السراء والضراء، ولأن الإيمان باليوم الآخر دليل على الإيمان بالرسل الذين جاءوا بأخباره، وختامهم النبي ﷺ وهذا ما يوجب اتباعهم والسير على منهاجهم، والتمسك بحقيقة أديانهم، وهذا هو العمل الصالح الذي يستجلب رضاء الله فلا غرو إذا ما وجد فاعلوه أجرهم ﴿عند ربهم﴾ في يوم الحساب ﴿ولا خوف عليهم﴾ في الدنيا من عذاب الله ونقمه ما داموا على هذه الحالة بناء على وعد الله السابق لهم ﴿ولا هم يحزنون﴾ في الآخرة على شيء حرموا منه أو لم يجدوه. بعد أن بين الله في الآية السابقة لبني إسرائيل أن الإيمان الكامل، والعمل الصالح، هما سبيل النجاة، أراد أن يعبر لهم عن مبلغ حمله وكرمه وفضله ورحمته، فذكرهم بأنه سبحانه وتعالى لم يكتف بمجرد إنذارهم، والتلويح لهم بخوارق العادات مع ترك الخيار لهم في قبول الهداية، أو عدمها، بل إنه أكرههم فعلًا على الإذعان لأوامره بقصد هدايتهم حيث قال ﴿و﴾ اذكروا ﴿إذ أخذنا ميثاقكم﴾ بوجوب الانقياد والطاعة وما اكتفينا بهذا بإقامة الحجة عليكم فحسب، بل تفضلنا ﴿ورفعنا فوقكم الطور﴾ أي الجبل تهديدًا لكم، شأن السيد الذي يحمل على عبده العصا للطاعة والانقياد، وقلنا لكم ﴿خذوا ما آتيناكم﴾ من الكتاب ﴿بقوةٍ﴾ وإلا ألقيناه عليكم وأهلكناكم أجمعين ﴿واذكروا ما فيه﴾ من أوامر وتعاليم وآيات بينات لتفهموها جيدًا فإنها كفيلة بإخضاع نفوسكم لله، واتباع دينه الحق ﴿لعلكم تتقون﴾ الله منزل ذلك الكتاب الذي أذعنتم له ساعة التهديد إذ أن ما يفعل بالإكراه يعود اختياريًا بالتعود ﴿ثم توليتم من بعد ذلك﴾ عن الطاعة، وتناسيتم الجبل الذي كاد ينقض عليكم، فأشفقنا عليكم، وأبقينا عليكم، وكان لنا أن نأتي بالجبل مرة أخرى ونوقعه عليكم فعلًا وأنتم لا تشعرون ﴿فلولا فضل الله عليكم﴾ برفع الجبل فوقكم حتى تبتم ﴿ورحمته﴾ بإمهالكم عند ما عصيتم ﴿لكنتم من الخاسرين﴾ الذين سلبوا نعيم الدنيا وخلدوا في نار جهنم في الآخرة. وبعد أن تفضل الله على بني إسرائيل ببيان مبلغ حلمه وفضله ورحمته، نبههم إلى أن ما حاق بهم من الأحداث، وما شهدوه من العبر، ما هو إلا نتيجة تلبسهم بأنواع خاصة من المعاصي ليأخذوا لهم من ذلك درسًا يرشدهم إلى أن السر فيما يجدونه في أنفسهم من ذلة وهوان، هو تعمدهم الاحتيال والتدليس حتى على الله حيث قال ﴿ولقد علمتم﴾ بأمر ﴿الذين اعتدوا منكم﴾ باحتيالهم على الله وحبسهم الحيتان ﴿في﴾ يوم ﴿السبت﴾ وقد نهوا عن الصيد فيه،
وعلى ذكر تعداد بعض الأحكام العامة، ولما كان الاعتقاد السائد عند الأنصار أن من المنكرات أن يأتي الرجل المرأة من دبرها في قبلها وكانت قريش تفعل ذلك، وكان اليهود يعتقدون أن إتيان المرأة بكيفية غير المعهودة عندهم يسبب مجيء الولد أحول، وقد رُوِيَ عن عمر أنه جاء إلى النبي ﷺ فقال هلكت يا رسول الله وحكى وقوع ذلك منه فأنزل الله هذا الحكم حيث قال عطفًا على ما سبق من قوله ﴿فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله﴾ ﴿نساؤكم حرث لكم﴾ واعلموا أن نساءكم هن بمثابة الأرض التي خلقت لتكون موضع نبت السلالة البشرية ﴿فأتوا حرثكم أنى شئتم﴾ على أي هيئة أردتم في الموضع الصالح للحرث والإنبات والمألوف عندكم، إذ القصد هو وضع النطفة في الموضع المخصص فيهم للاستيلاد، فأنتم في حل من تخير الهيئة التي تناسبكم في وضع النطفة أو إلقاء البذرة: أي سواء كان ذلك قيامًا أو قعودًا أو من الأمام أو من الخلف فذلك ما لا يعني الشارع بحال من الأحوال طالما كان موضع الغرس واحدًا معلومًا لديكم ولا يمكن استعمال «أنى» في هذا الموضع بمعنى أين لأن مكان الحرث واحد لا يتعداه، أما غيره فهو ليس بمحل صالح للحرث أو للاستيلاد ﴿وقدموا﴾ لهن ما يجب من إصلاح يعود خيره ﴿لأنفسكم﴾ فكما أن فلاحة الأرض وتعهدها بالسقي والإصلاح من شأنه أن يقوي الزرع ويرعرع إنتاجه كذلك تعهد المرأة بالإصلاح ورفع مستواها العقلي والديني والخلقي من شأنه أن يؤدي إلى إخراج أبناء بررة أقوياء صالحين يعبدون الله ويعملون على عمار الكون والتعاون لخدمة المجموع ﴿واتقوا الله﴾ فيهن ففي أيديكم إصلاح أخلاقهن أو فساد تربيتهن وعليكم تقع تبعة ما يترتب على جهلهن وسوء سلوكهن أو تعليمهن ما يعود ضرره على أبنائكم في الدنيا والآخرة ﴿واعلموا أنكم ملاقوه﴾ يوم القيامة فيسألكم عن كل ذلك ويحاسبكم عليه حسابًا عسيرًا ﴿وبشر المؤمنين﴾ الذي يعرفون مكانة المرأة في الإسلام فيهتمون بتقويم أخلاقها وتعليمها ما ثبت به روح الفضيلة في نفوس أبنائها ويعلمون ما يترتب على إهمالها واحتقارها من تعطيل لأهم عضو عامل في تكوين بناء الأمة وسعادتها في الحياة وبعد الممات.
جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (٨٧) خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (٨٨) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٨٩) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْرًا لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الضَّآلُّونَ (٩٠) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (٩١) لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (٩٢) كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًا لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُواْ بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرَىَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدىً لِّلْعَالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (٩٧) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (١٠١) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣) وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ تَفَرَّقُواْ وَاخْتَلَفُواْ مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١٠٧) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِّلْعَالَمِينَ (١٠٨) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ (١٠٩) كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم مِّنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ
بعدها بأن يخصهم الرسول بشيء زائد من الغنائم فقال ﴿لقد من الله على المؤمنين﴾ أجمعين من العرب والعجم بنعم عظمى لا تقدر:
أولها ﴿إذ بعث فيهم﴾ من قبله ﴿رسولا﴾ ولو لم يبعث لهم رسولاً لظلوا في الضلالة يعمهون.
ثانيها أنه اختار لهم سبحانه هذا الرسول ﴿من أنفسهم﴾ من الإنس يجلس ويخاطبهم وإن لم يقدر المشركون هذه النعمة حق قدرها فقالوا: ﴿أبعث الله بشرًا رسولا﴾ ولو أنه تعالى بعثه من الملائكة أو من الجن لصعب عليهم الاتصال به وتلقى الرسالة عنه. وهذا لا ينافي أنه تعالى قال في آية أخرى ﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم﴾ وأراد بقوله منهم قومه الأميين العرب.
وثالثها أنه عليه الصلاة والسلام ﴿يتلو عليهم﴾ على البشر الذين بعث إليهم كافة ﴿آياته﴾ آيات الله الدالة على التوحيد بإقسامة الثلاثة: الأول توحيد الربوبية، وهو الإيمان بوجود الله وقدرته وقضائه وقدره، والثاني توحيد الألوهية وهو الإيمان بتفرده سبحانه بالألوهية وتنزيهه عن الشركاء والصحب والولد وعدم استحقاق أحد للعبادة سواه، وأنه لا يعلم الغيب إلا هو والثالث توحيد الصفات وهو إثبات ما أثبته تعالى لنفسه من الصفات على مراد الله من غير تأويل ولا تشبيه ولا تعطيل.
﴿و﴾ رابعها أنه عليه الصلاة والسلام ﴿يزكيهم﴾ بتربيتهم على الطاعة وإخلاص العبادة حتى تسمو نفوسهم وتنضج عقولهم ويصبحوا مثلاً أعلى للفضائل والمكرمات.
﴿و﴾ خامسها أنه عليه الصلاة والسلام ﴿يعلمهم﴾ فقد ثبت أن النبي ﷺ لقن الناس القرآن كما كان يعلمهم كيف يحسنون الخط عن طريق النصح والإرشاد لا كمعلم خط ﴿الكتاب﴾ ظواهر الآيات القرآنية وأحكام الشريعة ﴿والحكمة﴾ تدبر كلام الله وفهم أسرار التشريع وفقه الأحكام وطرق الاستدلال ومحاسن الشريعة ومنافعها ﴿وإن كانوا من قبل﴾ أثناء الفترة التي سبقت بعثته عليه الصلاة والسلام ﴿لفي ضلال مبين﴾ فالعرب كانوا يعبدون الأصنام ويدعونها من دون الله ويؤمنون بالخرافات ويتبعون سيء العادات. وغيرهم من أهل الكتاب قد
عبد الله بن عبد الله بن أُبي ابن سلول الذي قال لرسول الله ﷺ عن والد رأس المنافقين: لقد بلغني أنك تريد قتل أبي فيما بلغك عنه فإن كنت لا بد فاعلًا فمرني به وأنا أحمل إليك رأسه، فأجابه الرسول ﷺ بقوله «بل نترفق به ونحسن صحبته ما بقي معنا» فدل هذا على جواز مجاملة هؤلاء بدليل أن الرسول ظل على مجاملته حتى أنه عاده في مرض موته وأجاب طلبه أن يصلى عليه بعد موته ويقف على قبره وأن يعطيه قميصه الداخلي ليكفن فيه.
والقسم الثاني: الذين عبر الله عنهم بقوله ﴿أو﴾ وهو معطوف على صلة الذين يصلون أي وإلا الذين ﴿جاءوكم﴾ من ديار الكفر وقد ﴿حصرت صدورهم﴾ أي ضاقت ﴿أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم﴾ وهم قوم بسطاء مسالمون لا هم يريدون قتالكم لأنهم انتسبوا إليكم بالإسلام ولا قتال أقاربهم لسابق الصلات التي بينهم ﴿ولو شاء الله﴾ لجعل سننه مقصورة على أحد ثلاث طرق: إما الإيمان أو الكفر أو النفاق وإذن ﴿لسلطهم عليكم﴾ في حالة الكفر أو النفاق ﴿فلقاتلوكم﴾ ولكنه تعالى من رحمته بكم أن قضت سننه في خلقه أن يجعل أنواعًا أخرى من الناس هم المحايدون أمثال هؤلاء ممن لا يهمه في الحياة إلا أن يعيش لنفسه ويراعي واجب حسن الجوار إلى من جاورهم وواجب الصلة القديمة بذوي قرابته فلا يكيد لأحد منهم ولا يقف منهم موقف العداء ﴿فإن اعتزلوكم﴾ أي الذين ﴿جاؤوكم حصرت صدورهم﴾ بمعنى أقاموا في ناحية خاصة ولم يحاولوا الاحتكاك بكم ﴿فلم يقاتلوكم﴾ بالتجسس عليكم لحساب أعدائكم وإلقاء بذور الشقاق بينكم ﴿وألقوا إليكم السلم﴾ وقدموا لكم واجب الطاعة والخضوع لأمرائكم ﴿فما جعل الله لكم عليهم سبيلًا﴾ لإضرارهم والتنكيل بهم من
