﴿فإن لكم﴾ فيها ﴿ما سألتم﴾ من البقول وغيرها. ﴿وضربت عليهم الذلة﴾ كتب عليهم الذل، لأن الله أراد عزهم بإسكانهم الأرض المقدسة فأبوا إلا الحنو إلى المكان الذي كانوا أذلاء فيه ﴿والمسكنة﴾ كتب عليهم أن يظهروا بمظهر الفقر والمتربة، لأن الله قد أغدق عليهم نعمة من غير كد فأبوا إلا أن يحصلوا عليها بالحرث والزرع، والتعب والنصب، ﴿وباءوا﴾ أي رجعوا ﴿بغضبٍِ من الله﴾ لسبب آخر غير هذا ﴿ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله﴾ التي تتلى عليهم، ومعجزاته التي تتجلى أمام أنظارهم ﴿ويقتلون النبيين﴾ الذين يدعونهم إلى الهداية، والرجوع عن العناد، والضلال ﴿بغير الحق﴾ مع علمهم في أنفسهم بأنهم أنبياء الله حقًّا وقد استحقوا ﴿ذلك﴾ أي ما أصابهم من ذلة ومسكنة ﴿بما عصوا﴾ ربهم والعصيان من شأنه إزالة النعم، واستحقوا حلول الغضب بهم لأنهم جحدوا نعمة الله عليهم، وكفروا بآياته ﴿وكانوا يعتدون﴾ على عباد الله، وفي مقدمتهم أنبياؤه، وقد دلتنا هذه الآية على القواعد الاجتماعية الآتية:
(١) كفران النعم يؤدي إلى الفقر والمسكنة.
(٢) محاربة الحق تؤدي إلى المذلة والهوان.
(٣) الإمعان في المعاصي ومبارزة الله بالعداء يؤدي إلى حلول النقم، وكثرة المحن.
وبعد أن عدد الله نعمه على بني إسرائيل، وذكرهم بما كان منهم من السيئات، وما حاق بهم من العذاب، وما ضرب عليهم من المذلة أراد سبحانه وتعالى أن يفهمهم بأنه فضلًا عن كل ما حدث فإنه لن يؤاخذ المجرم إلا بإجرامه، والمذنب إلا بذنبه فمن كان مؤمنًا بالله ورسله واليوم الآخر عاملًا على إرضائه بتنفيذ أوامره، واجتناب نواهيه، فلا حرج عليه، ولذلك قال: ﴿إن الذين آمنوا﴾ وهم أمة محمد ﷺ ﴿والذين هادوا﴾ بضم الدال وقرئ بفتحها وإسكان الواو أي اليهود من أتباع موسى في عهده ﴿والنصارى﴾ من أتباع عيسى في عهده ﴿والصابئين﴾ وقرئ «الصابين» من غير همزة وقرئ بإبدال الهمزة ياء أي بيائين وهم قوم يزعمون أنهم على دين نوح ﴿من آمن﴾ أي وثق حقيقة بقلبه ﴿بالله﴾ بأنه واحد، وأخلص له العبادة، ولم يشرك به أحدًا من خلقه ﴿واليوم الآخر﴾ أي وآمن بصحة ما أخبر به الرسل عنه ﴿وعمل﴾ عملًا ﴿صالحًا﴾ خالصًا من كل الشوائب والرياء موافقًا لما أشار به الرسل يبتغي به وجه الله ﴿فلهم أجرهم﴾ على ذلك لأن الإيمان بالله موجب لحبه، والخوف منه ودعائه في
فيها سعادتهم الأبدية ﴿والمغفرة﴾ أي لنيل المغفرة ﴿بإذنه﴾ لسابق إجازة منه في طلبها على حد قوله تعالى – فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه – ﴿ويبين﴾ الله ﴿آياته للناس﴾ أي وقد اقتضت حكمته سبحانه وتعالى أن يوضح أسرار التشريع للناس كما هو الحال في هذه الآية حيث بين الحكمة في عدم زواج المشركين هو أنهم يدعون إلى النار ﴿لعلهم يتذكرون﴾ فيستقيموا، لأن العاقل إذا عرف علة الحكم ودليله ومطابقته على المصلحة تمسك به وعمل على تنفيذه.
وعلى ذكر تعداد بعض الأحكام العامة، وكان من عادة اليهود والمجوس أن يبالغوا في التباعد عن المرأة في زمن الحيض وكانت النصارى بالعكس من ذلك يجامعونها ولا يبالون بالحيض، وكان الرجل في الجاهلية إذا حاضت المرأة يتباعد عنها فلا يؤاكلها ولا يشاربها ولا يجالسها ولا يساكنها في بيت واحد، فأنزل الله قوله تعالى ﴿ويسألونك﴾ أيها الرسول ﴿عن المحيض﴾ وحكمه ﴿قل﴾ إجابة لهم ﴿هو أذى﴾ موجب للضرر المحقق لكل من الزوجين، ولكنه ليس معنى هذا أن يخرج النساء بسببه من بيوتهن ولا يؤاكلن بل إن الواجب يقضي بأن يحذر الرجل من الاتصال بهن اتصالًا مباشرًا يفضي إلى وصول ذلك الأذى إليه منها ﴿فاعتزلوا النساء في المحيض﴾ امتنعوا عن إتيانهن في حالة تلبسهن بالحيض ﴿ولا تقربوهن﴾ في الموضع الذي يخرج منه الحيض طيلة مدة الحيض ﴿حتى يطهرن﴾ منه وقرئ ﴿يطّهّرن﴾ أي يغتسلن ﴿فإذا تطهرن﴾ بأن انقطع ذلك الحيض وامتنع الأذى بالطهر ﴿فاتوهن﴾ فلا مانع من إتيانهن ﴿من حيث أمركم الله﴾ من الموضع الذي فطر الله الناس على إتيانه والميل إليه، والذي حظر عليكم إتيان النساء منه في أثناء الحيض ﴿إن الله يحب التوابين﴾ الذين إذا خالفوا أمره فأتوا النساء في زمن الحيض أو في غير الموضع المألوف رجعوا إليه تائبين ﴿ويحب المتطهرين﴾ من الأحداث والأقذار ولقد اكتشف الطب في عصرنا هذا أن غشيان الرجل للمرأة في زمن الحيض يسبب التهابًا شديدًا في الأعضاء التناسلية وربما أدى إلى العقم.
