ثم تصيدوها بعد مضي ذلك اليوم ﴿فقلنا لهم كونوا قردةً﴾ فكان جزاؤهم على ذلك الاحتيال، أن كتبنا عليهم السقوط عن درجة الكمال الإنساني إلى مستوى القردة الذين فقدوا صفات النبل والشهامة، وطبعوا على الشره في المادة والانغماس في الشهوات البهيمية فجردوا عن عواطفهم الإنسانية فأنزلهم منزلتهم. فقد روى ابن جرير، وابن أبي حاتم عن مجاهد أنه قال: ما مسخت صورهم ولكن مسخت قلوبهم، فمثلوا بالقردة كما مثلوا بالحمار في قوله تعالى ﴿مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا﴾ وقوله تعالى أيضًا: ﴿وجعلنا منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت﴾ وقال الحافظ ابن كثير في تفسيره والصحيح أن المسخ معنوي صوري اعتباري ﴿خاسئين﴾ أي كونوا بحسب سنة الله في الطبع والأخلاق كالقردة المستذلة الحقيرة عن أعين الناس، فلا يراكم كرام الناس أهلًا لمجالستهم ومعاملتهم ﴿فجعلناها﴾ هذه العقوبة ﴿نكالًا﴾ عبرة لكل من يتخذ الحيل وسيلة للإفلات من أمر ربه، ويحسب أن الاحتيال على الله قد يكون وسيلة للنجاة من عقابه ﴿لما بين يديها وما خلفها﴾ أي لمن وقعت الحادثة في عهدهم، ومن بعدهم إلى ما شاء الله ﴿وموعظةً للمتقين﴾ الذين يحافظون على أنفسهم من الوقوع فيما يجلب عليها الذلة والهوان، فاتخاذ الحيل للخلاص من ربقة التكليف من شأنه أن يفقد الإنسان كثيرًا من خلاله الحميدة، ويصيره عرضة للاحتقار ونبذ المجتمع له. ثم نبه الله بني إسرائيل إلى أن ما أصابهم في الحياة من التشديد والحرج إنما هو نتيجة ترددهم في تقبل الأحكام الإلهية رغبة في التخلص من تنفيذها حيث قال ﴿و﴾ اذكروا ﴿إذ قال موسى لقومه﴾ يومًا ﴿إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة﴾ من أي أنواع البقر، ليمتحن بذلك مبلغ طاعتهم ومبادرتهم إلى امتثال أوامره ﴿قالوا﴾ لموسى جوابًا على ذلك ﴿أتتخذنا هزوا﴾ وقرئ ﴿هزءًا﴾ بالهمزة وسكون الزاي وقرئ بالهمزة مع الزاي مضمومة أي سخرية، فأي ثمرة وأي معنى ترمي إليه من ذبح البقرة ﴿قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين﴾ الذين يتكلمون بغير علم أو الذين يفترون على الله الكذب، وما عليّ إلا البلاغ ﴿قالوا﴾ إن كان الأمر كما تقول وهذا أمر الله حقًّا ﴿ادع لنا ربك يبين لنا ما هي﴾ تلك البقرة صغيرة أو مسنة ﴿قال إنه يقول إنها بقرة ولا فارضٌ﴾ أي ليست مسنة ﴿ولا بكرٌ﴾ أي ولا هي فتية ﴿عوانٌ بين ذلك﴾ أي وسط بين الصغير والمسنة ﴿فافعلوا ما تؤمرون﴾ أي فبادروا بذلك فإن للتأخير آفات وفي
وعلى ذكر تعداد بعض الأحكام العامة، ولما كان بعض الناس قد يحلف على عدم فعل شيء ثم يتبين له أن الخير في عمله فيصر على عدم الفعل ويجعل من يمينه سببًا حائلًا دون هذا الفعل أنزل الله هذا الحكم فقال ﴿ولا تجعلوا الله عرضة لأيمانكم﴾ أي لا تتخذوا من الحلف بالله مانعًا ﴿أن تبروا﴾ وذلك بأن تحلفوا على ترك البر أو ترك أي أمر يتبين لكم أنه من البر ﴿وتتقوا وتصلحوا بين الناس﴾ فلا عذر لأحد في ترك ذلك لأن الله لا يرضى أن يتخذ اسمه مانعًا من أمر فيه قربة إليه وقد قال ﷺ «من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فليأت الذي هو خير وليكفر عن يمينه» وقال أيضًا «من حلف على قطيعة رحم أو معصية فبره أن يحنث فيها ويرجع عن يمينه» ﴿والله سميع﴾ لما نطقوا به من الحلف ﴿عليم﴾ بمن يتخذ من اسمه الكريم وسيلة للتهرب من فعل الخير ﴿لا يؤاخذكم الله﴾ أي واعلموا أن الله لا يؤاخذكم بإيجاب الكفارة ولا بالعقاب في هذا الباب ﴿باللغو في أيمانكم﴾ التي تسبق بها ألسنتكم من غير قصد الحلف ودون جعلها عرضة للامتناع عن عمل الخير وما أشبه ﴿ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم﴾ بما تلفظتم به من أيمان قصدتم منها جعل اسمه الكريم عرضة للابتذال ووسيلة لتحريم ما أردتم تحريمه، أو مانعًا من صالح الأعمال فإن الله لا ينظر إلى صوركم وأقوالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم ﴿والله غفور﴾ لما يصدر من العبد عن غير قصد ﴿حليم﴾ لا يعجل عقاب من تقصد الإساءة لعله يرجع عن غيه ويعزم على عدم العودة إلى مثله.
وعلى ذكر تعداد بعض الأحكام العامة وما ورد من النهي عن جعل اسم الله مانعًا من فعل الخير؛ وكان من عادة القوم أن الرجل إذا أراد أن لا يقرب امرأته ولا يحب أن يتزوجها غيره يحلف أن لا يقر بها فتصبح كالمعلقة مضارة لها، أنزل الله هذا الحكم في حق من يجعل اسم الله وسيلة للإضرار بالنساء حيث قال ﴿للذين يؤلون من نسائهم﴾ يحلفون أن لا يقربوا نساءهم ويعزلوهن بسبب ذلك اليمين ﴿تربص أربعة أشهر﴾ يمهلون خلالها للتروي ﴿فإن﴾ ظهر بعدها أنهم ﴿فاءوا﴾ بأن رجعوا عن إيلائهم وعادوا إلى قربهن وأثبتوا بذلك أنهم لم يقصدوا المضارة بل مجرد التربية ﴿فإن الله غفور﴾ يتجاوز عن جعلهم اسمه تعالى وسيلة إلى الامتناع عما ليس
وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (١١٠) لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأَدُبَارَ ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ (١١١) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُواْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنْ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَآؤُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (١١٢) لَيْسُواْ سَوَاءً مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (١١٣) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (١١٤) وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَن يُكْفَرُوْهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (١١٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (١١٦) مَثَلُ مَا يُنفِقُونَ فِي هِذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَاصِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (١١٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ (١١٨) هَاأَنتُمْ أُوْلاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١١٩) إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (١٢٠) وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (١٢١) إِذْ هَمَّت طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٢٢) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢٣) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِينَ (١٢٤) بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُم مِّن فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُم بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُسَوِّمِينَ (١٢٥) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (١٢٦) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ خَآئِبِينَ (١٢٧) لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذَّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (١٢٨) وَلِلّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (١٢٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا أَضْعَافًا مُّضَاعَفَةً وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (١٣٠) وَاتَّقُواْ النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (١٣١) وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (١٣٢) وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن
حرقوا كتبهم وغيروا مبادئ دينهم وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا فكانت بعثة هذا النبي من أعظم منن الله على الناس أجمعين.