أغبق قبلهما أهلاً أو ولداً فلبثت والقدح في يدي أنتظر استيقاظهما حتى بزغ الفجر فاستيقظا فشربا غبوقهما اللهم إن كنتُ فعلت ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة فانفرجت شيئاً لا يستطيعون الخروج منه وقال الآخر اللهم كانت لي ابنة عم أحب الناس لي فراودتها عن نفسها فامتنعت مني حتى ألمت بها سنة من السنين فجاءتني فأعطيتها عشرين ومائة دينار على أن تخلي بيني وبين نفسها ففعلت حتى إذا قدرت عليها قالت: لا أحل لك أن تفض الخاتم إلا بحقه فتحرجت من الوقوع عليها فانصرفت عنها وهي أحب الناس إلى وتركت الذهب الذي أعطيتها اللهم إن كنت فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة غير أنهم لا يستطيعون الخروج منها وقال الثالث: اللهم إني استأجرت أجراء فأعطيتهم أجورهم غير رجل واحد ترك الذي له وذهب فثمرت أجره حتى كثرت منه الأموال فجاءني بعد حين وقال: يا عبد الله أدِّ لي أجري فقلت له كل ما ترى من أجرك من الإبل والبقر والغنم والرقيق فقال يا عبد الله لا تهزأ بي فقلت إني لا أستهزئ بك فأخذه كله فاستاقه فلم يترك منه شيئا اللهم إن كنتُ فعلتُ ذلك ابتغاء وجهك فافرج عنا ما نحن فيه فانفرجت الصخرة فخرجوا يمشون»
<٥٣>
غير أن جماعة من المشتغلين بعلوم الدين زعموا أن المراد من الوسيلة التوجه إلى الله برسوله أو أحد المقربين إليه إذ يقولون اللهم بجاه فلان وجاه علان وهذا قول يراد به تشبيه الله جل جلاله بملوك الدنيا المستبدين الذين يقوم أساس حكمهم على شفاعة الشافعين ومراعاة خاطر المقربين وهو زعم ظاهر الفساد من عدة وجوه:
أولا: لأن التوسل بذات النبي ﷺ وهو أشرف المخلوقات لم يثبت بحديث واحد صحيح عنه ولم يثبت عن أحد من الصحابة أنه توسل بذات النبي ﷺ لا في حياته ولا بعد وفاته لا عند قبره ولا بعيداً عنه بل إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يتوسلون بدعائه لهم يوم كان حياً وعندما انتقل إلى الرفيق الأعلى واحتبس المطر عنهم لم يفكروا في التوسل به ولا بدعائه بل جمع عمر رضي الله عنه المهاجرين والأنصار وجاء بالعباس وطلب منه أن يدعوا الله لهم بالغيث ثم
الحال في هذه الآية معناها أيما شخص يقضي نظام المشيئة في حقه الضلال ممن سلك السبيل إليه يضله الله بمعنى يوصله الله إلى غايته وفق سننه التي أخبرنا بها في قوله: ﴿وما يضل به إلا الفاسقين﴾ وأيما شخص يقضي نظام المشيئة في حقه الهدى ممن يسلك السبيل إليه يجعله على صراط مستقيم أي يجنبه ويبعده عن مواضع الزلل بفضله ورحمته وفق سننه التي أخبرنا بها في قوله: ﴿يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء﴾ وقوله: ﴿والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا﴾ فأمر الهدى والضلال لا يأتي ابتداء بل وفق مشيئة الله الأزلية والدستور الذي سنه لها. وبمقتضى وعده القائل: ﴿كلًا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك﴾ والمشيئة هنا وإن كانت غامضة أو مجملة ولكنها مفصلة في سائر الآيات فيجب حمل هذا المجمل على تلك المفصلات.
بعد أن أخبر الله رسوله بأنه جعل لكل حي في الوجود دستورًا يسير عليه، وسننًا لا يمكن تخطيها، وأن له بعد ذلك الكلمة العليا والأمر الأخير، حيث لا ينفذ مقتضى السنن إلا بإذن الله، الذي يستطيع أن يجنب عن الضلال من يريد، ويمد الطاغين في طغيانهم، ولا يعارض في ضلالهم، متى سلكوا سبل الضلال، لينالوا عقابهم؛ أخذ يدعم هذه الحقيقه الثابته فأمر رسوله أن يحذر الناس من سلوك سبل الضلال، ويدعوهم إلى طريق الهدى وهو معرفة الله والرجوع إليه بالدعاء والضراعة، ليحول دونهم ودون ما قد يصيبهم نتيجة لسيئات أعمالهم فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول للناس أجمعين ﴿أرأيتكم﴾ وقرئ «أريتكم» بتخفيف الهمزة أي أرأيتم أنفسكم كيف يكون حالكم ﴿إن أتاكم عذاب الله﴾ الذي كان ينزل على من كان من قبلكم كالريح الصرصر العاتية والصاعقة أو الرجفة القاضية ومياه الطوفان وما إلى ذلك من المصائب العامة ﴿أو أتتكم الساعة﴾ أي ساعة الموت التي لا بد منها لكل حي بظهور مقدماتها من شدة الأمراض ومختلف الإصابات ﴿أغير الله تدعون﴾ للطف بكم وكشف الضر عنكم والنجاة من خطر الموت الذي يهددكم ﴿إن كنتم صادقين﴾ في شعوركم بالحاجة إلى من ينقذكم من كل ذلك ﴿بل إياه تدعون﴾ في مثل تلك الحالات والساعات الحرجة. ولا تذكرون أحدًا ممن كنتم تدعونهم في حال الرخاء لطلب العون وتحقيق المطالب ممن تزعمونهم شركاء الله أو شفعاء عنده ﴿فيكشف﴾ سبحانه وحده ﴿ما تدعون إليه﴾ أي ما دعوتم الله من أجله بأمر خاص يوقف به
المستبدين الذين يقوم أساس حكمهم على شفاعة الشافعين والتوسل إليهم بالجلساء والمقربين مع أن العدل والشفاعة ضدان لا يجتمعان ولا يرون في دعاء غير الله بتحقيق ما لا يقدر عليه سواه عبادة بل يحضون الناس على التوسل إلى الله بأحد من خلقه ممن لا يعلم حقيقته غير الله أو يقصدون الأنبياء والأولياء لتفريج الكرب وقضاء الحوائج إلى غير ذلك من المنكرات التي تنطلي على البسطاء فيطيعونهم في كل ذلك ويتبعونهم فيه ﴿ويحسبون أنهم مهتدون﴾ لأنهم مقلدون في هذا من هم في نظرهم أعرف منهم بشؤون الدين أصلحنا الله وإياهم وهدانا جميعًا إلى سواء السبيل.