لاَ تَعْلَمُونَ (٦٦) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلاَ نَصْرَانِيًّا وَلَكِن كَانَ حَنِيفًا مُّسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٦٧) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (٦٨) وَدَّت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (٦٩) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ (٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (٧١) وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٧٢) وَلاَ تُؤْمِنُواْ إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَن يُؤْتَى أَحَدٌ مِّثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (٧٣) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (٧٤) وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُم مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٥) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (٧٦) إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٧٧) وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُم بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (٧٨) مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَادًا لِّي مِن دُونِ اللَّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ (٧٩) وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (٨٠) وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّيْنَ لَمَا آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُواْ أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُواْ وَأَنَاْ مَعَكُم مِّنَ الشَّاهِدِينَ (٨١) فَمَن تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٨٢) أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (٨٣) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٨٤) وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (٨٥) كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُواْ أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٨٦) أُوْلَئِكَ
روى عن ابن عباس رضي الله عنهما: «أن أشراف الناس طمعوا أن يخصهم النبي ﷺ من الغنائم بشيء زائد فأنزل الله هذه الآية» ﴿وما كان لنبي﴾ من أنبياء الله ﴿أن يغل﴾ بضم الغين: يخون وقرئ "يغل" بضم الياء وفتح الغين بالبناء للمجهول والمراد به الآخذ خفية من الغنيمة قبل قسمتها لأن الله قد عصمهم من ذلك فكيف يتصور أن يصدر منهم ذلك ﴿ومن يغلل﴾ منهم فيأخذ شيئًا لنفسه بدون علم النبي خلسة فإنه سوف ﴿يأت بما غل يوم القيامة﴾ ويفتضح أمره.
عن أبي هريرة قال: قام فينا رسول الله ﷺ خطيبًا فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ثم قال: «لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته شاة لها ثغاء وعلى رقبته فرس يقول يا رسول الله أغثني فأقول لا أملك لك من الله شيئًا قد أبلغتك».
﴿ثم توفى كل نفس﴾ جزاء ﴿ما كسبت﴾ من الخير والشر كاملاً غير منقوص ﴿وهم﴾ أي الغالون في ذلك اليوم ﴿لا يظلمون﴾ فلا تغمط حسناتهم مقابل سيئاتهم بل يحاسبون بما لهم وما عليهم ﴿أفمن اتبع﴾ في كل أعماله ﴿رضوان﴾ بكسر الراء وقرئ بضمها هو الرضاء الكثير ﴿الله﴾ وحرص على أن لا يفعل أمرًا يغضبه هل يعقل أن يكون ﴿كمن﴾ لم يعمل شيئًا من الصالحات ولم يعبأ برضاء الله عنه حتى ﴿باء بسخط من الله﴾ فحرم رضوانه ﴿ومأواه جهنم﴾ يدخلها عن استحقاق ﴿وبئس المصير﴾ مصير من لم يتبع رضوان الله، كلا إنهما لا يستويان والفرق بينهما عظيم، وليس معنى هذا أنه سيدخل المحسنين الجنة ويدخل المسيئين النار فحسب، لا بل إنه تعالى بعظيم قدرته ووافر عدله قد نوّع الجزاء وأعد لكل ما يستحقه ﴿هم﴾ من اتبع رضوان الله ومن باء بسخطه ﴿درجات عند الله﴾ متفاوتون في المنازل ومراتب الثواب والعقاب بحسب ما كان لهم في الحياة من أعمال صالحة ونوايا حسنة، وما اقترفوا من مظالم وسيئات ﴿والله بصير بما يعملون﴾ فلا يصعب عليه تقرير درجاتهم وإنزالهم في منازلهم التي يستحقونها سواء في الجنة أم في النار.
بعد أن بين الله خطأ من تصور إمكان صدور الغلول من الرسول الأعظم ﷺ من أجلهم من كبار قريش وحماه من ذلك حيث قال: ﴿وما كان لنبي أن يغل﴾ أردف ذلك بما يشعرهم بأن بعثته عليه الصلاة والسلام في ذاتها نعمة من أجل النعم، ما كان لهم أن يطمعوا
وصف الله ما ينبغي اتخاذه حيال هؤلاء بقوله ﴿فلا تتخذوا منهم أولياء﴾ أي لا تقتلوهم ولا تنبذوهم ولكن اعملوا على جذبهم للإسلام وتمكين العقيدة في نفوسهم بالحكمة وحسن الأسلوب دون أن تثقوا بهم في الباطن ولا تكشفوا أسراركم إليهم ولا تستنصروا بهم على أعدائكم ﴿حتى يهاجروا﴾ وليس المراد بالهجرة هنا ترك البلاد لأنهم في دار الإسلام بل المراد التخلي عن النفاق لقوله صلى الله عليه وسلم: «المهاجر من هجر ما نهى الله عنه» ﴿في سبيل الله﴾ وابتغاء رضوانه وهذه الهجرة هي محك الإيمان فمن لم يقبلها فهو عن الجهاد بالنفس والمال أشد نفورًا وبعدًا عن الإيمان ومن رغب فيها فهو مؤمن وعندئذٍ فقط يمكنكم تصديقهم والاطمئنان بتأييدهم لكم ﴿فإن تولوا﴾ عن هجر ما نهى الله عنه ولكن لم يصدر منهم أي غدر أو تصد لقتال المسلمين ﴿فخذوهم﴾ بمعنى اعتقلوهم أو حددوا مكان إقامتهم تحت المراقبة ﴿واقتلوهم﴾ قتلًا أدبيًّا بنبذهم ومقاطعتهم وإبعادهم عن مجالسكم الخاصة والعامة وليس المراد بالقتل الحقيقي فإنه لم يسمع بأن الرسول عليه الصلاة والسلام قتل أحدًا من المنافقين لنفاقه بل إنه كثيرًا ما يهم الرجل من أصحابه بقتل المنافقين فيمنعه لئلا يقال: أن محمدًا يقتل أصحابه ﴿حيث وجدتموهم﴾ ولذا كان المسلمون يخرجون المنافقين من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿لا تتخذوا منهم وليًّا ولا نصيرًا﴾ هذا دليل على أنه ليس المراد بالقتل القتل الحقيقي وإلا فيكف يتصور عدم اتخاذهم نصراء وقد صدر الأمر بقتلهم ﴿إلا﴾ أي: ويستثنى من ذلك أقسام من المنافقين هم ـ أولًا ـ ﴿الذين يصلون﴾ أي: يتصلون بصلة قربى أو رحم ﴿إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق﴾ الميثاق العهد المحكم والمراد به عهد الإيمان أي: إلا أن تكون لهم صلة نسب بقوم من المؤمنين تجعلهم حراسًا عليهم وضامنين لهم ومسئولين عن تصرفاتهم السيئة ضد الإسلام كما كان شأن
وتاب وطلب تنفيذ الحد عليه في الدنيا ونفذ فيه فلا عذاب عليه في الآخرة. (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا) إلى الله من محاربته والسعي بالفساد في الأرض (مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ) أي من تلقاء أنفسهم وجاءوا إليكم مسلمين أنفسهم (فَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) أي إنه بالتوبة يسقط عنهم حق الله ليكون هذا باعثا لغيرهم على تسليم أنفسهم وهذا لا يعني أن تسقط بها أيضاً حقوق الآدميين بل ويرجع في ذلك إلى الأحكام المترتبة على ذلك فمن ثبت عليه قتل إنسان بعينه كان لولي الدم الحق في طلب الدية أو العفو وإن أخذ مالا وجب رده ولا تقطع يده.
