بطريقة لا تجعل محلًا للشك والطعن، حيث أمرهم بضرب القتيل بجزء من البقرة التي لم يفهموا السر في ذبحها ففعلوا، وعاد القتيل حيًّا وسمى لهم قاتله وهو البادئ بالشكاية، وابتلاهم الله بعد ذلك بقسوة القلب جزاء على ما في أنفسهم من شك وارتياب في علم الله سبحانه وتعالى. وقد عبر عن ذلك بقوله ﴿و﴾ اذكروا ﴿إذ قتلتم نفسًا﴾ وأردتم اختبار موسى أو رب موسى في معرفة القاتل ﴿فادارأتم فيها﴾ أي تدافعتم بأن نفى كل منكم جريمة القتل عن نفسه، وقصد الاستمرار على الإنكار وهو يعلم أن لا شاهد بالقتل فلا سبيل إلى ثبوت الجريمة عليه كلية ﴿والله﴾ عالم السرائر لا يخفى عليه شيء من أمركم فهو ﴿مخرجٌ ما كنتم تكتمون﴾ من عدم الإيمان لأن ذلك لا يخفى عليه سبحانه وتعالى؛ ومن أجل هذا لم يسمح لنبيه بإخباركم باسم القاتل، وما قصدتم من وراء إخفاء أمره لئلا تتوهموا أو تزعموا أن ذلك قد اتصل إلى النبي عن طريق بشر منكم، فجاءكم بمعجزة لم تخطر لكم على بال، حيث أمركم بذبح البقرة أولًا، ولما تداعيتم في موضوع القتيل، وأضمرتم في نفوسكم ما أخفيتم، قال تعالى: ﴿فقلنا اضربوه﴾ أي القتيل ﴿ببعضها﴾ أي ببعض البقرة المذبوحة لنبين لكم لنبين لكم الحكمة في ذبحها ولنريكم ﴿كذلك﴾ كيف يستطيع أن ﴿يحيي الله الموتى﴾ ويجعلها تنطق وتخبر بقاتلها من تلقاء نفسها، ﴿ويريكم آياته﴾ في القضاء على الشكوك والأوهام التي تجيش بها نفوسكم وإن لم تعلنوها بألسنتكم ﴿لعلكم تعقلون﴾ ما نرمي إليه بذبح البقرة، وحياة القتيل، ونطقه أمامكم باسم القاتل من إخضاعكم لله سرًّا وجهرًا ﴿ثم قست قلوبكم من بعد ذلك﴾ ولكنه بالرغم عن كل هذا فإن قلوبكم قد قست من بعد ذلك ﴿فهي كالحجارةِ﴾ في فقدان حاسة التأثر والانفعال بما يرد عليها من المواعظ والآيات؛ بمعنى أنها هبطت من درجة الإحساس الحيوي، إلى درجة الجماد ﴿أو أشد قسوة﴾ أي أنهم نزلوا عن درجة الحجارة، لأن هذه الحجارة أيضًا على صلابتها وقسوتها قد تتأثر بالماء الرقيق فيشقها وينفذ منها ﴿وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار وإن منها لما يشقق فيخرج منه الماء﴾ فيحيي الأرض وينفع النبات والحيوان، ﴿وإن منها لما يهبط﴾ بكسر الباء وقرئ بضمها ﴿من خشية الله﴾ بتأثير الأحداث السماوية والأرضية الهائلة في الكون كالصواعق والزلازل والبراكين؛ وأما هذه القلوب التي تعودت على الشك والارتياب برغم ما جاء من البينات، فإنها أصبحت لا تتأثر بالحكم
بلا رأس يسيطر عليها ويدبر شؤونها ويحافظ على كيانها فقد أعطى الله للرجل هذا الحق من دون المرأة فقال ﴿وللرجال عليهن درجة﴾ هي درجة القوامة حيث قال تعالى في سورة النساء ﴿الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم﴾ ولعل هذا التفضل ناشئ من كون الرجل أوسع صدرًا وأكثر تدبيرًا وتفكيرًا في العواقب من المرأة فقد وصفها الرسول ﷺ بأنها عاطفية متسرعة حيث قال عنهن «عزمات ندامات يتظلمن وهن الظالمات» وقد استحق الرجل هذا الحق لما له من المؤهلات الطبيعية فهو الذي يكد ويعمل لتوفر المال اللازم للإنفاق على المرأة وأبنائها وهو صاحب الحق الأول في ربط عقد الزوجية وفسخه والرجعة فيه ويشمل ذلك من باب أولى الحكم بين الناس والفصل في جميع العقود وكل أمر يتعلق بالرجال والنساء معًا أما الشؤون الخاصة بالنساء فلم يجعل الله للرجل حق التسلط عليهن فيها إذ جعل للمرأة الحق الكامل في التصرف في أموالها وأوجب تعليمها ما ينفعها وفرض عليه تأمين نفقتها والدفاع عنها والعناية بأمرها ﴿والله عزيز﴾ لا يرضى للمرأة الذل حيث جعل لها حقوقًا على الرجل كما له من الحقوق عليها ﴿حكيم﴾ في تميزه الرجل عنها بحق الرياسة لتمتنع الفوضى ويقضي على داء تنازع السلطة بين الرجال والنساء مما يؤدي إلى تقويض كيان الأسرة والمجتمع، وبالنظر لما أعطى الله للرجل على المرأة من حق الولاية أوجب عليها طاعته حيث قال «لو كنت آمرًا أحدًا أن يسجد لغير الله لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها والذي نفس محمد بيده لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها ولو سألها نفسها وهي على قتب لم تمنعه» وجعل لها من الأجر على طاعته واكتساب رضاه فوق ما تؤمل وتنتظر إذ قال ﷺ «أيما امرأة ماتت وزوجها راض عنها دخلت الجنة» والإسلام إذ يوجب على المرأة الطاعة للرجل لم ينقص من قدرها في نظر الرجل بل إنه ذكر الإنسان بفضل أمه عليه وأمره برد جميلها حيث قال «ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهنًا على وهن وفصاله في عامين أن أشكر لي ولوالديك إلي المصير» وقال ﷺ «الجنة تحت أقدام الأمهات» ولم يزل الرسول ﷺ يوصي بالنساء خيرًا حتى آخر عهده بالحياة إذ يقول
يَغْشَى طَآئِفَةً مِّنكُمْ وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحَّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (١٥٤) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (١٥٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأَرْضِ أَوْ كَانُواْ غُزًّى لَّوْ كَانُواْ عِندَنَا مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (١٥٦) وَلَئِن قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (١٥٧) وَلَئِن مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ (١٥٨) فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (١٥٩) إِن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ (١٦٠) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (١٦١) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَن بَاءَ بِسَخْطٍ مِّنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (١٦٢) هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ اللَّهِ واللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (١٦٣) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ (١٦٤) أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (١٦٥) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦) وَلْيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُواْ قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لاَّتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (١٦٧) الَّذِينَ قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُوا عَنْ أَنفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (١٦٨) وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (١٦٩) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (١٧٠) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (١٧١) الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ
فقال: ﴿ولا تحسبن﴾ وقرئ "يحسبن" بالياء لا تظنن أيها الرسول وخطاب النبي، خطاب للأمة في شخص النبي ﷺ ﴿الذين قتلوا﴾ وقرئ بتشديد التاء ﴿في سبيل الله﴾ إعلاء لدينه وابتغاء مرضاته ﴿أمواتا﴾ حرموا لذة الحياة ومباهجها، لا ﴿بل﴾ هم ﴿أحياء﴾ بنفوسهم حياة برزخية كسائر البشر، وإنما يمتازون عليهم بأربع حالات هي أقصى ما يتمناها الإنسان في الحياة، وهي أولاً: أنهم ﴿عند ربهم﴾ فلا تصل إليهم أيدي أعدائهم ولا يخشون أحدًا من الناس. وثانيًا: أنهم ﴿يرزقون﴾ الرزق: كل ما ينتفع به أو يصل إلى الإنسان من غير كد أي أنهم ينعمون بنعيم دائم مستمر من الساعة التي قتلوا فيها. أخرج الترمذي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه، قال: لقيني رسول الله ﷺ فقال: «يا جابر مالي أراك منكسرًا؟ فقلت: يا رسول الله، استشهد أبي وترك عيالاً ودينًا، فقال ألا أبشرك بما لقي الله به أباك؟ قلت بلى، قال ما كلم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب وأحيا أباك فكلمه كفاحًا، وقال: عبدي تمنَّ علي أعطك؟ قال يا رب تحييني فأقتل فيك ثانية! قال الرب تعالى: قد سبق مني أنهم لا يرجعون، قال إي رب أبلغ من ورائي، فأنزل الله هذه الآية» - وثالثًا: أنهم ﴿فرحين بما آتاهم الله من فضله﴾ الذي هو فوق ما يستحقون ﴿و﴾ رابعًا أنهم ﴿يستبشرون﴾ أي يظلوا في بشر وسرور ﴿بالذين﴾ أي بسبب الذين ﴿لم يلحقوا بهم﴾ ولم يجدوهم معهم وتركوهم ﴿من خلفهم﴾ في ميدان الجهاد، ووجه استبشارهم بهم أنهم ثبتوا في أماكنهم إلى أن كتب لهم النصر على أعدائهم ولولا ذلك لقتلوا ولحقوا بهم ﴿ألا خوف عليهم﴾ في الدنيا من استئصال المشركين لهم أو ظفرهم بهم ﴿ولا هم يحزنون﴾ على عدم نيلهم للشهادة فرحًا بنصر دين الله ﴿يستبشرون﴾ أيضًا ﴿بنعمة﴾ يرجونها ﴿من الله﴾ يوم القيامة ﴿وفضل﴾ زائد عما نالوه ﴿وأن الله﴾ سوف ﴿لا يضيع أجر المؤمنين﴾ فإنه تعالى بلا شك سيكرم إخوانهم كما أكرمهم. ولفظ المؤمنين هنا عام غير أن الله تبارك وتعالى قسمهم إلى قسمين ووصفهم بوصفين فقال عن الأول ﴿الذين استجابوا لله والرسول﴾ عندما دعاهم الرسول إلى اتباع أبي سفيان في حمراء الأسد ﴿من بعد ما أصابهم القرح﴾ في أحد وهم إخوان أولئك الشهداء الذين لم يلحقوا بهم من خلفهم عند ما أصابهم في أحد ما أصابهم وصرف الله عنهم المشركين ورجعوا هم إلى المدينة منهوكي القوى.
وما كاد المشركون يبلغون مكانًا يقال له الروحاء بين مكة والمدينة حتى تلاوموا فيما بينهم وقال بعضهم لبعض لم تصنعوا شيئًا أصبتم شوكتهم وحدهم ثم تركتموهم وقد بقي منهم
حينئذٍ وقد أخر الله الديّة عن الكفارة لما يرجى من عفو الورثة عن القاتل فيستحقون الأجر على ذلك. ﴿فإن كان من قوم عدو لكم وهو مؤمن﴾ أي إن كان القتيل مؤمنًا والذين يستحقون الدية من أهله كفار محاربين ﴿فتحرير رقبة مؤمنة﴾ أي يكتفي بالكفارة التي هي حق الله فقط ويسقط حق أهله لأنهم من أعداء الإسلام فلا يعطوا من أموال المسلمين ما يستعينون به على عداوتهم وقتالهم ﴿وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق﴾ أي معاهدة سلمية بعدم الاعتداء ومعاهدة أمن وأمان كالتي تعطى لأهل الذمة ﴿فدية مسلمة إلى أهله﴾ مقدمة على حق الله لأن من شأن المعاهدين التشدد في المطالبة بحقوقهم كاملة إذ ليس من وازع ديني يحملهم على التسامح فيها بخلاف المؤمنين فإنه يرجى منهم أن يتصدقوا بها ويمنوا بالعفو عن القاتل ﴿وتحرير رقبة مؤمنة﴾ بعد ذلك يكفر بها ذنبه أمام الله ﴿فمن لم يجد﴾ الرقبة التي يعتقها كأن انقطع الرق أو لم يجد المال الذي يشتريها به من مالكها ليحررها من رقه ﴿فصيام شهرين متتابعين﴾ لا تتخللها فواصل ﴿توبة من الله﴾ أي إن الله قد شرع العتق أو الصوم ليكون وسيلة لقبول التوبة من الله ﴿وكان الله عليها﴾ بنفوسكم وما يحملها على زيادة التحري والانتباه وتجنب الخطأ ﴿حكيمًا﴾ في عدم تجاوزه عن الخطأ في القتل إلا بما ذكر ليمتنع المؤمن كليًا عن الاعتداء على أرواح المؤمنين ليعود الود والإخاء فيما بينهم وإذا كان هذا حال المؤمن الذي يقتل أخاه المؤمن خطأ فكيف يكون حال من يقتله عمدًا مع سبق الإصرار وماذا سيكون جزاؤه وما هي كفارته ولذا قال تعالى ﴿ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه﴾ عند الله ﴿جهنم خالدًا فيها﴾ في الحياة الآخرة شأنه في ذلك شأن الكفار الذين توعدهم الله بها بل هناك ما هو أدهى وأمر وإليه أشار تعالى بقوله ﴿وغضب الله عليه﴾ منذ اللحظة التي أقدم فيها على القتل ومن يغضب الله عليه في الدنيا فسوف لا يجد لذة
إعلاء كلمته ونشر دعوته بكل ما تستطيعون (لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي تفوزون بمنتهى السعادة في الدارين فمدار السعادة والفلاح عائد إلى الإنسان نفسه وما يضمره من تقوى وما يقدمه من عمل وجهاد للنفس لا ما يأتي من الخارج كما يتوهمه النصارى من الفداء وما يتوهمه غيرهم من التوسل والشفاعة وما أشبه ذلك ولذا قال (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالله فلم يخافوا بأسه ولم ينشدوا رضوانه وفق تعاليمه (لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا) من مال وجاه (وَمِثْلَهُ مَعَهُ) وبذلوا كل ذلك في هذه الحياة لالتماس الوسائط والشفعاء والإكثار من عمل الخير الذي لا يكون منبعثا عن خوف الله ومن أجل مرضاته (لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ) ذلك لأن جل وعلا قد أخطر عباده بأنه لا ينفع الإنسان في ذلك اليوم إلا ما قدمت يداه في قوله (وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى) (وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة يبلغ من هوله أنهم (يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ) دون غيرهم (عَذَابٌ مُقِيمٌ) أي ثابت لا يضطرب ولا يختلف.
بعد أن بيّن حكمه في قاطعي الطريق المبتغين الفساد في الأرض بترويع الآمنين وأكل أموالهم جهرة بالقوة وأشار إلى ما من شأنه أن يقضى على الإجرام من أساسه عن طريق الوازع النفسي وهو تقوى الله والعمل لمرضاته أراد أن يبين حكمه في من يأكل أموال الناس خفية عن طريق السرقة دون أن يكون له من نفسه ما يردعه عن ذلك الأمر الذي يتنافى مع الأمانة التي أوجبها الله على عباده والتي إن فقدت يختل نظام المعاملات بين الناس في هذه الحياة فقال
<٥٦>
(وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا) أي إذا سرق الرجل تقطع يده وإذا سرقت المرأة تقطع يدها (جَزَاءً بِمَا كَسَبَا) أي على ما أقدم عليه كل منهما من سرقة الآمنين الغافلين دون علم منهم (نَكَالًا مِنَ اللَّهِ) أي ليكون للقطع عبرة لغيرهما فإن قطع اليد مما يسبب فضيحة السارق وسمته بالذل والعار أمام الناس فلا يقدم أحد على مثل فعله أبداً وقد اختلف الفقهاء في المقدار المسروق الذي يوجب القطع وقد ورد في الحديث عن رسول الله ﷺ قوله «لا قطع إلا في ربع دينار» فيخرج عن ذلك ما لو كان المسروق شيئا تافها لا يتأذى بفقدانه المسروق منه (وَاللهُ عَزِيزٌ) لم يضع هذا الحد خشية
عذاب الله في الآخرة الذي أعده للكافرين ﴿ولا هم يحزنون﴾ على ما فاتهم من الحياة في الدنيا فإن أمرها مهما طال فهو قصير، ونعيمها مهما عظم فهو زائل وهذا خير برهان على فساد عقيدة القائلين بأن لله أن يعذب الطائع ويثيب العاص ﴿والذين كذبوا بآياتنا﴾ وكان الهلاك من أجلهم ﴿يمسهم العذاب﴾ الذي أنذروا به في الآخرة ﴿بما كانوا يفسقون﴾ أي بسبب فسقهم وكفرهم وإفسادهم المقابل للإيمان والعمل الصالح.
بعد أن أكد الله سبحانه وتعالى أن سلطانه لا يتعارض مع مبادئ عدله التي لا تتأثر بشفاعة الشافعين أو جاه المقربين، وحدد مهمة الرسل بأنها لا تتجاوز التبشير والإنذار، أمر رسوله ﷺ أن يعلن ضعفه وعجزه عن أن ينفع أحدًا أو يضره حتى ولا بمجرد الإخبار بالمغيبات أو التأثير على القلوب فقال ﴿قل﴾ أيها الرسول للناس أجمعين أنا ﴿لا أقول لكم﴾ أن ﴿عندي﴾ وتحت نفوذي وتصرفي ﴿خزائن الله﴾ التي تحفظ فيها أرزاق العباد حتى أستطيع أن أهب منها من أحب وأمنع عنها من لا أحب ﴿ولا أعلم الغيب﴾ مما هو كائن أو سيكون إلا في حدود ما علمنيه ربي، أو ما جعل الله من حق البشر معرفته من خواص الأشياء وسنن الكائنات ﴿ولا أقول لكم إني ملك﴾ أي في شخصية تختلف عن شخصيتكم فما أنا إلا بشر مثلكم آكل كما تأكلون وأشرب كما تشربون وأتعرض لكل ما تتعرضون له من يسر وعسر وفرح وترح فلا يطعن في رسالتي عن الله عدم تميزي عنكم بشيء من ذلك. وقد اتخذ بعض المفسرين من هذا دليلًا على تفضيل الملائكة على الإنسان وهذا دليل غير قائم فكون ليس منهم لا يعد دليلًا على تفضيلهم عليه ﴿إن أتبع﴾ فيما أدعو إليه ﴿إلا﴾ مجرد تبليغ ﴿ما يوحى إلي﴾ من ربي فلا أحل ولا أحرم إلا ما أمرت بتحليله أو تحريمه، ولا أتخلق إلا بأخلاقه. قالت السيدة عائشة: لقد كان خلقه ﷺ القرآن ﴿قل﴾ لهم أيضًا تدليلًا على صحة اتباعك ﴿هل يستوي الأعمى والبصير﴾ في الإدراك سيقولون كلا قل إذا ﴿أفلا تتفكرون﴾ أي أليس لديكم من نعمة البصر والبصيرة ما يجعلكم تفكرون في الموضوع تفكيرًا صحيحًا يصل بكم إلى نتيجة معقولة هي أنه لو لم يكن هذا الرجل صادقًا في رسالته لما اعترف لكم باتباعه لأمر ربه، وكان من الأشرف له أن ينسب إلى نفسه كل ما يصدر منه من الآيات ﴿وأنذر به﴾ أي بما يوحى به إليك من القرآن ﴿الذين يخافون أن يحشروا إلى ربهم﴾ ممن كانوا على الفطرة فهم يخشون أن يكون ما
نفس بما كسبت ليس لها من دون الله ولي ولا شفيع} وقال ﴿وما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم وضل عنكم ما كنتم تزعمون﴾.
﴿و﴾ الخامس مما حرم ربي ﴿أن تقولوا على الله ما لا تعلمون﴾ أي تنسبون إلى دين الله ما ليس لكم به علم تام فتحللون وتحرمون وقد صرح الله بهذا في سورة النحل حيث قال ﴿ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون﴾ وهذا أمر شائع بين الناس في عصرنا هذا الذي كثرت فيه البدع وعم الضلال وأصبح العامة يحللون ويحرمون نسأل الله السلامة وهنا أراد الله جل جلاله أن يعلن إلى بني آدم أنه على أساس ما شرع لعباده من أحكام أمر رسوله أن يعلنهم بما اقتضته سنته من تداول الأيام بين الناس ليدعوهم إلى اغتنام الفرص للعمل لما فيه سعادتهم وهناءهم ونيل حظهم من الحياة وتبوء مكانتهم تحت الشمس قبل فوات الأوان فقال ﴿ولكل أمة أجل﴾ تكون فيه عزيزة الجانب باستقلالها وحريتها وعزها وسؤددها ثم ينتهي أجلها فلتحرص على تنفيذ أوامر الله إبان سطوتها فإنها مسئولة عن ذلك ولا تتهاون في ذلك إلى أن تدول دولتها فتزعم أنه لم يكن لها من الحول والطول ما تنفذ به أوامر الله ﴿فإذا جاء أجلهم﴾ أي الأجل المحدد لعزهم وسلطانهم دالت دولتهم وأفل نجمهم ﴿لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ فمن كان في القمة يصبح في الحضيض ومن كان تابعًا يصبح متبوعًا والملك الدائم لله وحده والتاريخ يسجل لكل أمة عملها من صلاح وفساد والحساب والعقاب في يوم المعاد وقد عرفتنا الآيات بمصير الأمم السابقة وشهدنا بأعيننا ما كان من مصير ألمانيا تلك الأمة التي كانت معجبة بعنصرها وقوتها كيف أصبحت ذليلة مستعمرة وها نحن نشهد في أيامنا هذه مصرع دول الاستعمار وفي مقدمتهم إنجلترا وفرنسا وهولندا التي استعبدت الأمم الإسلامية أيامًا طوالًا. كيف تقلص ظلها ومنيت بالفشل الذي هو بداية الانهيار ولاحت في الأفق ولله الحمد بشائر النصر للعرب الذين لم يسودوا العالم فيما مضى إلا بنشرهم لدعوة الإسلام واتباعهم لتعاليم القرآن فماذا هم فاعلون نرجو أن يكون لهم من الماضي عبرة ويغتنموا هذه الفرصة ويحكموا بما أنزل الله ويقيموا حدوده ويؤيدوا شرعه ويعلوا كلمته ليكتب الله لهم النصر المبين ويسحق أعدائهم المعتدين فقد وعدنا الله وعدًا لن يخلفه إذ قال ﴿إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم، وكان حقًّا علينا نصر المؤمنين﴾.
حفي عنها} أي كأنك مبالغ في سؤال ربك عنها حتى أخبرك بخبرها ومن أجل ذلك تخفيه عنا. وقد شغل الكثير من العلماء في تحديد وقتها وزعم بعضهم فعلًا أنه تعالى قد أطلع رسوله على كل ما في علمه فلا بد أن يكون عالمًا بذلك وإن لم يبح به وقد رد الله على الزعم بقوله: ﴿قل إنما علمها عند الله﴾ أي أكد لهم الجواب السابق لتخطئة من يسأل عنها أو يحاول أن يتبين وقتها ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ أن لله في ذلك حكمة بالغة هي أن يغرس سبحانه بهذا الخفاء خوفه في قلوب عباده فينتهوا عن المعاصي ويتبعوا الهدى الذي جاء من عنده فتسمو الأخلاق ويسعد العالم وترفرف عليه راية السلام فلا يظلم القوي الضعيف ولا يتجاوز الإنسان على حقوق الآخرين وقد ورد في القرآن ما يدل على قربها كقوله تعالى في سورة الشورى: ﴿وما يدريك لعل الساعة قريب * يستعجل بها الذين لا يؤمنون بها والذين آمنوا مشفقون منها ويعلمون أنها الحق ألا إن الذين يمارون في الساعة لفي ضلال بعيد﴾ وقال أيضًا: ﴿فهل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم بغتة فقد جاء أشراطها﴾ الأمر الذي جعل الرسول ﷺ يتوقع قيامها في أقرب وقت إذ قال: «بعثت والساعة كهاتين» وأشار بالسبابة والوسطى وفي الصحيحين عن ابن عمر مرفوعًا: «إنما أجلكم فيمن مضى قبلكم من الأمم من صلاة العصر إلى غروب الشمس» وقد حدد لنا الله موعدها في القرآن بقوله: ﴿حتى إذا أخذت الأرض زخرفها وازينت وظن أهلها أنهم قادرون عليها أتاها أمرنا ليلًا أو نهارًا فجعلناها حصيدًا كأن لم تغن بالأمس كذلك نفصل الآيات لقوم يتفكرون﴾ وفي اعتقادي أن الوقت قد حان إذ رأينا الأرض قد أخذت زخرفها ومنتهى زينتها وأصبحت روسيا وأمريكا تظنان أنهما قادرتين على تدمير الأرض ومن عليها بقوة الذرة والصواريخ الموجهة في بضع ساعات ولم يكفهم ذلك حتى أصبحتا تتنافسان في القدرة على بلوغ القمر واستعماره إثر إرسالهما الأقمار الصناعية لتدور حول القمر وحول الشمس، كما وردت عدة أحاديث في أشراط الساعة تشير إلى أن وقتها سيكون عند انصراف الناس إلى الشهوات المادية وتقلص الإيمان من القلوب وظهور الفتن وخوارق العادات منها قوله: «إذا اتخذ الفيء دولًا والأمانة مغنمًا والزكاة مغرمًا وتعلم العلم لغير الدين وأطاع الرجل امرأته وعق أمه وأدنى صديقه وأقصى أباه وظهرت الأصوات في المساجد وساد القبيلة فاسقهم وكان زعيم القوم أرذلهم وأكرم الرجل مخافة شره وظهرت القينات والمعازف ولعن آخر هذه الأمة أولها فليرتقبوا ريحًا حمراء
غيظ قلوبهم} لما كان من أولئك من غدر وظلم إبان سلطانهم وعظمتهم هذا بالنسبة لكم أيها المؤمنون أما بالنسبة للمشركين فقد ترك الله الخيار لهم في أن يؤمنوا ويتوبوا فيتوب الله عليهم حيث قال: ﴿ويتوب الله على من يشاء﴾ التوبة منهم: ﴿والله عليم﴾ بما يكون منهم من قبل: ﴿حكيم﴾ في تركه الاختيار لمشيئتهم ليجزهم على أعمالهم ويثبت كمال علمه: ﴿أم حسبتم أن تتركوا﴾ أي وثم أمر آخر يجب أن تتدبروا فيه وتحسبوا له حسابه ذلك أنه من يضمن لكم عدم عودتهم إلى قتالكم ونكث عهودكم والطعن في دينكم وصد الناس عنه كما هو دأبهم منذ ظهور الإسلام فلا بد أن تقاتلوا وتجاهدوا: ﴿و﴾ وأنتم لا تزالون في وضع: ﴿لما يعلم الله﴾ لم يثبت بعد من أعمال: ﴿الذين جاهدوا منكم﴾ في الله: ﴿ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة﴾ أي دون أن يكون لهم صلة قوية بالمشركين أعداء الله ورسوله والمؤمنين وهذا ما يجب أن تتجرد نفوسكم منه فمن الحكمة قول من قال:
@إذا والى صديقك من تعادي
#فقد عاداك وانقطع الكلام
﴿والله خبير بما تعملون﴾ أي بجميع أعمالكم الظاهرة والخفية فلا يغيب عنه شيء من اتصالاتكم بأعدائه حتى ولو كانت عن حسن نية وهو أدرى بما ينشأ عن تلك الصلة من أضرار.
(ج): ﴿ما كان للمشركين أن يعمروا مساجد الله﴾ أي أن السبب الثالث لعدم احترام عهود المشركين هو أنه ليس من حقهم وهم على الشرك أن يتعبدوا في المساجد التي خصصت لعبادة الله بعبادة غيره فضلًا عن المسجد الحرام حال كونهم: ﴿شاهدين على أنفسهم بالكفر﴾ بإشراك غيره معه وتكذيب الرسول فهذا تناقض بين لا مبرر له: ﴿أولئك﴾ الذين يعبدون غير الله: ﴿حبطت أعمالهم﴾ التي لم تكن خالصة لوجه الله فلا يجب أن يمكنوا منها: ﴿و﴾ قد حكم عليهم من الله بأنهم: ﴿في النار هم فيها خالدون﴾ جزاء على كفرهم وشركهم: ﴿إنما﴾ الذي يحق له أن: ﴿يعمر مساجد الله﴾ بالتعبد فيها من اتصف بخمس صفات الأولى: ﴿من آمن بالله﴾ ولم يشرك به شيئًا فهو في حاجة لأن يكثر دعاءه في مساجده حيث قال تعالى: ﴿وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا﴾ الصفة الثانية: ﴿واليوم الآخر﴾ أي الذي آمن بصحة البعث وأن هنالك حياة أخرى فهم أحق بعمارة المساجد طلبًا للنجاة في ذلك اليوم، الصفة الثالثة: ﴿وأقام الصلاة﴾ في أوقاتها المتكررة فلا
يستمعون إليك} أي يصغون إليك وأنت تتلو القرآن ولا يفقهون ما ترمي إليه آياته من الأحكام والمقاصد، لأن الاستماع إليك هو المقصود عندهم لذاته فيعجبون ببلاغته ويطربون من جرس أنغامه أثناء تنزيله كمن يستمع طائرًا يغرد على فتنه ليستمتع بصوته دون أن يفهم شيئًا منه وينتظر منك المعجزة بأن تجعلهم يهتدون بهديك وهذا خطأ عظيم: ﴿أفأنت﴾ بما منحته من الرسالة بمعنى التبليغ: ﴿تسمع الصم﴾ أي تجعل الأصم يسمع؟ لا: فالرسالة إلى الناس لا تقتضي سماعهم لها أو حملهم على تنفيذ مقتضاها: ﴿ولو كانوا﴾ أي أولئك الذين يستمعون: ﴿لا يعقلون﴾ أي من الحيوانات التي لا عقل لها كلا فإن هذا ليس في مقدورك ولذلك تراهم لا يهتمون بمعالجة الصمم الحسي الموجود فيهم بالتدبر في كلام الله وفهمه فهمًا صحيحًا يحملهم على العمل بمقتضاه: ﴿ومنهم من ينظر إليك﴾ أي يجالسك ويطيل النظر في وجهك ويعتقد أن هذا وحده كاف لهدايته وجعله من الخيار الأبرار دون أن يعمل بما جئت به وهذا خطأ بين: ﴿أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون﴾ أي هل في جمال وجهك وبهاء طلعتك من الأسرار الإلهية ما من شأنه أن يجعل الأعمى بصيرًا حاشا فليس من مصاحبة الناس لك ومحبتهم لشخصك ما يؤدي بهم إلى الهداية بل العبرة بالعمل بما جئت به: ﴿إن الله لا يظلم الناس شيئًا﴾ أي أنه لم يكن من شأنه تعالى ولا من سننه في الخلق أن ينقصهم شيئًا من الأسباب التي تجعلهم يهتدون بها إلى سعادة الدنيا والآخرة: ﴿ولكن الناس أنفسهم يظلمون﴾ بعدم سلوكهم سبيل الهداية التي سنها الله لهم ومحاولتهم نيلها بوسائل أخرى ظنًّا منهم أنها تكفي لبلوغ الغاية والحصول على الهداية.
بعد أن طمأن الله رسوله بأنه سوف لا يعاجل قومه بعذاب الاستئصال بل إنهم سيبقون إلى نهاية هذه الحياة أخذ يخبره بأنه على الرغم من هذا فإنه سيبدو لهم في الآخرة أن حياتهم في الدنيا لم تكن إلا قصيرة الأمد جدًّا فقال: ﴿ويوم يحشرهم﴾ الله وقرئ «نحشرهم» بالنون أي نجمعهم ببعثهم بعد موتهم يوم القيامة الذي سيشاهدون من هوله وطوله عليهم ما يشعرهم بقصر المدة التي قضوها في هذه الحياة: ﴿كأن لم يلبثوا﴾ في الدنيا: ﴿إلا ساعةً من النهار﴾ قد انقضت بسرعة: ﴿يتعارفون بينهم﴾ أي أنها لم تكن إلا بمثابة اجتماع بسيط لمجرد التعارف كما يقال ما سلم حتى ودع وقد قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير
عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (٦٨) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (٦٩) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (٧٠) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (٧١) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (٧٢) قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (٧٣) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (٧٤) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (٧٥) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءُ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (٧٦) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (٧٧) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (٧٨) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ (٧٩) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللَّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (٨٠) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (٨١) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (٨٢) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (٨٣) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (٨٤) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (٨٥) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (٨٦) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (٨٧) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (٨٨) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (٨٩) قَالُواْ أَإِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (٩٠) قَالُواْ تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (٩١) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (٩٢) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (٩٣)
على الله} ونعتمد عليه في تأييدنا فيما ندعوا إليه لا يهمنا من ضل ولا يخيفنا أحد سواه: ﴿وقد هدانا سبلنا﴾ أي وقد أرشد كلًا منا سبحانه إلى طريق معرفته بما وهبنا من عقول نيرة وما أقامه لنا من شواهد ساطعة تدلنا على وجوده ووحدانيته ثم بما أنزله علينا من وحي بما يحبه ويرضاه: ﴿ولنصبرن على ما آذيتمونا﴾ أي وما دمنا قد عرفنا الحق وآمنا بالله فلن نعبأ بكم وقد وطنا النفس على الصبر على كل ما توجهونه لأجسامنا من أذى لن يصل أثره إلى قلوبنا العامرة بالإيمان ولن يغير ذلك شيئًا من عقيدتنا: ﴿وعلى الله﴾ وحده دون غيره: ﴿فليتوكل المتوكلون﴾ أي فمن أراد أن يفوض أمره إلى من يهديه إلى سبل الخير فليفوض أمره إلى الله وليعمل لنشر دعوته حسبه ونعم الوكيل.
﴿وقال الذين كفروا﴾ أي المتمردون من قوم نوح وعاد وثمود: ﴿لرسلهم﴾ عندما رأوا تصميمهم على نشر دعوتهم وتوطينهم النفس على الصبر على الأذى مهما كلفهم الأمر: ﴿لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا﴾ أي خيروهم بين أمرين إما الطرد من البلاد التي هم سادتها أو العودة إلى ما كانوا عليه من عدم الإنكار على عبادة الآلهة التي كانوا يعبدونها والسكوت عن ذكر معايب دينهم وعدم الطعن فيه والكف عن دعوة التوحيد التي جاؤوا بها: ﴿فأوحى إليهم﴾ أي الرسل: ﴿ربهم﴾ الذي وثقوا به واتكلوا عليه بما يطمئن خواطرهم إذ قال: ﴿لنهلكن الظالمين﴾ الذين بلغ بهم الغرور حدًّا جعلهم يحسبون لأنفسهم القدرة على السيطرة في الأرض من دون الله وإخراج رسله منها: ﴿ولنسكننكم الأرض من بعدهم﴾ وهذا من سنن الله في شأن من توكل على ربه في دفع أعداء الله فإن الله يكفيه أمره بل لقد رُوِيَ عن رسول الله ﷺ قوله «من آذى جاره أورثه الله داره»: ﴿ذلك﴾ أي إهلاك الظالمين وإسكان المؤمنين ديارهم أمر محقق ثابت: ﴿لمن خاف مقامي﴾ أي أن الله قد وعد المؤمن الذي يراقبه ويتقيه في سره وجهره ويتكل عليه بالانتقام له من عدوه: ﴿وخاف وعيد﴾ أي من أيقن بحلول نقمة الله وخاف من أن يعم الأذى البريئين لقوله تعالى: ﴿واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة﴾ ولقد تجلت لنا هذه السنة الكونية فيما أحرزه قوم موسى ضد فرعون وملئه حيث قال تعالى: ﴿فانتقمنا منهم فأغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها﴾ وما قاله المؤمنون على أعدائهم من نصر حيث قاله: {وأنزل الذين ظاهروهم من صياصيهم
بأجر أحسن من الأجر الذي ينالونه على الأعمال الخيرية الإيجابية وهذا لا يعني الإقلال من قيمة الأعمال ولذا أشاد بذكرها وأخبر سبحانه وتعالى بعظيم درجتها بما تعهد به جل جلاله لفاعلها من جزاء في الدنيا والآخرة حيث قال: ﴿من عمل صالحًا﴾ أي من تخير من الأعمال أصلحها واستقام في عمله وفق ما يرضي ربه: ﴿من ذكر أو أنثى﴾ على السواء: ﴿وهو مؤمن﴾ بالله وواثق من نيل ثوابه الذي وعد به عليه: ﴿فلنحيينه﴾ أي فلقد قضت سنة الله في شأنه أن يمنحه الله في الدنيا: ﴿حياة طيبة﴾ أي عيشة سعيدة إذ يشعر بنعم ربه عليه فيظل دائم الشكر راجيًا من الله المزيد قائمًا لله بواجب الطاعة واثقًا من القبول والإجابة فلا يعتريه اليأس من كرم الله سعيدًا مطمئنًا وهذه هي الحياة الطيبة التي لا يتسرب إليه معها الهم إلى القلب نتيجة القنوط فهو دائمًا منشرح الصدر: ﴿ولنجزينهم أجرهم﴾ في الآخرة على أعمالهم الصالحة: ﴿بأحسن ما كانوا يعملون﴾ أي بجزاء أحسن وأفضل من العمل الذي قدموه في الدنيا وهذا حق لا مرية فيه وأمر جربته في نفسي وشعرت بلذته ونظمت فيه قولي:
@ولقد تبينت السعادة أنها
#ليست بغمر الجسم في الشهوات
@بل في هدوء النفس واستقرارها
#والشكر للمولى على النعمات
@وبنيل معرفة تؤهل للرضا
#والصبر والتسليم في الحالات
@فقصدت وجهك في الأمور فزال ما
#بالنفس من صخب ومن حسرات
@ووجدت في مر الحياة وحلوها
#خيرًا فما أدركت من ميزات
@فلكل شيء طعمه وخواصه
#والكل لا يخلو من الحسنات
@فازددت فهمًا للأمور ملازمًا
يستمعون إليك} أي يصغون إليك وأنت تتلو القرآن ولا يفقهون ما ترمي إليه آياته من الأحكام والمقاصد، لأن الاستماع إليك هو المقصود عندهم لذاته فيعجبون ببلاغته ويطربون من جرس أنغامه أثناء تنزيله كمن يستمع طائرًا يغرد على فتنه ليستمتع بصوته دون أن يفهم شيئًا منه وينتظر منك المعجزة بأن تجعلهم يهتدون بهديك وهذا خطأ عظيم: ﴿أفأنت﴾ بما منحته من الرسالة بمعنى التبليغ: ﴿تسمع الصم﴾ أي تجعل الأصم يسمع؟ لا: فالرسالة إلى الناس لا تقتضي سماعهم لها أو حملهم على تنفيذ مقتضاها: ﴿ولو كانوا﴾ أي أولئك الذين يستمعون: ﴿لا يعقلون﴾ أي من الحيوانات التي لا عقل لها كلا فإن هذا ليس في مقدورك ولذلك تراهم لا يهتمون بمعالجة الصمم الحسي الموجود فيهم بالتدبر في كلام الله وفهمه فهمًا صحيحًا يحملهم على العمل بمقتضاه: ﴿ومنهم من ينظر إليك﴾ أي يجالسك ويطيل النظر في وجهك ويعتقد أن هذا وحده كاف لهدايته وجعله من الخيار الأبرار دون أن يعمل بما جئت به وهذا خطأ بين: ﴿أفأنت تهدي العمي ولو كانوا لا يبصرون﴾ أي هل في جمال وجهك وبهاء طلعتك من الأسرار الإلهية ما من شأنه أن يجعل الأعمى بصيرًا حاشا فليس من مصاحبة الناس لك ومحبتهم لشخصك ما يؤدي بهم إلى الهداية بل العبرة بالعمل بما جئت به: ﴿إن الله لا يظلم الناس شيئًا﴾ أي أنه لم يكن من شأنه تعالى ولا من سننه في الخلق أن ينقصهم شيئًا من الأسباب التي تجعلهم يهتدون بها إلى سعادة الدنيا والآخرة: ﴿ولكن الناس أنفسهم يظلمون﴾ بعدم سلوكهم سبيل الهداية التي سنها الله لهم ومحاولتهم نيلها بوسائل أخرى ظنًّا منهم أنها تكفي لبلوغ الغاية والحصول على الهداية.
بعد أن طمأن الله رسوله بأنه سوف لا يعاجل قومه بعذاب الاستئصال بل إنهم سيبقون إلى نهاية هذه الحياة أخذ يخبره بأنه على الرغم من هذا فإنه سيبدو لهم في الآخرة أن حياتهم في الدنيا لم تكن إلا قصيرة الأمد جدًّا فقال: ﴿ويوم يحشرهم﴾ الله وقرئ «نحشرهم» بالنون أي نجمعهم ببعثهم بعد موتهم يوم القيامة الذي سيشاهدون من هوله وطوله عليهم ما يشعرهم بقصر المدة التي قضوها في هذه الحياة: ﴿كأن لم يلبثوا﴾ في الدنيا: ﴿إلا ساعةً من النهار﴾ قد انقضت بسرعة: ﴿يتعارفون بينهم﴾ أي أنها لم تكن إلا بمثابة اجتماع بسيط لمجرد التعارف كما يقال ما سلم حتى ودع وقد قال تعالى: {ويوم تقوم الساعة يقسم المجرمون ما لبثوا غير
ويتولى رضاع الطفل غير أمه وهنا أوضح الله المقدار الذي يحق للمطلقة أن تتخذه معيارًا لما تطلب من أجر فقال: ﴿لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ﴾ هذا أمر من الله بأن يوسع الرجال أصحاب الأعمال الحرة كالتاجر والمصانع والزارع على أمهات أولادهم المرضعات لهم بقدر ما يتناسب مع أرباحهم زيادة ونقصًا: ﴿وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ﴾ أي ومن كان رزقه محددًا ومقدرًا كالموظفين أصحاب الأملاك محدودة الريع والطبقة الفقيرة: ﴿فَلْيُنفِقْ﴾ كل واحد من هؤلاء: ﴿مِمَّا آتَاهُ اللهُ﴾ أي جزءًا من أجره ووارده أو كسبه اليومي: ﴿لا يُكَلِّفُ﴾ أي لا يلزم: ﴿اللهُ نَفْسًا﴾ بأداء حق لله أو للعباد: ﴿إِلاَّ مَا آتَاهَا﴾ أي لا بقدر ما أعطاها من قوة فلا يكلف الفقير مثل الغني وهو سبحانه واسع الفضل عظيم الإحسان ولأجل أن يشجع الله الناس على الإنفاق وينهاهم على الاعتماد على مجرد ما تحت أيديهم من الأموال الأمر الذي قد يحملهم على الشح كشف الله لهم عن سر من أسراره الخفية وما قضى به في خلقه فقال: ﴿سَيَجْعَلُ اللهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا﴾ أي أنه من سننه في رزق عباده أنه جلت قدرته سيعقب العسر دائمًا باليسر فدوام الحال من المحال ونهاية الشدة بداية الفرج فلا محل لليأس من رحمته وقد ورد في الحديث «إن أفضل الأعمال عند الله انتظار الفرج عند الشدة» ولأجل أن يثبت الله لعباده هذه الحقيقة من خواص التقوى ذكرهم بما كان مصير من خلت قلوبهم من خوف الله فلم يبالوا بنقمته ولم يحسبوا له حسابًا في تصرفاتهم فقال: ﴿وَكَأَيِّن﴾ بالهمزة وتشديد الياء وقرئ «وكآئن» بالمد والهمز: ﴿مِّن قَرْيَةٍ﴾ أي وكم من قرية بمعنى الأغلبية الساحقة من سكانها: ﴿عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا﴾ أي استكبرت عن الإذعان لأوامره لعدم خوفها منه: ﴿وَرُسُلِهِ﴾ كقوم عاد وثمود: ﴿فَحَاسَبْنَاهَا﴾ في الدنيا: ﴿حِسَابًا شَدِيدًا﴾ لا رحمة فيه ولا هوادة فلم نجد لها حسنة: ﴿وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا﴾ بسكون الكافر وضمها أي لم يعرف له مثيل إذ أهلك الله عادًا بريح صرصر عاتية فلم تبق منهم باقية وأهلك ثمود بالصاعقة التي جعلتهم في ديارهم جاثمين: ﴿فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا﴾ أي فاختبرت ونالت بنفسها ما يكون من الشدائد في الدنيا نتيجة عدم الخوف من الله والعتو عن أوامره: ﴿وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا﴾ في الآخرة: ﴿خُسْرًا﴾ أي خسرانًا وهلاكًا حيث: ﴿أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا﴾ في نار جنهم: ﴿فَاتَّقُوا اللهَ﴾ أي فلازموا التقوى واحذروا أن يصيبكم ما أصاب أولئك القوم: ﴿يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ أي يا أصحاب العقول النيرة التي تتعظ بالحوادث من بني الإنس أجمعين ثم إنه تعالى وجه الخطاب إلى المؤمنين منهم بصورة خاصة فقال
جاءنا اليقين والمراد منه الموت الذي لا ينكره أحد: ﴿فما تنفعهم شفاعة الشافعين﴾ أي أن هؤلاء الذين أصروا على ملازمة تلك الخلال حتى الموت لا تنفعهم شفاعة الشافعين ولو كانوا ممن يزعم الإيمان بالله لأن دستور الله في خلقه يقضي بأن سبيل النجاة إنما هو الإيمان والعمل الصالح أما غيرهم ممن أدى شيئًا من الواجبات ولم يصر على ارتكاب المحرمات فإن الله من عظيم فضله ووافر رحمته قد يشفع فيه رسوله أو من يرتضي من عباده: ﴿فما لهم عن التذكرة﴾ وهي كل ما يذكر الإنسان بربه ويعظه لما فيه نفعه ويراد بها القرآن الكريم: ﴿معرضين﴾ أي غير مصغين ولا مؤمنين وقد شبههم الله في إعراضهم بقوله: ﴿كأنهم حمر مستنفرة﴾ بكسر الفاء وفتحها أي نافرة: ﴿فرت من قسورة﴾ القسر الغلبة والقهر يقال ليوث قساور لما طبعوا عليه من الغلبة والقهر والمعنى أنهم في نفورهم من آيات الله كالحمر الوحشية عندما تهرب من رؤية الأسد أو الرماة الذين يتصيدونها فلا تلوي على شيء مما يصور مبلغ جهلهم وحماقتهم: ﴿بل﴾ هم أشد، فالحمر تهرب ممن يقتنصها ليقتلها وهؤلاء يرون القرآن أمامهم كتابًا يشتمل على مواعظ وحكم وليس هو بأداة للاغتيال حتى يخافوا منه: ﴿يريد كل امرئ منهم أن يؤتى صحفًا منشرة﴾ أي أن الحمر تخاف وتفر إلى غير رجعة وهؤلاء يعودون فيطلب كل واحد منهم أمرًا غير معقول هو أن تنزل له كتابًا خاصًّا يرضى به: ﴿كلا﴾ إنه ليس بمقتنع أبدًا حتى ولو أجيب إلى ما يريد: ﴿بل﴾ إنهم: ﴿لا يخافون الآخرة﴾ أي لا يخافون عذاب الله في الآخرة لعدم تصديقهم بأمر البعث والحساب وما داموا كذلك فليس هناك ما يحملهم على الإصغاء لكلام الله والاهتداء بهديه: ﴿كلا إنه﴾ أي القرآن: ﴿تذكرة﴾ أي موعظة ودعوة إلى الله بأدلة عقلية ومحسوسة من غير إكراه: ﴿فمن شاء﴾ أي من عمل بهذه التذكرة: ﴿ذكره﴾ أي القرآن بمعنى فطن إلى مراميه وحفظه فلم يضيعه: ﴿وما يذكرون﴾ أي يفطنون ويحفظون وقرئ «تذكرون» بالياء والتاء مخففًا ومشددًا: ﴿إلا أن يشاء الله﴾ أي إلا أن يكون هذا الذكر متمشيًا مع نظام المشيئة الذي يقضي بأن من طلب الهداية هداه الله ومن أعرض عنها ولم يطلبها ظل قلبه مقفولًا في غفلة دائمة: ﴿هو﴾ أي الله: ﴿أهل التقوى وأهل المغفرة﴾ أي هو أهل أن يخاف منه وهو أهل أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب وقد روى أنس رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ لما قرأ هذه الآية قال «قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله فمن اتقى أن يجعل معي إلهًا كان أهلًا أن اغفر له» اللهم اجعلنا من المتقين.
على شاكلته وليمعنوا في أعمالهم من صد الناس عن سبيل الله ومتى فعلوا ذلك فقد تعرضوا لقهرنا وتنكيلنا بهم: ﴿سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ﴾ وهم في اللغة رجال الشرطة وأعوان الولاة والمراد أنا سنسلط عليه جنودنا الأقوياء فينكلون به: ﴿وإن جندنا لهم الغالبون﴾.
﴿كَلاَّ﴾ زجر عن الإصغاء لقول الطاغية،: ﴿لا تُطِعْهُ﴾ أيها الإنسان إذا نهاك أو سخر منك لإقامة الصلاة والتزام جانب الحق والرجوع إلى الله في كل وقت: ﴿وَاسْجُدْ﴾ لربك خاضعاً متذللاً وادعُه خوفاً وطعماً،: ﴿وَاقْتَرِبْ﴾ أي وتقرب إليه تعالى بمختلف العبادات وسائر الأعمال الصالحات يرضى الله عنك ويمدك بأنواع المدد ووافر النعم.
سورة القدر
مكية عدد آياتها خمس

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥)﴾
سورة القدر: لقد بدأ الله السورة السابقة بذكر أول خطاب نزل به الوحي على رسول الله ﷺ وقد أراد سبحانه في هذه السورة أن يبين وقت نزوله فقال: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَاهُ﴾ أي أول القرآن: ﴿فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ لعل المراد بهذه التسمية إشارة إلى أن الله تعالى قد ابتدأ فيها بتقدير دينه وتحديد شريعة رسوله عليه الصلاة والسلام وفي هذا إشارة إلى أن أول القرآن أو الوحي كان نزوله ليلاً لا نهاراً: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ﴾ أي أنك لا تدرك مزاياها: ﴿لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ﴾ أي أن شرفها وفضلها والعبادة فيها أفضل من ألف شهر بمعنى أن الله يضاعف ثواب الأعمال فيها إلى آلاف الأضعاف في غيرها: ﴿تَنَزَّلُ﴾ أي تتنزل: ﴿الْمَلائِكَةُ﴾ وهم ذوات مخلوقة خفية تتشكل وتتجسد عند الاقتضاء: ﴿وَالرُّوحُ﴾ وهم من عالم القوى الغيبية التي عجز العلم عن إدراك كنهها وآمن بوجودها من آثارها الظاهرة: ﴿فِيهَا﴾ أي تلك الليلة: ﴿بِإِذْنِ رَبِّهِم﴾ لهم النزول إلى الأرض لرحمة العباد وهداية كل من أراد لنفسه الهداية وعون كل من هو في حاجة إلى العون وإنقاذ من شاء لنفسه الإنقاذ: ﴿مِّن كُلِّ أَمْرٍ﴾ لا يرضي الله أو يضر المجتمع: ﴿سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ بمعنى أنها ليلة يتجلى الله فيها برحمته وإحسانه، كما تجلى فيها على نبيه بإنزال الوحي


الصفحة التالية
Icon