بعد أن امتن الله على بني آدم بما أنزل لهم من لباس يواري سوأتهم وريشًا ثم حذرهم من فتنة الشيطان لهم بالتطلع إلى ما وراء الستر من السوءتين كما هو شأنه منذ خلق آدم وأنذرهم بسلطانه عليهم أو تداخله في كافة شؤونهم وضرب لهم مثلًا بوساوسه التي سيضلهم بها ليحذروها أخذ يدعوهم إلى عدم الاكتفاء في اللباس بما يستر العورة بل لا بد من المبالغة في ذلك إلى حد الزينة وتجميل الخلقة فقال ﴿يا بني آدم خذوا زينتكم﴾ أي جملوا مناظر أجسامكم بالثياب الحسنة المتعددة التي تقيكم حرارة الشمس وقارص البرد وتبعد عن دواعي الفتنة ﴿عند كل مسجد﴾ أي في بيوت الله وأوقات العبادة وفي غيرها من المجتمعات العامة من باب أولى فقد أخرج الطبراني والبيهقي عن رسول الله ﷺ قوله «إذا صلى أحدكم فليلبس ثوبيه فإن الله عز وجل أحق من يتزين له فإن لم يكن له ثوبان فليتزر إذا صلى ولا يشتمل أحدكم في صلاته اشتمال اليهود» أي لا يتلفف به ويديره على جسمه كله. وروى البخاري ومسلم قال «لا يصلين أحدكم في الثوب الواحد ليس على عاتقه منه شيء» وكان ﷺ يقول عند الكسوة «الحمد لله الذي رزقني من الرياش ما أتجمل به في الناس وأواري به عورتي». وكان يقول «حبب إلي من دنياكم الطيب والنساء وجعلت قرة عيني في الصلاة» ورُوِيَ عنه قوله «إن الله طيب يحب الطيب نظيف يحب النظافة كريم يحب الكرم جواد يحب الجود فنظفوا أفنيتكم – إلا فنية المساحة أمام البيت – ولا تشبهوا باليهود» ودخل رجل عليه ﷺ وهو ثائر الرأس واللحية فأشار إليه بيده كأنه يأمره بإصلاح شعره ولحيته ففعل ثم رجع فقال صلى الله عليه وسلم: «هذا خيرًا من أن يأتي أحدكم ثائر الرأس كأنه شيطان» وكان ينهي النساء من حلق رؤوسهن وكان يدعوا إلى الخضاب ويقول «إن أحسن ما يغير به الشيب الحناء والكتم»، وروى أنس قال وقَّت لنا رسول الله صلى الله
﴿سيجزون ما كانوا يعملون﴾ أي سيلقون جزاء عملهم هذا عن قريب في الدنيا قبل الآخرة ولعل أقرب جزاء لهم أن لا يستجاب لهم والله أعلم.
بعد أن أخبر الله جل جلاله أنه ذرأ لجهنم كثيرًا من الإنس والجن ووصفهم بما وصفهم به من إفسادهم لفطرتهم وتعطيلهم لمواهبهم وأخبرهم بالعلاج الشافي الذي يستطيعون استعماله لإزالة الغفلة عن قلوبهم ومشاعرهم ليكونوا من المهتدين قفا على ذلك بذكر من عداهم فقال ﴿وممن خلقنا﴾ ولم يقل ذرأنا إشارة إلى أنه تعالى لم يذرأهم للجنة وإنما هم على أقسام منهم المهتدون ومنهم المكذبون ومنهم أصحاب شبه فصلهم بقوله ﴿أمة﴾ أي جماعة واحدة كبيرة مؤلفة من شعوب وقبائل كثيرة العدد تجمع بين أفرادها رابطة واحدة هي أنهم ﴿يهدون بالحق﴾ أي يجدون في أنفسهم رغبة في هداية الناس بكلمة الحق ويدلونهم على الاستقامة ﴿وبه﴾ أي وبتمسكهم بالحق ﴿يعدلون﴾ أي يكونون دائمًا في جانب الحق يقضون به ويجاهدون لأجل نصرته بكل ما يملكون قال ﷺ عند تلاوة هذه الآية: «هذه أمتي بالحق يحكمون ويقضون ويأخذون ويعطون» وفي رواية أنه كان يقول إذا قرأها: «هذه لكم وقد أعطى القوم بين أيديكم مثلها» يعني قوم موسى إذ قال تعالى: ﴿ومن قوم موسى أمة يهدون بالحق وبه يعدلون﴾ وقال صلى الله عليه وسلم: «لتفترقن هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا فرقة واحدة» وقال سيدنا علي كرم الله وجهه عند تلاوته هذه الآية: «فهذه هي التي تنجو من هذه الأمة» وصرح بهذا رسول الله ﷺ حيث قال: «لا تزال من أمتي طائفة على الحق إلى أن يأتي أمر الله» ورُوِيَ «لا تزال من أمتي قائمة بأمر الله وهم ظاهرون» أما غير هؤلاء ممن أرسل لهم الرسول ﷺ من الناس كافة حتى قيام الساعة فقد فصل الله ما قضت به مشيئته في أمرهم بقوله ﴿والذين كذبوا بآياتنا﴾ المنزلة على رسولنا محمد ﷺ سواء بجحودها أو عدم الاعتراف بها أو بعدم اتباعها والائتمار بأوامرها والاتعاظ بما فيها ﴿سنستدرجهم﴾ الاستدراج هو إدناؤهم من الشيء درجة درجة شيئًا فشيئًا في المراقي والمنازل والمعنى أنه تعالى سيدعهم يسترسلون في غيهم وضلالهم ﴿من حيث لا يعلمون﴾ شيئًا في عاقبة أمرهم؟ نتيجة تكذيبهم لتلك الآيات وجهلهم بما جاء فيها من النذر إذ يكونون بعملهم قد جنوا على أنفسهم ﴿وأملي لهم﴾ الإملاء: الإمداد في الزمن والإمهال والتأخير يقال أملى للبعير إذا أرخى له الزمام ووسع له في القيد ليتسع له المرعى،
وذلك بالنطق بالشهادتين: ﴿وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ اللذين هما من أهم فرائض الإسلام: ﴿فخلوا سبيلهم﴾ واتركوا لهم حريتهم بالكف عن القتال والحصار وغير ذلك: ﴿إن الله غفور﴾ لما سبق من الشرك: ﴿رحيم﴾ لا يؤاخذ الناس بما كسبوا متى تابوا إليه وأنابوا.