بعد أن أوضح الله الأحكام التي من شأنها أن تمنع الناس من قتل الأبرياء والفساد في الأرض أشار إلى أن هناك من الوسائل الطبيعية ما من شأنه أن يحول دون الإجرام ويبسط ألوية السلام في العالم ويقيم صرح الأمن على أساس قوي ويضمن للناس السعادة
<٥٢>
في الدارين وهي فرع من الإيمان بالله ولذا وجه خطابه إلى المؤمنين فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وعلمه سبحانه وتعالى بكل ما تخفون وما تظهرون عليكم بأمور ثلاثة:
الأول: (اتَّقُوا اللَّهَ) أي راقبوه في جميع أعمالكم وتصوروه مطلعاً وعالماً حتى بما يدور في خلدكم من سيئ النيات تمنعكم هذه التقوى من ارتكاب سائر المحرمات صغيرها وكبيرها فإن السارق مثلاً إذا أراد السرقة وعلم أن إنساناً يراه لم يسرق فكذلك إذا هو أيقن أن الله مطلع عليه ساعة السرقة يمتنع عنها حتما.
الأمر الثاني: قوله (وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ) وهي في اللغة ما يتوصل به إلى الشيء أو يتقرب به إلى الله للحصول على ثوابه في دار البقاء ويراد بها في الشرع الأعمال الصالحة في هذه الحياة كما فسرها لنا الرسول ﷺ بقوله «انطلق ثلاثة رهط ممن كان قبلكم حتى أووا إلى غار فدخلوه فانحدرت عليهم صخرة من الجبل فسدت عليهم الغار فقالوا إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم قال رجل منهم اللهم كان أبواي شيخين كبيرين وكنت لا أغبق قبلهما أهلاً ولا ولداً فنأي بي شيء يوما فلم أرح عليهما حتى ناما فحلبت لهما غبوقهما فوجدتهما نائمين فكرهت أن
جعلناهم حصيدًا خامدين} وقال أصحاب الجنة التي أفسدها الله عليهم لسوء سلوكهم لما رأوها ﴿سبحان ربنا إنا كنا ظالمين﴾ ولما سأله نوح نجاة ابنه لم يقل له إني أغرقته بمحض مشيئتي من غير ذنب ولا سبب، بل أخبره أن ذلك لم يكن إلا لأنه عمل غير صالح. وقد ضمن سبحانه زيادة الهداية للمجاهدين في سبيله ولم يقل إنه يضلهم ويبطل سعيهم، وكذلك ضمن زيادة الهداية للمتقين الذين يبتغون رضوانه، وأخبر أنه لا ﴿يضل به إلا الفاسقين الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه﴾ وأنه إنما يضل من آثر الضلال واختاره على الهدى فيطبع حينئذ على سمعه وقلبه. كما أنه أوضح أسباب الهداية وأقام الحجج على أنه لا يضل إلا الفاسقين الظالمين، ولا يطبع إلا على قلوب المعتدين، ولا يركس في الفتنة إلا المنافقين بكسبهم. وأن الرين الذي غطي به قلوب الكفار هو عين كسبهم وأعمالهم حيث قال ﴿كلا بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون﴾ وقال عن أعدائه اليهود: ﴿وقالوا قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم﴾ وأخبرنا أنه لا يضل من هداه حتى يبين له ما يتقي، فيختار بسبب شقوته وسوء طبيعته، الضلال على الهدى والغي على الرشاد. ولزيادة الإيضاح وتصحيح تلك العقيدة الفاسدة وإرشاد الناس إلى معنى هذه الآية أقرر أن الفاعل فيها لا شك أنه الله غير أن الذي حملهم على هذا الفهم الخاطئ إنما هو عدم تفريقهم بين المشيئة والإرادة وجهلهم المقصود من القضاء والقدر. وقد فصلنا ذلك غير مرة في هذا التفسير وقلنا إن مشيئة الله معناها أحكامه التي يحمل المخلوقات عليها حملًا. وهي تشتمل ما يحبه الله وما يكرهه. وهي دستور القضاء والقدر الذي وضعه الله وأذاعه على عباده، لينفي عن ذاته العلية صفة الاستبداد والظلم. فأيما موضع استعمل الله فيه لفظ المشيئة فإنه يعني نظامه وسننه التي شاء الناس عليها من الأزل، مما سبق أن أعلنه في القرآن من أحكام قدرها لعمار هذا الكون وتنظيم شئون خلقه، وأخذ على ذاته العلية أن يؤاخذ الناس بمقتضاها. فهو سبحانه إذ يقول: ﴿عذابي أصيب به من أشاء﴾ مثلًا يعني من ينطبق عليهم نظام مشيئته الأزلية العادل وهو إذ يقول: ﴿وربكم أعلم بكم إن يشاء يرحمكم وإن يشأ يعذبكم﴾ فهو يعني أنه تعالى يوم القيامة بعد الحساب إن يشأ يعاملكم برحمته فيتجاوز عن سيئاتكم، وإن يشأ يعاملكم بعدله فيؤاخذكم بأعمالكم وفق دستوره فيعذبكم على ما اقترفتموه من المعاصي والسيئات، لا عن رغبة في التشفي والانتقام، اللذين هما من خصائص النفس البشرية ويتعالى الله عنها علوًا كبيرًا. وكذلك
في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين} نسأله تعالى أن يعصمنا منهم بفضله ورحمته.