بعد أن بين الله خطأ الذين تصوروا إمكان صدور الغلول من رسول الله، وأوضح مننه على المؤمنين ببعثة هذا النبي الكريم، أخذ يشير سبحانه وتعالى إلى بعض الشبه التي خطرت أيضًا لفريق من الغزاة في واقعة أحد، وهي أنهم كانوا يظنون أنهم ما داموا يحاربون تحت لواء رسول الله فإنهم لن يغلبوا أبدًا وعند ما حلت بهم الهزيمة صدموا في عقيدتهم فقال ﴿أو لما أصابتكم مصيبة﴾ بالهزيمة والفشل في واقعة أحد عند ما ترك الرماة مراكزهم ﴿قد أصبتم﴾ من المشركين ﴿مثليها﴾ إحداهما في يوم بدر، والثانية في يوم أحد نفسه عند ما وقفتم في المواضع التي وضعكم فيها الرسول ﷺ وأكد لكم النصر إذا ثبتم فيها ﴿قلتم﴾ لبعضكم ﴿أنى هذا﴾ أي كيف نغلب وأين ما وعدنا به رسول الله ﷺ من النصر، ونحن إنما نحارب في سبيل الله وتحت لواء نبيه ﴿قل﴾ أيها الرسول جوابًا على تعجبهم هذا: لا محل للعجب إذ الأمر ظاهر جلي ﴿هو﴾ ما أصابكم من الهزيمة ﴿من عند أنفسكم﴾ نتيجة لعدم ثباتكم في المراكز التي وضعكم فيها الرسول ومخالفتكم لوصيته وعدم تنفيذ أوامره وتعليماته. فلا يكفي في القتال أن تقصدوا الجهاد وأن تستظلوا براية الرسول إذا لم تكونوا متبعين لأوامره مهتدين بهديه ﴿إن الله على كل شيء قدير﴾ ومن دلائل قدرته أنه تعالى هو الذي مكنكم من هزيمة أعدائكم مرتين باتباعكم لأوامره وجعلكم تهزمون أنفسكم بمخالفتكم لنبيه وعدم متابعة سننه. فلا تحسبوا أن مجرد الإيمان والقتال تحت لواء الرسول يغني عن اتباع الخطط التي تمنع الهزيمة، كما أن مزاولة الأسباب والاعتماد على القوى المادية من دون الله قد يؤدي إلى غضبه تعالى وحلول نقمة فيجعلكم تخطئون التدبير وتضلون الطريق ﴿وما أصابكم يوم التقى الجمعان﴾ في أحد ﴿فبإذن الله﴾ فذلك إنفاذ لمقتضى سنن الله العامة التي تقضي بأن الجندي الذي يعصي القائد ويخالف خططه الحربية ويخلي بين العدو ومؤخرته فلابد وأن يصاب هؤلاء الجند بمثل ما أصبتم به ﴿وليعلم﴾ الله صحة إيمان ﴿المؤمنين﴾ علمًا يتعلق به الجزاء والثواب، وهو العلم بالشيء بعد وقوعه، إذ ان علم الله بالأشياء قبل وقوعها ثابت لا شك فيه ﴿وليعلم﴾ الله أيضًا بصدور النفاق من ﴿الذين نافقوا﴾ في الدين ﴿وقيل لهم تعالوا قاتلوا في سبيل الله﴾ وخوضوا المعركة بما أوتيتم من قوة وبأس ﴿أو ادفعوا﴾ الخطر عن البلاد بحماية
ذلك ما رُوِيَ عن سراقة بن مالك المدلجي أنه بلغه أن رسول الله ﷺ يريد أن يبعث خالد بن الوليد إلى قومه فأتاه فقال له أنشدك النعمة فقال لأصحابه مه فقال الرسول: «دعوه» ثم قال له: «ما تريد؟» قال: بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن ترادعهم فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام وإن لم يسلموا لم تخش بقلوب قومك عليهم فأخذ رسول الله ﷺ بيد خالد وقال: «اذهب معه فافعل ما يريده» فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله وإذا أسلمت قريش أسلموا معهم ومن وصل إليهم من الناس كان له مثل عهدهم فأنزل الله هذه الآية.
وثم نوع آخر قال عنهم تعالى ﴿ستجدون آخرين﴾ من الناس لا يحبونكم ولا يحبون غيركم وإنما يحبون المادة ويحرصون عليها ويضحون من أجلها بكل شيء ولذلك فهم يخافون من كل أحد ويظهرون لكم الإسلام بباعث الخوف على أنفسهم وأموالهم لا عن عقيدة وإيمان وكذلك الحال بالنسبة لأعدائكم فهم في كلتا الحالتين ﴿يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم﴾ ولا يتورعون عن بيع ضمائرهم لكل مشترٍ وخدمة من تدعو المصلحة المادية إلى خدمتهم ومناصرتهم بمختلف الوسائل فهؤلاء لا يؤمن شرهم ولذلك ﴿كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها﴾ فهم منقلبون دائمًا وهم المنافقون حقًّا لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء يجب إقصاؤهم عنكم ﴿فإن لم يعتزلوكم﴾ أي يبتعدوا عنكم في مكان ما ويلتزموا جانب الحياد والكف عن أي نشاط سياسي في بلادكم ﴿ويلقوا إليكم السلم﴾ بالحرص على طاعتكم واتباع أوامركم ﴿ويكفوا أيديهم﴾ عن تدبير المكايد والمؤامرات ونصب الإشراك لكم ﴿فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم﴾ جزاء حربهم
قال «اللهم إنا كنا إذا أجدبنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا» ولو كان التوسل بذات النبي مشروعاً لما عدل عمر عن التوسل بالرسول كما كانوا يعتادون في حياته إلى التوسل بعمه العباس والذي فعله عمر فعل مثله معاوية بحضرة جميع من معه من الصحابة والتابعين عندما احتبس الغيث عنهم فجاءوا بيزيد بن الأسود الجرشي وتوسلوا به فثبت بذلك أن التوسل قد يكون بدعاء رجال صالحين في حياتهم وقد وعد الله باستجابة دعاء المرء في حق أخيه، أما ما روي عن حديث الأعمى الذي جاء إلى النبي ﷺ وطلب منه أن يدعوا له فدعا له ثم لقنه دعاء هذا نصه «اللهم إني أتوجه إليك بنبيك محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي في حاجتي لتقضى اللهم شفعة في» فإنه لا يعنى به من عدة جهات:
أولاً: لأن مسنده أبو جعفر وقد قال فيه أحمد والنسائي إنه ليس بالقوي وقال ابن حبان إنه ينفرد بالمنا كير عن المشاهير.
وثانيا: لأن راوي الحديث لم يسم لنا ذلك الأعمى الذي أبصر بعد الدعاء ولو صح لما خفي أمره وتواترت أخباره.
وثالثاً: لأن في صيغة الدعاء خلط غريب فكيف يأمر الرسول الأعمى أن يناجي الله ويسأله ثم هو يأمره بمخاطبته هو ودعوته بقوله يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي ثم يعود بعد ذلك إلى مناجاة الله بقوله اللهم شفعة في وغير هذا فإنه في جوهره يتنافى مع المبدأ العدل ولا يجوز في دستوره تعالى مراعاة خاطر المقربين والأصفياء وقد نفاها الرسول ﷺ عن نفسه إذ قال «يا فاطمة بنت محمد لا أغني عنك من الله شيئا» وعلى فرض صحة الحديث فإنه لا بد وأن يكون المراد منه دعاءه له يوم كان حياً
<٥٤>
لا توسلا بذاته بدليل قوله في نهاية الحديث «اللهم فشفعه في» أي اقبل دعاءه لي وهذا مصداق ما كان عليه النبي ﷺ مع قومه وأشار إليه القرآن بقوله (ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاءوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما) وهو كتوسل الصحابة في حياته عند
تأثير الأسباب التي سنها ﴿إن شاء﴾ استجابة دعائكم القائم على أساس اعتقادكم بأن له تعالى الكلمة الأخيرة في كل شئونكم. ولولا ذلك لما لجأتم إليه في أحلك الساعات وطلبتم منه ما لا يقدر عليه أحد سواه ﴿وتنسون ما تشركون﴾ هذا عطف على قوله: ﴿بل إياه تدعون﴾ أي إنكم في حال الفزع واليأس من الأسباب تتجه غريزتكم إلى الله خالقكم وتنسون ما كان يلقنه لكم دعاة السوء من تعاليم الشرك والمعتقدات الفاسدة ﴿ولقد أرسلنا﴾ رسلًا ﴿إلى أمم من قبلك﴾ يدعونهم إلى معرفة الله والرجوع إليه. إذ هو صاحب الكلمة العليا والأمر الأخير في سائر شئون عباده فلم يؤمنوا بهم ﴿فأخذناهم بالبأساء﴾ أي المصائب العامة التي تحل بالجماعات كالزلازل والصواعق والحروب وويلاتها ﴿والضراء﴾ مما يؤلم الأفراد من الأمور الخاصة كالأمراض والعلل التي تقض مضاجعهم لأجل إيقاظ غريزة الفطرة فيهم وحملهم على التفكير فيمن يملك إنقاذهم مما هم فيه ﴿لعلهم يتضرعون﴾ إلى الله خالقهم بالدعاء ليرفع عنهم ذلك البلاء فهذا هو الحجر الأساسي لعقيدة التوحيد ﴿فلولا إذ جاءهم بأسنا تضرعوا﴾ أي وقد كان المعقول أنهم متى أحسوا بالآلام يجدر بهم أن يطلبوا كشف ما بهم ممن يملك ذلك وهو الله الذي عرفهم به الرسل ﴿ولكن قست قلوبهم﴾ فلم تؤثر تلك النذر وما جاءهم به الرسل ﴿وزين لهم الشيطان﴾ بما كان يوسوسه لهم من ضرورة الثبات على ما كان عليه آباؤهم ﴿ما كانوا يعملون﴾ من الكفر والمعاصي ﴿فلما نسوا ما ذكروا به﴾ من قِبَل الرسل بأن ما يصيبهم من البؤس والضر لا يستطيع تفريجه عنهم غير الله فلم يلجئوا إليه، لم نشدد عليهم العذاب ونؤاخذهم على موقفهم السلبي، بل بلوناهم بالحسنات و ﴿فتحنا عليهم أبواب كل شيء﴾ من أنواع الرزق وسعة العيش وصحة الأجسام والأمن على الأنفس والأموال ﴿حتى إذا فرحوا بما أوتوا﴾ ولم يشعروا بأن ذلك أيضًا من فضل الله وكرمه فزادوا عتوًا ونفورًا وطغيانًا، وفسقوا وأقدموا على المعاصي بكل جرأة واستهتار، واستحقوا ما أنذروا به من عذاب ﴿أخذناهم﴾ استأصلناهم بسبب ذنوبهم ﴿بغتة﴾ أي من غير إنذار اكتفاء بما أنذروا به على لسان الرسل ﴿فإذا هم مبلسون﴾ أي ساكتون لانقطاع حجتهم ﴿فقطع﴾ بهذا ﴿دابر القوم﴾ أي لم يبق منهم أحد ﴿الذين ظلموا﴾ أنفسهم بتكذيب الرسل والإصرار على الشرك ﴿والحمد لله رب العالمين﴾ على ما أنعم على عباده من عدم تعجيله العذاب للظالمين المعاندين ودعوتهم إلى الإيمان بمختلف الطرق من البأساء والضراء أولًا ثم بإغداق
عليه وسلم في قص الشارب وتقليم الأظافر ونتف الإبط وحلق العانة أن لا تترك أكثر من أربعين ليلة وكان يدعو إلى السواك في جميع الأوقات حتى قال «لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك مع كل صلاة فإنه مطهرة للفم مرضاة للرب» وهذا يدل صراحة على أن الإسلام دين المدنية الذي شرع للناس الإكثار من اللباس والزينة والنظافة وأنه يبرأ مما جري عليه بعض رجال الطرق باسم التصوف من التقشف ولبس المرقع من الثياب الذين يتسمون باسم "الدراويش" وكأن هذه الآية تشير إلى ما زينه الشيطان في عصرنا هذا إلى بعض المثقفين في أوربا من اعتناق مبدأ العري. المأخوذ عن بعض المتوحشين الذين يعيشون في الغابات ويأوون إلى الكهوف والمغارات من القبائل الوثنية في بعض جزائر البحار وجبال أفريقية وإن مما يؤسف أن النساء في عصرنا هذا أصبحت زينتهن أن يكن نصف عاريات كما وصفهن رسول الله ﷺ بقوله «سيكون في آخر أمتي نساء كاسيات عاريات على رؤوسهن كأسنمة البخت العنوهن فإنهن ملعونات لا يدخلن الجنة ولا يجدن ريحها وإن ريحها لتوجد من مسيرة كذا وكذا» وقد علمت أن مبدأ العرى أخذ يتسرب إلى بعض الأوساط دون علم الحكومة فلا حول ولا. وعلى ذكر ما يزينه الشيطان للناس من مبدأ العرى أخذ سبحانه وتعالي يشير إلى ما يوسوس به الشيطان إلى أوليائه من الصوم الطويل المدى أو الصوم عن كل ذي روح أو الإمعان في الطعام بلا حساب فقال ﴿وكلوا﴾ من جميع الطيبات ﴿واشربوا﴾ الماء وغيره من الأشربة النافعة المستلذة ﴿ولا تسرفوا﴾ في كل من الزينة والأكل والشرب بل التزموا جانب الاعتدال دون تقتير ولا إسراف ﴿إنه لا يحب المسرفين﴾ أي إنه تعالى لا يرضى عن السرف في كل شيء حتى في الصدقة فقد رُوِيَ عن رسول الله ﷺ قوله «كلوا واشربوا وتصدقوا والبسوا في غير مخيلة ولا سرف فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على عبده» ولم يكتف الله جل جلاله بالأمر بالزينة والأكل والشرب حتى استنكر بشدة ما يزينه الشيطان لأوليائه من تحريم أي نوع من أنواع الزينة أو شيء من الطيبات فقال ﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده﴾ من أنواع الملبوسات والمجوهرات والحلي وكل ما يتوصل إليه العلم من المخترعات التي تكسو الناس جمالًا وحسنًا ﴿والطيبات من الرزق﴾ مما لذ وطاب من أنواع الأطعمة وكل ما ينتفع به من المخترعات التي تسهل لهم سبيل العمل وتضمن لهم طيب العيش والسعادة في هذه الحياة ﴿قل﴾ أيها الرسول لأمتك ﴿هي﴾ أي الزينة والطيبات من الرزق ﴿للذين آمنوا في الحياة الدنيا﴾ سبيلًا لانتزاع الشكر من صميم القلوب
والمعنى أنه تعالى قد قضت مشيئته أن يمهل للمكذبين بآيات الله حتى يأخذوا حظهم من الشهوات فلا يعكر صفوهم منها كرمًا منه لعلهم يثوبوا إلى رشدهم ويذكرون نعمة الله عليهم ولما كان هذا الصنيع من شأنه أن يوقع الغافلين في العذاب فيعد من باب المكر والاحتيال الذي لا يصدر من الله المتصرف في عباده كما يشاء فليس هناك ما يدعوه إلى الاحتيال على عبيده قال: ﴿إن كيدي﴾ أي تدبيري هذا لا يعد كيدًا فالكيد إنما يجري في الخفاء بقصد الغدر قد يخطئ وقد يصيب أما كيدي فإنه ﴿متين﴾ أي قوي لا يخطئ لأنه قائم على أسس وسنن مطردة وتدابير محكمة أعلنها سبحانه للناس ليكونوا على بينة منها، وحذرهم من عواقبها حيث قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿فلما نسوا ما ذكروا به فتحنا عليهم أبواب كل شيء حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون﴾.
﴿أولم يتفكروا﴾ أي المكذبون بآيات الله فيما أخبروا به من أمر هذا الاستدراج وما يعقبه من عذاب ﴿ما بصاحبهم من جنة﴾ أي ليس بالرسول الذي كذبوا ما جاء به من الآيات شيء من الجنون الذي كانوا يرمونه به كما حكى الله ذلك عنهم بقوله في سورة الحجر: ﴿وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون * لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين﴾.
﴿إن هو﴾ أي الرسول بما جاء به من القرآن ﴿إلا نذير مبين﴾ أي منذر موضح ومفصل لما قضت به مشيئة الله في حق المكذبين وغيرهم خصوصًا وإنه إنما يخبر بما أوحى به إليه من سننه في خلقه، ودلائل الكائنات جميعًا شاهدة على صدقه، وأن الله تعالى حكيم في جميع تصرفاته ﴿أولم ينظروا﴾ بنظر تأمل واستدلال ﴿في ملكوت السماوات والأرض﴾ أي مجموع العالم الذي يدل على وجود خالق حكيم مدبر له ولولا ذلك لاختل نظامه وفسد حاله ﴿وما خلق الله من شيء﴾ فكل ما في الوجود يوحي بوجود خالق لذلك الشيء من العدم، وأنه لم يخلق شيئًا عبثًا ولا يمكن أن يترك الناس وشأنهم من غير نظام يحول دونهم ودون الفوضى واعتداء بعضهم على بعض فما بالك بمخالفة رب العالمين الذي إليه يرجعون ﴿وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم﴾ أي أو لم ينظروا ويتفكروا فيما عسى أن يكون عليه الشأن من اقتراب أجلهم ورجوعهم إلى الله بسوء أعمالهم فيحل بهم ما أنذروا به فأجل الأفراد مهما طال فهو قصير وما يرونه من نظام الكون وخلق الله لكل شيء كاف لحملهم على تصديق ما جاء به الرسول من إنذار بالجزاء في الآخرة فلا ضرر عليهم من
ليس في قلوبهم} فهم إذ يعطون لكم العهود لم يقصدوا البر بها: ﴿وأكثرهم فاسقون﴾ لا يتورعون عن ارتكاب الموبقات واستحلال المحرمات علنًا فكيف ينتظر منهم أن يراقبوا الله في أنفسهم حتى يفوا بعهودهم: ﴿اشتروا بآيات الله﴾ الدالة على وجوب توحيده: ﴿ثمنًا قليلًا﴾ من متاع هذه الدنيا الفانية فكلما يملك أغنى هؤلاء قليل بالإضافة إلى ما وعد الله به عباده المؤمنين: ﴿فصدوا﴾ غيرهم: ﴿عن سبيله﴾ ولم يراعوا ما له عليهم من فضل عظيم بخلقهم وتكوينهم وما منحهم من سائر النعم التي ينقلبون فيها ولا يشعرون بها فهذه الموجودات جميعها حتى هذه المخترعات التي يصنعونها بأيديهم وينعمون بها لم تخرج عن خلقه لأنه الخالق لسائر المواد الأولية فيها.: ﴿إنهم ساء ما كانوا يعملون﴾ لأنه كفر بالنعم وجحود للإحسان وهذا ما لا يليق أن يصدر من ذي عقل رشيد ومن أجل هذا تراهم: ﴿لا يرقبون في مؤمن إلا ولا ذمة﴾ إذ لا قرابة تقتضي الود ولا ذمة توجب الوفاء وذنب المؤمن في نظرهم كونه مؤمنًا يخالف ما هم عليه من ضلال وإذا كان هذا شأنهم مع المؤمنين فلا شك أنهم إن يظهروا عليكم بالغلبة والسلطان لا يرقبوا فيكم إلًا ولا ذمة ولا يتحاشوا عن ظلمكم واضطهادكم والفتك بكم: ﴿وأولئك هم المعتدون﴾ على حدود الله الخارجون عن النظام العام وما دامت العلة في اعتدائهم وتجاوزهم عليكم هي رسوخهم في الشرك وكراهتهم للإيمان وأهله فلا سبيل إلى اتقاء أذاهم إلا بإرجاعهم عن كفرهم وإدماجهم فيكم وحملهم على الاعتقاد معكم بضرورة الإيمان بوحدانية الله وإخلاص العبادة له في السر والجهر: ﴿فإن تابوا﴾ إلى الله عن شركهم وآمنوا بوحدانية الله وإخلاص العبادة له في السر والجهر: ﴿وأقاموا الصلاة﴾ التي تعبر عن تمام الطاعة والخضوع لله والتي من شأنها أن تردع النفوس عن الفحشاء والمنكر: ﴿وآتوا الزكاة﴾ ابتغاء مرضاة الله لأربابها من ذوي الحاجة: ﴿فإخوانكم في الدين﴾ أي فصدور هذين الأمرين وهما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة منهم دليل قائم على أنهم حقًّا أصبحوا إخوة لكم لاتحادهم معكم في الخضوع وإخلاص العبادة لله التي تعبر عنها الصلاة وفي رقة القلب والبر بالفقراء التي تعبر عنها الزكاة فيجب أمام هذا أن تبادلوهم الحب والإخلاص: ﴿ونفصل الآيات﴾ ونوردها: ﴿لقوم يعلمون﴾ ما وراء ذلك من حكم وغايات: ﴿وإن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم﴾ بالتوبة التي دخلوا بها في الإسلام: ﴿وطعنوا في دينكم﴾ إما بالاعتراض على شيء من أحكام الله التي وردت في القرآن أو بذم الرسول أو الطعن في رسالته وما شاكل ذلك:
إلا: ﴿تصديق الذي بين يديه﴾ أي ما جاء إلا مصدقًا لما سبقه من الكتب المنزلة على من قبله من الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى في الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ولم يشذ عنهم في شيء، الأمر الذي يدل على صدقه كصدقهم ولو أنه خالفهم في تلك الأصول لكان ذلك محل نظر أو موجبًا للطعن فيه: ﴿وتفصيل الكتاب﴾ أي هذا القرآن ما جاء إلا مفصلًا لما أنزل في تلك الكتاب بإيضاح ما استشكل منها ودحض الشبهات عنها وبيان مزايا الطاعات والحكمة من أسرار الكائنات وهذا: ﴿لا ريب فيه من رب العالمين﴾ أي ولا شك أن هذا التفصيل حق من حقوق رب العالمين، وهنا انتقل من إثبات صحة القرآن إلى حكاية مزاعم المعاندين والرد عليها فقال: ﴿أم يقولون افتراه﴾ أي أن الرسول ﷺ قد افترى هذا القرآن: ﴿قل﴾ أيها الرسول جوابًا عليهم: ﴿فأتوا بسورةٍ مثله﴾ في تصديق ما سبقه من الكتب وتفصيل ما جاء فيها مما يدل على غزارة علمه: ﴿وادعوا من استطعتم من دون الله﴾ أي اطبلوا الإعانة على ذلك من كبار الفصحاء والبلغاء من البشر: ﴿إن كنتم صادقين﴾ في زعمكم أنه من تأليف الرسول ونسبه إلى الله افتراء عليه وإن في عجزكم عن ذلك لدليل قائم على كذبكم في نسبتكم الافتراء إليه ﷺ وقد صنف الفقهاء عدة مؤلفات في بيان إعجاز القرآن لا من ناحية فصاحته وبلاغته اللغوية فحسب بل من حيث نظمه وأسلوبه وإخباره بسنن الكائنات وما يأتي به العلم من المخترعات التي ما زالت تترى على ممر الأزمان، وهنا وضح الله بعض ما تضمنه قولهم: ﴿افتراه﴾ وما يستلزمه ذلك من كونهم يعتقدون أن محمدًا كان كاذبًا مع أنهم ما كانوا يشكون في صدقه حتى أن أبا جهل لعنه الله كان يقول: إن محمدًا لم يكذب على بشر قط أفيكذب على الله بأن المراد بذلك إنما هو تكذيبهم لما يظنون أنه محال في نفسه إذ قال: ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه﴾ مما أنذرهم به من عذاب الله لهم في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا به ويتبعوا شريعته: ﴿ولما يأتهم تأويله﴾ لقد جرى الكثير من العلماء والمفسرين على أن التأويل هو رديف التفسير ومعناه صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله في اللغة بشرط موافقته للشرع وبهذا سوغوا لأنفسهم تأويل ما لم يدركوا معناه من كلام الله على حسب ما يبدو لهم أو ما تستسيغه عقولهم وقال بعض المفسرين إن معنى الآية إنهم كذبوا ما لم يفهموا معناه من القرآن أو لم يظهر لهم وجه الإعجاز فيه أو
السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (٢٤) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (٢٥) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (٢٦) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (٢٧) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (٢٨) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (٢٩) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (٣٠) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (٣١) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (٣٢) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (٣٣) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (٣٥) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٣٦) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (٣٧) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللَّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (٣٨) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٤٠) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (٤١) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (٤٢) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (٤٣) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (٤٤) وَقَالَ
وهي قوله: ﴿لئن شكرتم﴾ نعمي بالشعور بها في أنفسكم وقدرتموها قدرها بالطاعة وتجنب المعاصي: ﴿لأزيدنكم﴾ من النعم الحسية والمعنوية أو كلاهما معًا ما لم يكن في الحسبان: ﴿ولئن كفرتم﴾ ليس المراد بالكفر هنا الكفر بالله بل كفران النعم بمعنى عدم الشعور بأنها من فضل الله بل نسبتموها إلى جدكم واجتهادكم أو من تعتقدون فيهم النفع من دون الله: ﴿إن عذابي لشديد﴾ لا يقتصر ألمه على مجرد جسم الإنسان بل يتعداه إلى قرارة نفسه وسائر ملذاته وما هو متعلق بذات الإنسان أو آت إليه من الخارج فهناك من أنواع العذاب ما من شأنه أن ينغص على الإنسان عيشه ويجعله يزهد الحياة ويتمنى الموت وهو في أوج عزه ومنتهى سعده: ﴿وقال موسى﴾ لقومه بعد هذا إن سنة الله هذه لم تكن منبعثة عن منفعة تعود عليه جل جلاله بل: ﴿إن تكفروا أنتم ومن في الأرض جميعًا﴾ نعم الله ولم تعترفوا بأنها من الله فلا تشكرونه عليها: ﴿فإن الله لغني﴾ عن اعترافكم بها وشكركم عليها ذلك لأن إنكار النعمة لا يغير شيئًا من حقيقتها، ونسبتها إلى غير الله لا يقتضي صدقكم في دعواكم كما إنه تعالى لا ينتفع بشكركم حتى يضره كفركم وهو جل جلاله إلى جانب غناه عن عباده: ﴿حميد﴾ يقدر كلما يصدر من عباده من خير يعود نفعه على أنفسهم أو على غيرهم من البشر ويثيبهم عليه منة وكرمًا فعسى أن يكون لكم من هذه المعلومات ما يحملكم على الإيمان بالله والعمل على نيل رضاه.
بعد أن بيّن الله ما كان من دعوة موسى لقومه إلى الله عن طريق التفاهم والإقناع وتذكيرهم بأيام الله أعقب ذلك بذكر أمثاله من الرسل وما حصل بينهم وبين أقوامهم من نقاش فقال: ﴿ألم يأتكم﴾ **: ﴿نبأ الذين من قبلكم﴾ **: ﴿قوم نوح وعاد وثمود والذين﴾ جاؤوا: ﴿من بعدهم لا يعلمهم إلا الله﴾ أي لا يعلم عددهم لكثرتهم إلا الله: ﴿جاءتهم رسلهم بالبينات﴾ أي بالمعجزات من خوارق العادات ودعوهم إلى الإيمان بالله ليخرجوهم من الظلمات: ﴿فردوا أيديهم في أفواههم﴾ أي أن الكفار لما سمعوا وعظ الأنبياء عليهم السلام أشاروا بأيديهم إلى أفواههم تكذيبًا لهم أو أنهم وضعوها فعلًا على أفواههم منعًا لهم من الكلام: ﴿وقالوا﴾ لهم كفوا عن هذا: ﴿إنا كفرنا بما أرسلتم به﴾ أي بما تزعمون أن الله أرسلكم به: ﴿وإنا لفي شك مما تدعوننا إليه﴾ من الإيمان بوحدانية الله: ﴿مريب﴾ أي يجعلنا نتهمكم بالكذب ونسيئ الظن فيكم: ﴿قالت﴾ لهم: ﴿رسلهم﴾ ما الذي يحملكم على الريبة: ﴿أفي الله شك﴾ أي أتشكون في وجود الله، والفطرة
والنهي بصورة مختصرة: ﴿لعلكم تذكرون﴾ أي تضعوا هذه الوصية في ذاكرتكم فتراعوا مقتضاها في سائر أحوالكم وجميع تصرفاتكم: ﴿وأوفوا بعهد الله﴾ وهو كل عهد يلزمه الإنسان باختيار يجب الوفاء به قال ابن عباس الوعد من العهد: ﴿إذا عاهدتم﴾ أحدًا من الناس سواء كان ذلك العهد لمسلم أو كافر: ﴿ولا تنقضوا الأيمان﴾ التي تحلفون بها عند المعاهدة: ﴿بعد توكيدها﴾ أي المؤكدة بالعزم والقصد فيخرج لغو اليمين مما يجري على الألسنة عن غير قصد. كلا والله. وبلى والله. فهذا مما يجوز نقضه لقوله تعالى: ﴿لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما عقدتم الأيمان﴾.: ﴿وقد جعلتم الله عليكم كفيلًا﴾ شاهدًا ورقيبًا، والكفيل متضامن مع المكفول على سداد الدين ومن حلف بالله تعالى فكأنه قد جعل الله كفيلًا عليه: ﴿إن الله يعلم ما تفعلون﴾ فهو سبحانه يجزيكم على وفاء ما جعلتموه كفيلًا عليكم فيه: ﴿ولا تكونوا﴾ في نقضكم للأيمان: ﴿كالتي نقضت غزلها﴾ أي كامرأة حمقاء قليلة العقل سيئة التصرف غزلت غزلًا تعبت فيه كثيرًا ثم نقضته: ﴿من بعد قوة﴾ أي من بعد أن أصبح طاقات وبسطًا قوية فأجهدت نفسها مرة أخرى في نقضه حتى صار: ﴿أنكاثًا﴾ قطعًا مبعثرة كحالته الطبيعية: ﴿تتخذون أيمانكم دخلًا بينكم﴾ أي لا تكونوا مشابهين لامرأة هذا شأنها حال كونكم متخذين أيمانكم وعهودكم وسيلة للخديعة والمكر: ﴿أن تكون أمة﴾ أي لأجل أن تكون جماعة: ﴿هي أربى﴾ أي أزيد عددًا وأوفر مالًا: ﴿من أمة﴾ أي جماعة أخرى وذلك كأن تعاهدوا الأمة القوية اليوم ثم تنكثوا عهدها في حال ضعفها لتعاهدوا من هي أقوى منها: ﴿إنما يبلوكم الله به﴾ أي إن أمر الله لكم بما ذكر ما هو إلا بقصد اختبار مدى طاعتكم وعصيانكم الأمر الذي يدل على ما منحه الله لكم من كامل الخيار في جميع أعمالكم: ﴿وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون﴾ من الأعمال إذ يميز سبحانه وتعالى إذ ذاك المحق من المبطل بما يظهر من درجات الثواب والعقاب: ﴿ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة﴾ أي لو أن مشيئة الله الأزلية كانت تقضي بإجبار الناس على فعل الخير أو الشر ومساواتهم في الثواب والعقاب لفعل ذلك: ﴿ولكن﴾ مشيئته الأزلية قد قضت بأن يكون لكل فرد من البشر مشيئة خاصة يستعملها فيما يروق له ضمن ما ينبهه إليه الله من الأوامر والنواهي فهو سبحانه بما منحه للناس من كامل الحرية قد أخذ على ذاته العلية أن يتركهم وشأنهم: ﴿يضل﴾ سبحانه: ﴿من يشاء﴾ أي يشاء لنفسه الضلال بعدم
إلا: ﴿تصديق الذي بين يديه﴾ أي ما جاء إلا مصدقًا لما سبقه من الكتب المنزلة على من قبله من الأنبياء كنوح وإبراهيم وموسى وعيسى في الدعوة إلى الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح ولم يشذ عنهم في شيء، الأمر الذي يدل على صدقه كصدقهم ولو أنه خالفهم في تلك الأصول لكان ذلك محل نظر أو موجبًا للطعن فيه: ﴿وتفصيل الكتاب﴾ أي هذا القرآن ما جاء إلا مفصلًا لما أنزل في تلك الكتاب بإيضاح ما استشكل منها ودحض الشبهات عنها وبيان مزايا الطاعات والحكمة من أسرار الكائنات وهذا: ﴿لا ريب فيه من رب العالمين﴾ أي ولا شك أن هذا التفصيل حق من حقوق رب العالمين، وهنا انتقل من إثبات صحة القرآن إلى حكاية مزاعم المعاندين والرد عليها فقال: ﴿أم يقولون افتراه﴾ أي أن الرسول ﷺ قد افترى هذا القرآن: ﴿قل﴾ أيها الرسول جوابًا عليهم: ﴿فأتوا بسورةٍ مثله﴾ في تصديق ما سبقه من الكتب وتفصيل ما جاء فيها مما يدل على غزارة علمه: ﴿وادعوا من استطعتم من دون الله﴾ أي اطبلوا الإعانة على ذلك من كبار الفصحاء والبلغاء من البشر: ﴿إن كنتم صادقين﴾ في زعمكم أنه من تأليف الرسول ونسبه إلى الله افتراء عليه وإن في عجزكم عن ذلك لدليل قائم على كذبكم في نسبتكم الافتراء إليه ﷺ وقد صنف الفقهاء عدة مؤلفات في بيان إعجاز القرآن لا من ناحية فصاحته وبلاغته اللغوية فحسب بل من حيث نظمه وأسلوبه وإخباره بسنن الكائنات وما يأتي به العلم من المخترعات التي ما زالت تترى على ممر الأزمان، وهنا وضح الله بعض ما تضمنه قولهم: ﴿افتراه﴾ وما يستلزمه ذلك من كونهم يعتقدون أن محمدًا كان كاذبًا مع أنهم ما كانوا يشكون في صدقه حتى أن أبا جهل لعنه الله كان يقول: إن محمدًا لم يكذب على بشر قط أفيكذب على الله بأن المراد بذلك إنما هو تكذيبهم لما يظنون أنه محال في نفسه إذ قال: ﴿بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه﴾ مما أنذرهم به من عذاب الله لهم في الدنيا والآخرة إن لم يؤمنوا به ويتبعوا شريعته: ﴿ولما يأتهم تأويله﴾ لقد جرى الكثير من العلماء والمفسرين على أن التأويل هو رديف التفسير ومعناه صرف اللفظ عن معناه الظاهر إلى معنى يحتمله في اللغة بشرط موافقته للشرع وبهذا سوغوا لأنفسهم تأويل ما لم يدركوا معناه من كلام الله على حسب ما يبدو لهم أو ما تستسيغه عقولهم وقال بعض المفسرين إن معنى الآية إنهم كذبوا ما لم يفهموا معناه من القرآن أو لم يظهر لهم وجه الإعجاز فيه أو
مؤمنًا صادقًا في إيمانه لمخالفته أمر الله في أمر يعود على المجتمع بالضرر العظيم، وعلى ذكر ما أمر الله به من تقوى الله إثر موضوع الطلاق والعدة ولما كانت التقوى بالنسبة إليهن إنما هي بعدم التقتير عليهن أرشد الله عباده إلى خير وسيلة لتوفير أسباب السعادة ووفرة المال فقال: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ﴾ أي يتجنب ما حرم الله مخافة نقمه فقد أخذ جل جلاله على نفسه عهدًا أن: ﴿يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا﴾ من كل أمر يضايقه في هذه الحياة الدنيا بتدبير منه سبحانه وتعالى: ﴿وَيَرْزُقْهُ﴾ بمعنى يسهل له سبل الرزق: ﴿مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ أي من نواح لا يرجوها ولا يؤملها بل ولم يكن يتصورها: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ﴾ بمعنى يفوض أمره في السر إلى مولاه ويثق بحسن تدبيره ويعتمد على عونه في جميع مساعيه: ﴿فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ أي فإنه تعالى لا بد أن يكفيه ما أهمه فالمخلوق إذ عول عليه آخر في شيء حرص على تحقيقه له فكيف بالله رب العالمين القادر على كل شيء وهذا سر من أسرار الله الخفية وسنة من سننه وإعلان منه بما أودع العبادات من خواص فقد رُوِيَ عن رسول الله قوله: «من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله».
﴿إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ﴾ بالإضافة أي سيبلغ أمره فيما يريده فيه وقرئ: ﴿بالغٌ أمره﴾ بتنوين بالغ ونصب أمره أي منفذ أمره: ﴿قَدْ جَعَلَ اللهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ أي أنه تعالى قد جعل في دستوره أن لكل شيء وقتًا وحدًّا ينتهي إليه فلا شدة تدوم ولا فقر يستمر ولذلك فمن واجب كل إنسان أن يعمل حسب دستور الله للوصول إلى ما يريد من تلك النهاية التي يتوخاها من الفرج المنتظر والغنى المأمول من رب العالمين: ﴿وَاللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِن نِّسَائِكُمْ﴾ بمعنى انقطع عنهن الحيض: ﴿إِنِ ارْتَبْتُمْ﴾ في أمرهن بمعنى التبس عليكم سبب انقطاعه هل هو لكبر السن أم لعارض آخر وطلقتموهن: ﴿فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ﴾ بدلًا من القروء: ﴿وَاللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ﴾ أي لم يرين الحيض أصلًا لصغر سنهن أو لمرض أصبن به فحكمهن حكم من ارتبتم في أمرهن ثلاثة أشهر أيضًا: ﴿وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ﴾ أي النساء الحوامل: ﴿أجلهن﴾ أي تنتهي مدة عدتهن: ﴿أن يضعن حملهن﴾ أي ما يحملن سواء أكان مخلوقًا كاملًا أم كان سقطًا تنتهي العدة بوضعه، ولا كانت نفقة المطلقات كثيرًا ما تثقل على الرجل خصوصًا إذا كن يائسات أو ذوات أولاد عاد جل جلاله فأكد أمر الحض على تقوى الله فيهن وعدد ما للتقوى من مزايا أخرى من شأنها أن تحبب كل مؤمن فيها ليظفر بمنتهى السعادة في دنياه فقال: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا﴾ أي أن الله ييسر له كل
الرسول ﷺ على حق إذا أخبر بما يوافق ما لديهم من غير دراسة وعلم سابق: ﴿ويزداد الذين آمنوا﴾ بالله: ﴿إيمانًا﴾ بحقيقة هذا العدد لثقتهم بأن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يصدر منه الكذب وأنه لا بد له تعالى من حكمة في هذا: ﴿ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون﴾ معًا في صحته بمعنى أنهما لا يجدان في أنفسهما أي دافع إلى الإنكار أو التعجب والتفكير في الأسباب الداعية إلى ذلك التخصيص: ﴿وليقول﴾ هذا عطف على ليستيقن: ﴿الذين في قلوبهم مرض﴾ وهم الذين يشكون في صحة هذا العدد مع دعوى الإيمان: ﴿والكافرون﴾ أي القاطعون بكذب الرسول من الأساس: ﴿ماذا أراد الله بهذا مثلًا﴾ أي أنهم يجزمون بأن هذا العدد لم يكن مراد الله منه ما يشعر به ظاهره بل جعله مثلًا لشيء آخر وتنبيهًا على مقصود آخر ومن أجل هذا سموه مثلًا وتساءلوا عن المراد منه: ﴿كذلك﴾ بمثل هذا الاختلاف في المفاهيم والأقوال: ﴿يضل الله من يشاء﴾ لنفسه الضلال إذ يرتاب في صحة كلام الله فلا يعمل به أو يعمد إلى تأويله واتخاذه من قبيل الأمثال فيبطل مفعوله: ﴿ويهدي من يشاء﴾ لنفسه الهداية إذ يصدق بحقيقة هذا العدد ويثق بأن الله لا يكذب وأنه لا بد له من حكمة في ذلك يجهلها الإنسان فيمسك عن الخوض فيما لا يعلم ولا يجد في نفسه ما يدعوه إلى الإنكار أو التعجب أو ما يحمله على تأويل آيات القرآن وحملها على غير ظاهرها محاولًا تكيفها بحسب ما يراه من سائر الموجودات وهذا خلافًا لما جرى عليه المفسرون من أن الفاعل في يشاء هو الله فينسبون إليه جل وعلا إضلال من يشاء مما يتعالى الله عنه علوًا كبيرًا من أنه سبحانه هو الذي يضل من يشاء بمحض الرغبة والإرادة فمحال أن يشاء الله لأحد من عباده الضلال بأن يجعله له غريزة وطبعًا أو أن يلجئه إليه إلجاء أو يكرهه عليه إكراهًا فيكون إعراضه عن الحق والخير وإقباله على الباطل والشر كحركة الدم في الجسد وعمل المعدة في الهضم ففي القرآن آيات كثيرة تدل على أن مشيئة الضلال إنما تتعلق بأصحاب الأعمال الكسبية التي هي من أسباب الضلال ومشيئة الهداية تتعلق بما يقابلها حيث يقول تعالى في سورة إبراهيم: ﴿ويضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء﴾ ويقول في سورة البقرة: ﴿وما يضل به إلا الفاسقون﴾ وقد أوضح الله هذه الحقيقة في صدر هذه الآية بقوله: ﴿كذلك﴾ أي بما سبق من تضارب الأفكار والأعمال التي جعلها سننًا تؤدي للضلال والهدى: ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾ أي والحال أن لله جنودًا لا يعلمها إلا هو فذكره تعالى لعدد زبانية جهنم إنما كان لحكمة هي ما أشار إليها بقوله:
بِالنَّاصِيَةِ (١٥) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نَادِيَه (١٧) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩)}
سورة العلق: بعد أن بين الله في السورة السابقة ما اقتضته مشيئته تعالى في خلق الإنسان ومدى مسئوليته عما يصدر منه من عمل أراد سبحانه أن يثبت فضله العظيم على الإنسان من أول عهده بالحياة إلى أن يبلغ منتهى الكمال وكيف أنه يقابل كل ذلك بالكفران فأشار في هذه السورة إلى أن العلم الذي هو أغلى شيء للإنسان في الحياة ما هو إلا منحة من الله يهبه لمن يسلك السبيل إليه عن طريق التعلم كما يهبه تعالى أيضاً لمن يريد من غير هذا الطريق وضرب المثل على هذا بما كان من أمر عبده محمد العربي ذلك الفتى الأمي الذي لم يسبق له أن تلقى العلم على أحد قط؛ بل إنه نشأ بين قوم أميين لا يقرءون ولا يكتبون ومع ذلك فقد أوتي ملكة العلم وملكة القراءة من غير تعلم وبغير وسائل التعليم المتعارفة وفي وقت متأخر من العمر لا يمكن للمرء أن يدرك فيه العلم عادة وهو سن الأربعين ولذا استهل هذه السورة بذكر الطريقة التي نال بها نبيه العلم فأشار إلى أول محادثة جرت بينه وبين جبريل عليه السلام إذ وافى محمداً وهو منقطع بغار حراء يتطلب الهداية من مولاه إلى ما فيه رضاه فقال له الملك: اقرأ فأجابه أيضاً بقوله: «ما أنا بقارئ» أي إني أمي لم أتعلم القراءة ولا الكتابة من أحد فأخذه الملك فغطه أي عصره عصراً شديداً حتى بلغ منه الجهد غايته ثم أرسله وقال له: اقرأ فأجابه بقوله: «ما أنا بقارئ» أي لست من طائفة القراء فكيف تطالبني بشيء أجهله فأخذه فغطه للمرة الثانية حتى بلغ منه الجهد ثم أرسله وقال له: اقرأ فأجابه بقوله: «ما أنا بقارئ» أي أنا لا أعرف ماذا أقرأ وكيف أقرأ فأخذه وغطه للمرة الثالثة وقال له: ﴿اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ﴾ وهذا أول خطاب نزل به الوحي على الرسول ومعناه كن قارئاً بأمر الله القادر على كل شيء الخالق لجميع الكائنات من العدم فلا غرابة إذا جعل منك قارئاً وإن لم يسبق لك تعلم القراءة والكتابة: ﴿خَلَقَ الإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ﴾ العلق الدم الجامد ويراد به حالة الجنين في الأيام الأولى لخلقه فمن كان قادراً على أن يخلق من هذا الدم إنساناً كامل الخلقة مكوناً من لحم وعظم وعروق وأنواع كثيرة مما بداخل الإنسان لا يعجزه قطعاً أن يجعلك قارئاً بعد أن كنت أميًّا وقد دلَّنا هذا على أن جبريل عندما غط نبينا تلك الغطات الثلاث أكسبه منه ملكة العلم التي هي قوة من قوى الله الخفية.


الصفحة التالية
Icon