٥ - :﴿وإن أحد من المشركين استجارك﴾ طلب منك أن تؤمنه على نفسه حتى يأتي إليك ويفهم منك حقيقة ما تدعو إليه لعله يقتنع بدينك: ﴿فأجره﴾ واسمح له بالحضور آمنًا على حياته: ﴿حتى﴾ يحضر: ﴿ويسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه﴾ ليتدبر في أمره ويختار ما يراه ولا تحاول أن تفرض عليه الإسلام فرضًا أو تستخلص منه الاعتراف تحت تأثير الضغط والخوف وهو في بلادك: ﴿ذلك﴾ الأمر بإجارة المستجير من المشركين وتبليغهم مأمنهم: ﴿بأنهم قوم لا يعلمون﴾ لا يدرون ما هو الإيمان ومن حقهم أن يعلموا حقيقته ليعتنقوه عن عقيدة ويقين إذ لا يكفي فيه مجرد التقليد والمجاملة.
وبعد أن أتم الله سرد هذه الأحكام شرع في ذكر الأسباب الموجبة لها فقال:
(١): ﴿كيف يكون للمشركين عهد عند الله﴾ حتى يفي لهم به وتفون لهم به اتباعًا: ﴿وعند رسوله﴾ أي بأية صفة أو بأي حق يكون لهم عند الله عهد يقره لهم في كتابه ولا وازع يحفزهم على الوفاء بالعهود وقد كانوا على الدوام حربًا على بعضهم والمعاهدات التي بينهم إنما تحترم تبعًا للقوة والضعف وقلما يفي القوي للضعيف كما حصل من يهود المدينة ومن نقض بني بكر ومن ناصرهم من أكابر قريش لعهد الحديبية: ﴿إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام﴾ بعهد خاص لم ينقضوه: ﴿فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم﴾ إذ لا يجوز أن يكون الغدر ونقض العهد من قبلكم: ﴿إن الله يحب المتقين﴾ الذين يراقبون الله في حفظ عهودهم.
(ب): ﴿كيف يكون للمشركين﴾ غير هؤلاء الذين جربتم وفاءهم عهد مشروع عند الله وهو سبحانه يعلم ما في نفوسهم: ﴿و﴾ الحال المعروف من أخلاقهم وأعمالهم أنهم: ﴿إن يظهروا عليكم﴾ بقوتهم: ﴿لا يرقبوا فيكم إلا﴾ أي قرابة أو حلفًُا: ﴿ولا ذمة﴾ أي عهدًا أو أمانًا ولا تأخذهم فيكم شفقة ولا رحمة إذ لا رابطة ولا علاقة بينكم تحملهم على حبكم والعطف عليكم وكل ما هنالك أنهم: ﴿يرضونكم بأفواههم﴾ مجاملة وخداعًا في حال ضعفهم: ﴿وتأبى قلوبهم﴾ أن تخلص لكم الود أو تحفظ لك أي عهد: ﴿ويقولون بألسنتهم﴾ ما يجعلكم ترضون به عنهم: {ما
الحاضر والمعروف، وتقليد الآباء أو العلماء ثقة بهم وتعظيمًا لشأنهم أما غير الأكثر فكانوا يعلمون أن ما جاءهم به الرسول هو الحق والهدى وأن أصنامهم وغيرها مما عبدوا لا تنفع ولا تشفع ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله عنادًا واستكبارًا في الأرض وظنًّا بأنفسهم أن يكونوا تابعين لمن يرونهم أقل منهم جاهًا وعلمًا: ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئًا﴾ أي لا يجعل صاحبه غنيًا بعلم اليقين في الحق بحيث لا تؤثر فيه عواصف الشبهات، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن العلم اليقيني واجب في الاعتقادات وأن إيمان المقلد غير صحيح ويدخل في الاعتقادات الإيمان بوجوب أركان الإسلام وغيرها من الفرائض والواجبات القطعية والإيمان بتحريم المحظورات القطعية كذلك: ﴿إن الله عليمٌ بما يفعلون﴾ من الأعمال الناشئة عما في النفس من عقائد والتي يترتب عليها الحساب والجزاء وفي هذا إشارة إلى أن الله لا يحاسب ولا يعاقب إلا على ما يصدر من الإنسان من عمل يخالف الاعتقاد القطعي بوحدانية الله وتصديق رسله واتباع ما جاء في كتابه وسنة رسوله ﷺ أما غير ذلك من الأعمال التي قال بعض العلماء بتحريمها بأدلة ظنية كسماع الغناء بشبهة أنه من الباطل والضلال وكلعب الشطرنج بشبهة أنه مضيعة للوقت وأمثال ذلك كثير فإنها محل نظر؟ فقد ورد عن رسول الله ﷺ قوله: «الحلال بين والحرام بين» وقوله: «وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وقد قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾.
بعد أن أمر الله رسوله أن يثبت البعث والرسالة وأن يبلغ المعاندين بأنه تعالى هو الذي يهدي للحق وهو الذي أحق أن يتبع هديه أخذ يقيم الحجة على أن القرآن هو سبيل الهداية ويرد على مزاعم الطاعنين فيه فقال: ﴿وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله﴾ أي ما كان من المعقول أن هذا القرآن في علو شأنه وعظمة أسلوبه ودقة نظمه ووافر علومه وحكمه السامية وتشريعه العادل وتهذيبه للأخلاق وتمحيصه للحقائق وإرشاده للسنن الاجتماعية والأنباء الغيبية بالذي يمكن أن يصدر من أحد من دون الله ثم ينسبه إليه افتراء عليه إذ لو فرض أن بشرًا يستطيع الإتيان بمثله فلن يكون إلا بشرًا أرقى وأكمل من جميع الحكماء والأنبياء ومن حق مثله أن يفاخر به دون حاجة إلى أن ينسبه إلى الله افتراء عليه: ﴿ولكن﴾ هذا القرآن بكل ما حواه لم يكن
سورة يوسف
مكية وآياتها مائة وإحدى عشر
{الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (١) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (٢) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (٣) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (٤) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (٥) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (٦) لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (٧) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (٨) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (٩) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (١٠) قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (١١) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (١٢) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (١٣) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ (١٤) فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (١٥) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (١٦) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (١٧) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (١٨) وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٩) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (٢٠) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٢١) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٢٢) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٢٣) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
أمر الرسل بأن يخاطبوا الناس بمختلف اللغات لكان ذلك مظنة الاختلاف وسبيلًا لتفرق الكلمة بين العباد ولاحتاج الأمر إلى تعدد الرسل بقدر ما في الدنيا من أمم وتعذر تنفيذ الأحكام بينهم خصوصًا في حال الاجتماع.
بعد أن حصر الله مهمة رسوله في تبليغ ما أوحي به إليه بنصه العربي المبين وأخبره بما أودعه في القرآن من أسرار ومعان من شأنها أن نخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن منه جل شأنه وأنه تعالى لم يكلفه بترجمته للناس بل طالبهم جميعًا بالإنصات إليه وتدبر معانيه أتبع ذلك بشرح بعثة سائر الأنبياء الذين جاؤوا بمختلف المعجزات واتخذوا من خوارق العادات سبيلًا لإثبات رسالتهم وأمروا بدعوة أقوامهم إلى الله عن طريق التفاهم والإقناع فلم ينجحوا في مهمتهم ولم يعترف الناس برسالتهم ونالوا أنواع الأذى حتى انتقم الله لهم بما رمى خصومهم به من العذاب وبدأ بموسى عليه السلام فقال: ﴿ولقد أرسلنا موسى﴾ إلى بني إسرائيل: ﴿بآياتنا﴾ أي بمختلف المعجزات التي تثبت صلته بنا ورسالته عنا: ﴿أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور﴾ أي وأمرناه أن يحملهم على الإذعان برسالته ويقنعهم بوحدانية الله ليخرجهم بالدليل والبرهان من ظلمات الشرك إلى نور الإيمان: ﴿وذكرهم بأيام الله﴾ أي ورسمنا له السبيل إلى ذلك بوعظهم وتذكيرهم بنعم الله عليهم وتنكيله بأعدائهم من فرعون وملئه: ﴿إن في ذلك﴾ أي التذكير بأيام الله: ﴿لآيات﴾ لعبر: ﴿لكل صبار﴾ لكل من أدرك مزايا الصبر فأحبه لما يؤمله من بعده من فرج وأجر: ﴿شكور﴾ وهو من قدر نعم الله فوفاها حقها من الشكر بالعمل الصالح: ﴿وإذ قال موسى لقومه﴾ عندما سمع أمر ربه يا قوم: ﴿اذكروا نعمة الله عليكم إذ نجاكم من آل فرعون﴾ حين كانوا: ﴿يسومونكم سوء العذاب﴾ أي يذيقونكم أسوأ أنواع العذاب إذ يكلفونكم من الأعمال ما لا يطاق: ﴿ويذبحون أبناءكم﴾ وأنتم تنظرون فلا تستطيعون الدفاع عنهم: ﴿ويستحيون نساءكم﴾ ذهب المفسرون إلى أن معناه يستبقونهن أحياء وهذا لا يعد بلاء ولعل المراد بالاستحياء الإخجال بمعنى أنهم كانوا ينتهكون عنهن ستر الحياء فيخجلونهن دون أن يستطعن الدفاع عن كرامتهن وأعراضهن: ﴿وفي ذلكم﴾ أي فيما أصابكم من النعم وما سبق ذلك من النقم: ﴿بلاء﴾ أي ابتلاء واختبار: ﴿من ربكم عظيم﴾ ليعلم منه مبلغ إيمانكم بالله الذي بيده جميع مقاليد أموركم: ﴿وإذ تأذن ربكم﴾ أي واذكروا يا بني إسرائيل أن الله قد سن لخلقه سنة أخذ على نفسه تطبيقها فيكم
ويقال إن الصحيح من كلام أمير المؤمنين في نهج البلاغة قد يبلغ عشره أو نصف عشره والباقي من كلام الرضي والمرتضى (انظر ص٥٨ من مختصر التحفة الاثنى عشرية_ طبعة السلفية ١٣٧٣).
﴿ويوم نبعث في كل أمة شهيدًا عليهم من أنفسهم﴾ أي أنه تعالى سيصطفي من عباده في كل قرن من القرون وكل أمة من الأمم من أبنائها من يدعو إلى الله ويبلغ رسالة الرسل للناس ثم يأتي يوم القيامة ليشهد لمن استجاب لدعوته ومن حاربه وأعرض عنه: ﴿وجئنا بك﴾ أيها الرسول: ﴿شهيدًا على هؤلاء﴾ الشهداء الذين آمنوا بك واتبعوا سبيلك وعملوا بشريعتك: ﴿ونزلنا عليك الكتاب﴾ أي القرآن: ﴿تبيانًا لكل شيء﴾ أي ليكون مبينًا وموضحًا لكل شيء يتعلق بأمور الدين وأخبار الأمم السابقة وما كان نتيجة كفرهم وشكرهم: ﴿وهدى﴾ إلى سنن الله الكونية التي تنفع الناس في دنياهم وآخرتهم: ﴿ورحمة﴾ لأنه يحض على العمل الصالح الذي لا يعود على الله بأي فائدة فالثواب الذي يمنحه الله عليه لم يكن إلا رحمة منه سبحانه بعباده الذين ينتفعون به: ﴿وبشرى للمسلمين﴾ العاملين بما فيه مما أعده تعالى لهم من حسن الثواب يوم القيامة.
بعد أن أخبر الله رسوله بأنه تعالى أنزل عليه القرآن تبيانًا لكل شيء أردف ذلك بما يشعره بالقواعد التي تقوم عليها شريعته المحمدية فقال: ﴿إن الله يأمر بالعدل﴾ أي التوسط في كل شيء فهو رأس الفضائل لقوله ﷺ «خير الأمور الوسط» وهو ما بين طرفي الإفراط والتفريط وهو المجرد عن الانحياز إلى أحد المتخاصمين: ﴿والإحسان﴾ وهو الإتيان بما يؤمر به الإنسان على أكمل وجه كما يشير إليه قوله ﷺ «الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك».: ﴿وإيتاء ذي القربى﴾ أي إعطاء الأقارب ما هم في حاجة إليه: ﴿وينهى عن الفحشاء﴾ وهو الإفراط في متابعة القوة الشهوانية البهيمية لقوله تعالى: ﴿ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلًا﴾.