بعد أن منّ الله على بني آدم بأنه خلق لهم أنواع الملبوسات وحذرهم من فتنة الشيطان لهم بمثل ما فتن أباهم آدم حيث زين له العرى والتطلع إلى ما وراء السوءتين وأكد لهم أنه لا ينفك عنهم أبدًا بإذن من الله خالقه الذي جعل له الولاية على الذين لا يؤمنون أخذ يعلن عباده بالوسائل التي سيدخل بها إبليس اللعين إلى قلوبهم فيوقعهم في الكفر من حيث لا يشعرون ليحذروا ذلك وليكونوا على بينة من أمرهم فقال ﴿وإذا فعلوا﴾ أي الذين لا يؤمنون ممن تولاهم الشياطين ﴿فاحشة﴾ وهي ما كان يفعله أهل الجاهلية من الطواف حول البيت عراة كما ولدتهم أمهاتهم وغير ذلك من الفواحش ﴿قالوا وجدنا عليها آباءنا﴾ الذين هم أعرف منا ولا سبيل لنا إلى ترك ما كانوا عليه وربما زاد المتدين منهم بقوله: ﴿والله أمرنا بها﴾ أي أن ذلك كان بقضاء الله وقدره فلو لم يقض الله علينا بالفاحشة ويقدرها علينا في أزله ما ارتكبناها ﴿قل﴾ لقد ضللتم فهم معنى القضاء والقدر ﴿إن الله لا يأمر﴾ أحدًا من الناس قط ﴿بالفحشاء﴾ وأوامر الله ليست هي أحكامه العامة أو دستور قضائه وقدره بل هي التي أنزلها في كتبه وأعلنها بواسطة رسله وكلف الناس بالعمل بمقتضاها كلا بمفرده فمن أي كتاب أخذتم هذا ﴿أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾ أي ما لم يكن لديكم دليل ثابت بصحته ﴿قل أمر ربي بالقسط﴾ أي العدل أي فلا تحيدوا عن قوله الحق باسترسالكم فيما ليس لكم به علم ﴿وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد﴾ أقام الشيء أدامه وأقام بالمكان دام فيه واتخذه وطنًا له والوجه يطلق على القلب لقوله تعالى: ﴿فأقم وجهك للدين حنيفًا﴾ والمعنى أمر ربي أن تتجهوا دائمًا بقلوبكم إلى الله في أثناء الصلاة ومواضع العبادة ﴿وادعوه مخلصين له الدين﴾ أي وتوجهوا إليه بالدعاء لقضاء الحوائج وتفريج الكروب بحضور قلب ويقين كامل بأنه وحده الذي يجيب الدعاء ويجب أن تخلص له سائر العبادات فإليه المرجع والمآب ﴿كما بدأكم﴾ خلقًا وتكوينًا بقدرته ﴿تعودون﴾ إليه يوم القيامة فريقين ﴿فريقًا هدى﴾ أي اتبع الهدى وهو الإيمان والعمل الصالح فاهتدى ﴿وفريقًا﴾ أعرض عن الإيمان وأصر على الكفر ومن أجل ذلك ﴿حق عليهم الضلالة﴾ ثبتت ضلالتهم وفق أعمالهم الكسبية إذ ﴿إنهم اتخذوا الشياطين أولياء من دون الله﴾ أي أطاعوهم في كل ما يزينونه لهم من الفواحش والمنكرات والبدع وفاسد المعتقدات التي تصور المولى جل وعلا بصورة ملوك الدنيا
يمنعك أن تسمعي ما أوصيتك به أن تقولي إذا أصبحت وإذا أمسيت يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين» وقد ورد في السنة: «أن لله تسعة وتسعين اسمًا من أحصاها دخل الجنة» وفي رواية: «من حفظها دخل الجنة وإن الله وتر ويحب الوتر» وليس في هذا ما يدل على أنه ليس لله اسم غير هذه الأسماء التسعة والتسعين وإنما المقصود الإخبار عن دخول الجنة بإحصائها وقد اختلف المحدثون في المقصود بهذه الأسماء وقد اعتنى جماعة من العلماء بتتبعها من القرآن من غير تقيد بعددها وسردوها لتحفظ كما يأتي:
قل هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم. الملك القدوس. السلام المؤمن. المهيمن العزيز. الجبار المتكبر. الخالق البارئ المصور. الغفار القهار. التواب الوهاب. الخلاق الرزاق الفتاح. العليم الحليم العظيم. الواسع الحكيم. الحي القيوم. السميع البصير. اللطيف الخبير. العلي الكبير. المحيط القدير. المولى النصير. الكريم الرقيب. القريب المجيب. الوكيل الحسيب. الحفيظ المقيت. الودود المجيد. الوارث الشهيد. الولي الحميد. الحق المبين. القوي المتين. الغني المالك الشهيد. القادر المقتدر. القاهر الكافي. الشاكر المستعان الفاطر البديع الغافر. الأول الآخر. الظاهر الباطن. الكفيل الغالب. الحكم العالم الرفيع الحافظ المنتقم. القائم المحيي المميت. الجامع المليك المتعالي. النور الهادي. الغفور الشكور. العفو الرؤوف. الأكرم الأعلى. البر الحفي. الرب الإله. الواحد الأحد الفرد الصمد. الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد». ولسنا نجزم بأن هذه هي عين الأسماء التي وردت الأحاديث بأن من أحصاها دخل الجنة بدليل أن الرسول ﷺ كان يدعو الله بقوله: «أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك أو أنزلته في كتابك أو علمته أحدًا من خلقك أو استأثرت به في علم الغيب عندك» وفي حديث آخر: «وأسألك بأسماك الحسنى ما علمت منها وما لم أعلم».
