أن ذكرهم بما كانوا عليه من ظمأ ونصب، وما أمدهم الله به في تلك الأثناء من السقيا وتنظيمها بمعجزات باهرات حيث قال ﴿و﴾ اذكروا يا بني إسرائيل ﴿إذ استسقى موسى﴾ في ساعة الجدب والظمأ ﴿لقومه﴾ آبائكم ﴿فقلنا﴾ له سنمن عليهم بالمطر بمعجزة تثبت رسالتك حتى لا ينكلوا ويقولوا إنما جاء المطر من تلقاء نفسه، لا عن طريق استسقائك ﴿اضرب بعصاك﴾ التي كانت معجزتك لدى فرعون إذ انقلبت حية تسعى، فإنا سنجعلها الآن معجزة لقومك إذ تكسر ﴿الحجر﴾ الذي أمامك في هذا المكان المجدب ففعل ﴿فانفجرت منه﴾ أي فما كاد موسى ينفذ ما أمره به مولاه من ضرب الحجر بالعصا حتى تفتحت فيه منافذ يجري بها الماء ﴿اثنتا عشرة عينًا﴾ بفتح الشين وكسرها بعدد الأسباط الاثني عشر لئلا يتنازعوا عليها، ويتقاتلوا دونها فأقبلوا عليها يسقون ﴿قد علم كل أناسٍ مشربهم﴾ وقلنا لهم ﴿كلوا﴾ من الزراعة التي كادت تتلف ظمأ ﴿واشربوا﴾ من هذه العيون المتدفقة فإنها ﴿من رزق الله﴾ الذي تفضل به عليكم، ولا تكفروا بهذه النعم ولا تقابلوها بالجحود ﴿ولا تعثوا في الأرض مفسدين﴾ أي لا تبالغوا وتمنعوا في الفساد، فهذا يعد منكم كفرانًا للنعم التي توالت عليكم، وكان من نعم الله التي عددها على بني إسرائيل أن ذكرهم بما كان منهم من كفرانهم للنعم، وسآمتهم من الرزق الميسر لهم، واستجابته لطلبهم حيث قال ﴿و﴾ اذكروا يا بني إسرائيل ﴿إذ قلتم﴾ يوم أن أنزل عليكم المن والسلوى ﴿يا موسى لن نصبر على﴾ ما نحن إليه من ﴿طعام واحد﴾ ميسور هو المن والسلوى ﴿فادع لنا ربك﴾ أن ﴿يخرج لنا﴾ بدلًا من ذلك ﴿مما تنبت الأرض﴾ عن طريق الحرث والزرع ﴿من بقلها وقثائها﴾ بكسر القاف وضمها هي ما يسمى «القته» ﴿وفومها﴾ يطلق على التوم وسائر الحبوب، وقرأ ابن عباس ﴿وثومها﴾ ولعل هذا هو المقصود ﴿وعدسها وبصلها﴾ إلى غير ذلك مما ألقناه وتعودنا في مصر يوم كنا فيها ﴿قال﴾ ويلكم من جاحدين للإحسان، غير مقدرين للنعم ﴿أتستبدلون﴾ وقرئ ﴿تبدلون﴾ بإسكان الباء ﴿الذي هو أدنى﴾ من نبات الأرض الذي لا يحصل إلا بعد جهد ونصب، وقرئ ﴿أدنأ﴾ بالهمزة من الدناءة ﴿بالذي هو خير﴾ وهما المن والسلوى اللذان أنعم الله بهما عليكم من غير عناء أو مشقة أولهما من محصول السماء، والثاني من ذي الروح وإذ أبيتم إلا الإصرار على طلبكم، فأخرجوا من الأرض المقدسة و ﴿اهبطوا مصرًا﴾ تلك البلدة التي ألفتموها من قبل
المقصود ﴿وإن تخالطوهم﴾ في المأكل والمشرب والمصاهرة والاتجار فإن كان ذلك بقصد الطمع في أموالهم فذلك هو الممنوع شرعًا، وإلا ﴿فإخوانكم﴾ فهم منكم وإليكم ولا حرج أن يخالط الأخ أخاه ﴿والله يعلم المفسد﴾ الذي يقصد من وراء مخالطتهم جر المغانم لنفسه منهم ﴿من المصلح﴾ الذي يتوخى من المخالطة الترفيه عنهم والمحافظة على أموالهم ﴿ولو شاء الله لأعنتكم﴾ العنت: المشقة أي لكفلكم القيام بشؤون اليتامى وتربيتهم وحفظ أموالهم دون أن يأذن لكم باستعمالها ولكنه لسعة رحمته أباح لكم مخالطتهم على أن تعاملوهم معاملة الإخوة مع التسامح فيما جرى العرف بالتسامح فيه ﴿إن الله عزيز﴾ تأبى عزته العنت ﴿حكيم﴾ اقتضت حكمته أن تكون شريعته جامعة لمصالح عباده: وأن يترك الأمر إلى ذمم الناس وهو سبحانه الرقيب على ما يضمرون في أنفسهم من النيات.