﴿والمنكر﴾ وهو ما ينكر شرعًا أو عقلًا من الإفراط في إظهار القوة الغضبية: ﴿والبغي﴾ وهو إظهار القوة الوهبية الشيطانية وذلك بالاستعلاء والتجبر على الناس والاستيلاء على أموالهم والاعتداء على حقوقهم قال ابن مسعود رضي الله عنه: هذه أجمع آية في القرآن للخير والشر ولو لم يكن فيه غير هذه الآية الكريمة لكفت في كونه تبيانًا لكل شيء: ﴿يعظكم﴾ الله بهذا الأمر
الحاضر والمعروف، وتقليد الآباء أو العلماء ثقة بهم وتعظيمًا لشأنهم أما غير الأكثر فكانوا يعلمون أن ما جاءهم به الرسول هو الحق والهدى وأن أصنامهم وغيرها مما عبدوا لا تنفع ولا تشفع ولكنهم يجحدون بآيات الله ويكذبون رسله عنادًا واستكبارًا في الأرض وظنًّا بأنفسهم أن يكونوا تابعين لمن يرونهم أقل منهم جاهًا وعلمًا: ﴿إن الظن لا يغني من الحق شيئًا﴾ أي لا يجعل صاحبه غنيًا بعلم اليقين في الحق بحيث لا تؤثر فيه عواصف الشبهات، وقد استدل العلماء بهذه الآية على أن العلم اليقيني واجب في الاعتقادات وأن إيمان المقلد غير صحيح ويدخل في الاعتقادات الإيمان بوجوب أركان الإسلام وغيرها من الفرائض والواجبات القطعية والإيمان بتحريم المحظورات القطعية كذلك: ﴿إن الله عليمٌ بما يفعلون﴾ من الأعمال الناشئة عما في النفس من عقائد والتي يترتب عليها الحساب والجزاء وفي هذا إشارة إلى أن الله لا يحاسب ولا يعاقب إلا على ما يصدر من الإنسان من عمل يخالف الاعتقاد القطعي بوحدانية الله وتصديق رسله واتباع ما جاء في كتابه وسنة رسوله ﷺ أما غير ذلك من الأعمال التي قال بعض العلماء بتحريمها بأدلة ظنية كسماع الغناء بشبهة أنه من الباطل والضلال وكلعب الشطرنج بشبهة أنه مضيعة للوقت وأمثال ذلك كثير فإنها محل نظر؟ فقد ورد عن رسول الله ﷺ قوله: «الحلال بين والحرام بين» وقوله: «وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا عنها» وقد قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم﴾.
بعد أن أمر الله رسوله أن يثبت البعث والرسالة وأن يبلغ المعاندين بأنه تعالى هو الذي يهدي للحق وهو الذي أحق أن يتبع هديه أخذ يقيم الحجة على أن القرآن هو سبيل الهداية ويرد على مزاعم الطاعنين فيه فقال: ﴿وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله﴾ أي ما كان من المعقول أن هذا القرآن في علو شأنه وعظمة أسلوبه ودقة نظمه ووافر علومه وحكمه السامية وتشريعه العادل وتهذيبه للأخلاق وتمحيصه للحقائق وإرشاده للسنن الاجتماعية والأنباء الغيبية بالذي يمكن أن يصدر من أحد من دون الله ثم ينسبه إليه افتراء عليه إذ لو فرض أن بشرًا يستطيع الإتيان بمثله فلن يكون إلا بشرًا أرقى وأكمل من جميع الحكماء والأنبياء ومن حق مثله أن يفاخر به دون حاجة إلى أن ينسبه إلى الله افتراء عليه: ﴿ولكن﴾ هذا القرآن بكل ما حواه لم يكن
يرضاه الشارع الحكيم وبديهي أن هذا في حق النساء البالغات المدخول بهن من المعتدات بالحيض دون الحامل فعدتها بوضع حملها ودون الآيسة من الحيض والصغيرة التي لم تحض فعدتها ثلاثة أشهر كما سيأتي: ﴿وَاتَّقُوا اللهَ﴾ فيهن فلا تفتروا عليهن في النفقة بل أنفقوا عليهن كما كنتم تنفقون في سابق عهدكم: ﴿رَبَّكُمْ﴾ أي المربي المصلح لشؤونكم كافة وفي هذا إشارة إلى أن في اتباع هذه القاعدة صلاحًا لكم وخيرًا: ﴿لا تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ﴾ التي يسكنها في أثناء الزوجية وفي هذا إشارة إلى أن بيت الزوجية يعد بيتًا للزوجة ما دامت فيه سواء كان ملكًا للزوج أم كان مستأجرًا له فلا حق للزوج أن يطردها أو يخرجها منه بالغصب لكراهة مساكنتها أو لحاجة له بالمسكن: ﴿وَلا يَخْرُجْنَ﴾ هن أيضًا في زمن العدة إلا لضرورة ظاهرة لأنها لا تزال تحت ولاية الزوج: ﴿إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ﴾ بكسر التاء وقرئ «مبينة» بفتحها أي ظاهرة الفحش أو هي واضحة البراهين والحجج قال ابن العباس هي أن يزنين فيخرجن لإقامة الحد عليهن: ﴿وَتِلْكَ حُدُودُ اللهِ﴾ الحد الحاجز بين شيئين أي بين حق الرجل وحق المرأة في أمر العدة وسكن المرأة في أثنائها: ﴿وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ﴾ بمعنى يتجاوزها بتعجيل أمر الطلاق في الوقت الذي حدده الله أو إخراج الزوجة من مسكنها: ﴿فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ﴾ أي أساء إليها لأنه بعمله هذا سوف يجرح شعورها ويحملها على بغضه ويزهدها في عشرته فلم تعد تطمئن إلى عدله وحبه لها ويفقد عطفها وحنوها عليه و ﴿لا تَدْرِي﴾ أيها النبي بما لك من واسع الذكاء والخبرة: ﴿لَعَلَّ اللهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ﴾ الطلاق: ﴿أَمْرًا﴾ يحمل الرجل على مراجعتها بعد أن يكون قد خسر قلبها وفقد ثقتها به فلم تعد تخلص له ويكون هو الجاني على نفسه: ﴿فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ﴾ أي قاربن نهاية الأجل الذي حدده الله لعدتهن: ﴿فَأَمْسِكُوهُنَّ﴾ بمراجعتهن إلى عصمتكم: ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ أي بحسن عشرة وإنفاق مناسب: ﴿أَوْ فَارِقُوهُنَّ﴾ أي اقطعوا عند ذلك صلتكم بهن: ﴿بِمَعْرُوفٍ﴾ أي أخرجوهن بلطف وإحسان لا بإهانة وطرد لا يتفق مع ما كان بينكم من ود ورحمة: ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ على كل من الطلاق والرجعة حرصًا على عدم التجاحد فيترتب على ذلك بعض الأضرار إما للزوجة أو للزوج: ﴿وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ﴾ أي وعلى الشهود في هذا الموضوع وسواه أن يقيموا الشهادة بقصد التقرب إلى الله لا محاباة لأحد الجانبين: ﴿ذَلِكُمْ﴾ ما ذكر من أداء الشهادة لله: ﴿يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ﴾ أي إن لم يؤد ما عنده من الشهادة لوجه الله وكتمها أو حابى فيها لا يعد