﴿وذروا الذين يلحدون في أسمائه﴾ أي دعوا ولا تجاروا الذين يلحدون بمعنى يميلون في أسمائه عن حقيقتها كأن يوصف جل جلاله بما لا يصح وصفه به أو أن يتأولوا أوصافه بما لا يليق به من تشبيه أو تعطيل أو زيادة أو نقص أو يسموه تعالى بما لم يسم به نفسه في كتبه وعلى لسان رسله كما يسميه جماعة الماسونية اليوم «مهندس الكون الأعظم» بدلًا عما ورد من أسمائه الحسنى
٣ - :﴿وأذان﴾ نداء بصوت جهوري يخترق الآذان بما ينبغي أن يعلم: ﴿من الله ورسوله إلى الناس﴾ أجمعين في: ﴿يوم الحج الأكبر﴾ الذي اجتمع فيه الناس إذ ذاك على اختلاف عقائدهم ودياناتهم ليعلم: ﴿أن الله بريء من المشركين﴾ الموجودين في الأرض الحرم أو الذين يريدون الحج دون أن يعتنقوا دين الإسلام: ﴿ورسوله﴾ أي من عهودهم وكل ما ينافي التوحيد من أعمالهم ومعتقداتهم وسائر الخرافات والعادات الجاهلية والضلال وغير ذلك: ﴿فإن تبتم﴾ عن ذلك واعتنقتم دين الإسلام الذي جاء به آخر الرسل من عند الله: ﴿فهو خير لكم﴾ في الدنيا والآخرة لأن هداية الإسلام هي سبيل السعادة: ﴿وإن توليتم﴾ وأعرضتم عن التوبة: ﴿فاعلموا أنكم غير معجزي الله﴾ فهو القادر على أن يبتليكم بالمصائب ويحل بكم من النقم في هذه الحياة الدنيا ما لا قبل لكم به سواء بأيدي المسلمين أو بتسليط بعضكم على بعض وإيقاع بأسكم بينكم: ﴿وبشر﴾ أيها الرسول أي توعد: ﴿الذين كفروا بعذاب أليم﴾ سينالهم منه عما قريب: ﴿إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئًا ولم يظاهروا عليكم أحدًا﴾ من أعدائكم فهؤلاء لا سبيل لكم عليهم ولا حق لكم في قتالهم ما داموا على عهدهم معكم: ﴿فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم﴾ التي أعطيتموهم العهد عليها: ﴿إن الله يحب المتقين﴾ الذين يراقبون الله في المحافظة على العهد وعدم إخفار الذمم ومراعاة النظام والعدل التام.
٤ - :﴿فإذا انسلخ﴾ أي تجرد الشهر من سنته بمعنى انقضت: ﴿الأشهر الحرم﴾ الأربعة التي تركتم لهم فيها حرية الاختيار ولم يدخلوا في الإسلام عن عقيدة واقتناع عنادًا واستمساكًا بالباطل ولم يرضوا بإخوتكم في فهم إذًا عاقون متمردون لا سبيل إلى إخضاعهم لأوامر خالقهم إلا عن طريق القوة وقد أصبحتم في حل من دمائهم فيجب أن تنفذوا ما أمر الرسول بتوعدهم به من العذاب الأليم: ﴿فاقتلوا المشركين﴾ الذين كانوا في الحرم وأنذرتموهم بالبراءة من العهد إن امتنعوا عن الخروج وحاولوا التمسك بعهدكم أو الذين يحاولون الحج من غير المسلمين: ﴿حيث وجدتموهم﴾ في حدود الحرم لأن الحالة التي بينكم أصبحت حالة حرب: ﴿وخذوهم﴾ أسرى إذا أسلموا أنفسهم لكم: ﴿واحصروهم﴾ اضربوا عليهم نطاقًا من الحصار إن كانوا معتصمين بمعقل أو حصن حتى ينزلوا على حكم الله ورسوله: ﴿واقعدوا لهم كل مرصد﴾ أي ضعوا لهم مراكز مراقبة في نهاية الطرق والفجاج المؤدية إلى مكة لئلا يعودوا إليها ثانيًا: ﴿فإن تابوا﴾ عن الشرك
يبدأ الخلق ثم يعيده} أي من يستطيع أن يوجد مخلوقًا من العدم ثم يفنيه ويعيد تركيبه مرة أخرى فإذا لم يجيبوا على هذا السؤال لما قد يداخلهم من أمل في قدرتهم على ذلك أو لأنهم لا يعترفون بأمر البعث: ﴿قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده﴾ أي إن الذي قدر نظام الحياة والموت هو الذي بدأ خلق جميع الكائنات وسيعيد خلقها مرة أخرى: ﴿فأنى تؤفكون﴾ أفكه عن رأيه صرفه عنه وقلب رأيه أي فيكيف تغيرون رأيكم عن هذا الأمر الذي هو من دواعي الفطرة فما دمتم تسلمون بأنه هو الذي خلقكم وسن لكم نظام الحياة والموت فلا داعي للتردد في صحة البعث والإيمان بمصير بني الإنسان: ﴿قل﴾ لهم أيها الرسول: ﴿هل من شركائكم من يهدي إلى الحق﴾ أي هل من هؤلاء من يمكنه أن يهبكم وسيلة من وسائل الهداية غير التي وهبها الله لكم من الحواس الظاهرة والعقل الباطن أو من يرسل لكم رسلًا وينزل كتبًا غير التي جاءت من عند الله فإذا لم يجيبوا على هذا أيضًا: ﴿قل الله﴾ ربي هو الذي: ﴿يهدي للحق﴾ بما منحكم به من تلك الوسائل الموصلة إليه فلولا ما أوتيتم من السمع والبصر والعقل ما استطعتم أن تتبينوا حقائق الأمور ولا أن تعلموا شيئًا عن صفات الله المعبود وما هو سبيل السعادة في هذا الوجود وهو سبحانه الذي أرسل رسوله محمد بن عبد الله وأنزل عليه القرآن دستورًا عالميًا يهدي إلى الرشد ويهدي إلى صراط مستقيم: ﴿أفمن يهدي إلى الحق﴾ وهو الله: ﴿أحق أن يتبع﴾ شرعه المنزل من عنده: ﴿أم من لا يهدي﴾ غيره: ﴿إلا أن يهدى﴾ بضم الياء الأولى «كيرمي» أي إلا أن يهديه غيره أو يلقن الهدى من سواه، وفي هذا إشارة إلى أن من أرسله الله من الرسل كعيسى ابن مريم والملائكة عليهم السلام كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه لا من تلقاء أنفسهم كما قال تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا﴾.: ﴿فما لكم كيف تحكمون﴾ أي ما الذي أصاب عقولكم حتى اتخذهم من هذه حالهم شركاء له أو جعلتموهم وسطاء بينكم وبينه ولا هادي لكم ولا أحد منهم سواه وكيف تحكمون بجواز دعائهم والتوسل بهم إلى الله دون إذن منه جل وعلا بذلك: ﴿وما يتبع أكثرهم﴾ في إنكار البعث وتكذيب الرسل وما جاءوا به من الإيمان بوحدانية الله وعدم دعاء غيره في الملمات وقضاء الحاجات: ﴿إلا ظنًّا﴾ أي إلا ضربًا من ضروب الظن الضعيف كما يشير إليه تنكير لفظ «الظن» وإنما كان ضعيفًا لأنه يقوم على أساس استبعاد غير المألوف، أو قياس الغائب والمجهول على
الذي إن شاء منحه لك وأقدرك عليه وإلا حال دونك ودونه بعظيم قدرته: ﴿وتوكل عليه﴾ ليتم لك ما وعدك به بما لا تبلغه استطاعتك: ﴿وما ربك بغافل عما تعملون﴾ جميعًا من خير أو شر أخذ على ذاته العلية أن يجزي عليه وقرئ «يعملون» وهذا نص في وعيد المشركين وحدهم بالجزاء على أعمالهم وقد صدق الله وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده.