وعلى ذكر تعداد بعض الأحكام العامة، وكان بعض الصحابة واسمه مرثد بن أبي مرثد وكان حليفًا لبني هاشم يرغب في زواج مشركة اسمها عناق وكانت ذات حظ من الجمال وكانت خليلته في الجاهلية فاستأذن في ذلك رسول الله ﷺ فأنزل الله هذا الحكم حيث قال ﴿ولا تنكحوا﴾ بالبناء للفاعل وقرئ بالبناء للمفعول بمعنى لا تزوجوهن ﴿المشركات حتى يؤمن﴾ لأنه يخشى من تأثيرهن على أبنائهم فينشئنهم نشأة غير إسلامية ﴿ولأمة﴾ على ما بها من صفات الرق ﴿مؤمنة﴾ تغرس في قلوب أبنائكم العقيدة الصحيحة من أول عهد تربيتهم ﴿خير من﴾ حرة ﴿مشركة﴾ لا تدين بدينكم ﴿ولو أعجبتكم﴾ المشركة في تناسب جمالها ومحاسن مظهرها ﴿ولا تنكحوا﴾ نساءكم المؤمنات لأحد من ﴿المشركين﴾ فتجعلوهن فراشا لهم فربما يؤثرون على عقيدتهن ويحولونهن عن عبادة الله ﴿حتى يؤمنوا﴾ فإن آمنوا فلا مانع من تزويجهم على فتياتكم ﴿ولعبد مؤمن﴾ فقير ﴿خير من مشرك﴾ ولو كان ذا جاه وغنى ﴿ولو أعجبكم﴾ المشرك من جميع النواحي فإن الشرك بالله يذهب بكل المميزات وذلك لأن ﴿أولئك﴾ المشركين ﴿يدعون إلى النار﴾ بما يزينونه لمن حولهم من الكفر بالله والاستخفاف بطاعته ﴿والله يدعو﴾ في حين أن الله لم يأمرهم بدينه الحق إلا ليوصلهم ﴿إلى الجنة﴾ التي
ذَلِكَ مِنْ أَنبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (٤٤) إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (٤٦) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٤٧) وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ (٤٨) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (٤٩) وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (٥٠) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (٥١) فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٥٢) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنزَلَتْ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (٥٣) وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (٥٤) إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (٥٥) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٥٦) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (٥٧) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (٥٨) إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثِمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (٥٩) الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُن مِّن الْمُمْتَرِينَ (٦٠) فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (٦١) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٦٢) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (٦٣) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللَّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (٦٤) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَآجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنزِلَتِ التَّورَاةُ وَالإنجِيلُ إِلاَّ مِن بَعْدِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (٦٥) هَاأَنتُمْ هَؤُلاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ
وبمن معك ﴿ولو كنت فظا﴾ أي سيء الخلق في مقابلتك لهم ﴿غليظ﴾ أي قاسي ﴿القلب﴾ في تلك اللحظة ﴿لانفضوا﴾ أي تفرقوا ﴿من حولك﴾ فقد كانوا في حالة انفعال نفساني وحسرة لا تحتمل العتب والتقريع ﴿فاعف عنهم﴾ سامحهم في نفسك ولا تحمل لهم بغضًا ﴿واستغفر لهم﴾ كما هو شأنك دائمًا مع قومك، إذ تقول: «اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون» ﴿وشاورهم في الأمر﴾ استمر على مشاورتك لهم في كافة شئون الأمة في الحرب والسلم، ولا تتخذ من سوء تصرفهم سبيلاً إلى عدم الاعتداد برأيهم فزلة الإنسان لا تكون دليلاً على فساد رأيه وحسن مشورته ﴿فإذا عزمت﴾ على أمر ما بعد المشاورة سواء كان هذا الأمر موافقًا لما أشاروا به عليك أم لا ﴿فتوكل على الله﴾ أمض في تنفيذه اعتمادًا على من شرح صدرك له ولا تتردد في الأمور فأولوا العزم لا يترددون، وكن واثقًا من معونته وتأييده لك، ولا تتكل على حولك وقوتك فما عند الله أعظم ﴿إن الله يحب﴾ من عباده ﴿المتوكلين﴾ على حوله وقوته في حال أخذهم باتباع سننه فلا تنسهم مزاولة الأسباب عن ذكر مسببها وصاحب السلطان المطلق وهو الله فلا يعتمدون على قوتهم بقدر اعتمادهم على مانح النصر لمن يشاء وهو سبحانه لا يتخلى عن نصرة من اعتمد عليه ﴿إن ينصركم الله﴾ الذي تتكلون عليه ﴿فلا غالب لكم﴾ إذ لا قوة في العالم تستطيع أن تقف أمام قوة الله فهو جل وعلا المهيمن على جميع القوى ﴿وإن يخذلكم﴾ بترك مناصرته لكم بسبب عدم توكلكم عليه بل أحالكم على ما اتكلتم عليه من قوتكم أو مناصرة غيره لكم ﴿فمن ذا الذي ينصركم من بعده﴾ ولا يمنحكم أحد النصر سواه، وما النصر إلا من عند الله ﴿وعلى الله﴾ حتى في حال مزاولتهم للأسباب المشروعة ﴿فليتوكل المؤمنون﴾ ولا يظنوا أن مزاولتهم للأسباب لابد وأن توصلهم إلى النتائج، بل عليهم أن يعملوا بما أمرهم به الله من السعي للرزق والاستعداد للحرب والاحتياط في كل شيء وملازمة العبادات مع اعتمادهم في بلوغ الغاية على الله وحده. وقد أوضح الرسول ﷺ حقيقة التوكل بقوله: «لو توكلتم على الله حق توكله لرزقكم كما ترزق الطير تغدو خماصًا وتروح بطانًا» ومعنى هذا أن يكون توكلكم كتوكل الطير مصحوبًا بالسعي فإنها تخرج من أماكنها جائعة تسعى لطلب رزقها معتمدة على ربها في إلهامها إلى مواضع رزقها وهي واثقة من أنها ستناله لا محالة، فمنها من تحصل عليه على مسافة ميل، ومنها على مسافة عشرة أميال، والكل ترجع ممتلئة شبعانة.
إلى انقسامكم في أمر المنافقين إلى فئتين إحداهما تبرر قتلهم لما بدر منهم من خذلانهم لرسول الله ومجاهرتهم بعدائه والأخرى لا ترض بذلك لأنه ليس من شأن المسلمين الرقابة عليهم والعلم بحقيقة ما في قلوبهم بينما حكم الله واضح في المنافقين الذين تنطبق صفاتهم على هؤلاء ﴿والله أركسهم﴾ أركس الشيء قلب أوله على آخره أي: أن الله تعالى جعل من شأن المنافقين التقلب وعدم الثبات على أمر ما ﴿بما كسبوا﴾ من الأعمال الاختياريه التي في مقدمتها عدم الإيمان الكامل بالله وبما جاء من عنده وما دام هذا شأنهم فليس غريبًا منهم أن يرجعوا إلى المدينة بعد أن خرجوا مع الرسول ﷺ وما كان لكم أن تختلفوا في الحكم عليهم وتعتبروهم في حكم المجاهرين بالعداء الذين يحل قتلهم لأن النفاق مرض في النفس لا يمكن معالجته وقد يحصل الشفاء منه إذا أراد الله لا بقدرتكم ﴿أتريدون أن تهدوا﴾ بقوتكم وسلطانكم ﴿من أضل الله﴾ أي: من قضت سنته تعالى في خلقه أن يكون من الضالين الذين لم يتبعوا نور القرآن الذي جعله الله هدى للمتقين فكأنكم بمحاولتكم إنما ترمون إلى تغيير سنن الله في وسائل الهداية ﴿ومن يضلل الله﴾ باتباعه للسنن المؤدية للضلال من الذين لا ينتفعون بمواهب العقل والأسماع والأبصار التي هي آلات العلم والعرفان ووسائل الهوى والإيمان ﴿فلن تجد له سبيلًا﴾ إلى الهدى غير ذلك حيث أن سلاح القوة لا يسيطر إلّا على الأبدان ولا يمكن أن يسيطر على الجنان الذي هو محل الهداية وحسبكم برهانًا على أن هؤلاء المنافقين الذين يظهرون لكم الإيمان وقلوبهم عنكم منصرفة وتحاولون هدايتهم عن طريق ﴿ودُّوا﴾ بقلوبهم ﴿لو تكفرون كما كفروا﴾ أي: أن تعدلوا عن الإسلام ﴿فتكونون سواء﴾ لا خلاف بينكم في العقائد والأحكام ولو أنهم اعتنقوا الإيمان عن عقيدة لتمنوا لكم الثبات عن الإيمان والاستمرار في نشر الدعوة وقد
(أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ) أي بقصد السلب والنهب وقتل الأبرياء لإشاعة الفوضى والإخلال بالأمن العام (فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) لأن استحلال دم الغير بغير الحق مما يحمل عشيرته على الأخذ بالثأر فيفعلون مثل فعلهم ويجرأ الناس على الإقدام على هذا الأمر من غير خوف ولا مبالاة فتعم الفوضى وتهدر الدماء من غير حق (وَمَنْ أَحْيَاهَا) بعدم الاعتداء على الأبرياء الآمنين ومراقبة الله رب العالمين (فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) لما يترتب على ذلك من تبادل الرحمة واحترام الحقوق وطمأنينة النفوس فانتهاك حرمة الفرد انتهاك لحرمة الجميع والقيام بحق الفرد قيام بحق الجميع (وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا) من قبل (بِالْبَيِّنَاتِ) الدلائل الكثيرة على ضرر ذلك (ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ) أي من أهل الكتاب (بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) متجاوزون الحد في القتل وسائر ضروب البغي فيكون المعنى أنه إذا استمر الحال على هذا المنوال ولم يأخذ الناس بهذه التعاليم فإنه لا بد أن تعم الفوضى ويختل نظام الكون وتنتفي العدالة الاجتماعية والسلام العالمي وقد كان وها نحن نرى أثر ذلك في كل مكان.
بعد أن أمر الله نبيه أن يوضح لأهل الكتاب جانباً من أسرار التشريع وما ينجم عن القتل بغير الحق والفساد في الأرض أخذ يملى عليه ما ينبغي أن يتبع في شأن هؤلاء من الأحكام الرادعة التي تمنع الناس من الفساد في الأرض فقال
<٥١>
(إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ) باستحلالهم دماء الأبرياء التي حرمها سبحانه وتعالى إذ جعل قتل الفرد مما يؤدي إلى قتل الجماعة (وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا) بترويع الآمنين وإشاعة الخوف بين الناس بالسلب والنهب من قطاع الطرق من المسلمين الخارجين عن سلطة الحكام (أَنْ يُقَتَّلُوا) إذا هم قتلوا الناس (أَوْ يُصَلَّبُوا) إذا هم جمعوا بين القتل والسلب (أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ) كاليد اليسرى والرجل اليمنى إذا هم اقتصروا السلب والنهب دون القتل (أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ) إذا هم أخافوا السبل ووضعوا الضرائب على المسافرين بغير حق (ذَلِكَ) الحكم الذي قرره رب العزة لا شك أن فيه (لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا) أي فضيحة ومذمة (وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ) عليه أي إن تنفيذ هذا الحكم عليهم في الدنيا لا يدرأ عنهم عذاب الله في الآخرة بخلاف من ارتكب موجب حد مثلا
بين الإنسان والحيوان. قال صلى الله عليه وسلم: «لتؤدين الحقوق حق يقاد للشاة الجلحاء من الشاة القرناء» ﴿والذين كذبوا بآياتنا﴾ المنزلة على خاتم رسلنا، الدالة على عظيم قدرتنا ودقة نظمنا وفائق عدلنا وحكمتنا ﴿صم﴾ لا يسمعون آياتنا سماع تدبر وفهم و ﴿بكم﴾ لا يجهرون بما عرفوا من الحق ما داموا تائهين ﴿في الظلمات﴾ أي ظلمات الحياة المادية، ولم يتخطوها إلى ما وراءها من عالم الروح والحياة غير المنظورة، ليدركوا أن لله جل جلاله الكلمة العليا والأخيرة في كل شيء. فإن ﴿من يشأ الله يضلله ومن يشأ يجعله على صراط مستقيم﴾ سبق أن قلنا عند تفسيرنا لقوله: ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ أن الفاعل في الفعلين عائد إلى أقرب مذكور، وهو اسم الموصول، يعني العبد، تحاشيًا من نسبة الإضلال إلى الله جل جلاله. فلم يرق هذا لبعض الجامدين من العلماء الذين يأبون إلا التمسك بما قاله مشايخهم من وجوب إعادة الضمير إلى الله، وضرورة جعل المشيئة له دون العبد، واتخذوا من هذه الآية، التي يتعين بها أن يكون الفاعل هو الله، دليلًا على صحة قولهم من أن الله سبحانه إذا شاء الضلال لأحد من الناس يحمله على الضلال، ويضطره إلى الوقوع في الكفر والمعاصي، لمحض الرغبة واستغلال النفوذ، من غير تقيد بنظام، أو حاجة لذكر الأسباب، كالحاكم المستبد، بل الظالم الذي يدبر المكائد للإيقاع بمن يبغض، ثم يؤاخذه على ما صدر منه، أو كالشيطان ﴿إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين﴾ مما يتعالى الله عنه علوًا كبيرًا. وآيات القرآن كلها شاهدة على بطلانه، وتنص صراحة على أنه تعالى إنما يعامل الناس بكسبهم، ويجازيهم بأعمالهم، ولا يخاف المحسن لديه ظلمًا ولا هضمًا لا بخسًا ولا رهقًا، ولا يضيع عمل محسن أبدًا ولو كان مثقال ذرة، وإن تك حسنة يضاعفها ويؤت من لدنه أجرًا عظيمًا، وأنه يجزي بالسيئة مثلها ويحبطها بالتوبة والاستغفار، ويجزى بالحسنة عشرة أمثالها ويضاعفها إلى سبعمائة ضعف وإلى أضعاف كثيرة. وهو الذي سن للناس سبل الهدى وضمن لمتبعيها النجاح، وأبان عن سبل الضلال وحذرهم من سلوكها، وأخبرنا أنه يترك لكل إنسان الحق في أن يدافع عن نفسه، وأنه لا يعذبه حتى يعترف بذنبه بقوله: ﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها وتوفى كل نفس ما عملت وهم لا يظلمون﴾ وقوله: ﴿فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير﴾ وقال عمن أهلكهم في الدنيا بأنهم لما رأوا آياته وأحسوا بعذابه قالوا: {يا ويلتنا إنا كنا ظالمين فما زالت تلك دعواهم حتى
أخرج أبويكم من الجنة} أي بنفس الطريقة التدريجية التي استعملها مع أبويكم ﴿ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما﴾ فهو لم يفعل في أول الأمر أكثر من أنه حبب إليهما التخلي عما كان يضايقهما من اللباس والتطلع إلى ما وراء الستر من السوءتين لاكتشاف موضع الشجرة وحقيقتها وأيقظ بذلك عاطفة الشهوة فيكما ﴿إنه يراكم هو وقبيله﴾ أي أنه وذريته وأنصاره معكم في كل وقت يزينون لكم ارتكاب العصيان بمختلف المغريات لارتكاب جريمة الزنا فتلك هي مهمتهم في هذه الحياة ﴿من حيث لا ترونهم﴾ هذا تنبيه إلى الحذر من إغوائهم لأن الضرر الذي يأتي من الشيء المادي أقل خطرًا من الذي يأتي من الشيء الذي لا يرى والرسول ﷺ قد أخبرنا أن «الطاعون من وخز الجن» أي أن منهم من له ضرر مادي واستطاع العلماء أن يتبينوا حقيقة نوع من هؤلاء الجن وأطلقوا عليها اسم المكروبات التي تجلب الطاعون إلى جسم الإنسان فأمكن مقاومتهم والتخلص من تأثيرهم بمختلف العلاجات وأخبرنا الرسول صلى الله عليه وسلم: «أن الشيطان ليجري في الإنسان مجرى الدم» فدل هذا على أن منهم خلقًا لا يرى بالمرة وعملهم معنوي محض وهو الدس والإغراء على ارتكاب المحرمات وأنهم يروننا من حيث لا نراهم ونستطيع أن نعرف ذلك بآثارهم فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاز بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاز بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان» فلم يبق من شك في وجود الشياطين وجريانهم في الإنسان مجرى الدم وأنهم لا يعرفون إلا بآثارهم من الإضلال وتزيين الباطل وأنه لا سبيل لمقاومتهم إلا عن طريق ما وصفه الله لنا في قرآنه من السبل التي تعصمنا من شرورهم وتحول دون وقوعنا في شباكهم بالامتناع أولًا عن كل ما من شأنه أن يجلب الفتنة ويحبب إلى النفس فعل المنكر وثانيًا بتطهير القلب عما سوى الله ومراقبته تعالى في جميع الحالات كما أشار إلى ذلك بقوله: ﴿وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم﴾ وقوله ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾. ﴿إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون﴾ أي لقد قضت إرادتنا أن يتولى الشياطين أمر غير المؤمنين وخولناهم الحق الكامل في إضلالهم وتزيين الشرور والآثام لهم وعصمنا المؤمنين الصادقين من سلطانهم فيما ورد في سورة الحج من قول إبليس {رب بما أغويتني لأزينن لهم
وفي هؤلاء يقول تعالى: ﴿إن الذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون﴾ وفي القرآن آيات كثيرة تنفي نسبة الضلال إلى الله ابتداء وتؤكد أن العذاب يوم القيامة لا يكون إلا نتيجة طبيعية لمخالفة أوامر الله خصوصًا ما حكاه عن أهل النار يوم القيامة إذ يقول تعالى: ﴿كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير * قالوا بلى قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير * وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير * فاعترفوا بذنبهم فسحقًا لأصحاب السعير﴾ ويقول تعالى: ﴿فأعرض عن من تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا * ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى * ولله ما في السماوات وما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى﴾.
بعد أن وصف الله في الآية السابقة أهل جهنم بأنهم هم الذين لا يستعملون عقولهم ومشاعرهم في أفضل ما خلقت له من معرفة الله والاهتداء بهديه ووصمهم بالغفلة التامة أعقب ذلك في هذه الآية بذكر العلاج الذي يستطيع كل إنسان أن يستعمله لإزالة تلك الغفلة عن قلبه ومشاعره ليكون من المهتدين فلا يقول إن الضلال أمر قدره الله عليه من الأزل فلا سبيل إلى تجنبه فقال ﴿ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها﴾ أي أن لله دون غيره جميع الأسماء الدالة على كمال الذات وحسن الصفات فالجئوا إليه بقلوبكم مخلصين واسألوه بها أن يهديكم ويبلغكم ما تشاءون دون حاجة إلى وسيط أو شفيع فقد أخذ الله على ذاته العلية عهدًا أن يستجيب لكل من دعاه حيث قال: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون﴾ وقد اشترط الله في هذه الآية أن يكون الدعاء بأسمائه الحسنى أي بالأسماء التي تدل على الكمال والحسن كالتي وردت في القرآن أو على لسان الأنبياء دون غيرها وقد سمع الرسول ﷺ رجلًا يقول: «يا ذا الجلال والإكرام» فقال: «فقد استجيب لك فسل» ولذكر الله فوائد كثيرة في بث روح الإيمان في القلوب ومراقبة الله وحبه والرغبة فيما عنده والثقة بنصره وتأييده وتفريج كربه فقد ورد في كتب الصحاح «من نزل به غم أو كرب أو أمر مهم فليقل لا إله إلا الله العظيم الحليم لا إله إلا الله رب العرش العظيم لا إله إلا الله رب السموات والأرض ورب العرش الكريم» وقال رسول الله ﷺ لابنته السيدة فاطمة رضي الله عنها: «ما
إلى الشدة في إكراه الناس على الإسلام وهو دين الحق والفطرة وإخضاعهم إلى اتباعه واتباع أوامر الله وهذا لم يكن عن اجتهاد منه ﷺ ولكن بمقتضى أمر إلهي كلف إبلاغه إلى الناس أجمعين.
حقًّا إن الناس أحرار أو الإسلام قد كفل حرية الفرد إلى أقصى درجات الحرية المعقولة حيث يقول عمر متى استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا ولكن ليس معنى الحرية الشخصية أن يذهب الفرد فيعتدي على حقوق الآخرين ويجرح إحساس الآخرين بل لا بد أن تكون تلك الحرية ضمن حدود قانون خاص وإلا انقلبت الحرية الشخصية إلى فوضى عامة تؤدي إلى هلاك الناس بعضهم بعضًا ومن أجل هذا أنزل الله القرآن دستورًا عامًّا للبشر وجعل من أوائل سورة التوبة مواد أساسية لرجوع الناس إلى الله وقواعد إجمالية يبني عليها طرق التعامل بين المؤمنين الموحدين وغيرهم من المشركين لهذا فإن من الواجب دراسة هذه المواد دراسة واسعة. لنكون على بينة من أمر ربنا وما جاء من عنده في هذا الخصوص قال تعالى: ﴿براءة﴾ البراءة مصدر برئ على وزن «تعب» وهي من الدين إذا أسقط عنه ومن العهد إذا تركه: ﴿من الله ورسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين﴾ أي أن الله قد أذن لرسوله أن يلغي ما سبق له من عهود مع المشركين الذين لا يدينون بشريعة سماوية بتشريع خاص تتلخص مواده فيما يأتي:
١ - :﴿فسيحوا في الأرض﴾ أيها المشركون: ﴿أربعة أشهر﴾ تبتدئ من عاشر ذي الحجة سنة تسع وهو تاريخ تبليغ هذا الإنذار لهم وتنتهي في العاشر من شهر ربيع الآخر من سنة عشر آمنين على أنفسهم لا يتعرض لكم المؤمنون خلالها بقتال ولا أذى وأنتم في خلال هذه المدة بالخيار بين الدخول في الإسلام أو التعرض للقتل والتنكيل إذا أنتم أصررتم على الشرك والعدوان.
٢ - :﴿واعلموا أنكم غير معجزي الله﴾ فأنتم لا تستطيعون أن تنفذوا من بين أرضه وسمائه وهو سبحانه القادر على إرغامكم على الخضوع لأوامره إذا أراد من غير حاجة إلى كبير عناء ولكنه ترك لكم حرية الاختيار لتحكموا عقولكم وتبدوا رأيكم في ترجيح الدخول في السلم أم إيثار القتال في الدنيا ودخول النار في الآخرة نتيجة للشرك بالله: ﴿وأن الله مخزي الكافرين﴾ في الدنيا والآخرة.
وإذا كان من العلماء من يقول بأن الحي لا يخرج إلا من الحي ويثبتون في أصول النبات من بذر ونوى وبيض ومن حياة فإنهم ينكرون أن الغذاء من الطعام الميت الذي يحرق بالنار هو الذي يولد الدم الذي يتكون منه البيض والمني المشتملان على مادة الحياة وأن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن ويلفظه ويتجدد فيه مواد حية جديدة تحل محل ما اندثر منه وخرج منه فالحجة على كل قائمة هناك من وضع لكل ما ذكر نظامًا لا يتخطاه هو الذي ينبغي أن يعرف: ﴿ومن يدبر الأمر﴾ في هذا الكون بنظام دقيق لا يخطئ وسنن لا تتغير من سير القمر والشمس والكواكب والليل والنهار في جميع الفصول وغير ذلك من مواعيد الزرع والحصاد والعمل والراحة: ﴿فسيقولون الله﴾ أي إن الجواب على هذه الاستفهامات لا يمكن أن يكون إلا بنسبة ذلك إلى الله إن لم يكن باللسان فبالقلب الذي لا يكابر في الحقائق: ﴿فقل﴾ لهم أيها الرسول: ﴿أفلا تتقون﴾ سخط الله وعقابه لكم على شرككم وعبادتكم لغيره ممن لا يملك من تلك الأمور شيئًا: ﴿فذلكم﴾ الذي يفعل كل ما ذكر هو: ﴿الله ربكم الحق﴾ الذي لا ريب في ربوبيته ويلزم من إيمانكم بهذا إيمانكم بأنه هو وحده الإله الذي لا يستحق العبادة أحد سواء: ﴿فماذا بعد الحق إلا الضلال﴾ أي ماذا بعد الهدى إلا الضلال والواسطة بين الطرفين المتناقضين ممنوعة: ﴿فأنى تصرفون﴾ أي فكيف تصرفون وتتحولون عن الحق إلى الباطل وذلك بأن تقروا بتوحيد الربوبية وتأتوا بما ينافي توحيد الألوهية من اتخاذ الشركاء والوسطاء إليه سبحانه وتعالى: ﴿كذلك﴾ أي ومن أجل ما ذكر من عدم تقواهم وانصرافهم عن الحق: ﴿حقت كلمة ربك﴾ أي نفذت سننه ووعيده: ﴿على الذين فسقوا﴾ أي خرجوا من حظيرة الحق بتفريقهم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية: ﴿أنهم﴾ بذلك: ﴿لا يؤمنون﴾ أي لا يكونوا مؤمنين لأنه ليس معنى الإيمان أن يعترف الإنسان بأن له ربًّا خلقه وخلق كل شيء بل أن يؤمن بأنه وحده الذي ينفع ويضر ولا يستحق الدعاء ولا يستطيع أن يحقق الآمال ويفرج الكروب أحد سواه وليس له وزير يؤتى أو حاجب يرشى.
بعد أن أمر الله رسوله أن يثبت وحدانية الله بأسلوب جديد هو أسلوب السؤال والجواب أخذ يأمره بإثبات البعث والرسالة بنفس الطريقة السابقة فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول للمعاندين من قومك: ﴿هل من شركائكم﴾ الذين تدعونهم لقضاء الحاجات وتلجئون إليها في الملمات: {من
الهدى وتضمن لهم سعادة الدارين وخير الحياتين: ﴿ولذلك﴾ أي ولأجل أن يكون الناس على وضع يخالف ما عليه سائر المخلوقات: ﴿خلقهم﴾ خلقًا متفاوتًا في طبائعه وعاداته وأخلاقه ومعتقداته حرًّا في تصرفاته مجزيًا على أعماله: ﴿وتمت﴾ أي نفذت وفق مشيئة الله في خلق الإنسان على النحو الذي أراده: ﴿كلمة ربك﴾ التي شاءها من الأزل وهي قوله: ﴿لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾ فلولا أنه تعالى قد منح هذا النوع البشري من المخلوقات الحرية في النية والقول والعمل بل جعله مجبرًا ومقهورًا في آرائه وتصرفاته لما صح أن يكون مسئولًا ومؤاخذًا على آرائه وتصرفاته ومعاقبًا على سيئاته ولما أمكن تطبيق هذه الكلمة على عباده من الجن والإنس ولما كان هناك شقي وسعيد وفريق في الجنة وفريق في السعير. ﴿وكلًا نقص عليك من أنباء الرسل﴾ أي وكل نوع من أنباء الرسل نقص عليك حديثه أيها الرسول بمختلف الأساليب وأروع العظات: ﴿ما تثبت به فؤادك﴾ أي ما نقصد به أن يكون قلبك قوي الإيمان بأنا لن نتخلى عنك وأنا سننصرك كما نصرناهم: ﴿وجاءك في هذه﴾ الأنباء: ﴿الحق﴾ الذي دعا إليه جميع أولئك الرسل من أصل دين الله وأركانه من التوحيد وإخلاص العبادة له وترك ما يستوجب سخطه من الفواحش والمنكرات: ﴿وموعظة وذكرى للمؤمنين﴾ الذين يتعظون بما حل بالأمم السابقة من عقاب الله والذين يتذكرون عواقب الظلم والفساد: ﴿وقل للذين لا يؤمنون﴾ بالله ولا يتعظون ولا يتذكرون: ﴿اعملوا على مكانتكم﴾ أي اعملوا ما في استطاعتكم لمقاومة الدعوة وإيذاء الداعي والمستجيبين له: ﴿إنا عاملون﴾ لنشر دعوتنا وتنفيذ أمر ربنا وطاعته،: ﴿وانتظروا﴾ بنا ما تتمنونه لنا من فشل دعوتنا بموتنا كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: ﴿أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون﴾.
﴿إنا منتظرون﴾ ما وعدنا الله به من النصر وظهور هذا الدين على الدين كله ولو كره الكافرون: ﴿ولله غيب السموات والأرض﴾ أي إن الله وحده الذي له كمال العلم بجميع الكليات والجزئيات والموجودات والمعدودات وما حضر وما غاب عن علم الناس مما وعد الله به عباده من نعيم وما توعدهم به من عذاب لا بد منه: ﴿وإليه يرجع﴾ بضم الياء وفتح الجيم وقرئ بفتح الياء وكسر الجيم: ﴿الأمر كله﴾ فهو الذي سبب الأسباب وقدر الأقدار ولا ينفذ شيء في النهاية إلا بإذنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن: ﴿فاعبده﴾ أي ادعه لتحقيق ما تريد فهو
رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (٤٤) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (٤٥) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (٤٦) فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (٤٧) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُواْ للَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (٤٨) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (٤٩) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (٥٠) لِيَجْزِي اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (٥١) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (٥٢)}
لقد بدأ الله السورة السابقة بما يشعر بأن ما ورد في القرآن من قصص الرسل السابقين هو من ضمن آيات الله التي قصد بها التشريع ثم عمل على إقامة الأدلة على التوحيد وإنكار الشركاء وإثبات النعم ومصير المتقين والمكذبين وختمها بما يطمئن رسوله بنجاحه في دعوته ويؤكد له نصر الإسلام وخذلان الكافرين سواء في عهده ﷺ أم بعد وفاته وحصر مهمته في أمر تبليغ الرسالة فإن لم يؤمن بها الناس فليكتف بشهادة الله ومن عنده علم الكتاب ثم جاءت بعدها هذه السورة موضحة ما للقرآن من أثر في هداية الناس على ممر الأيام فقال: ﴿الر﴾ وتنطق هكذا ألف. لام. راء. أي أن الله يقسم بالسر الذي أودعه أو الذي يعنيه من مدلول هذه الأحرف بأن القرآن: ﴿كتاب أنزلناه إليك﴾ أيها الرسول: ﴿لتخرج الناس﴾ بتلاوته عليهم: ﴿من الظلمات إلى النور﴾ أي من ظلمات الجهل المتعددة كالكفر والإلحاد والابتداع وغير ذلك إلى نور الهدى الذي لا سبيل للفلاح بدونه وهو معرفة الله لما اشتمل عليه من الآيات الداعية إلى إمعان النظر في حقائق الأشياء وأسرار الكائنات وعجائب المخلوقات الدالة جميعها على وحدانية الله ووجوب الاعتماد عليه لنيل السعادة وتحقيق الرغبات: ﴿بإذن ربهم﴾ أي بما أودعه تعالى فيه من سنن تؤدي بمتبعيها: ﴿إلى صراط العزيز﴾ أي إلى السبيل الذي رسمه العزيز لنيل العزة في هذه الحياة: ﴿الحميد﴾ أي السبيل الذي رسمه الحميد لنيل أنواع المحامد: ﴿الله الذي له ما في السماوات وما في الأرض﴾ كل ذلك ملك له وتحت تصرفه وتدبيره: ﴿وويل﴾ أي حلول الشر والهلاك: ﴿للكافرين﴾ به المنكرين
وحاشا العارف من هذا القول حاشاه إنما يقول أنا العبد الذليل في المسير والمقيل». (ص٧٨٠ جـ١).
ويقول في معنى (الاتحاد): «المراد من الاتحاد حيث جاء في كلام القوم فناء العبد في مراد الحق تعالى... » وكان ينشد:
@وعلمك أن كل الأمر أمري
#هو المعنى المسمى باتحاد
ومن المدسوس عليه أيضًا القول بأن أهل النار يتلذذون بدخولهم النار وأنهم لو أخرجوا منها تعذبوا بذلك الخروج. قال العارف الشعراني: «وإن وجد نحو ذلك في شيء من كتبه فهو مدسوس عليه، فإني مررت على كتاب الفتوحات المكية جميعه فرأيته مشحونًا بالكلام على عذاب أهل النار... إلى قوله: إذ الكشف الصحيح لا يجيء قط إلا مؤيدًا للشريعة ولا يقبل من صاحبها مخالفته لها» أهـ (ص٢٧٦ من الكبريت الأحمر طبعة ١٢٧٧):
ومما ينسب إليه البيتان الآتيان على هذا الوجه:
@الرب عبد والعبد رب
#يا ليت شعري من المكلف
@إن قلت عبد فذاك ميت
#وإن قلت رب أنى يكلف
وصحة البيتين هكذا:
@الرب حق والعبد حق
#يا ليت شعري ظهر المكلف
@إن قلت عبدًا فذاك ميت
#أو قلت رب فهو المكلف
وليس في هذين البيتين ما في الأولين من التحريف ولا ما يدل على سقوط التكليف.
وفيما نسب إليه افتراء عليه من القول بسقوط التكليف يقول العارف الشعراني: «وقد ذكر الشيخ محي الدين أنه لا يجوز لولي قط المبادرة إلى فعل معصية أطلع من طريق كشفه على تقديرها
وإذا كان من العلماء من يقول بأن الحي لا يخرج إلا من الحي ويثبتون في أصول النبات من بذر ونوى وبيض ومن حياة فإنهم ينكرون أن الغذاء من الطعام الميت الذي يحرق بالنار هو الذي يولد الدم الذي يتكون منه البيض والمني المشتملان على مادة الحياة وأن بعض مواد البدن الحية تموت وتخرج منه مع البخار والعرق وغيرهما مما يفرزه البدن ويلفظه ويتجدد فيه مواد حية جديدة تحل محل ما اندثر منه وخرج منه فالحجة على كل قائمة هناك من وضع لكل ما ذكر نظامًا لا يتخطاه هو الذي ينبغي أن يعرف: ﴿ومن يدبر الأمر﴾ في هذا الكون بنظام دقيق لا يخطئ وسنن لا تتغير من سير القمر والشمس والكواكب والليل والنهار في جميع الفصول وغير ذلك من مواعيد الزرع والحصاد والعمل والراحة: ﴿فسيقولون الله﴾ أي إن الجواب على هذه الاستفهامات لا يمكن أن يكون إلا بنسبة ذلك إلى الله إن لم يكن باللسان فبالقلب الذي لا يكابر في الحقائق: ﴿فقل﴾ لهم أيها الرسول: ﴿أفلا تتقون﴾ سخط الله وعقابه لكم على شرككم وعبادتكم لغيره ممن لا يملك من تلك الأمور شيئًا: ﴿فذلكم﴾ الذي يفعل كل ما ذكر هو: ﴿الله ربكم الحق﴾ الذي لا ريب في ربوبيته ويلزم من إيمانكم بهذا إيمانكم بأنه هو وحده الإله الذي لا يستحق العبادة أحد سواء: ﴿فماذا بعد الحق إلا الضلال﴾ أي ماذا بعد الهدى إلا الضلال والواسطة بين الطرفين المتناقضين ممنوعة: ﴿فأنى تصرفون﴾ أي فكيف تصرفون وتتحولون عن الحق إلى الباطل وذلك بأن تقروا بتوحيد الربوبية وتأتوا بما ينافي توحيد الألوهية من اتخاذ الشركاء والوسطاء إليه سبحانه وتعالى: ﴿كذلك﴾ أي ومن أجل ما ذكر من عدم تقواهم وانصرافهم عن الحق: ﴿حقت كلمة ربك﴾ أي نفذت سننه ووعيده: ﴿على الذين فسقوا﴾ أي خرجوا من حظيرة الحق بتفريقهم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية: ﴿أنهم﴾ بذلك: ﴿لا يؤمنون﴾ أي لا يكونوا مؤمنين لأنه ليس معنى الإيمان أن يعترف الإنسان بأن له ربًّا خلقه وخلق كل شيء بل أن يؤمن بأنه وحده الذي ينفع ويضر ولا يستحق الدعاء ولا يستطيع أن يحقق الآمال ويفرج الكروب أحد سواه وليس له وزير يؤتى أو حاجب يرشى.
بعد أن أمر الله رسوله أن يثبت وحدانية الله بأسلوب جديد هو أسلوب السؤال والجواب أخذ يأمره بإثبات البعث والرسالة بنفس الطريقة السابقة فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول للمعاندين من قومك: ﴿هل من شركائكم﴾ الذين تدعونهم لقضاء الحاجات وتلجئون إليها في الملمات: {من
ولم يعبأ بهم إذ هو: ﴿الْعَزِيزُ﴾ في سلطانه: ﴿الْحَكِيمُ﴾ في تصرفاته ربنا لا تؤاخذنا واغفر لنا واهدنا لما فيه رضاك وارجمنا فأنت أرحم الراحمين.
سورة الطلاق
مدنية وعدد آياتها اثنتا عشرة

(بسم الله الرحمن الرحيم)

يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (١) فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا (٢) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (٣) وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (٤) ذَلِكَ أَمْرُ اللهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (٥) أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم مِّن وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِن كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (٦) لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللهُ لا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلاَّ مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (٧) وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا (٨) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (٩) أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (١٠) رَّسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللهِ مُبَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَن يُؤْمِن بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللهُ لَهُ رِزْقًا (١١) اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (١٢)
من انكماشك حول نفسك: ﴿فأنذر﴾ أي اصدع بما تؤمر به من إنذار قومك: ﴿وربك فكبر﴾ أي وعظم ربك عن أن يكون وثنًا من الأوثان التي يعبدها قومك فإنه تعالى يجل عن التشبيه والتكييف بمعنى لا تشغل قلبك بسواه: ﴿وثيابك فطهر﴾ أي فاحرص على طهارة ظاهرك وما تلبسه من سائر النجاسات لئلا يستقذرك الناس فلا يقبلوا عليك: ﴿والرجز﴾ بكسر الراء وقرئ بضمها هو الإثم والذنب: ﴿فاهجر﴾ أي اقطع أو اترك بمعنى دع كل ما يؤدي إليه فيقتدي بك اتباعك فيمتنع الفساد وتسمو الأخلاق: ﴿ولا تمنن﴾ منَّ عليه بكذا أنعم عليه به من غير تعب بمعنى لا تتصدق بصدقة ثم: ﴿تستكثر﴾ برفع الراء أي ترى في نفسك أنك أعطيت شيئًا كثيرًا ذلك لأن ما لديك من مال كله من نعم الله عليك فمهما أعطيت منه في سبيله تعالى فهو قليل إلى جانب ما أعطاك: ﴿ولربك فاصبر﴾ أي لازم الصبر على كل ما يصيبك من ضيق أو مكروه أو أذًى لوجه ربك فإن دستوره تعالى يقضي بأنه لا بد بأن يعقب العسر باليسر ولكل شيء حد ونهاية، والشدة بداية الفرج وقد أعد الله للصابرين عنده أجرًا عظيمًا: ﴿فإذا نقر في الناقور﴾ النقر صوت يسمع من قرع الإبهام على الوسطى والناقور: البوق ينفخ فيه إيذانًا بقيام الساعة: ﴿فذلك يومئذ يوم عسير﴾ من العسر وهو الشدة وهو يوم القيامة الذي لا يملك أحد من الناس فيه شيئًا يفتدي نفسه به من عذاب الله: ﴿على الكافرين غير يسير﴾ أي صعب ليس فيه شيء من السهولة إذ هم يعطون كتبهم بشمالهم ويحاسبون حسابًا دقيقًا بخلاف المؤمنين فإنهم يعطون كتبهم بأيمانهم ويحاسبون حسابًا يسيرًا ويتغمدهم الله برحمته ورضوانه كما وعدهم في كتبه وعلى لسان رسله.
وبعد أن أمر الله رسوله في صدر السورة بالقيام بواجب الدعوة وفصل له ما ينبغي أن يكون عليه حال الداعين لله أخذ يفهمه بأن مهمته تنحصر عند هذا الحد فلا ينبغي أن يتعداها إلى التشبث بهداية الناس إلى حد النقمة عليهم والرغبة في إهلاكهم إذا لم يستجيبوا لدعوته فالهداية من الأمور التي ترجع إلى رغبة الإنسان فيها وطلبه لها بوسائلها التي رسمها الله له وذلك وفقًا للحرية التي منحها سبحانه وتعالى له من بدء التكوين وما على الرسول إلا البلاغ ولذا قال: ﴿ذرني﴾ أي إلى هنا انتهت مهمتك فأحل إليّ أمر التصرف بما ينبغي اتخاذه حيال من كذبك: ﴿ومن خلقت وحيدًا﴾ أي الذي خلقته وحيدًا بنفس واحدة قائمة بذاتها تسيطر على جميع أجزاء الجسم ولا سلطان لأحد عليها غير الله خالقها الذي وهب لها الحياة وينتزعها متى أراد: ﴿وجعلت له مالًا ممدودًا﴾ أي رزقًا
وقت ليؤدوا ما عليهم له تعالى من حقوق فالله سبحانه وتعالى إذ يضرب المثل برسوله يعني بهذا أن يدرك كل فرد منا مبلغ فضل الله الذي أودع الحب والرحمة في قلب والديه وهيأ له سبيل العلم وتسنم أعظم درجات الكمال ويسر له سبيل الرزق بمختلف الوسائل سبحانه وتعالى ما أعظم فضله وإحسانه.
سورة الانشراح
مكية عدد آياتها ثمان

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (٤) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ (٧) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨)﴾
سورة الانشراح: بعد أن ذكّر الله نبيه في السورة السابقة بآلائه الظاهرة له وللناس أجمعين أخذ سبحانه وتعالى في هذه السورة يشير إلى مبلغ هيمنته على دخائل النفوس وقدرته وحده على شرح الصدور وتفريج الكروب وإعلاء شأن من يحب وما تقتضيه سننه لنيل ذلك فقال: ﴿أَلَمْ نَشْرَحْ﴾ أي نوسع: ﴿لَكَ﴾ أيها الرسول: ﴿صَدْرَكَ﴾ بحيث يكون مستعداً لتقبل الهداية إلى طريق الحق ولولا ذلك لتأثرت بالبيئة المشركة التي نشأت فيها وسرت على منوال قومك فلم تعمل لمعرفة الله وطلب رضاه،: ﴿وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ﴾ الوزر الحمل الثقيل: ﴿الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ﴾ نقيض الظهر الصوت الذي يحدث في أثناء حمل الإنسان شيئاً ثقيلاً. وهذا الشيء الذي كان يكابد الرسول حمله إنما هو عبء الرسالة وتبليغها الناس كافة وما صادفه في سبيل ذلك من عنت الناس ومختلف أنواع الإيذاء والابتلاء فقد أعانه الله بالصبر وعظيم الجلد على الثبات في دعوته بما هو فوق طاقة البشر: ﴿وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ﴾ بما كتبناه لك من النصر على أعدائك وارتفاع صوت الإسلام الذي جئت به برغم أنف المكابدين والمعاندين، وكل هذا كان وفق ما جرت به سنتنا في الخلق التي تقضي بأنه متى ضاق الأمر اتسع، ومتى استحكمت حلقات الشدة فلا بد بعدها من فرج، ولا بد من طلوع الفجر بعد حالك الظلمة وقد عبر الله عن هذه القاعدة الكلية بقوله: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ والمراد بالعسر جميع أنواع العسر سواء ما كان منه ناشئاً عن شدة الفقر أو الضعف أو


الصفحة التالية
Icon