًا، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على ذلك المالك العظيم ومدى سلطانه: ﴿ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي﴾ أي من الذي يملك الحياة والموت في العالم كله والذي سن لذلك نظامًا يقضي بأن تخرج النخلة من النواة والنواة من النخلة والطائر من البيضة والبيضة من الطائر ولا سبيل إلى تغير هذا النظام،
فيهم غير قليل من المستضعفين الذين نجوا مع الرسول وكانوا منبوذين لا يقبل منهم أمر ولا نهي. «السبب الثاني» لنزول عذاب الاستئصال قوله: ﴿واتبع الذين ظلموا﴾ أي تاركو النهي عن القادة وأرباب النفوذ: ﴿ما أترفوا فيه﴾ أي ما رزقناهم وآتيناهم من أسباب الترف والنعيم وانكبوا عليها وأشبعوا منها شهواتهم وتبعتهم العامة: ﴿وكانوا﴾ جميعًا ساعة حلول العذاب بهم: ﴿مجرمين﴾ أي متلبسين بجريمتهم وهذا وفق ما قضت به سنة الله في خلقه التي أخبرنا بها بقوله: ﴿وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرًا﴾.
﴿وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون﴾ أي وما كان من شأن ربك ونظامه الاجتماعي أن يهلك أهل القرى بمجرد ظلمهم بالشرك بالله إذا كانوا مصلحين في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية وأحكامهم المدنية والتأديبية فلا يبخسون الحقوق كقوم شعيب ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر كقوم لوط، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين كقوم هود، ولا يذلون لمتكبر جبار يستعبد الضعفاء كقوم فرعون لأن إهلاك المصلحين ظلم يتنزه الله عنه بل لا بد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام وهو الظلم المدمر للعمران، ولذا قال الفقهاء إن حقوق الله مبناها على التسامح لأن الله غفور رحيم أما حقوق العباد فمبناها على الشح والتضييق: ﴿ولو شاء ربك﴾ أي لو اقتضت مشيئة الله الأزلية أيها السامع أن لا يكون في الأرض مجرمين: ﴿لجعل الناس أمة واحدة﴾ بنظام في الحياة واحد ودين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا رأي لهم ولا اختيار وجعلهم في حياتهم الاجتماعية كسائر الحيوانات وفي حياتهم الروحية كالملائكة متحدين في العقيدة مفطورين على الطاعة منقادين لأوامره تعالى: ﴿لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون﴾ ولكنه تعالى شاء غير هذا إذ خلق الإنسان مفطورًا على الحرية، مختارًا في تصرفاته الدنيوية، وأنعم عليه بملكة العقل من دون البرية، وميزه بالعلم أفضل سجية، وجعله خليفة له في أرضه يفكر ويدبر ويعمل حسبما يقرر، الأمر الذي من شأنه أن يؤدي إلى الاختلاف في الرأي حسب تفاوت درجات العلم ومبلغ نضوج العقل: ﴿ولا يزالون مختلفين﴾ في كل شيء ما داموا يحكمون عقولهم المتفاوتة بطبعها ومبلغ علمها: ﴿إلا من رحم ربك﴾ ممن آمن به وصدق كتبه واتبع رسوله وخاتم أنبيائه فيما جاء به من شريعة من شأنها أن تجمع الناس على الهدى وتضمن لهم سعادة الدارين على
مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (٢١) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٢) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (٢٣) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (٢٤) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٢٥) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (٢٦) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (٢٧) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (٢٨) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (٢٩) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (٣٠) قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ (٣١) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (٣٢) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (٣٣) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (٣٤) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٣٦) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (٣٧) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاءِ (٣٨) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (٣٩) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (٤٠) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (٤١) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (٤٢) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (٤٣) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ
شهادتهم في ذلك اليوم بعد أن كذبوهم في الدنيا فيما دعوا إليه: ﴿ولا هم يستعتبون﴾ أي ولا يجدون من يعاتبهم على ما صنعوا إذ العتاب من شأنه أن ينبه الإنسان إلى ما صدر منه ليرجع عنه ويتوب منه ولا سبيل إلى ذلك فالآخرة دار جزاء لا دار عمل: ﴿وإذا رأى الذين ظلموا﴾ أنفسهم بعدم الإيمان بالله والإعراض عما جاء به الرسل: ﴿العذاب﴾ الذي أنذروا به من قبل: ﴿فلا يخفف عنهم﴾ أي لا يجدون سبيلًا لتخفيفه عنهم: ﴿ولا هم ينظرون﴾ أي ولا داعي إلى إمهالهم قليلًا ما دام باب التوبة قد أوصد في وجوههم،: ﴿وإذا رأى الذين أشركوا﴾ بالله غيره: ﴿شركاءهم﴾ الذين كانوا يتوجهون إليهم بالنداء والدعاء ممن كانوا يعتقدون فيهم الصلاح ويزعمون أن لهم من الكرامات ما يملكون به إمدادهم في الشدائد والملمات: ﴿قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك﴾ ليقربونا إليك ويشفعوا لنا عندك وقد أكرمتهم فأكرمنا من أجلهم: ﴿فألقوا﴾
صفحة ٦٠و٦١ غير موجودتين
قال العارف الشعراني بعد أن نقل بعض العبارات من «كتاب البهجة»: (فلا أدري أذلك الكلام دس على الشيخ في كتابه، أم وقع ذلك في بدايته، ورجع عنه، لما دخل في الطريق فإن من المعلوم عند كل عارف بالله تعالى أنه تعالى لا يتحيز، والشيخ قد شاعت ولايته في أقطار الأرض فيبعد من مثله القول بالجهة قطعًا) أهـ (المبحث الثالث من اليواقيت ص ٨١ جـ١) قلت وفي الغنية أيضًا مثل تلك العبارات (انظر ص٥٠ جـ١ بولاق ١٢٨٨).
الشيخ محي الدين: مما زور عليه القول (بقبول إيمان فرعون). قال العارف الشعراني «وذلك كذب وافتراء على الشيخ، فقد صرح الشيخ في الباب الثاني والستين من الفتوحات بأن فرعون من أهل النار الذين لا يخرجون منها أبد الآبدين... الخ» (اليواقيت ص١٦ جـ١ طبعة ١٢٧٧).
ومما نسب إليه باطلًا القول (بالحلول) قال العلامة الشعراني قال الشيخ في عقيدته الصغرى: «تعالى الحق تعالى أن تحله الحوادث أو يحلها» وقال في عقيدته الوسطى: «اعلم أن الله تعالى أحد بالإجماع ومقام الأحد يتعالى أن يحل فيه شيء أو يحل في شيء أو يتحد بشيء» وقال في الباب الثالث من الفتوحات: «اعلم أنه ليس في أحد من الله شيء ولا يجوز ذلك عليه بوجه من الوجوه» وقال في باب الأسرار: «لا يجوز لعارف أن يقول أنا الله ولو بلغ أقصى درجات القرب
نفع أو ضر أو قدرة على الشفاعة وهذا كما قال تعالى لعيسى عليه السلام: ﴿يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله﴾ ولا نذهب بعيدًا فأهل الهند يلقبون الشيخ عبد القادر جيلاني بالغوث الأعظم وينسبون له من التصرفات ما هو خاص بذات الله ويعلقون عليه كل الآمال مع أني اطلعت على كتاب له اسمه «فتوح الغيب» يقول فيه: «وكن بين يد الله كالميت في يد الغاسل ولا تركن إلى غيره فإن ركنت إلى غيره فقد أشركت به وحرم الله عليك الجنة» فأين هذا مما ينسبه إليه خلفاؤه ومريدوه: ﴿هنالك﴾ أي في ذلك المكان المعد للحساب: ﴿تبلو﴾ أي تختبر وتحاسب: ﴿كل نفسٍ﴾ من تلك النفوس التي كانت تعتقد في غير الله: ﴿ما أسلفت﴾ أي ما قدمت في حياتها من عمل نتيجة تلك العقائد الفاسدة وما الذي حملها عليه لتنظر هل لديها من مستند ترد به على ما قيل: ﴿وردوا إلى الله مولاهم الحق﴾ أي ارجعوا إلى الله ليدفعوا عن أنفسهم: ﴿وضل عنهم ما كانوا يفترون﴾ أي ذهبت عنهم تلك الحجج التي كانوا يسوغون بها دعاء غير الله وأن حكمه تعالى قائم على أساس شفاعة الشفعاء إذ هي نزعات لا تستند على شيء من كلام الله ورسوله وقد أنكرها من كانوا يزعمونهم شركاء وشفعاء فلم تعد لها أي قيمة.
بعد أن أمر الله رسوله أن يثبت عدله تعالى بوصفه لطريقة التقاضي بين من يعتقدون بوجود شركاء أو شفعاء لديه وبين المعتقد فيهم من دون الله أمر رسوله أن يعيد الكرة على أولئك القوم ويثبت وحدانيته وصحة البعث بأسلوب آخر هو أسلوب السؤال والجواب ويليه إثبات النبوة والرسالة والقرآن فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول لهؤلاء المعاندين: ﴿من يرزقكم من السماء والأرض﴾ بما ينزله من السماء من المطر وما ينبته في الأرض من أنواع النباتات: ﴿أمن يملك السمع والأبصار﴾ أي من هو المالك لهاتين الحساستين اللتين عليهما مدار الحياة الحيوانية الذي جعلهما يختلفان باختلاف الأحياء فيهما عند الحيوان الأعجم غيرهما عند الإنسان وهما في الإنسان يتفاوتان قوة وضعفًا وإدراكًا، الأمر الذي يدل دلالة قاطعة على ذلك المالك العظيم ومدى سلطانه: ﴿ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي﴾ أي من الذي يملك الحياة والموت في العالم كله والذي سن لذلك نظامًا يقضي بأن تخرج النخلة من النواة والنواة من النخلة والطائر من البيضة والبيضة من الطائر ولا سبيل إلى تغير هذا النظام،
من حب الأموال والأولاد سبيلًا لاختبار الإيمان في قلوب المؤمنين: ﴿وَاللهُ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ فمن آثر حبه لله على حبهم وضحى بهم في سبيل نيل ما أعده له من أجر كان مؤمنًا حقًّا ونال من أجره تعالى الشيء الكثير ومن آثر حبهم على حب الله وآثر إرضاءهم بدافع الحنو على أداء ما افترض الله والرغبة فيما عنده كان من الظالمين المحرومين: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي راقبوه واحذروا مخالفته: ﴿مَا اسْتَطَعْتُمْ﴾ أي بقدر جهدكم وما تستطيعون من مغالبة للنفس: ﴿وَاسْمَعُوا﴾ لآيات الله إذا تتلى عليكم وتدبروها: ﴿وَأَطِيعُوا﴾ أي اعملوا بمقتضاها فائتمروا بأمر الله وانتهوا عما ينهاكم عنه: ﴿وَأَنفِقُوا﴾ في سبيل الله بما في إمكانكم يكن ذلك كله: ﴿خَيْرًا لِّأَنفُسِكُمْ﴾ تدخرونه عند الله يوم لا ينفع مال ولا بنون: ﴿وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ﴾ لقد جرى المفسرون وعلماء اللغة على أن المراد بالشح شدة البخل أو أنه الظلم وعندي أن البخيل من لا يعطي ولا ينفق المال للآخرين وأما الشحيح فهو الذي يضن بالمال حتى على نفسه ويكره العطاء حتى ولو من مال الآخرين وهو المعنى بقوله تعالى: ﴿الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخل﴾ فهم بهذا الاعتبار أعداء الإنسانية فاقدو الرحمة ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمع الشح والإيمان في قلب أبدًا».: ﴿فَأُوْلَئِكَ﴾ الذين يتقون شح النفس ويحبون للناس ما يحبون لأنفسهم: ﴿هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ أي الفائزون الظافرون بالسعادة فهم لم يحرموا أنفسهم ما أحل الله من ملذات الحياة ويسرون إذ يشركون غيرهم معهم فيها استجابة لقول الله تعالى: ﴿إِن تُقْرِضُوا اللهَ قَرْضًا حَسَنًا﴾ بمعنى إن تنفقوا ما تنفقون من أموالكم فيما يرضي الله من صدقة أو قرى ضيف أو تفريج كربة أو حل مشكلة أو غير ذلك من وسائل التعاون ولا ترجون من وراء ذلك سمعة أو شهرة بل ثواب الله جل جلاله فإنه سبحانه: ﴿يُضَاعِفْهُ لَكُمْ﴾ أي يضاعف لكم ذلك المال الذي أنفقتموه قرضًا عليه بوسائل متعددة لم تكن في الحسبان كأن يربحكم في تجارة أو يهيئ لكم من عمل أو غير ذلك وهذا أمر مجرب في الأمم والأفراد لا يجحده إلا من لا يدرك ما في طاعة الله من أسرار ويحسب أن ما يناله في الحياة ما هو إلا نتيجة سعيه وما كسبت يداه: ﴿وَيَغْفِرْ لَكُمْ﴾ ذنبوكم في الآخرة فإن من خصائص الإنفاق في سبيل الله أن يدفع البلاء ويقرب العبد إلى مولاه: ﴿وَاللَّهُ﴾ من صفاته أنه: ﴿شَكُورٌ﴾ يقدر عمل العاملين ويثيب عليه: ﴿حَلِيمٌ﴾ يصبر على طيش عباده لعلهم يثوبون إلى رشدهم فيصفح عنهم: ﴿عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ﴾ أي ما خفي وما ظهر من أعمال عباده ولولا حلمه لبطش بالعصاة والكافرين
سورة المدثر
﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (١) قُمْ فَأَنذِرْ (٢) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (٣) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (٤) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (٥) وَلا تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ (٦) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (٧) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (٨) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (٩) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (١٠) ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (١١) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً (١٢) وَبَنِينَ شُهُوداً (١٣) وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً (١٤) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (١٥) كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآيَاتِنَا عَنِيداً (١٦) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (١٧) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (١٨) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (١٩) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (٢٠) ثُمَّ نَظَرَ (٢١) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (٢٢) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (٢٣) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (٢٤) إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (٢٥) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (٢٦) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (٢٧) لا تُبْقِي وَلا تَذَرُ (٢٨) لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ (٢٩) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (٣٠) وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَاناً وَلا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَمَا هِيَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (٣١) كَلاَّ وَالْقَمَرِ (٣٢) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (٣٣) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (٣٤) إِنَّهَا لإٍحْدَى الْكُبَرِ (٣٥) نَذِيراً لِّلْبَشَرِ (٣٦) لِمَن شَاءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (٣٧) كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (٣٨) إِلاَّ أَصْحَابَ الْيَمِينِ (٣٩) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءلُونَ (٤٠) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (٤١) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (٤٢) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (٤٣) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (٤٤) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (٤٥) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (٤٦) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (٤٧) فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (٤٨) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (٤٩) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ (٥٠) فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ (٥١) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ أَن يُؤْتَى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً (٥٢) كَلاَّ بَل لا يَخَافُونَ الآخِرَةَ (٥٣) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (٥٤) فَمَن شَاءَ ذَكَرَهُ (٥٥) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءُ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (٥٦)﴾
بعد أن أمر الله في السورة السابقة رسوله بما فرضه عليه من الأعمال التعبدية أخذ يأمره في هذه السورة بالقيام بواجب الدعوة إليه جل جلاله بقوله وعمله حتى يضمن لها النجاح وخطاب الله لرسوله خطاب لمن أرسل إليهم فقال: ﴿يا أيها المدثر﴾ أصله المتدثر أدغمت التاء في الدال وهو الذي يتدثر بالثياب بمعنى يا من تعني بمظهرك ولباسك كغيرك من سائر البشر: ﴿قم﴾ أي انهض
ذلك حيث قال: ﴿وَالضُّحَى﴾ وهو ضياء الشمس أول النهار أي وهذا الضحى الذي تراه فتعلم أنه سوف لا يظل ضحى طوال النهار: ﴿وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى﴾ أي سكن؛ وسُكون الليل توقف حركة الناس فيه أي وهذا الليل الذي تراه فتجزم أنه سوف لا يظل دوماً على حاله،: ﴿مَا وَدَّعَكَ﴾ بتشديد الدال وقرئ بتخفيفها أي تركك: ﴿رَبُّكَ﴾ وشأنك بمعنى لا تظن أن تأخر الوحي عنك ما يقتضي عدم عودته إليك: ﴿وَمَا قَلَى﴾ أي وليس هو دليل على تخلي الله عنك أو بغضه إياك فما أشبه حالك بحال الضحى والليل: ﴿وَلَلآخِرَةُ﴾ لعل المراد بالآخرة ما يأتي من الوحي بعد فترة الانقطاع: ﴿خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأُولَى﴾ أي الفترة التي كان الوحي يأتيك فيها بما يمدك الله به من تأييد في الدعوة إلى الإسلام ونشر لهذا الدين ونصر على أعدائك في كل موقف: ﴿وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ﴾ في الآخرة من الشفاعة والوسيلة والدرجة الرفيعة والمقام المحمود والحوض المورود: ﴿فَتَرْضَى﴾ أي حتى ترضى وقد اصطفيتك لنفسي واخترتك لرسالتي فلا أثر لعبادتك وأعمالك فيما نالك من شرف النبوة والرسالة وغيرها من النعم التي لا تحصى وأكبر دليل على هذا ما كان من أمر نفسك منذ حداثة سنك: ﴿أَلَمْ يَجِدْكَ﴾ ربك: ﴿يَتِيماً﴾ توفي والدك وأنت في بطن أمك: ﴿فَآوَى﴾ أي سخر لك من يؤويك ويقوم بكفالتك حيث حنن عليك قلب جدك عبد المطلب ثم عمك أبي طالب الذي حماك من أعاديك برغم كفره بما جئت به: ﴿وَوَجَدَكَ ضَالاًّ﴾ لا تعرف ربك ولا ما يقربك إليه فقد نشأت في وسط كله شرك وعبادة أوثان: ﴿فَهَدَى﴾ أي أرشدك الله إلى معرفته وعلمك ما لم تكن تعلم: ﴿وَوَجَدَكَ عَائِلاً﴾ أي فقيراً أو كثير العيال: ﴿فَأَغْنَى﴾ أي فأعطاك من المال ما أنت في حاجة إليه: ﴿فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ﴾ أي فلا تذله وتجعله يعيش عيشة الهوان بل احرص على إيوائه وكفالته وأحسن تربيته ليعيش كما عشت موفور الكرامة عضواً عاملاً في الهيئة الاجتماعية: ﴿وَأَمَّا السَّائِلَ﴾ أي المستفهم عما لا يعلم من علوم الدين والدنيا لا الفقير والمسكين: ﴿فَلا تَنْهَرْ﴾ أي لا تزجره، وإن ضعف عقله واشتد جهله، فقد ذقت لوعة الجهل والظلام عن طريق الحق حتى هداك الله إليه: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ أي اذكر أنك كنت فقيراً أو ذا عيال فأغناك الله فلا تبخل بما عندك على الناس بل أكثر العطاء خصوصاً لمن كان عائلاً مثلك وأحسن كما أحسن الله إليك هذا هو التحدث بالنعم لا أن يمتدح الإنسان نفسه ويكثر من تعداد أمواله ومبلغ ثروته ومعنى هذا إرشاد الناس إلى ما ينبغي أن يكونوا عليه في هذه الدنيا من تذكر آلاء الله عليهم في كل