لقدرته وسلطانه الذين يعبدون غيره أو يشركون معه سواه: ﴿من عذاب شديد﴾ لاتصافهم بصفات ثلاث الأولى قوله: ﴿الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة﴾ أي الذين ينالون في محبة الدنيا إلى حد يجعلهم يؤثرون متعها على العمل لنيل نعيم الآخرة الدائم فيمنعون في الانغماس في الملذات واتباع الشهوات ويكثرون من ارتكاب الموبقات مع الانصراف التام عن كل ما ينفع في يوم الزحام. الصفة الثانية قوله: ﴿ويصدون﴾ غيرهم من الناس: ﴿عن سبيل الله﴾ بما يزينونه لهم من ارتكاب المعاصي والإعراض عن الطاعات. الصفة الثالثة قوله: ﴿ويبغونها عوجًا﴾ أي يطلبون لها الاعوجاج بمعنى عدم الاستقامة بما يلبسون به الحق من شكوك تدعو إلى الزيغ والضلال وما يبتدعونه في الإسلام من عبادات فاسدة من شأنها أن تصرف الناس عن الفرائض والسنن وتوقعهم في مهاوي الزلل: ﴿أولئك﴾ الذين اتصفوا بهذه الصفات الثلاث: ﴿في ضلال بعيد﴾ لأن ضررهم وضلالهم لم يكن قاصرًا عليهم بل تعداهم إلى سواهم من المؤمنين وغير المؤمنين: ﴿وما أرسلنا من رسول﴾ من الرسل السابقين: ﴿إلا﴾ عهدنا إليه أن يخاطب الناس: ﴿بلسان قومه﴾ الذي يعرفه: ﴿ليبين لهم﴾ أي ليستطيع أن يفصح لهم عن حقيقة ما يدعو إليه ولذلك فإنا وإن أرسلناك للناس كافة لم نشق عليك أيها الرسول ببيان حقيقة شريعتك بلغة غير اللغة التي تجيدها أنت وهي اللغة العربية الفصحى التي أنزل القرآن بها وجعلناه بلاغًا للناس أجمعين بل أمرناهم بالإنصات إليه وتدبر معانيه والعمل وفق تعاليمه وحملنا الناس تبعة عدم الحرص على تعلم هذه اللغة لفهم كلامنا وجعلنا من ذلك سببًا في الضلال أو الهدى كما يشير إلى ذلك قوله: ﴿فيضل الله من يشاء﴾ لنفسه الضلال بعدم تعلمه اللغة العربية وعدم تدبره للبلاغ الصادر من رب العزة لهداية العباد وظنه أن جهله باللغة مما يخليه من المسئولية: ﴿ويهدي﴾ سبحانه: ﴿من يشاء﴾ لنفسه الهدى ممن استجاب لأمر ربه وحرص على تعلم اللغة العربية ليتفقه في دين الله ويعرف ما له وما عليه ويسير في الحياة على هداه ولهذا قال الشافعي بوجوب تعلم اللغة العربية على كل مسلم وهذا من سنن الله الاجتماعية والقواعد المرعية التي تقضي بأن كل دولة من الدول لا تصدر أنظمتها إلا بلغتها، وعلى كل من يريد أن يتعامل معها أو يقيم في أرضها أن يعلم بها ويمتثل حكمها ولا يعذر في مخالفته بعدم العلم بها لجهله بلغتها ومن هذا يفهم أن ترجمة القرآن بغير العربية كان خطأ ولا يعد قرآنًا ولا يعطى حكمه: ﴿وهو العزيز﴾ الذي لا يغالب حكمه: ﴿الحكيم﴾ في تصرفاته فإنه لو
عليه. كما أنه لا يجوز لمن كشف له أنه يمرض في اليوم الفلاني من رمضان أن يبادر للفطر في ذلك اليوم بل يجب عليه الصبر حتى يلتبس بالمرض لأن الله تعالى ما شرع الفطر إلا مع التلبس بالمرض أو غيره من الأعذار قال: وهذا مذهبنا ومذهب المحققين من أهل الله عز وجل» أهـ.
العارف الدسوقي: إن من أسخف وأسمج أنواع الدس والافتراء على الله تعالى ما نسب إلى هذا العارف (الطبقات الشرنوبية، ص٥ طبعتي ١٢٨٠ و ١٣٥١) من هذا الكلام: «أذن لي ربي أن أتكلم وأقول أنا الله. فقال لي قل أنا الله ولا تبالي» وفي هذا من الشناعة والاجتراء ما يغني عن الإطالة.
ولقد أحسن السيد شيخ الطريقة المحترم بالتبرؤ من هذا الكتاب الشنيع المؤسس على الكذب والدجل والإفساد والتخريف وكان المنبه عليه فضيلة الشيخ حسن النجار (انظر العددين ٤ و ٧ من مجلة الإسلام - السنة الخامسة).
ومن لطائف ما وقع للعارف الشيخ عبد القادر الجيلاني ما حكي عنه أنه قال: «تراءى لي مرة نور عظيم ملأ الأفق، ثم بدت لي فيه صورة تناديني. يا عبد القادر أنا ربك، وقد أسقطت عنك التكاليف، فإن شئت فاعبدني. وإن شئت فاترك. فقلت له اخسأ يا لعين، فإذا ذلك النور قد صار ظلامًا. وتلك الصورة صارت دخانًا. ثم خاطبني اللعين وقال لي يا عبد القادر نجوت مني بعلمك بأحكام ربك وفقهك في أحوال منازلاتك، ولقد أضللت بمثل هذه الواقعة سبعين من أهل الطريق فقيل للشيخ عبد القادر: من أين عرفت أنه شيطان، فقال بإحلاله لي ما حرمه الله على لسان رسوله ﷺ فإنه تعالى لا يحرم شيئًا على ألسنة رسله ثم يبيحه لأحد في السر أبدًا».
الإمام علي عليه السلام: وقد اختلف في نسبة كتاب (نهج البلاغة) إليه لما تضمنه من الطعن في الخليفتين الجليلين (أبي بكر وعمر رضي الله عنهما) قال العلامة اللغوي الشيخ حمزة فتح الله رحمه الله تعالى بعد نقل الخطبة المسماة بالشقشقية: «غير أن الحافظ الذهبي نص على أنه مكذوب عليه جزمًا قال لما فيه من الحط الصريح والسب للشيخين رضي الله عنهم أجمعين وهو الحق» (ص٢٢٨ جـ ٢ من المواهب الفتحية بولاق ١٣٢٦).
