التردد سيئات، فلم يقتنعوا بذلك أيضًا وأصروا على تقاعسهم عن تنفيذ أمر ربهم، والتمسوا لذلك الأعذار، وأخذوا يخترعون له الأسئلة حيث ﴿قالوا ادع لنا ربك يبين لنا ما لونها﴾ لأننا نخشى أن يكون للبقرة المطلوبة لون خاص فإذا ذبحناها على خلافه نخسر ثمنها ولا تجدينا فتيلًا ﴿قال إنه يقول إنها بقرة صفراءُ فاقعٌ لونها﴾ أي صاف أو شديد الصفرة ﴿تسر الناظرين﴾ والبقر بمثل هذا اللون، وتلك السن كثير فأيها ذبحتم أجزأكم، فلم يقتنعوا بذلك أيضًا بل استمروا في عنادهم وتقاعسهم ثم ﴿قالوا﴾ لا بد وأن يكون للبقرة المطلوبة علامة فارقة تميزها عن غيره ﴿ادعو لنا ربك يبين لنا ما هي﴾ تلك العلامة الفارقة ﴿إن البقر﴾ وقرئ ﴿الباقر﴾ اسم لجماعة البقر ﴿تشابه﴾ أي التبس ﴿علينا﴾ وهو مبتذل في الأسواق، ولم نتصور بعد الحكمة أو الغاية من ذبح البقر لذلك، فإنا نعتقد أن الله لم يأمرنا بذبح البقرة إلا وقد أراد بقرة خاصة بعينها ذات خاصية وقيمة ﴿وإنا إن شاء الله لمهتدون﴾ إلى البقرة التي أمرنا بذبحها ﴿قال﴾ ما دمتم تأبون إلا التكليف والتعيين، ولم يكن ذلك مقصودًا أصلًا فاعلموا ﴿إنه يقول إنها بقرة لا ذلولٌ﴾ بضم اللام الأولى وقرئ بفتحها أي سهلة الانقياد ﴿تثيرُ الأرض﴾ أي لم تذلل لإثارة الأرض ﴿ولا تسقي﴾ بفتح التاء وقرئ بضمها ﴿الحرث﴾ أي ليست من البقر التي يسقى بها الحرث ﴿مسلمةٌ﴾ أي بريئة من العيب ﴿لاشية فيها﴾ أي لا علامة فارقة فيها، وعندئذ بحثوا عنها بهذه الأوصاف فلم يجدوها مستكملة كل هذه الأوصاف إلا عند إنسان واحد فقط وأبي بيعها إلا بأضعاف ثمنها فأيقنوا من غلو ثمنها وتميزها عن غيرها وانطباق الأوصاف عليها أنها حقًّا هي المقصودة من الأمر وعندئذ ﴿قالوا الآن﴾ وقرئ ﴿الان﴾ بحذف الهمزة ﴿جئت بالحق﴾ لقصر نظرهم وإلا فإن ما قاله من أول مرة هو الحق. وقد قال ابن عباس رضي الله عنه: لو ذبحوا أية بقرة أرادوا لأجازت منهم، لكنهم شددوا على أنفسهم، فشدد الله عليهم ﴿فذبحوها﴾ بعد أن اشتروها بثمن باهظ ﴿وما كادوا يفعلون﴾ أي ما قاربوا الفعل لعدم وجود الرغبة الكافية في نفوسهم لاتباع أوامر الله، والإذعان لأحكامه لعدم الحكمة في ذبح البقرة. وهنا نبه الله بني إسرائيل أيضًا إلى أن ما أصباهم من قسوة القلب، وموت العاطفة النبيلة في نفوسهم إنما هو نتيجة تشككهم في علم الله بحقائق الأمور، كما يتجلى ذلك من قتلهم نفسًا، وإنكار كل واحد منهم أمر القتل، ومطالبة موسى بالدلالة على القاتل، فأظهره الله من بينهم
لهم أن يمتنعوا منه ﴿رحيم﴾ يقدر ضعف الإنسان عن امتلاك نفسه خصوصًا في ساعة الغضب فلا يرى بأسًا من رجوعه في إيلائه ﴿وإن عزموا الطلاق﴾ بأن تبين بتركهم الفيئة أنهم قرروا الاستمرار في المفارقة ﴿فإن الله سميع﴾ لما قالوه في حال الإيلاء ﴿عليم﴾ بما قصدوه منه فيعتبره طلاقًا ولا يبيح لهم بعد انقضاء المدة المذكورة الدنو منهن.
وعلى ذكر تعداد بعض الأحكام العامة وبمناسبة البحث في موضوع إيلاء الرجال من النساء ذكر الله أحكامًا تتعلق بالطلاق وما يتفرع عنه فأتى بحكم عدة المطلقة فقال ﴿والمطلقات﴾ من النساء الأحرار المدخول بهن من ذوات الحيض إذا كن غير حاملات ﴿يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء﴾ جمع قرء وهو الجمع بين زمن الطهر وزمن الحيض أي لا يتزوجن خلال تلك الفترة وبعبارة أخرى يجب عليهم أن يملكن رغبتهن ويكففن جماح أنفسهن عن الزواج ﴿ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن﴾ من الحيض أو الحمل تحت تأثير غرض من الأغراض الدنيوية كإطالة أمد العدة لزيادة النفقة أو تقصير مدتها بإخفاء الحمل لسرعة النكاح برجل آخر ﴿إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ أي إذا كن يعرفن أن هناك ربًّا يعلم بالحقائق وأن هناك يومًا يحاسبهن فيه سبحانه على تجاوزهن أوامره وما في ذلك من وزر وما يترتب عليه من أكل أموال بغير حق وإلحاق ولد بغير والد ثم أتى بحكم الرجعة والحقوق الزوجية فقال ﴿وبعولتهن﴾ أي أزواجهن ﴿أحق بردهن﴾ أي ولبعولتهن الحق في ردهن إلى عصمتهم أو بردهن عن التربص بإرجاعهن إلى عصمتهم ﴿في ذلك﴾ أي في زمن العدة، وفي هذا بيان لحكمة أخرى للعدة غير تبين الحمل أو براءة الرحم وهي حق الرجل في المراجعة خلالها ﴿إن أرادوا﴾ أي البعولة ﴿إصلاحًا﴾ أي إذا قصدوا إصلاح ذات البين وحسن العشرة أما إذا قصدوا بقلوبهم من المراجعة المضارة فأمر جزائهم على ذلك عائد إلى الله ﴿ولهن﴾ أي وللنساء على الرجال ﴿مثل الذي عليهن﴾ لهم من حسن العشرة وسائر الحقوق والواجبات ﴿بالمعروف﴾ أي باللطف والإحسان لا بالعنف والشدة، ولما كان الاختلاف في الرأي من سنن الله في الخلق ولا تصلح الرعية بدون راع ولا الجماعة من غير رئيس ولا الأسرة
رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (١٣٣) الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣٤) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّواْ عَلَى مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (١٣٥) أُوْلَئِكَ جَزَآؤُهُم مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (١٣٦) قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ (١٣٧) هَذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ (١٣٨) وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١٣٩) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (١٤٠) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (١٤١) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (١٤٢) وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ (١٤٣) وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (١٤٤) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَابًا مُّؤَجَّلًا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (١٤٥) وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (١٤٦) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (١٤٧) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوَاْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ (١٤٩) بَلِ اللَّهُ مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (١٥٠) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُواْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (١٥١) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (١٥٢) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غُمًَّا بِغَمٍّ لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (١٥٣) ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّن بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُّعَاسًا
مؤخرة الجند على الأقل ﴿قالوا لو نعلم﴾ أنكم تقصدون ﴿قتالا﴾ متبادلاً ﴿لاتبعناكم﴾ فيه ولكنا نعتقد أنكم لا تستطيعون منازلة أعدائكم لأنهم أكثر منكم عددًا وعدة وإنما تريدون أن تقتلوا لتنالوا الشهادة ونحن نرى هذا منكم إلقاء بأنفسكم إلى التهلكة والله لا يرضى بهذا ﴿هم﴾ بقولهم هذا ﴿للكفر يومئذ أقرب منهم للإيمان﴾ ذلك لأنهم حسبوا أن النصر بكثرة العدد والعدد ولم يؤمنوا بأن النصر بيد الله بل لم يصدقوا وعد الله لهم بقوله: ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم﴾ مما ينفي أن يكون الخروج إلى تلك المعركة إلقاء بالنفس في التهلكة ﴿يقولون بأفواههم﴾ كلامًا يعبر عن استعدادهم للجهاد وهو ﴿ما ليس في قلوبهم﴾ من رغبة في الجهاد ﴿والله أعلم بما يكتمون﴾ من السخرية بالمسلمين وعدم الوثوق بقول الرسول ووعده إياهم النصر، وهذا كفر والعياذ بالله.
وبعد أن ذكر الله قول هؤلاء المنافقين قبل القتال بالاعتذار عن تخلفهم وقعودهم. وذكر قولهم بعد القتال صدًا للناس عن واجب الجهاد فقال ﴿الذين قالوا لإخوانهم﴾ أي الذين على شاكلتهم في النفاق ﴿وقعدوا﴾ أي الذين تخلفوا عن القتال لعذر ما من المؤمنين حقًا ﴿لو أطاعونا﴾ أي أولئك الذين استشهدوا مع رسول الله فلم يخرجوا معه ﴿ما قتلوا﴾ ولما أصابهم شيء من الهزيمة ﴿قل﴾ أيها الرسول لهؤلاء المنافقين ﴿فادرءوا﴾ أي ادفعوا ﴿عن أنفسكم الموت﴾ بالاحتراز عن أسبابه ﴿إن كنتم صادقين﴾ في زعمكم بأن عدم طاعتهم لكم كان هو السبب في قتلهم وإلا فمن أين لكم بأن الخروج للقتال موجب للموت، فما كل مقاتل يموت، ولا كل قاعد يسلم إلا أن الله قد جعل لكل من الهزيمة والنصر وسائل وسن لها سننًا والمصائب التي تعترض الإنسان في هذه الحياة ترجع إلى ما يزاوله من الأسباب التي تؤدي إليها بمقتضى سنن الله في الكون ﴿وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير﴾.
بعد أن أشار الله سبحانه وتعالى إلى ما يقوله المنافقون لتثبيط همم الناس عن الجهاد في سبيله: من أنهم لو أطاعوهم في عدم الخروج ما قتلوا ورد عليهم جل وعلا بقوله: ﴿قل فادرءوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين﴾ أردف ذلك بما يشعرهم بأن القتل في سبيل الله لا يعد موتًا بالمعنى الحقيقي وإن كان هو في الظاهر وبحسب العرف العام موتًا باعتباره مفارقة الروح للجسد
لكم بالدسائس وإلقاء الفتن بينكم ﴿وأولئكم﴾ هم الذين يدعونهم في اصطلاح هذا العصر بالطابور الخامس الذين ﴿جعلنا لكم عليهم سلطانًا مبينًا﴾ أي أبحنا لكم حق إعدامهم لارتكابهم ما يسمى في عرف الناس بالخيانة العظمى ضد سلامة البلاد.
بعد أن أنحى الله باللائمة على المؤمنين لتخالفهم في الحكم على المنافقين مع أن حكم الله وفعل الرسول واضح وهو يقضي بالتريث في أمرهم وعدم الإقدام على قتلهم إلا في حالة ما إذا بدا منهم نشاط سياسي وتمرد وتجاوز على حقوق المؤمنين بيّنَ الله السبب في تقييد جواز القتل بهذه الشروط فقال: ﴿وما كان لمؤمن﴾ رخصة أو إجازة من الله من أول زمن التشريع ﴿أن يقتل مؤمنًا﴾ بدون سبب موجب للقتل اللهم ﴿إلا﴾ أن يحصل ذلك القتل ﴿خطأ﴾ عن غير قصد فلا إثم عليه لأن الله رفع عن أمة محمد الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه غير أن الله تبارك وتعالى زيادة في تحرر المؤمن من قتل أخيه المسلم قد أوجب في حق القتل الخطأ ما لم يوجبه في غيره من المحرمات في حالة الخطأ فقال ﴿ومن قتل مؤمنًا خطأ﴾ بأن ظنه كافرًا محاربًا أو أراد رمي صيد أو هدف فأصاب المؤمن أو ضرب بما لا يقتل عادة كالصفع باليد أو الضرب بالعصا ولم يقصد قتله فمات ﴿فتحرير رقبة مؤمنة﴾ أي فقد جعل الله كفارة ذلك بالنسبة لحق الله أولًا. أن يعتق رقبة واحد من الأرقاء الذين اعتنقوا الإسلام ولم يستطيعوا افتداء أنفسهم من الرق لييسر لهم سبيل الحرية مقابل ما سلبه من القتيل من حق الحياة ﴿ودية مسلمة إلى أهله﴾ أي أن الحق الخاص لأهل القتيل يأتي ثانيًا. تعويضًا لهم عن دمه أو مقابل ما حرموا منه من معونة القتيل ومنفعته وقد حددها الرسول بمائة من الإبل وأنها على أهل الذهب ألف دينار ﴿إلا أن يصدقوا﴾ أي يتنازلوا عنها ويسقطوها باختيارهم فلا تجب
احتباس المطر وتوسلهم بعمه العباس بعد وفاته.
ثانيا: لأن التوسل إلى الله بأحد من خلقه حتى ولو كان من الأنبياء المقدسين يحمل معنى الانتقاص مع مقام الألوهية وجرح صفة الكرم والإحسان الثابتة لله لأن الله الكريم الذي شمل الجميع بآلائه ودعا العباد لدعائه من غير واسطة ووعدهم بالإجابة بمجرد الدعاء ليس في حاجة إلى أن تستجدي رحمته عن طريق التوسل إليه بأحد مخلوقاته بل إن التوسل إليه في هذه الحالة إنما يدل على الشك في صدق وعد الله بإجابة الدعاء فيحمله هذا على التوسل إليه لتحقيق وعده.
ثالثا: إن التوسل إلى الله بأحد من خلقه قد يدل على معنى القسم على الله بذلك الشخص المتوسل به وهو ممنوع لأن القسم بالمخلوق غير جائز فالقسم على الخالق بالمخلوق من باب أولى.
رابعا: لأن العقل لا يسلم بأن مجرد تسميتك لبعض الأنبياء أو الصالحين يصلح أن يكون وسيلة تحقق لك شفاعتهم دون أن تعمل ما شرع الله لك من الطاعات.
خامسا: لأن من سنة الله في خلقه في هذه الحياة أن الإنسان لا يشفى من مرض إذا ترك الدواء وشربه عنه غيره ولا يمكن أن تؤثر في نفسه أو تظهر في أعماله أخلاق غيره والله تعالى يقول (من عمل صالحا فلنفسه ومن أساء فعليها وما ربك بظلام للعبيد).
سادسا: لأن الحكم بصلاح شخص بعينه من الناس والتوسل به إلى الله دون أن يخبرنا الله بصلاحه فيه افتئات كبير على الله وظواهر الناس قد لا تكون منطبقة على ما في الباطن والعبرة بالخواتيم وقد ورد في الحديث عن رسول الله ﷺ «إن الرجل ليعمل عمل أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة» وقال أيضا «إن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل الجنة ثم يختم عمله بعمل أهل النار وإن الرجل ليعمل الزمن الطويل بعمل أهل النار ثم يختم عمله بعمل أهل الجنة».
<٥٥>
الأمر الثالث: قوله (وَجَاهِدُوا) أنفسكم بكفها عن الأهواء وحملها على التزام الحق في جميع الأحوال والصبر على أذى أعداء الله الذين يحاولون الطعن في الإسلام وإطفاء نوره (فِي سَبِيلِهِ) أي من أجل
النعم عليهم ثانيًا، حتى إذا لم تبق لهم أية حجة يتذرعون بها استأصلهم وطهر البلاد من شرورهم وجعلهم عبرة لمن يعتبر وذكرى للذاكرين.
بعد أن أمر الله رسوله بتحذير الناس من سلوك سبل الضلال ودعوتهم إلى معرفة الله والضراعة إليه، أخذ يدعم هذه الدعوة ويؤكد من جديد أن سلطانه تعالى لا يتعارض مع مبدأ العدل المطلق الذي بنى عليه دستوره الذي أعلنه لعباده فقال ﴿قل﴾ يا أيها الرسول للناس أجمعين ﴿أرأيتم﴾ ماذا يكون من شأنكم ﴿إن أخذ الله سمعكم وأبصاركم﴾ أي أصمكم وأعماكم ﴿وختم على قلوبكم﴾ التي هي أداة الفهم والشعور والعقل فأصبحتم لا تسمعون قولًا ولا تبصرون طريقًا ولا تعلقون نفعًا ولا ضرًّا ولا تدركون حقًّا ولا باطلًا ﴿من إله غير الله يأتيكم به﴾ أي بما أخذ منكم. لا شك أن من أخذ الشيء هو القادر على رده فلماذا لا تدعونه وتضرعون إليه دائمًا في الشدائد ﴿انظر كيف نصرف الآيات﴾ أي ننوع الحجج والدلائل بمختلف الأساليب لنقنعهم بضرورة معرفة الله والرجوع إليه وحده بالدعاء الذي هو مخ العبادة بل هو العبادة التي لا تكون إلا له جل وعلا ﴿ثم هم يصدفون﴾ أي يعرضون عن فهم هذه الحقائق فيوجهون الدعاء إلى غير الله ولا يحسبون أن ذلك من العبادة في شيء ﴿قل﴾ أيها الرسول لهؤلاء المعرضين ﴿أرأيتكم﴾ أنتم في أنفسكم كيف يكون شأنكم ﴿إن أتاكم عذاب الله بغتة﴾ فجأة أي غير مسبوق بمقدمات وأمارات ﴿هل يهلك﴾ يموت ويفنى ﴿إلا القوم الظالمون﴾ بمعنى أنه لا يصاب بالأذى والضرر غير أولئك الظالمين لأنفسهم بعدم الإيمان بالله حيث فقدوا الحياة وأضاعوا على أنفسهم فرصة العمل فيها للحياة الأخرى السعيدة الدائمة. أما غيرهم من المؤمنين الصادقين، الذين لم يذهبوا ضحية ظلم غيرهم، فإنهم سينقلون إلى حياة سعيدة ينالون فيها جزاءهم الطيب. وقد نزل في حقهم قوله تعالى: ﴿ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون * فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون * يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين﴾ ولأجل أن يؤكد الله عدله في أحكامه التي لا تتأثر بشفاعة الشافعين أو جاه المقربين قال ﴿وما نرسل المرسلين إلا مبشرين﴾ من آمن وعمل صالحًا بحسن الجزاء ﴿ومنذرين﴾ من أصر على الشرك والعناد والإفساد في الأرض بسوء العذاب ﴿فمن آمن وأصلح فلا خوف عليهم﴾ من
عليها مما يؤدي إلى ازديادها عليهم ليعيشوا في هناء دائم ﴿خالصة﴾ بالنصب وقرئ بالرفع على أنها خاصة بهم ﴿يوم القيامة﴾ أي لا يشاركهم فيها أحد من غير المؤمنين كما تدل عليه الآيات الناطقة بأن التمسك بالدين الحق من شأنه أن يكسب المؤمن سعادة الدنيا والآخرة إذ يقول تعالى: ﴿فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقي ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى﴾ وقوله تعالى: ﴿وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقًا﴾.
﴿كذلك﴾ أي ما ذكرناه عن الزينة والطيبات ﴿نفصل الآيات﴾ أي نوضح في القرآن كل صغيرة وكبيرة من الشؤون الخاصة والعامة ﴿لقوم يعلمون﴾ أي يستخدمون العلم في الكشف عن كل ما يحتاج إليه البشر من أنواع الأطعمة وأنواع الملذات وما ييسر السبل لعمار الكون بمختلف الصنائع والتقدم والحضارة والعمران.
بعد أن اشتد غضب الله على من يستحلون الفواحش ويحرمون ما أحل بقوله لرسوله في الآية السابقة ﴿قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق﴾ قفا عليه بحصر ما حرم سبحانه وتعالى على عباده من أعمال يعود ضررها عليهم وعلى المجتمع الإنساني بأسره فقال ﴿قل﴾ أيها الرسول للناس كافة ﴿إنما حرم ربي﴾ بفتح الياء وقرئ بإسكانها في كتبه وعلى ألسنة رسله من أعمال الناس خمس أنواع الأولى ﴿الفواحش﴾ جمع فاحشة وهي كل فعلة أو خطة يستقبحها ذوو العقول الراجحة التي تميز بين الحسن والقبيح والنافع من الضار ﴿ما ظهر منها وما بطن﴾ كالأعمال الفاضحة التي تخل بالآداب العامة والقذف وبذيء القول والبخل وما إلى ذلك من الصفات الذميمة ﴿و﴾ الثاني مما حرم ربي ﴿الإثم﴾ وهو مخالفة أوامر الله التي يعود ضررها على الإنسان نفسه كترك الصلاة وشرب الخمر وتعاطي الربا وما إلى ذلك ﴿و﴾ الثالث مما حرم ربي ﴿البغي﴾ وهو التجاوز والتعدي على الناس في أنفسهم وأموالهم وأعراضهم ﴿بغير الحق﴾ هذا قيد لإخراج ما إذا كان البغي دفاعًا عن النفس أو رد بغي الباغي والمعتدي السابق إذ البادئ بالظلم أظلم ﴿و﴾ رابع مما حرم ربي ﴿أن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا﴾ كدعاء غير الله والقول بان حكمه بين عباده يقوم على أساس الوسائط والشفعاء لا على أساس العدل وعدم المحاباة ونسبة النفع والضر إلى سواه قال تعالي في سورة المؤمنون ﴿ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به فإنما حسابه عند ربه إنه لا يفلح الكافرون﴾ وقال في سورة الأنعام ﴿وأنذر به الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم ليس لهم من دونه ولي ولا شفيع لعلهم يتقون﴾ وقال {وذكر به أن تبسل
الاحتياط لاتقاء ذلك منذ الآن ولئن أصروا على التكذيب بكل هذا ﴿فبأي حديث بعده يؤمنون﴾ أي فبأي دليل أو برهان يمكن أن يقتنعوا بأنهم قد ضلوا وفق سنن الله التي رسمها للضلال وأن ﴿من يضلل الله﴾ من المكذبين بآياته وعدم الاهتداء بهديه ﴿فلا هادي له﴾ أي فلا سبيل إلى هدايته لأن الهدى لا يكون إلا من الله وقد جعل له سننًا لا تخطئ فمن سار عليها اهتدى ومن أعرض عنها فقد قضت مشيئة الله ألا يردعهم عن الإعراض بالقوة بل يدعهم يسلكون سبيل الضلال بإذن منه ﴿ويذرهم﴾ بفتح الذال وضم الراء وقرئ بجزم الراء ويتركهم وشأنهم ﴿في طغيانهم﴾ الطغيان الغلو في الكفر والإسراف في الظلم والمعاصي ﴿يعمهون﴾ أي يتحيرون ماذا يأخذون وماذا يدعون إذ تتفتح أمامهم سبل الضلال ويستحوذ عليهم الشيطان يزين لهم كل سوء وبهذا ينتفي ما يتصوره البعض من أن الله هو الذي يجبرهم على الضلال اضطرارًا لا خيار لهم فيه.
وعلى ذكر ما جاء في الآيات السابقة من استدراج الله للمكذبين وأنه تعالى سيذرهم في طغيانهم يعمهون وما دعاهم إليه من التفكير فيما ﴿عسى أن يكون قد اقترب أجلهم﴾ ليكون ذلك باعثًا لهم على المسارعة إلى التوبة والإصلاح أخذ الناس يتساءلون إلى متى يكون ذلك الاستدراج ومتى يحين موعد الحساب والعقاب فقال تعالى ﴿يسألونك﴾ أيها الرسول ﴿عن الساعة﴾ التي سينقرض فيها العالم ويأتي وقت الحساب قائلين لك ﴿أيان مرساها﴾ أي متى زمن وقوعها ذلك لأن الحياة الدنيا حركة دائمة ووقوفها هو انتهاء هذا العالم ﴿قل﴾ أيها الرسول ﴿إنما علمها عند ربي﴾ لا يعلم بذلك أحد سواه وقد أرسلت بشيرًا ونذيرًا لا مخبرًا للغيبيات ﴿لا يجليها﴾ أي لا يكشف حجاب الخفاء عنها ﴿لوقتها﴾ المحدود عند الله ﴿إلا هو﴾ إذ لم يعلم سبحانه أحدًا من خلقه لا ملكًا مقربًا ولا نبيًّا مرسلًا ﴿ثقلت في السماوات والأرض﴾ أي ثقل وقعها وعظم أمرها في السموات والأرض على أهلها من الملائكة والإنس والجن لأن الله قد أخبرهم بأهوالها ولم يشعرهم بميقاتها فهم جميعًا يتوقعون قيامها في كل وقت ولا يدرون متى يفاجئون بها وقد قال الله عنها صراحة إنها ﴿لا تأتيكم إلا بغتة﴾ أي فجأة وعلى حين غفلة وعلى انتظار وقد ورد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ولتقومن الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يبيعانه ولا يطويانه ولتقومن الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقيه ولتقومن الساعة وقد رفع أحدكم أكلته إلى فيه فلا يطعمها» والمعنى أنها تبغت الناس وهم منهمكون في أمور معاشهم المعتادة {يسألونك كأنك
﴿فقاتلوا أئمة﴾ وقرئ «أيمة»: ﴿الكفر﴾ قادة أهله وحملة لوائه: ﴿إنهم لا أيمان﴾ بفتح الهمزة وقرئ بكسرها: ﴿لهم﴾ ولا حرمة لعهودهم التي أبرموها على عزيمة النكث فيها وخص رؤساءهم بالذكر إذ هم بلا شك المروجون لمثل هذه الدعايات السيئة ضد الإسلام أما غيرهم من السذج والعوام فلا رأي لهم وهم في الغالب يندفعون وراء كل صائح: ﴿لعلهم ينتهون﴾ من دسائسهم وتحريضاتهم وحذار أن توجهوا جام غضبكم على مجرد العوام والغوغاء ممن طعن في دينكم وتتركوا القادة والعظماء الذين يعملون من وراء الستار إما خوفًا منهم أو لأنكم ما سمعتم منهم شيئًا مع أنهم رأس الفساد الذين يجب قتالهم: ﴿ألا تقاتلون قومًا﴾ هم زعماء المشركين وقد صدر منهم ثلاثًا أسباب كل واحد منها مما يوجب مقاتلتهم لو انفرد فكيف بها وقد اجتمعت وعددها الله بقوله: ﴿نكثوا أيمانهم﴾ التي حلفوها مع الرسول والمؤمنين على أن لا يعاونوا بني بكر على خزاعة إذ كان من طبعهم نكث العهود: ﴿وهموا بإخراج الرسول﴾ حين تشاوروا بمكة بدار الندوة في أمره وقيل هم اليهود هموا بإخراجه من المدينة: ﴿وهم بدءوكم﴾ بالقتال: ﴿أول مرة﴾ في بدر إذ قالوا بعد العلم بنجاة العير التي كانوا قد خرجوا لإنقاذها لا ننصرف حتى نستأصل محمدًا وأصحابه ونقيم في بدر أيامًا نشرب الخمر وتعزف على رؤوسنا القيان وكذلك الحال في أحد والخندق وغيرها فكل هذه الحروب لم تكن إلا بفعل القادة والزعماء وفي كلها كانوا هم البادئون فيها بقتال المؤمنين فما يمنعكم أن تعارضوهم وتصادموهم: ﴿أتخشونهم﴾ أتتحاشون قتال القادة خشية منهم لأنهم ذوو شوكة وقوة: ﴿فالله أحق أن تخشوه﴾ إذ هو مصدر جميع القوى وصاحب الشوكة والسلطة الذي لا يغلب: ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ حقًّا بقدرته تعالى على كل شيء وأنه سبحانه وحده الذي يمنح النصر لمن يشاء من عباده ويدافع بقوته عمن يريد فلتكونوا أشجع الناس في لقاء أعداء الله وأقدرهم على نصرة دينه الحق واعلموا أن الله لا يعجزه أن يبيد أعداءه في لحظة واحدة من غير حاجة لمقاتلتكم إياهم ولكنه إنما أمركم بقتالهم لمصلحتكم ولأجل إدخال السرور إلى قلوبكم: ﴿قاتلوهم يعذبهم الله﴾ بما يقدركم عليه من إصابة المرمى وما يفضي إليه ذلك من القتل والجرح: ﴿بأيديكم﴾ ولولا تأييد الله لكم لم تصيبوا منهم مرمى ولن يتم لكم النصر عليهم: ﴿ويخزهم﴾ بذل الأسر أو القهر لمن لم يقتل: ﴿وينصركم عليهم﴾ بإخضاعهم لسلطانكم: ﴿ويشف صدور قوم مؤمنين﴾ بعز الإسلام وما نالوه من نصر شامل هو غاية أمانيهم في الحياة: {ويذهب
حقيقة أحكامه وعلق على ذلك الإمام الرازي من زعماء المؤولين بقوله: «قال أهل التحقيق قوله: لما يأتهم تأويله» يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق أما إذا عرف وجه التأويل وطبق التنزيل على التأويل فيصير: ﴿نورًا على نورٍ يهدي الله لنوره من يشاء﴾ وقد بينا بطلان هذا الرأي وضلال المؤولين لكلام الله في الصفحة ٥٣ من الجزء الثالث من تفسيرنا هذا فالتأويل بالنسبة لكلام الله لا ينصرف إلا لمعنى واحد فقط وهو عاقبة الشيء ومآله الذي يؤل إليه من بيان مصداقه المراد منه بالفعل، فيكون معنى الآية هو: ولما يأتهم إلى الآن ما يؤل إليه ويكون مصداقًا له بالفعل وإتيانه أمر لا بد منه: ﴿كذلك كذب الذين من قبلهم﴾ من مشركي سائر الأمم السابقة ما أنذروا به من رسلهم حتى حل بهم ما حل من العذاب: ﴿فانظر﴾ أيها العاقل المتدبر: ﴿كيف كان عاقبة الظالمين﴾ لأنفسهم بتكذيب رسلهم وتأويل وعيدهم لهم لتعلم مصير الظالمين من بعدهم وقد فصل الله ذلك المصير بقوله: ﴿فكلًا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾.
بعد أن أقام الله الحجة على أن القرآن هو سبيل الهداية ورد على مزاعم الطاعنين فيه وتحداهم بالإتيان بسورة مثله وأشار إلى ما يحملهم على تكذيبه مما كان سببًا فيما حاق بالأمم السابقة أخذ يطمئن رسوله بأن قومه لن يكونوا كأولئك الظالمين الذين كذبوا رسلهم إلا قليلًا منهم فكانت عاقبتهم عذاب الاستئصال بل إنهم سينشطرون إلى شطرين حيث قال: ﴿ومنهم من يؤمن به﴾ أي بالقرآن فيتبع أحكامه ويسير في الحياة على هداه: ﴿ومنهم من لا يؤمن به﴾ أي لا يتبع أحكامه ولا يأتمر بأوامره لا أنه ينكر أنه من وحي الله وإلا لما كان مسلمًا بالمرة: ﴿وربك أعلم بالمفسدين﴾ في الأرض بسوء أعمالهم التي تخالف ما شرعه في كتابه: ﴿وإن كذبوك﴾ أي إن أصروا على تكذيبهم لرسالتك: ﴿فقل لي عملي﴾ أي إني سأجزى على عملي: ﴿ولكم عملكم﴾ وستجزون على عملكم: ﴿أنتم بريئون مما أعمل﴾ ما دمتم غير متبعين لي: ﴿وأنا بريء مما تعملون﴾ من أعمال نهيتكم عنها فلم تطيعوني فيها: ﴿ومنهم﴾ أي من قومك: {من
الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (٤٥) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (٤٦) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (٤٧) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (٤٨) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (٤٩) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (٥٠) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (٥١) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (٥٢) وَمَا أُبَرِّىءُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (٥٣) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (٥٤) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (٥٥) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٥٦) وَلأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (٥٧) وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (٥٨) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (٥٩) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (٦٠) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (٦١) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٦٢) فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (٦٣) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٦٤) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (٦٥) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (٦٦) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (٦٧) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا
والعقل شاهدان بوجوده فكل مخلوق لا بد له من خالق وهو سبحانه: ﴿فاطر السماوات والأرض﴾ أي خالقها ومبدعها على غير مثال سابق فهل يمكنكم إنكار ذلك وهو: ﴿يدعوكم﴾ إلى الإيمان به والرجوع إليه في النائبات ودعائه لقضاء الحاجات والتجاوز عن السيئات: ﴿ليغفر الله لكم من ذنوبكم﴾ أي ليغفر لكم بعض ذنوبكم بمعنى ما يمكن التجاوز عنه وغفرانه وفق ما سنه من نظام هذا نصه: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾: ﴿ويؤخركم﴾ أي يمد في عمركم فضلًا منه وكرمًا: ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي الوقت الذي سماه الله وحدده في علمه ولا يعجله لكم بمختلف الأسباب المؤدية إليه نتيجة كفركم وإعراضكم عنه: ﴿قالوا﴾ نحن لا نشك في وجود الله ولكنا ننكر رسالتكم عنه: ﴿إن أنتم﴾ أي ما أنتم: ﴿إلا بشر مثلنا﴾ ليس لكم من فضل يؤهلكم لما تزعمونه لأنفسكم من حق في تبليغ الرسالة عن الله ونعتقد أنكم: ﴿تريدون﴾ بزعمكم أنكم تحملون الرسالة عن الله: ﴿أن تصدونا﴾ بتخصيص العبادة لله: ﴿عما كان يعبد آباؤنا﴾ أي عن الاستمرار في عبادة ما كان يعبد آباؤنا، وتسيطروا بذلك على عقائدنا: ﴿فأتونا﴾ أي وإذا لم يكن الأمر كما قلنا بل كنتم تحملون رسالة فعلًا عن الله فأتونا: ﴿بسلطان مبين﴾ أي بحجة قاطعة تشهد بفضلكم علينا وتثبت لنا استحقاقكم لتلك المنزلة الرفيعة التي تزعمونها لأنفسكم من تبليغ الرسالة لا النبوة كما ذهب المفسرون فإنها لم تكن مدار بحث وهم لم يدعوها: ﴿قالت لهم رسلهم﴾ حقًّا: ﴿إن نحن إلا بشر مثلكم﴾ كما تقولون: ﴿ولكن الله﴾ من شأنه وعظيم فضله: ﴿يمن﴾ أي يعطي بمحض الامتنان كافة الفضائل والكمالات وفي مقدمتها تبليغ رسالته للناس: ﴿على من يشاء﴾ فاعل يشاء عائد على اسم الموصول أي كل من أحب وعمل لتبليغ الرسالة ونشر الدعوة إلى الله: ﴿من عباده﴾ فإنه سبحانه وتعالى لا يمنع أحدًا من ذلك ولا يحرمه من هذا الشرف الرفيع ولمثل هذا فليعمل العاملون: ﴿وما كان لنا أن نأتيكم بسلطان﴾ أي وليست لنا قدرة على أن نأتيكم بمعجزة أو حجة قاطعة تشهد برسالتنا: ﴿إلا بإذن الله﴾ أي إلا بما يأذن الله لنا به ويجريه على أيدينا وقد أذن سبحانه لكل إنسان أن يدعو إلى الإيمان به وهو المسئول أن يؤيده بمختلف الوسائل التي تقوي حجته والتي منها أن يجري على يده شيئًا من الكرامات وخوارق العادات: ﴿وعلى الله﴾ وحده: ﴿فليتوكل المؤمنون﴾ أي فعلى كل مؤمن أن يتوكل على الله ويعمل لنشر دعوته ليفوز برضوانه ويحصل على تأييده: ﴿وما لنا﴾ نحن الرسل: {ألا نتوكل
اتباعه لأوامر الله: ﴿ويهدي من يشاء﴾ لنفسه الهدى بسلوك سبيله من الإيمان والعمل الصالح مما أشار إليه من العدل والإحسان إلى آخره: ﴿ولتسألن﴾ يوم القيامة: ﴿عما كنتم تعملون﴾ وتجزون على ذلك وفق ما أعلنه تعالى لكم من الأحكام.
بعد أن أمر الله بالوفاء بالعهد وعدم نقضه وأخبر بما اقتضته مشيئته الأزلية من جعله الناس أحرارًا في تصرفاتهم وأن يتركهم وشأنهم في اختيار السبيل المؤدي إلى الضلال أو الهدى وأنه تعالى سيسألهم عن ذلك يوم القيامة عاد إلى تنبيههم إلى ما يترتب على نقضهم لعهده من سيئات في الدنيا والآخرة وما سينالهم من خير عظيم إذا هم راقبوا الله وعملوا الصالحات من أجل نيل رضاه فقال: ﴿ولا تتخذوا أيمانكم دخلًا بينكم﴾ أي لا تتخذوا من القسم بالله وسيلة لمخادعة الناس وتغريرهم فيطمئنوا إلى أقوالكم وأنتم كاذبون فيما تحلفون عليه: ﴿فتزل قدم بعد ثبوتها﴾ هذا مثل يضرب لكل من وقع في بلاء بعد عافية ومحنة بعد نعمة والمعنى إذا تواضع الناس على مخادعة بعضهم بالأيمان الكاذبة يتلاشى ما كان لهم من ثقة بتلك الأيمان التي هي السر في نجاح سائر المعاملات وبها تتوثق العلاقات ومتى زالت الثقة من بينهم فسدت المعاملات وتناكرت النفوس وساء حال المجتمع وتبدلت السعادة شقاء والأمن خوفًا: ﴿وتذوقوا السوء﴾ أي العذاب في هذه الحياة فلا يأمن الرجل ابنه والأخ أخاه ولا الشريك شريكه: ﴿بما صددتم عن سبيل الله﴾ أي وذلك يعود إلى صرفكم الناس عن الثقة التي كانت سائدة بين الجميع عند سماعهم لاسم الله: ﴿ولكم عذاب عظيم﴾ في الآخرة جزاء على استخفافكم باسمه الكريم: ﴿ولا تشتروا بعهد الله﴾ أي لا تأخذوا في مقابل نقض عهد الله: ﴿ثمنًا قليلًا﴾ ويراد به عرض الدنيا مهما عظم: ﴿إن ما عند الله﴾ أي إن ما أعده الله من الجزاء للموفين بعهدهم: ﴿خير لكم﴾ من ذلك الثمن: ﴿إن كنتم تعلمون﴾ فالله وحده يستطيع أن ينيلكم في الدنيا أضعاف ذلك من حيث لا تحتسبون: ﴿ما عندكم﴾ أي إن عطاء المخلوق للمخلوق الذي يشتري به عهد الله مهما كثر فهو قليل: ﴿ينفد﴾ أي لا بد من استهلاكه: ﴿وما عند الله﴾ من النعم الدنيوية التي يمنُّ الله بها على عباده كالسمع والبصر مثلًا والأخروية كصالح العمل: ﴿باق﴾ ينتقل أثره وجزاؤه إلى ما بعد الموت: ﴿ولنجزين الذين صبروا﴾ على الأذى في سبيل الوفاء بالعهد وغيره من إقامة الشريعة: ﴿أجرهم﴾ على الصبر على الأذى وهو أمر سلبي: ﴿بأحسن ما كانوا يعملون﴾ أي
حقيقة أحكامه وعلق على ذلك الإمام الرازي من زعماء المؤولين بقوله: «قال أهل التحقيق قوله: لما يأتهم تأويله» يدل على أن من كان غير عارف بالتأويلات وقع في الكفر والبدعة لأن ظواهر النصوص قد يوجد فيها ما تكون متعارضة فإذا لم يعرف الإنسان وجه التأويل فيها وقع في قلبه أن هذا الكتاب ليس بحق أما إذا عرف وجه التأويل وطبق التنزيل على التأويل فيصير: ﴿نورًا على نورٍ يهدي الله لنوره من يشاء﴾ وقد بينا بطلان هذا الرأي وضلال المؤولين لكلام الله في الصفحة ٥٣ من الجزء الثالث من تفسيرنا هذا فالتأويل بالنسبة لكلام الله لا ينصرف إلا لمعنى واحد فقط وهو عاقبة الشيء ومآله الذي يؤل إليه من بيان مصداقه المراد منه بالفعل، فيكون معنى الآية هو: ولما يأتهم إلى الآن ما يؤل إليه ويكون مصداقًا له بالفعل وإتيانه أمر لا بد منه: ﴿كذلك كذب الذين من قبلهم﴾ من مشركي سائر الأمم السابقة ما أنذروا به من رسلهم حتى حل بهم ما حل من العذاب: ﴿فانظر﴾ أيها العاقل المتدبر: ﴿كيف كان عاقبة الظالمين﴾ لأنفسهم بتكذيب رسلهم وتأويل وعيدهم لهم لتعلم مصير الظالمين من بعدهم وقد فصل الله ذلك المصير بقوله: ﴿فكلًا أخذنا بذنبه فمنهم من أرسلنا عليه حاصبًا ومنهم من أخذته الصيحة ومنهم من خسفنا به الأرض ومنهم من أغرقنا وما كان الله ليظلمهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾.
بعد أن أقام الله الحجة على أن القرآن هو سبيل الهداية ورد على مزاعم الطاعنين فيه وتحداهم بالإتيان بسورة مثله وأشار إلى ما يحملهم على تكذيبه مما كان سببًا فيما حاق بالأمم السابقة أخذ يطمئن رسوله بأن قومه لن يكونوا كأولئك الظالمين الذين كذبوا رسلهم إلا قليلًا منهم فكانت عاقبتهم عذاب الاستئصال بل إنهم سينشطرون إلى شطرين حيث قال: ﴿ومنهم من يؤمن به﴾ أي بالقرآن فيتبع أحكامه ويسير في الحياة على هداه: ﴿ومنهم من لا يؤمن به﴾ أي لا يتبع أحكامه ولا يأتمر بأوامره لا أنه ينكر أنه من وحي الله وإلا لما كان مسلمًا بالمرة: ﴿وربك أعلم بالمفسدين﴾ في الأرض بسوء أعمالهم التي تخالف ما شرعه في كتابه: ﴿وإن كذبوك﴾ أي إن أصروا على تكذيبهم لرسالتك: ﴿فقل لي عملي﴾ أي إني سأجزى على عملي: ﴿ولكم عملكم﴾ وستجزون على عملكم: ﴿أنتم بريئون مما أعمل﴾ ما دمتم غير متبعين لي: ﴿وأنا بريء مما تعملون﴾ من أعمال نهيتكم عنها فلم تطيعوني فيها: ﴿ومنهم﴾ أي من قومك: {من
صعب فما من عمل يزاوله إلا وجد السبيل إليه ممهدًا ميسورًا ومعانًا فيه بتوفيق الله وحسن تدبيره بحيث لا يجد في طريقه أي عقبة ولا مشقة: ﴿ذَلِكَ﴾ أي ما ذكر عن فوائد تقوى الله: ﴿أَمْرُ اللهِ﴾ الذي قضى به وأودعه إياها وجعله من خواصها كالخواص التي أودعها سبحانه وتعالى العقاقير لشفاء الأمراض البدنية تمامًا: ﴿أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ﴾ أي أخبركم به وأطلعكم عليه لتكونوا على علم ويقين به فتمارسوا التقوى وتستفيدوا منها في حياتكم الدنيا: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا﴾ أي وفوق ما يستفيده الإنسان من خواص التقوى في هذه الحياة الدنيا فإن هناك ما هو أعظم من ذلك حيث ضمن الله للمتقين سعادة الأخرى وتعهد لهم بالتجاوز عن جميع ما ارتكبوه من السيئات ووعدهم بمضاعفة ما لهم من حسنات منة منه وكرمًا وجزاء معرفتهم له وخوفهم منه وحذرهم من عقابه ثم أخد يوضح جل وعلا معنى التقوى في معاملة المرأة المطلقة طلاقًا بائنًا والتي تقطع علاقتها بالرجل مجرد التلفظ بالطلاق فقال: ﴿أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم﴾ أي أنه لا يجوز أن يلقي الرجل بمطلقته البائنة في الشارع بل عليه أن يضمن لها السكن دون النفقة: ﴿مِّن وُجْدِكُمْ﴾ بضم الواو وقرئ بفتحها وكسرها أي بقدر ما في وسعكم وطاقتكم وما يتناسب مع حالتكم المالية: ﴿وَلا تُضَارُّوهُنَّ﴾ أي لا تقصدوا إضرارهن ولا تتحرشوا بهن وتوجدوا بينكم وبينهم أسباب تخالف وخصام ومباعث شر وانتقام: ﴿لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ لأجل أن تضطروهن إلى ترك السكن الذي أعددتموه لهن: ﴿وَإِن كُنَّ﴾ المطلقات البائنات: ﴿أُولاتِ حَمْلٍ﴾ أي حوامل: ﴿فَأَنفِقُوا عَلَيْهِنَّ﴾ أي قوموا بواجب النفقة عليهن عدا ما هو مقرر لهن من حق السكن: ﴿حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ﴾ أي إلى حين الوضع وعندئذ تتوقف النفقة الواجبة لهن: ﴿فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ﴾ أي فإن ظل الجنين حيًا وأرضعنه بما جعل الله لهن من هذا الحق: ﴿فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ﴾ أي فادفعوا لهن أجرة الرضاع والإمساك والحضانة: ﴿وَأْتَمِرُوا﴾ أي تشاوروا على المقدار اللازم: ﴿بَيْنَكُم بِمَعْرُوفٍ﴾ أي بالطيب وحسن التفاهم فإن المرأة في حال الرضاع تضطر إلى الانقطاع عن العمل وربما لا تجد من يعولها ولا يرغب الأزواج عادة في مثلها فعلى من طلقها أن يقدر ظروفها ويؤدي لها حقوقها على الوجه الأكمل وبحسب العرف المتبع: ﴿وَإِن تَعَاسَرْتُمْ﴾ في الأجرة بأن تمسكت المرأة بأجرة غالية ورفض الرجل دفع ذلك الأجر تعسفًا منه: ﴿فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى﴾ أي أنه في هذه الحالة يسقط حق الأم في الرضاع والحضانة لأنها تمسكت بأجر غير مقبول
﴿وما جعلنا عدتهم إلا فتنة﴾.: ﴿وما هي﴾ أي هذه الآيات التي تبين اختلاف وجهة نظر الناس فيما أوحى به الله لنبيه وما ينفعهم وما يضرهم من العقائد والأقوال حيال ذلك: ﴿إلا ذكرى للبشر﴾ أي ليأخذ كل واحد من ذلك عبرة فيرسم لنفسه السبيل الذي يسلكه وينهج على منواله من يراه أحق بالاتباع: ﴿كلا﴾ ليست هي مجرد ذكرى لمن أراد أن يتذكر فحسب بل إنها أعظم من ذلك إنها إنذار من الله لعباده وقد أقسم الله على ذلك لزيادة التأكيد وبيان ما يترتب على إغفاله من خطر محدق بالناس لا محالة فقال: ﴿والقمر﴾ أي وأقسم بالقمر الذي شهدتم ضياءه: ﴿والليل إذ أدبر﴾ أي ولى وفي قراءة «إذا أدبر»: ﴿والصبح إذا أسفر﴾ بعد توليه مما لا تستطيعون جحوده: ﴿إنها﴾ أي الآيات السابقة: ﴿لإحدى الكبر﴾ معظم الشيء: ﴿نذيرًا للبشر﴾ أي أعظم شيء أنذر به الناس لما اشتملت عليه من أمثلة وشواهد بما كان يجول في الصدور وما تنطق به الأفواه بما يثبت ظلم الإنسان لنفسه: ﴿لمن شاء منكم أن يتقدم﴾ بطلب الهداية بسلوك سبلها من الاستغفار والتوبة والعمل الصالح: ﴿أو يتأخر﴾ عن ذلك بالإعراض عن الله والسير في طريق الشر عن قصد وكامل خيار متجاهلًا قدرة الله عليه مصرًا على مناصبته العداء: ﴿كل نفس بما كسبت﴾ كسب المال سعى إليه وجمعه: ﴿رهينة﴾ وهي ما يرهن لسداد الدين والمعنى أن كل نفس رهن بكسبها عند الله غير مفكرك: ﴿إلا أصحاب اليمين﴾ فإنهم فكوا رقاب أنفسهم بسبب أعمالهم الصالحة كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق والمراد بهم المؤمنون الذين يتبعون أوامر ربهم أو الذين يعطون كتبهم بأيمانهم ولا يرتهنون بذنوبهم في النار فإنهم: ﴿في جنات يتساءلون﴾ أي يسأل بعضهم بعضًا: ﴿عن المجرمين﴾ ماذا تم في أمرهم فيقول بعض من اتصل بهم ورآهم يلقون في سقر إنه وجه إليهم سؤالًا هو قوله: ﴿ما سلككم في سقر﴾ أي ما الذي أودى بكم إلى هذا المصير فذكروا له من أعمالهم أربعة أسباب اعترفوا بصدورها منهم فاستحقوا عليها ما نالوه من عذاب حيث: ﴿قالوا لم نك من المصلين﴾ مع أن الله قد أمرنا بأداء الصلاة: ﴿ولم نك نطعم المسكين﴾ الذي أمرنا الله بإطعامه: ﴿وكنا نخوض مع الخائضين﴾ خاض المنايا ألقى نفسه في المهالك وخاض الليل تخبط فيه غير مكترث بالأهوال ولعل المراد أنهم كانوا يتدخلون فيما حظر عليهم التدخل فيه من أمور الغيب التي لا يعلم بحقائقها إلا الله: ﴿وكنا نكذب بيوم الدين﴾ أي ننكر البعث والحساب والعقاب والجنة والنار: ﴿حتى أتانا اليقين﴾ أي بقينا مصرين على كل هذه الصفات الأربع حتى
﴿اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ﴾ أي إن الله أكرم الأكرمين الذي جعل الكتابة بالقلم هي السبيل إلى معرفة القراءة وفق سننه هو الذي أمرك بالقراءة ومنحها لك بغير طريقها المعهود وهو الذي: ﴿عَلَّمَ الإِنسَانَ﴾ من عهد آدم ومنذ نشأته: ﴿مَا لَمْ يَعْلَمْ﴾ أي ما لم يكن يعلمه من أسماء سائر المسميات: ﴿كَلاَّ إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى﴾ أي أن الإنسان بعدم إيمانه بهذه الحقيقة ليعتد بعلمه وعمله فيكون هذا سبباً في طغيانه: ﴿أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى﴾ أي أن رأى نفسه مستغنياً متى أحس بالقدرة على نيل ما يريد من العلم عن طريق التعلم فيحسب أنه ليس في حاجة إلى معونة من الله له على نيله،: ﴿إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى﴾ أي مع أن كل شيء في الحياة مرجعه إلى الله فهو وحده المستعان إلى بلوغ الآمال على حد الشاعر:
إذا لم يكن عون من الله للفتي فأول ما يجني عليه اجتهاده
﴿أَرَأَيْتَ﴾ هذه الجملة تستعمل بمعنى طلب الأخبار عادة ولكنه لا يقصد منها هنا غير استنكار الحالة المستخبر عنها وتقبيحها وهي قوله: ﴿الَّذِي يَنْهَى (٩) عَبْداً﴾ من عبيد الله سواء من المسلمين أو غيرهم ولو عن طريق السخرية به: ﴿إِذَا صَلَّى﴾ أي دعا ربه يتقبل عمله وإلهامه الرشد في أعماله لأن الصلاة عند المسلمين هي غير الصلاة عند سائر الملل وإنما يجمعها الدعاء: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَانَ﴾ هذا الناهي عن الصلاة: ﴿عَلَى الْهُدَى﴾ سائراً على طريق الحق فلم ينه العبد عن الرجوع إلى الله بالدعاء: ﴿أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى﴾ وهي مخافة الله في السر والجهر: ﴿أَرَأَيْتَ إِن كَذَّبَ﴾ بما جاء به الرسل من عند الله: ﴿وَتَوَلَّى﴾ أعرض عن العمل الطيب الذي يراد به وجه الله: ﴿أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى﴾ أي أجهل أن الله مطلع على كل ما يصدر منه من خير وشر لا تخفى عليه خافية فهو يجزي المحسن على إحسانه والمسيء على سيئاته: ﴿كَلاَّ﴾ كلمة زجر أي لا يستمر الإنسان في غروره: ﴿لَئِن لَّمْ يَنتَهِ﴾ عن نهي الناس عن رجوعهم إلى ربهم بالصلاة وتكذيب الرسل والاعتراض على الأعمال الصالحات: ﴿لَنَسْفَعاً﴾ السفع: الجذب بشدة أي لنأخذن: ﴿بِالنَّاصِيَةِ﴾ الناصية شعر الجبهة أو الجبهة نفسها بمعنى القهر والإذلال،: ﴿نَاصِيَةٍ﴾ هذه بدل من الناصية والمراد صاحبها: وقد أعيدت لتوضيح المقصود منها فوصفها بصفتين هما قوله: ﴿كَاذِبَةٍ﴾ بطغيانها واستغنائها عن ربها: ﴿خَاطِئَةٍ﴾ بإساءتها إلى عباد الله المصلين أو المتصلين بالله بدعائهم: ﴿فَلْيَدْعُ﴾ ذلك الطاغي: ﴿نَادِيَه﴾ النادي المجلس الذي يجتمع فيه القوم على مبدأ واحد ويراد بذلك أن ينادي أهله ممن كان


الصفحة التالية
Icon