جاء في كتاب الله ولولا ذلك لاهتدى إلى ذلك الحق: ﴿ثم أدبر﴾ ولى وجعل أحكام القرآن وراءه: ﴿واستكبر﴾ أي أخذته العزة والأنانية والكبرياء. فلم يؤمن بالله: ﴿فقال﴾ عن القرآن: ﴿إن هذا إلا سحر يؤثر﴾ من الإيثار بمعنى أنه يؤثر ويفضل على سائر الأسحار: ﴿إن هذا إلا قول البشر﴾ أي كلام صادر عن إنسان كسائر الكلام وكلام الله لا بد أن يكون مغايرًا لكلام مخلوقيه وهذا نوع من المغالطة فالقرآن وإن كان صادرًا من البشر ولكنه ببلاغته وروعته وتأثيره وما فيه من عدة مزايا لا يمكن أن يكون من وضع البشر بل هو من كلام رب العالمين ومن أجل هذا تحداهم الله بالإتيان بسورة يكون لها من المميزات ما له ومن أجل هذا توعد الله الكافر المغالط بقوله: ﴿سأصليه﴾ أي سأدخله: ﴿سقر﴾ قال ابن عباس إنه اسم للطبقة السادسة من جهنم: ﴿وما أدراك ما سقر﴾ استفهام يقصد به تهويل أمرها إنها نار: ﴿لا تبقي﴾ أحدًا من مستحقي العذاب إلا عذبته: ﴿ولا تذر﴾ من أبدانهم شيئًا إلا أتت عليه: ﴿لواحة﴾ مرفوعة وقرئ منصوبة من لوح إذا لمع بمعنى أنها تدل بتطاير شررها على شدتها من بعد: ﴿للبشر﴾ وهم بنو الإنسان: ﴿عليها تسعة عشر﴾ أي أن خزنة جهنم تسعة عشر ملكًا وقد رُوِيَ عن البراء أن رهطًا من اليهود سألوا بعض أصحاب النبي ﷺ عن عدد خزنة جهنم ليعاجزوه فقال الله ورسوله أعلم فجاء رجل فأخبر النبي ﷺ فأنزل الله عليه هذه الآية ثم قال: ﴿وما جعلنا أصحاب النار﴾ أي خزنتها: ﴿إلا ملائكة﴾ أي زبانية غلاظًا شديدًا رُوِيَ أن مشركي قريش عندما سمعوا بعدد الخزنة قال أبو جهل يا معشر قريش أيعجز كل عشرة منكم أن يبطشوا بواحد منهم فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي وكان من أقوياء قريش اكفوني منهم اثنين وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر إعجابًا منه بقوته فأنزل الله هذه الآية فقال المسلمون ويحكم لا تقاس الملائكة بالجدادين فجرى قولهم هذا مثلًا في كل شيئين لا يسوى بينهما.: ﴿وما جعلنا عدتهم إلا فتنة﴾ أي سبيلًا للاختبار يقال فتن الصائغ الذهب إذا اختبره ليتبين الجيد من الرديء: ﴿للذين كفروا﴾ أي ليظهر بذلك ما يضمرون من كفر وسخرية بالدين كما حصل فعلًا إذ قال قائل منهم لم لا يكونون عشرين وما المقتضى لتخصيص هذا العدد بالوجود وقال آخرون كيف يكفي هذا العدد لتعذيب أكثر خلق الله من مبدأ وجودهم إلى قيام الساعة: ﴿ليستيقن الذين أوتوا الكتاب﴾ أي ليحصل اليقين في قلوب اليهود الذين سألوا عن عدد الزبانية – وقد كانوا يعلمون من التوراة بمثل هذا العدد – بأن
إنهما يشيران إلى حوادث مرت بالتاريخ في عهد آدم ونوح وليس هناك من دليل على ذلك ومن رأيي إجراء اللفظ على ظاهره وربما كان المراد إشارة إلى كل حلو ومر من المأكولات والله أعلم بالحقيقة: ﴿وَطُورِ سِينِينَ﴾ بكسر السين وقرئ بفتحها اسم للجبل الذي كلم الله منه موسى عليه السلام وربما شمل ذلك الجبال الشاهقات.
﴿وَهَذَا الْبَلَدِ الأَمِينِ﴾ أي الذي أمّن الله أهله من الخوف وهو مكة المكرمة وربما شمل ذلك سائر المدن العامرة،: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾ أي أنه في أساس فطرته معدل الخلقة في الصورة والشكل وهو يفوق سائر الحيوانات لأنه تعالى منحه ملكة العقل إلى جانب قوة العضل،: ﴿ثُمَّ رَدَدْنَاهُ﴾ بما وهبنا له من ملكة الحرية والخيار إن أساء استعمالها: ﴿أَسْفَلَ سَافِلِينَ﴾ باتباعه لشهوات النفس ونزواتها: ﴿إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله عن طريق تحكيم عقولهم والاهتداء بهدي ربهم: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ ابتغاء مرضاة الله خالقهم ومربيهم: ﴿فَلَهُمْ أَجْرٌ﴾ من الله على الإيمان والأعمال الصالحة: ﴿غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ يقال: منَّ عليه بما صنع أي عدد له ما فعله له من الخير بمعنى أن الله يعطيه من الأجر الكثير ما لا يعد ولا يحصى: ﴿فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ﴾ أي فما وجه التكذيب بمزايا الدين أو ما الذي يحمل الإنسان على تكذيب ما جاء به الرسل من بيان أحكام الله وهي التي تحول دونهم ودون الخسران وتجعلهم يحصلون على الأجر الكثير: ﴿أَلَيْسَ اللهُ﴾ الذي أنزل أحكام الدين: ﴿بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ﴾ صاحب السلطان المطلق وقد وضع الدين ليحفظ للإنسان منزلته وكرامته وما يقيه من الانحدار إلى المنازل السفلى بجهله وسوء تصرفاته واتباعه لهواه.
سورة العلق
مكية عدد آياتها تسع عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (٥) كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى (٦) أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى (٧) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْداً إِذَا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِن كَانَ عَلَى الْهُدَى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (١٢) أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (١٤) كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ لَنَسْفَعاً


الصفحة التالية
Icon