يبدأ الخلق ثم يعيده} أي من يستطيع أن يوجد مخلوقًا من العدم ثم يفنيه ويعيد تركيبه مرة أخرى فإذا لم يجيبوا على هذا السؤال لما قد يداخلهم من أمل في قدرتهم على ذلك أو لأنهم لا يعترفون بأمر البعث: ﴿قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده﴾ أي إن الذي قدر نظام الحياة والموت هو الذي بدأ خلق جميع الكائنات وسيعيد خلقها مرة أخرى: ﴿فأنى تؤفكون﴾ أفكه عن رأيه صرفه عنه وقلب رأيه أي فيكيف تغيرون رأيكم عن هذا الأمر الذي هو من دواعي الفطرة فما دمتم تسلمون بأنه هو الذي خلقكم وسن لكم نظام الحياة والموت فلا داعي للتردد في صحة البعث والإيمان بمصير بني الإنسان: ﴿قل﴾ لهم أيها الرسول: ﴿هل من شركائكم من يهدي إلى الحق﴾ أي هل من هؤلاء من يمكنه أن يهبكم وسيلة من وسائل الهداية غير التي وهبها الله لكم من الحواس الظاهرة والعقل الباطن أو من يرسل لكم رسلًا وينزل كتبًا غير التي جاءت من عند الله فإذا لم يجيبوا على هذا أيضًا: ﴿قل الله﴾ ربي هو الذي: ﴿يهدي للحق﴾ بما منحكم به من تلك الوسائل الموصلة إليه فلولا ما أوتيتم من السمع والبصر والعقل ما استطعتم أن تتبينوا حقائق الأمور ولا أن تعلموا شيئًا عن صفات الله المعبود وما هو سبيل السعادة في هذا الوجود وهو سبحانه الذي أرسل رسوله محمد بن عبد الله وأنزل عليه القرآن دستورًا عالميًا يهدي إلى الرشد ويهدي إلى صراط مستقيم: ﴿أفمن يهدي إلى الحق﴾ وهو الله: ﴿أحق أن يتبع﴾ شرعه المنزل من عنده: ﴿أم من لا يهدي﴾ غيره: ﴿إلا أن يهدى﴾ بضم الياء الأولى «كيرمي» أي إلا أن يهديه غيره أو يلقن الهدى من سواه، وفي هذا إشارة إلى أن من أرسله الله من الرسل كعيسى ابن مريم والملائكة عليهم السلام كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله ووحيه لا من تلقاء أنفسهم كما قال تعالى في سورة الأنبياء: ﴿وجعلناهم أئمة يهدون بأمرنا﴾.: ﴿فما لكم كيف تحكمون﴾ أي ما الذي أصاب عقولكم حتى اتخذهم من هذه حالهم شركاء له أو جعلتموهم وسطاء بينكم وبينه ولا هادي لكم ولا أحد منهم سواه وكيف تحكمون بجواز دعائهم والتوسل بهم إلى الله دون إذن منه جل وعلا بذلك: ﴿وما يتبع أكثرهم﴾ في إنكار البعث وتكذيب الرسل وما جاءوا به من الإيمان بوحدانية الله وعدم دعاء غيره في الملمات وقضاء الحاجات: ﴿إلا ظنًّا﴾ أي إلا ضربًا من ضروب الظن الضعيف كما يشير إليه تنكير لفظ «الظن» وإنما كان ضعيفًا لأنه يقوم على أساس استبعاد غير المألوف، أو قياس الغائب والمجهول على
سورة الطلاق: لقد أشار الله في السورة السابقة بوافر عدله إذ جعل الناس أحرارًا في عقائدهم منهم الكافر ومنهم المؤمن ودعا عباده إلى الإيمان به وبرسوله وكتابه وختم السورة بتحذير المؤمنين من الاستسلام للعاطفة وإيثار حب الزوجة والولد على طاعة الله ورسوله فإنهما كثيرًا ما يصدان عن سبيل الله وحث على التسامح معهم والصفح عنهم وعدم هجرانهم ولما كانت المرأة بقوة تأثيرها قد تصد الرجل عن طاعة الله فإنها كثيرًا ما تثير حفيظته وتغضبه وتحمله على طلاقها ولذا أخذ سبحانه وتعالى في هذه السورة يدعو إلى الرأفة بها واستعمال الحكمة معها بالصبر والتريث إذ دعاه إلى تخير الوقت المناسب للطلاق فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ﴾ لقد وجه الله النداء للنبي بشخصه ثم خاطب أمته إشارة إلى أنه عليه الصلاة والسلام في مقدمة المعنيين بالأمر إذ أنه ﷺ طلق زوجته حفصة وهي حائض عندما غضب عليها لأنها فشت ما أسرّ به إليها للسيدة عائشة وأظهره الله على ذلك فنبهه الله إلى هذا لم يكن صوابًا والسنة في الطلاق أن يكون في وقت تستطيع معه المرأة أن تبدأ العدة ليجعل الله للرجل من ذلك فرصة لإطفاء ثورة غضبه فقال: ﴿فَطَلِّقُوهُنَّ﴾ وقد قال صلى الله عليه وسلم: «تزوجوا ولا تطلقوا فإن الطلاق يهتز منه عرش الرحمن» وقال أيضًا: «لا تطلقوا النساء إلا من ريبة فإن الله لا يحب الذواقين والذواقات».
﴿لِعِدَّتِهِنَّ﴾ أي فليكن طلاقكم لهن في وقت يكن مستقبلات للعدة بمعنى في طهر لم يجامعها فيه رُوِيَ عن رسول الله ﷺ أنه قال لعبد الله بن عمر عندما طلق امرأته وهي حائض «ما هكذا أمرك الله وإنما السنة أن تستقبل الطهر استقبالًا وتطلقها لكل قرء طلقة» وأمره أن يراجعها ثم يمسكها حتى تطهر وتحيض عنده حيضة أخرى ثم يمهلها حتى تطهر من حيضها فإذا أراد أن يطلقها فيطلقها حين تطهر من قبل أن يجامعها فتلك العدة التي أمر الله أن تطلق بها النساء، وفي هذا ما فيه من دلالة على أن القصد عدم الاستعجال بالطلاق في كل وقت بل لا بد من تحري الوقت المناسب له ليجعل الله من هذا فرصة للرجل أن يهدأ من غضبه ويراجع نفسه ولا يتعجل الأمور فيندم على ما فعل: ﴿وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ﴾ وهي ثلاثة قروء والقرء الجمع بين زمن الطهر وزمن الحيض ولذا اشترط أن يكون الطلاق في طهر لم تجامع فيه المرأة حتى يحتسب لها من أصل العدة ولولا ذلك لطالت عليها مدة العدة حتى تصير كأنها أربعة أقراء وفي هذا من الضرر عليها ما لا
دائمًا على مدى الحياة من فضلي وكرمي وقلت في سورة هود: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾.: ﴿وبنين شهودًا﴾ أي بنين أحياء يشهدون بأني أنا الذي خلقتهم ووهبتهم له وقلت في سورة الشورى: ﴿لله ملك السماوات والأرض يخلق ما يشاء ويهب لمن يشاء إناثًا ويهب لمن يشاء الذكور أو يزوجهم ذكرانًا وإناثًا ويجعل من يشاء عقيمًا إنه عليم قدير﴾.: ﴿ومهدت له تمهيدًا﴾ مهد الأرض بسطها وعبدها والمعنى أنه تعالى مهد للإنسان في الحياة جميع السبل المؤدية لسعادته في الدنيا والآخرة وأنعم عليه بما ذكر من النعم التي تستوجب الشكر فلم يقدرها قدرها ولم يؤمن به ولم يمتثل أوامره: ﴿ثم﴾ هو بعد هذا كله: ﴿يطمع أن أزيد﴾ على ذلك بأن أعطيه في الآخرة مثل ما أعطيه في الدنيا: ﴿كلا﴾ لن نبلغه هذه الأمنية لأن نظام الآخرة يختلف عن نظام الدنيا فنعم الله في هذه الدنيا تعطى للمؤمن والكافر وكل حي وأما نعم الله في الآخرة فإنها مرتبطة ومعلقة على ما يقدم الإنسان من عمل.
والكافر بنعم الله في الدنيا لا يستحق شيئًا من النعم في الآخرة إذ: ﴿إنه كان لآياتنا عنيدًا﴾ عند عن الطريق مال وعدل عنه والعنيد من يخالف الحق وهو عارف به أي أنه كان يكابر في جميع آيات الله الدالة على وحدانيته وعدله وقدرته وصحة النبوة وأمر البعث والحساب والعقاب وما إلى ذلك ومن أجل هذا: ﴿سأرهقه﴾ أي سأكلفه: ﴿صعودا﴾ الصعود ضد الهبوط والمعنى أنه ما دام لا يؤمن بآياتنا فسنتركه وشأنه يجهد نفسه ويتخبط في التفكير فيما هو فوق مستواه العقلي لتبين الحق أو الواقع ونفس الأمر في كل شيء الأمر الذي لا يمكن للإنسان أن يصل إليه إلا بهداية الله ومن أجل هذا فإنه سيفشل في النهاية لا محالة: ﴿إنه فكر﴾ استعمل فكره في كل شيء: ﴿وقدر﴾ أن ما يقرره سيكون وأن ما يقوم به من الأسباب لا بد أن يؤدي إلى النتائج التي رسمها بحسب ما هداه إليه تفكيره: ﴿فقتل كيف قدر﴾ أي فني وضعف من حيث يظن القدرة على كل شيء كما يقال فلان قتله الجد أي أفناه وأضعفه: ﴿ثم قتل كيف قدر﴾ أي قتل فعلًا من حيث قدر لنفسه الحياة بمعنى أن هداية الفكر وما يوصل إليه من نظريات ومعلومات ومقدمات ونتائج كلها غير مطابقة للحقيقة التي في علم الله ولا تؤدي إلى الوقاية من أمر الله: ﴿ثم نظر﴾ إلى آيات القرآن وما تحمله من معان ودلائل كافية لهدايته لأقوم الطرق متى أراد: ﴿ثم عبس﴾ أي قطب وجهه: ﴿وبسر﴾ البسر: الاستعجال بالشيء قبل أوانه بمعنى أنه من شدة عناده أظهر العبوس قبل أن يتأمل فيما
المرض أو الجهل أو غير ذلك فكل عسر إذا قابله الإنسان بالصبر والجلد ووثق بوعد الله بتيسيره واستعمل وسائل الفكر والنظر والعمل المؤدية للخلاص منه عادة فلا بد من الفوز بما يسعى إليه من يسر. ولما كان هذا الأمر موضع ريب عند كثير من الناس خصوصاً في حالة اشتداد الكرب مما يؤدي إلى تطرق اليأس إلى النفوس أكد الله هذا الخبر مرة أخرى بقوله: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً﴾ أي إن هذا ما قضت به سنة الله ولن تجد لسنة الله تبديلاً فلا محل لليأس فإن اليأس من فرج الله موجب لسخط الله والمكابرة في السنن دليل على الجهل وضعف الإيمان،: ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ﴾ أي فإذا انتهيت من أي عمل من الأعمال وفق سنن الله: ﴿فَانصَبْ﴾ أي فاتعب بمعنى انتقل إلى عمل آخر ولا تقعد فارغاً فإن الله يكره العبد البطال،: ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ﴾ أي وكن دائم الصلة بالله راغباً منه العون لا من غيره على قضاء حاجاتك وتفريج كربك وتيسير أمورك تكن من الفائزين.
سورة التين
مكية عدد آياتها ثمان
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (٨)﴾سورة التين: بعد أن أشار الله في السورة السابقة إلى مبلغ هيمنته على دخائل النفوس وأنه تعالى هو الذي يشرح الصدور ويفرج الكروب ويعلي شأن من يحب وختم السورة ببيان سننه في نظام كونه من أنه يعقب العسر باليسر وفصل ما ينبغي على الإنسان عمله من ضرورة السعي باعتباره طاعة لله ومواصلة الأعمال والمواظبة عليها وطلب العون من الله دون سواه أخذ يوضح ما اقتضته مشيئته في خلق الإنسان ومدى مسئوليته عما يصدر منه من عمل وأقسم جل وعلا على ذلك بأربعة أشياء اختلف المفسرون في معرفة المراد من الأولَين وإن كانت حقيقتهما معروفة عند الجميع وهما قوله: ﴿وَالتِّينِ﴾ وهو الفاكهة الحلوة المعروفة: ﴿وَالزَّيْتُونِ﴾ وهو نوع من الفاكهة إلا أنه مر المذاق يملحه الناس ويتخذونه للغذاء ولم تتبين الحكمة في القسم بهما إلى جانب القسم بما يليها من الأماكن المشرفة؛ ولذا قال بعضهم: إنهما اسمان لجبلين لم يتأكدوا من مواضعهما، وقال آخرون: