من الطبقة التي تحرف كلام الله من بعد ما عقوله، لأنهم من العامة الذي ﴿لا يعلمون الكتاب إلا أماني﴾ أي لا يتصورون من الدين إلا مجرد تلك الأماني الزائفة التي كان يلقنها لهم أحبارهم من أنهم هم شعب الله، وتلك الأكاذيب المختلفة التي كانوا يعلمونهم لهم، ويوهمونهم أنها من كلام الله، فيتقبلونها ويعملون على ابتاعها ﴿وإن هم إلا يظنون﴾ أي والحال أنهم ليسوا على علم بحقيقة الكتاب، فإذا تلي عليهم سمعوه، وإذا ذكر لهم تأويله تقبلوه من دون تأمل ولا تدبر، مع أن هذه الطريقة لا توصلهم إلى الحق، بل إنهم مكلفون ببحث حقيقة الدين واتباع أحكامه، وعدم الاكتفاء بتقليد علمائهم تقليدًا أعمى من غير تعقل ولا نظر صحيح، وهذا بمثابة التحذير من تحريف وتأويل كلام الله، والاعتقاد بأن مجرد الانتماء للدين كاف للنجاة من عذاب الله.
وهنا أراد الله أن يلقي تبعة ضلال هؤلاء الأميين على عاتق أحبارهم الذين كانوا يحرفون كلام الله من بعد ما عقلوه، ويختلقون الكذب، ويضللون السواد الأعظم من الناس بما يملونه عليهم من الاختلافات التي يوهمونهم أنها من الدين وليست منه في شيء. ولذلك رتب عليهم حكمه الآتي حيث قال: ﴿فويلٌ﴾ كلمة معناها الهلكة ﴿للذين يكتبون الكتاب﴾ كما يشاءون، ويؤلفون الرسائل الدينية إلى جانبه، ويدسون فيها من الاختلافات ما يتجافى عن حقيقة الدين ﴿بأيديهم﴾ ومن عند أنفسهم، فيحرمون الحلال، ويحلون الحرام، ويخترعون من البدع في الدين ما شاءت أهواؤهم، بدون أن يكون لهم مستند من كتاب الله ﴿ثم يقولون هذا﴾ أي ما كتبوه وألفوه ﴿من عند الله﴾ كذبًا وبهتانًا، فيحملون العامة من الناس على التعبد به، والاستغناء بما فيه من التعاليم عن كتاب الله الحقيقي، على زعم أنهم يفهمون من الدين ما لا يفهمه غيرهم؛ ولا مطمع في الواقع لهم من ذلك إلا تحويل الناس عن عقائدهم الدينية الصحيحة، حبًّا في الشهرة والجاه واجتذاب العامة إليهم ﴿ليشتروا به﴾ أي ليستعيضوا بنشر دعايتهم ﴿ثمنًا قليلًا﴾ دارهم معدودة لربحهم وانتفاعهم ﴿فويلٌ لهم مما كتبت أيديهم﴾ من اختلاق في الدين، وتلوين في أكاذيبهم لا يسلم بها العقل، ولا يقرها الدين ﴿وويلٌ لهم مما يكسبون﴾ من ربح أضاعوا في مقابله دينهم، وباعوا من أجله ضمائرهم.
منه لما روى أحمد ومسلم من حديث طاوس عن ابن عباس قال «كان الطلاق على عهد رسول الله ﷺ وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر طلاق الثلاث واحدة فقال عمر بن الخطاب: إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة فلو أمضيناه عليهم فأمضاه عليهم». ويجاب على هذا بأنه ما دام الصحابة كانوا مجمعين على أنه لا يقع الطلاق بالثلاث مجتمعة إلا واحدة من أول الإسلام إلى سنتين من خلافة عمر فإن هذا الإجماع لم ينقضه إجماع بعده وإن أجازه عمر الطلاق الثلاث لما تسرع الناس في الطلاق ما كان إلا تأديبًا لهم على مخالفة ما شرعه الله في الطلاق من كونه يوقع المرة بعد المرة ليرجعوا إلى السنة لا لتغيير حكم الله وما شرعه الرسول خصوصًا وإن المصلحة الآن تقضي بالرجوع إلى الكتاب وما مضت به السنة في عهد النبي ﷺ والخليفة الأول درءًا من مفاسد التحليل التي هي من أكبر العار على المسلمين ولما في الطلاق من هدم الأسرة وضرره يتعدى إلى الأولاد فمن المصلحة أن يعمل على جمع الشمل خصوصًا وقد ورد من حديث عن ركانة أنه طلق امرأته البتة وفي رواية ثلاثًا فأخبر النبي ﷺ وقال: والله ما أردت إلا واحدة فأعاد اليمين النبي فأعادها هو فردها إليه وطلقها الثانية في زمن عمر والثالثة في زمن عثمان. ويسرنا أن حكومة مصر تعمل بهذا في عصرنا الحاضر ﴿فإمساك﴾ بالرجعة ﴿بمعروف﴾ أي على شريطة قصد الإصلاح لا على قصد المضارة ﴿أو تسريح﴾ بترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة ﴿بإحسان﴾ أي بأداء حقوقها المالية وعدم ذكرها بسوء لئلا ينفر الناس عنها: ثم أتى بحكم آخر في عدم جواز أخذ شيء من المرأة مقابل الطلاق إلا في حالة مخصوصة فقال: ﴿ولا يحل لكم﴾ في حالة التسريح أي بعد البينونة ﴿أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا﴾ من قبل على سبيل التمليك من المهر وغيره ﴿إلا أن يخافا﴾ بفتح الياء وقرئ بضمها وقرئ ﴿تخافا﴾ بالتاء مضمومة وقرئ ﴿إلا أن يظنا﴾ كل من الزوج والزوجة ﴿ألا يقيما﴾ في حالة العشرة ﴿حدود الله﴾ التي حددها للزوجين وذلك بأن تخاف المرأة أن تعصي الله في أمر زوجها فتكرهه أو تخونه لأنها غير راغبة فيه ويخاف الرجل أن يخرج عن الحد المشروع في مؤاخذة الزوجة من الضرب أو الهجر ﴿فإن خفتم﴾ يا معشر المسلمين ﴿ألا يقيما﴾
عَذَابَ النَّارِ (١٩١) رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (١٩٢) رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ (١٩٣) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (١٩٤) فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّن عِندِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (١٩٥) لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ فِي الْبِلاَدِ (١٩٦) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (١٩٧) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْاْ رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ (١٩٨) وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (١٩٩) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٢٠٠)
لقد أكد الله في أول السورة السابقة أن القرآن هو سبيل الهداية للمتقين ووصفهم أتى بذكر ما يقابلهم من الكافرين واللَّادينيين ثم دعا الناس إلى الإيمان وذكرهم بمننه عليهم التي يستحق معها أن ينفرد بالعبادة ثم أخذ في هذه السورة يؤكد لرسوله أن القرآن إنما أنزل بالحق مصدقًا ومؤيدًا لما سبقه من الكتب الإلهية الأخرى التي أنزلت لنفس الغرض وهو الهداية لأقوم السبل فمن أبى الاهتداء بهديها فإنما جرمه على نفسه لأنه عرضها لنقمة الله وعذابه فقال (أ لم) وتنطق هكذا (ألف. لام. ميم.) وقد قلنا من قبل أن هذه أسماء أردفت بمقسوم به مما يشعر بأنها مقسوم بها أيضًا فكأن المولى جل وعلا يقسم بالسر الذي أودعه فيها أنَّه (الله) الموجد لجميع الكائنات (لا إله) يستحق العبادة في هذا الوجود (إلا هو) لأنه هو المنفرد بالألوهية، فهو (الحق) الذي تفرد بالحياة الدائمة أما حياة غيره فمستمدة منه وصائرة إلى الزوال (القيوم) القائم بتصريف شؤون خلقه وإدارة ملكه ورزق عباده من غير حاجة إلى شريك أو معين، وهو الذي (نزل عليك) أيها الرسول (الكتاب) القرآن دستورًا عالميًا للناس كافة (بالحق) المطابق للواقع في كل شيء، ليكون (مصدقًا) ومؤيدًا (لما بين يديه) ما سبقه من كتب الأنبياء السابقين ولا يختلف عنهم في الدعوة إلى توحيد الله ووجوب طاعته (و) إنه هو الذي (أنزل التوراة) وقرئ «التورية» بالإمالة في جميع القرآن على
وكان معه – كما قال ابن القيم – ألفا رجل فسمى أهل مكة جيشه جيش السويق لأنهم خرجوا ليشربوا السويق – وهو من الدقيق الناعم – ولقد كان مع المسلمين بعض عروض فاشتركوا في سوق بدر وربحوا وأصابوا بالدرهم درهمين وعادوا إلى المدينة سالمين غانمين. فالمراد بالناس الأولى نعيم بن مسعود الأشجعي ومن دعا بدعوته من المنافقين، والمراد بالناس الثانية أبو سفيان وحزبه من المشركين ﴿فاخشوهم﴾ فهم كثيرون وأنتم قليلون، والكثرة تغلب الشجاعة ﴿فزادهم﴾ هذا القول ﴿إيمانا﴾ بالله وثقة به رغم ما هم عليه من الضعف وعدم القدرة على لقاء عدوهم فلم يفت هذا من عزيمتهم بل وثقوا بنصر الله لهم وفاء بوعده ولم تخفهم كثرة الأعداء وتجردوا عن النظر في الماديات فاتجهوا بقلوبهم إلى بارئ الأرض والسموات ﴿وقالوا حسبنا الله﴾ يكفينا ما أهمنا من جميع الأحوال ﴿ونعم الوكيل﴾ الذي نكل إليه كافة الأمور فهو لا يعجزه أن ينصرنا على أعدائنا على قلتنا وكثرتهم بقوة غيبية لا يعلمها إلا هو. وإن من أبسط ذلك أن ينزل عليهم مختلف الأمراض والأوبئة، أو يسقط عليهم صواعق من السماء أو يلقي الرعب في قلوبهم فينقلبوا خاسرين. وقد كان وصرف الله نظر أبي سفيان عن حربهم في ذلك العام بأتفه سبب وسلم الله المؤمنين من شرهم ﴿فانقلبوا﴾ عادوا بعد خروجهم إلى لقاء الذين جمعوا لهم متمتعين ﴿بنعمة من الله﴾ هي السلامة والعافية ﴿وفضل﴾ هو ما ربحوه في التجارة. روى البيهقي عن ابن عباس «أن عيرا مرت في أيام الموسم ببدر فاشتراها رسول الله ﷺ فربح مالا فقسمه بين أصحابه فذلك هو الفضل» ﴿لم يمسسهم سوء﴾ أي ضرر بعد أن قيل لهم إن المشركين سيبيدونكم عن آخركم ﴿واتبعوا رضوان الله﴾ بالنعمة وظفروا بالحصول على رضاء الله باتباع أوامره ﴿والله ذو فضل عظيم﴾ يجزي الواثقين المتوكلين عليه بمثل ما جازى هؤلاء المؤمنين الذين تجردت قلوبهم من خوف غير الله فكفاهم الله شر أعدائهم وأعادهم سالمين إلى ديارهم وقد ربحت تجارتهم في الدنيا والآخرة. ﴿إنما ذلكم﴾ القول الذي تحدث به نعيم الأشجعي ومن على شاكلته من التهديد بكثرة العدو رجاء تخويف المسلمين منهم ليقعدوهم عن الجهاد في سبيل الله، هو نفس القول الذي كان ﴿الشيطان يخوف أولياءه﴾ الموالين له بالوسائل التي يوسوس بها في قلوب الناس ليصدهم عن الجهاد كما يعدهم بالفقر إذا هم أنفقوا أموالهم في سبيل الله ليحول دونهم ودون ما يقربهم إلى الله ونيل ثوابه ومضاعفة نعمه عليهم ﴿فلا تخافوهم﴾ فهم خلق من خلقي نواصيهم بيدي وقلوبهم
أصحاب النفوذ من الناس...
بعد أن أمر الله المؤمنين بتبين الحقائق وعدم التسرع في الأحكام على الناس بمجرد الظن في حال ضربهم في الأرض وكان في هذا ما يشعر بالحث على مواصلة الأسفار لما فيها من عدة فوائد من أهمها تبين أحوال الناس والعمل لهدايتهم إلى الحق بالحكمة والموعظة الحسنة لا بالقسوة والقتل والتعذيب أراد جل وعلا أن يبين لهم أن الضرب في الأرض من أجل نشر الدعوة إلى الله هو أول خطوة من خطوات الجهاد في سبيل الله، ذلك لأن كلمة الجهاد إنما تعني أن يبذل المؤمن كل ما في وسعه في سبيل تنفيذ أوامر الله مضحيًا في ذلك بماله ونفسه التي بين جنبيه وأقل ما يجب عليه هو أن يهجر راحته وبلدة ويوطن نفسه على تحمل وعثاء السفر وآلام الغربة ومختلف المخاطر في سبيل غايته التي عاهد الله عليها وهي العمل في الحياة بما يرضي الله من السعي لطلب الرزق الحلال والنفقة على العيال وإعداد القرى وإجابة الداعي إلى القتال بالنفس والمال ولذا قال تعالى ﴿لا يستوي القاعدون﴾ في بيوتهم وأوطانهم ﴿من المؤمنين﴾ القادرين على العمل ﴿غير﴾ بضم الراء وقرئ بفتحها وكسرها ﴿أولي الضرر﴾ العاجزين عن العمل كالأعمى والمقعد والمريض ﴿والمجاهدون﴾ الدائبون على تحمل المشاق ﴿في سبيل الله﴾ بتنفيذ كل ما يطلب منهم عليه أو ما يستطيعونه في السلم والحرب ﴿بأموالهم وأنفسهم﴾ فشتان بين من يعمل ليأكل ويحسن إلى غيره وبين من يتكاسل ويقبع في داره ويرضى أن يأكل من كسب غيره وعالة على سواء ﴿فضل الله﴾ أي فقد قضت سنة الله في خلقه أن يفضل سبحانه ﴿المجاهدين بأموالهم﴾ أي الباذلين أموالهم في كل مشروع نافع ﴿وأنفسهم﴾ أي المجهدين أفكارهم والمسخرين أجسامهم في المصالح العامة {على
وتبعهم كثير من الكتاب في هذا كقولهم «سيرة محمد» و «محمد» مع أن الواجب يقضي أن يقترن اسمه الشريف بما يليق به من الاحترام كما جاء في الآيات فلينتبه إلى هذا كل مسلم (لَا يَحْزُنْكَ) بفتح الياء وضم الزاي وقرئ بضم الياء وكسر الزاي لا يسوءك ما تراه من ضلال بعض الناس (الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ) أي يقعون فيه بسرعة عندما تعرض لهم أقل شبهة (مِنَ) فريقين من الناس أولهما (الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ) أي ممن يكون إيمانهم تقليدياً غير قائم على أساس من المعرفة واليقين الكامل، (وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا) أي اليهود وهم الفريق الثاني فكلا الفريقين (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ) أي لكلما يروي وينسب من الأقوال للرسول دون أن يتثبتوا من صحته ويزيدون في روايتها وينقصون (سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ) أي من أعدائك البعيدين عنك الذين يكيدون للإسلام ويصوغون الشبه التي تضل المسلمين وتخرجهم عن دينهم (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ) أي كلام الله (مِن بَعْدِ)
<٥٨>
وضعه في (مَوَاضِعِهِ) إما تحريفاً لفظياً بإبدال كلمة بكلمة أو بإخفائه وكتمانه أو الزيادة والنقصان فيه وإما تحريفاً معنوياً بتأويله وحمل اللفظ على غير ما وضع له (يَقُولُونَ) يقول بعضهم لبعض (إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا) من الأموال والصدقات (فَخُذُوهُ) فتقبلوه (وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ) حسبما ترضون (فَاحْذَرُوا) أن تسجلوا على أنفسكم الرضى به بل عارضوا فيه وأعلنوا سخطكم منه كما وقع ذلك فعلاً منهم وسجله الله عليهم في سورة التوبة إذ قال (ومنهم من يلمزك في الصدقات فإن أعطوا منها رضوا وإن لم يعطوا منها إذا هم يسخطون) ثم إن الله تبارك وتعالى بعد أن أمر رسوله بأن لا يحزنه الذين يسارعون في الكفر أخذ يشعره بأن حسرته لا تجدي من قضاء شيئاً (وَمَنْ يُرِدِ اللهُ فِتْنَتَهُ) أي متي تعلقت إرادة الله باختبار أحد في دينه ليظهر كفره وضلاله كما يفتن أي يصهر الذهب بالنار فيظهر مقدار ما به من الغش (فَلَنْ تَمْلِكَ) أيها الرسول (لَهُ مِنَ اللهِ شَيْئًا) فلا تستطيع أن تقف في سبيل اختباره أو تنجحه في مادة الهداية والرشد (أُولَئِكَ) الذين يسارعون في الكفر هم (الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) من النفاق بسبب ما كانوا عليه من سماعهم للكذب وقبول المطاعن في الإسلام ونحو ذلك (لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ) إذ لا بد أن ينكشف نفاقهم ويظهر للناس كذبهم فلم تنطل على الناس ترهاتهم كما قال الشاعر:
هذا في آية أخرى بقوله: ﴿وقال الذين كفروا للذين آمنوا لو كان خيرًا ما سبقونا إليه﴾ وقد رد الله على قولهم هذا بما يشعرهم بخطئهم في تصورهم أنه يلزم من إكرامهم بالغنى أن يكرمهم بالإيمان، ويحيلهم إلى ما قضت به سننه وما أخبرهم به في آية أخرى بقوله: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم ولئن كفرتم إن عذابي لشديد﴾ فقال ﴿أليس الله بأعلم بالشاكرين﴾ الذين يقدرون لله نعمه ويشكرونه عليها باستعمال مواهبهم فيما خلقت له فيضيف لهم سبحانه نعمة الإيمان إلى جانب متع هذه الحياة الدنيا من المال والجاه. أما من كفروا بنعم الله وعتوا عن أمر ربهم فإنهم جديرون بسلب ما هم فيه من نعم لا أن يؤتوا من النعم ما لا يستحقوها.
بعد أن أمر الله رسوله أن يعلن ضعفه وعجزه عن أن ينفع أحدًا أو يضره، ونهاه عن طرد فريق من الناس إرضاء لآخرين، وأخبره أن ما صدر من زعماء قريش لم يكن إلا ناشئًا عن سنة من سننه تعالى في خلقه؛ أخذ يعلمه طريقة يغرس بها حبه تعالى في قلوب المؤمنين فقال ﴿وإذا جاءك﴾ أيها الرسول ﴿الذين يؤمنون﴾ أي كل من يؤمن ﴿بآياتنا﴾ ولا يشك في صدق كل وعد وكل كلمة وردت في القرآن ﴿فقل﴾ لهم ﴿سلام﴾ الله ﴿عليكم﴾ أي أن الله يقرئكم السلام ويؤمنكم على أنفسكم من الظلم فإنه تعالى لا يظلم أحدًا بل إنه سيجزيكم على إيمانكم وصالح أعمالكم خير الجزاء. فهذا ما يطمئنهم على مستقبلهم. ثم أضاف إلى ذلك بشرى أخرى من شأنها أن تملأ قلوبهم فرحًا وتعلقًا بالله وهي قوله ﴿كتب﴾ الله سبحانه وتعالى بوصفه ﴿ربكم﴾ الخالق لكم وهذا يشير إلى كمال العطف والشفقة ﴿على نفسه الرحمة﴾ أي أوجبها على نفسه قبل أن يطالبه أحد بها إذ هو شرع في دستوره الرحمة وغرسها في قلوب عباده. وكان من أبرز دلائل رحمته تعالى ﴿أنه﴾ بفتح الهمزة وقرئ ﴿إنه﴾ بكسرها ﴿من عمل منكم سوءًا﴾ أي ارتكب ذنبًا من الذنوب صغيرها وكبيرها ﴿بجهالة﴾ دفعته إلى ذلك السوء كتغلب الشهوة وشدة الغضب. فالجهالة هنا معناها السفه والحمق ﴿ثم تاب من بعده﴾ أي بعد ذلك السوء بمعنى خاف الله فاستغفره وندم على ما صدر منه ﴿وأصلح﴾ عمله بأن أتى بشيء من أعمال الخير التي تستجلب رضاء الله ﴿فأنه غفور﴾ لمن استغفره ﴿رحيم﴾ لمن طلب الرحمة وعمل لها بالرجوع إليه والتذلل بين يديه ﴿وكذلك﴾ أي بمثل ذلك الإرشاد الذي أمرناك به ﴿نفصل الآيات﴾ أي نوضح مقصدنا من تنزيل آيات القرآن وهو اجتذاب القلوب إلى الله ﴿ولتستبين سبيل﴾ برفع سبيل
في} زمرة ﴿أمم قد خلت من قبلكم﴾ كانت تقول كقولكم ﴿من الجن والإنس في النار﴾ وقدم الجن هنا عن الإنس لأن شياطينهم هم مصدر الضلال والإغواء ﴿كلما دخلت أمة﴾ في النار ﴿لعنت أختها﴾ التي سبقتها وتلقت الضلال عنها بتقليدها ﴿حتى إذا ادّاركوا﴾ أي أدرك بعضهم بعضًا ﴿فيها جميعًا﴾ بمعنى اجتمعوا ﴿قالت أخراهم لأولادهم﴾ أي أخرى الأمم لأولاها مشيرين إليهم ﴿ربنا هؤلاء أضلونا﴾ أي هم الذين كانوا سبب ضلالنا فقد ظنناهم على حق فقلدناهم ولولا ذلك لما ضللنا ﴿فآتهم عذابًا ضعفًا من النار﴾ أي اغلظ العذاب عليهم أكثر منا واجعله ضعف عذابنا ﴿قال﴾ الله ﴿لكل﴾ منكم ﴿ضعف﴾ باعتبار أن كل أمة ضلت وأضلت في وقت واحد ﴿ولكن لا تعلمون﴾ أن طلبكم مضاعفة العذاب على من سبقكم لإضلالكم إنما هو اعتراف منكم باستحقاقكم مضاعفة العذاب لأنكم أضليتم من جاء بعدكم ﴿وقالت أولاهم لأخراهم فما كان لكم علينا من فضل﴾ حتى تطلبوا به أن يكون عذابكم دون عذابنا فقد أضللتم من جاء بعدكم فالذنب واحد وقد اعترفتم به ﴿فذوقوا العذاب بما كنتم تكسبون﴾ أي بسبب ما كنتم تقترفونه من ضلال وإضلال لم نكرهكم عليه بل فعلتموه باختياركم كما فعلناه باختيارنا، وهنا أخبرنا الله بالفصل في هذا الموضوع ليعلم به الناس منذ الآن فقال ﴿إن الذين كذبوا بآياتنا واستكبروا عنها﴾ أي غير المؤمنين من الذين جاء ذكرهم في أول الآية السابقة وقال تعالى إنهم أصحاب النار هم فيها خالدون ﴿لا تفتح لهم أبواب السماء﴾ أي لا تقبل منهم الأعمال الصالحة مهما بلغت ﴿ولا يدخلون الجنة﴾ في الآخرة ﴿حتى يلج الجمل في سم الخياط﴾ أي حتى يدخل الجمل وهو الحيوان الكبير وهو محتفظ على كبره في ثقب الإبرة التي هي من الجمادات على صغرها وهذا مستحيل عقلًا وعادة وينافي سنن الله في الخلق ﴿وكذلك﴾ أي مثل هذا الجزاء ﴿نجزي المجرمين﴾ الذين اتصفوا بالإدمان على حب الإجرام حتى الممات دون أن تتخلل حياتهم توبة ورجوع إلى الله ﴿لهم من جهنم مهاد﴾ أي فراش ﴿وهو فوقهم غواش﴾ جمع غائشة وهي ما يغشى الشيء أي يغطيه ويستره بمعنى أن النار بساطهم وغطاؤهم وجهنم مطبقة عليهم ﴿وكذلك﴾ أي بمثل هذا الجزاء ﴿نجزي الظالمين﴾ لأنفسهم وللناس أي الذين اتصفوا بصفة الإدمان في الظلم فلم يكفّوا عنه مدة حياتهم حتى موتهم ﴿والذين آمنوا﴾ بالله وآياته ﴿وعملوا الصالحات﴾ التي دعتهم إليها الرسل ولا يقصد بعمل الصالحات الإتيان بها دائمًا وعلى أكمل وجه بل ما لا عسر فيه فإن من دستورنا أن ﴿لا نكلف نفسًا إلا وسعها﴾ فمتى عملوا من الصالحات ما لا يعسر
أمر الله رسوله أن يفهم الناس حقيقة شخصيته ويحدد لهم مهمته فقال ﴿قل﴾ أيها الرسول للبشر كافة ﴿إنما أنا بشر مثلكم﴾ في صفاتي وغرائزي وإنما أمتاز عليكم بأنه ﴿يوحى إلي﴾ ولذلك فإني ﴿لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا﴾ أي ليس لي من القدرة الشخصية على نفع نفسي أو ضرها ﴿إلا ما شاء الله﴾ إلا في حدود ما قضت مشيئة الله أن ******************* تؤدي بي إلى مزاولة أسباب النفع والضر وفق سنن الله التي قدرها لذلك ﴿ولو كنت أعلم الغيب﴾ أي لو أن الله عندما اصطفاني لرسالته منحني العلم بالمغيبات فضلًا عن علم الساعة التي اختص بها سبحانه ﴿لاستكثرت من الخير﴾ لنفسي من كل ما يرغب الناس فيه من المنافع المادية والمعنوية كالمال والعلم ﴿وما مسني السوء﴾ أي ولمنعت السوء عن نفسي فلم يشج وجهي ولم تكسر رباعيتي في غزوة أحد ولم أشك المرض قط. ﴿إن أنا إلا نذير وبشير﴾ أي وإنما مهمتي محصورة في تبليغ رسالة الله وتنبيههم إلى مواضع الزلل وإنذارهم بمغبته وإشعارهم بما يجلب لهم السعادة في الدنيا والآخرة ووعدهم بما وعد الله به المتقين من وافر النعم وما يشملهم به تعالى من واسع رحمته وأترك لهم الحرية في اختيار ما يشاءون دون أن يكون لي سلطان عليهم أو وسيلة لنفعهم أو ضرهم ما دمت عاجزًا عن نفع نفسي أو ضرها ﴿لقوم يؤمنون﴾ بالله وينتفعون بما جاء من عنده أما من لم يؤمن بالله وكذب بما جاء من عنده فلست مكلفًا بأن أتجاوز حدود الإنذار وأرغمه على الاستفادة بهذا القرآن الذي بين يدي. وإن مما يؤسف له أن الكثير من الناس لا يزال يعتقد أن للرسول ﷺ بل ومن دونه ممن سموهم أولياء وفرضوا لهم على الله مكانة أشبه بمكانة الوزراء والجلساء من ملوك الدنيا المستبدين من شأنها أن تمكنهم من جلب النفع أو منع الضر عنهم ولذلك نراهم يلجئون إليهم في الشدائد ويلتمسون منهم المدد والكرامات بالرغم مما يسمعونه من أمر الله لنبيه وأشرف خلقه في هذه الآية من وجوب براءته من كل أمر قد ينسب إليه من سلطة غيبية أو نفوذ خاص يميزه عن غيره من سائر البشر، وإذا كان الله تبارك وتعالى قد شرفه ﷺ بالرسالة فليس معنى هذا أن له عنده من الجاه ما يؤثر في حكمه أو يغير ويبدل في مشيئته بحيث يشركه في جميع تصرفاته أو يطلعه على كافة ما في علمه تعالى كما يزعم البوصيري من أئمة الصوفية في بردته إذ يقول:
@وإن من جودك الدنيا وضرتها
١ - عدم الثقة بالمشركين مطلقًا ولو كانوا من أقرب المقربين لهم حيث قال تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا﴾ بالله ورسوله: ﴿لا تتخذوا آباءكم وإخوانكم﴾ وهم بلا شك من أحب الناس إليكم: ﴿أولياء﴾ تستنصرون بهم وتعتمدون عليهم في الشدائد: ﴿إن استحبوا الكفر على الإيمان﴾ أي ما داموا يخالفونكم في الدين لأن روابط الود الشخصية مهما كانت قوية فإنها لا تحمل الإنسان على تغيير مبدئه الذي يدين به ولا تسوغ له أن ينصر مخالفًا له في العقيدة على نفسه التي يعتز بها: ﴿ومن يتولهم منكم﴾ ويستنصر بهم بعد هذه الحقيقة الثابتة: ﴿فأولئك هم الظالمون﴾ لأنفسهم بركونهم إلى من لا ينبغي الركون إليه فقد ينصر الرجل أباه على أخيه ولكنه لا يمكن أن ينصر أحدًا على نفسه.
٢ - تجريد القلب من محبة غير الله ورسوله وإيثار وجوب طاعتهما على كل شيء حيث قال تعالى: ﴿قل﴾ أيها الرسول لمن آمن بك وصدق برسالتك عن ربك إذا كنتم قد عرفتم الله حقًّا وأيقنتم أنه وحده الذي خلقكم ورزقكم فمن واجبكم أن تشعروا نحوه بحب صادق لا يداني وتخلصوا في طاعة أوامره إخلاصًا لا يقف في طريقه أي عائق وقد أمرني ربي أن أبلغكم بأنه: ﴿إن كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم﴾ أي إن كان حب هذه الأشياء الثمانية مجتمعة أو متفرقة أشد وقعًا وتأثيرًا في قلوبكم: ﴿من الله ورسوله﴾ أي من حب الله ورسوله: ﴿وجهاد في سبيله﴾ أي وحب الجهاد في سبيله بالنفس والمال: ﴿فتربصوا حتى يأتي الله بأمره﴾ فيكم جزاء على عدم تقديركم لآلائه وجحودكم لإحسانه: ﴿والله لا يهدي﴾ إلى معرفة مزايا إيثاره حبه وحب رسوله والجهاد في سبيله عن كل شيء وما يترتب على ذلك من التآخي والتناصر وقوة الاتحاد: ﴿القوم الفاسقين﴾ المتمردين على قبول هداية الله المتجاوزين حدود الشريعة.
٣ - ولما كان السبيل لغرس هذا الحب في القلوب إنما يكون بتذكر آلاء الله السابقة على الإنسان وهي أجل من أن تحصى وترقب النصر من عنده دون أن يداخل الإنسان شيء من الغرور بقوته قال تعالى: ﴿لقد نصركم الله في مواطن كثيرة﴾ أي اذكروا أن ولاية الله للمؤمنين أعظم بكثير من ولاية غيره من الأقربين وتأييده تعالى لرسوله وللمؤمنين بالقوى المعنوية أعظم شأنًا وأضمن للنصر من القوى المادية كالكثرة العددية وما شاكلها فهو كتب لكم النصر في مواقع لم تكونوا تؤملون النصر فيها: ﴿ويوم حنين﴾ أي في يوم حنين وهو اسم واد قريب من الطائف: {إذ
شيئًا من التصرفات إذا ما دعاهم الداعي أو توسل بهم إلى الله: ﴿لكل أمةٍ أجلٌ﴾ أي أن الله قد قدر عمر كل أمة فمنها من تكون من طويلي الأعمار ومنها من تكون من قصارها: ﴿إذا جاء أجلهم﴾ أي أجل تلك الأمة المقدر لفنائها: ﴿فلا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون﴾ أي فلا يملك رسول تلك الأمة من دون الله أن يطيل فيه أو ينقص بخلاف أعمار الأفراد في الأمم فإن ذلك مرتبط بمزاولتهم للأسباب التي قدرها الله للموت وإن لم تخرج عن دائرة علم الله القائل: ﴿وما يعمر من معمر ولا ينقص في عمره إلا في كتاب﴾ وقد أخبرنا الرسول ﷺ بأن صلة الرحم والبر مما يزيدان في العمر والمعاصي تنقصه: ﴿قل﴾ أيها الرسول: ﴿أرأيتم﴾ أي أخبروني: ﴿إن أتاكم عذابه بياتًا أو نهارًا﴾ أي وأنتم نائمون أو مستيقظون: ﴿ماذا يستعجل منه﴾ أي ما الذي يستفيد من استعجاله القوم: ﴿المجرمون﴾ الذين لا يؤمنون بقدرة الله وعظيم بأسه: ﴿إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.: {أثم﴾ بضم التاء وقرئ بفتحها أي هنالك: ﴿إذا ما وقع﴾ العذاب وحل بكم: ﴿آمنتم﴾ بأنه حق حيث لا ينفع الإيمان لأنه يصبح ضروريًا بالمشاهدة والعيان لا تصديقًا لما أخبر به الرسول ﷺ إذ يقال لكم: ﴿آلآن﴾ وقرئ «آلآن» بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام: ﴿آمنتم به﴾ اضطرارًا: ﴿وقد كنتم به تستعجلون﴾ من قبل لاستخفافكم بوعيد الله وعدم ثقتكم بعظيم قدرته: ﴿ثم قيل للذين ظلموا﴾ أنفسهم باتباع السنن المؤدية إلى العذاب من الكفر والضلال: ﴿ذوقوا عذاب الخلد﴾ أي العذاب الدائم وطبقوا ما شهدتم على ما أنذرتم به من قبل: ﴿هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون﴾ أي هل آتاكم من العذاب غير ما هو مقرر لجزاء الأعمال التي كنتم تقترفونها باختياركم من الكفر والظلم والفساد في الأرض وما أنذرتم به من قبل ولم يكن شيء من ذلك نتيجة أمر فرضه الله عليكم فرضًا دون أن تكون لكم القدرة على تركه أو التحول عنه: ﴿ويستنبئونك﴾ أي ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به في الدنيا والآخرة: ﴿أحقٌ هو﴾ أي سيقع بالفعل كما وصفت أم هو إرهاب وتخويف: ﴿قل إي﴾ بكسر الهمزة وسكون الياء الحقيقة بمعنى نعم: ﴿وربي إنه لحقٌ﴾ أي أقسم لهم بأنه مطابق للواقع فقد كان الصدق من أخلاق العرب في الجاهلية ولكنه قد يخالطه شيء من الهزل ولذلك فإنهم لا يطمئنون إلى التمييز بينهما
صحته وصحة ما جاءوا به من التوحيد والرسالة والبعث والجزاء وتكذيب أقوالهم، ذلك حتى حل بهم ما حل من عذاب. ثم أعقبها بسورة هود لبيان مزايا القرآن فأقسم أنه: ﴿كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير﴾ لا تناقض فيه ولا تناسخ وإنما هو إجمال وتفصيل وترديد لقصص الرسل وما حصل بينهم وبين أقوامهم من جدل ومحاجة أثناء تبليغ الرسالة وعاقبة من آمن بهم ومن كذبهم ليكون من ذلك عظة وعبرة للناس على ممر السنين وقد ختم السورة بقوله تعالى لرسوله: ﴿وكلا نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك وجاءك في هذه الحق وموعظة وذكرى للمؤمنين﴾. ثم أعقبها بهذه السورة لبيان حقيقة القرآن فأقسم أنه بنصه العربي كلام الله الذي لا مراء فيه وأنه سيقص عليه فيه أحسن القصص مما لم يكن يعلم به من قبل وما من شأنه أن يثبت في النفس روح الطمأنينة واليقين بمبلغ عناية الله بمن يتولاه حتى لا يتطرق إلى قلب رسوله شيء من الخوف على نفسه ودعوته من الخصوم والأعداء وحتى لا يمل ولا ييأس من هداية قومه إلى الإيمان ولو بعد حين فلا بد أن يظهر الله دينه على الدين كله ولو كره الكافرون. وقد أتى بقصة نبي من أنباء الله رأى في صغره رؤيا منامية قصها على والده فبشره بما وراءها من اجتباء الله له وتعليمه من تأويل الأحاديث وإنعامه عليه بالنبوة والسلطان. فصدق ذلك ولم يداخله شك في تحقيق رؤياه واستعان على نيل ذلك من جانبه بالصبر على النائبات، والصمود بكليته في وجه مختلف الفتن والمغريات، حتى نال أعلى الدرجات فأقسم الله بالسر الذي أودعه في: ﴿الر﴾ وتقرأ هذه الحروف بأسمائها ساكنة هكذا: ألف، لام، را، بفتح الراء غير مهموز وقرئ بكسر الراء على الإمالة أن: ﴿تلك﴾ أي ما قصصناه عليك من حوادث الرسل ليست لمجرد العلم بها بل إنها: ﴿آيات الكتاب المبين﴾ لتتلوها على الناس فيتعظوا بها ويسيروا في الحياة على ضوء هديها: ﴿إنا أنزلناه﴾ أي الكتاب على رسولنا النبي العربي حال كونه: ﴿قرآنًا عربيًّا﴾ أي كلامًا مجموعًا ومقروءًا باللغة العربية الفصحى التي هي من أوسع اللغات دلالة على عدة معان عميقة ومرام بعيدة تدور حول غاية سامية هي تزكية النفس وإصلاح حال المجتمع: ﴿لعلكم تعقلون﴾ أي عسى أن تكون وسيلة لإيقاظ شعوركم وحملكم على استعمال ملكة العقل لإدراك ما وراء هذه الألفاظ من معان لا تدرك بغير هذه اللغة التي استعملها الله في خطاب خاتم أنبيائه وأنزل بها القرآن بالنص الصادر منه جل وعلا وقد نقله جبريل الأمين
لمحض البر كالصدقة وصلة الرحم لا لطاعة الله الذي كانوا يكفرون به: ﴿على شيء﴾ ينتفع به من تلك الأعمال يوم القيامة: ﴿ذلك﴾ أي اعتماد الكافرين على أعمالهم التي هي كالرماد: ﴿هو الضلال البعيد﴾ عن طريق الحق والصواب أو عن نيل الثواب، فمن المعلوم أن عمل الإنسان إنما يعود نفعه إليه لا إلى ربه ولكن الله من واسع كرمه وعظيم رحمته قد وعد المؤمن بالثواب على ما كان بقصد طاعته وابتغاء مرضاته ومتى انتفت هذه الصفة عن العمل فمن الضلال أن يرجو عليه أجرًا وما يكون للكافر الذي لم يعمل الصالحات ابتغاء مرضاة الله أن ينتظر الثواب على عمله يوم القيامة، ولإقامة الدليل على أن إحباط الأعمال إنما جاء بسبب الكفر بالله وعدم الرغبة في ثوابه لا لأن الله قد أراد حرمان شخص بعينه من ثواب عمله قال تعالى: ﴿ألم تر﴾ أيها الرسول أو أيها السامع: ﴿أن الله خلق﴾ وقرئ «خالق» على اسم الفاعل: ﴿السماوات والأرض بالحق﴾ الذي هو الدلالة على وجود الصانع وعظيم قدرته وفائق حكمته فهو: ﴿إن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد﴾ لا معارض له: ﴿وما ذلك على الله بعزيز﴾ أي ممتنع فمن خلق الله على نظام خاص لا يعجزه أن يفنيه ويخلق غيره على نظام آخر وهو الذي اقتضت حكمته أن يكون للعمل الصالح المنبعث عن الإيمان أجر وما سواه لا أجر له ولو شاء أن لا يكون للعمل من أساسه ثواب بالمرة لم يكن هناك من يلزمه به فلم يعد ثمت محل للقول بأن إحباط عمل الكافر ناشئ عن رغبة من الله في حرمانه بل إن ذلك كان بسبب كفره وعصيانه وعدم رغبته فيه لا محالة.
بعد أن مثل الله أعمال الذين كفروا بالرماد الذي يذهب مع الريح وأوضح السر في عدم انتفاعهم بها أخذ يروي ماذا سيكون من محاورة بين عامة الشعب وزعمائهم الذين كانوا يضلونهم بأقوالهم الزائفة التي أدت بهم إلى ذلك المصير بحسب ما يعلمه تعالى عنهم من قبل خلقهم فقال: ﴿وبرزوا﴾ أي ظهر سائر البشر بعد اختفاء طويل في قبورهم إلى الفضاء الواسع على أرض المحشر: ﴿لله﴾ أي لانتظار أمره فيهم: ﴿جميعًا﴾ أي من كافة الطبقات شقيهم وسعيدهم: ﴿فقال الضعفاء﴾ أي ضعفاء الرأي من الأتباع المقلدين: ﴿للذين استكبروا﴾ أي لرؤسائهم الذين كانوا يرون أنفسهم أكبر درجة منهم بما لديهم من علم كالقساوسة والرهبان وعلماء السوء: ﴿إنا كنا﴾ في حياتنا الدنيا: ﴿لكم تبعًا﴾ أي نصدق ما تفتونا به ونعمل بمقتضاه ولا نرد لكم قولًا ولا نعصي لكم أمرًا: ﴿فهل أنتم مغنون﴾ أي دافعون: ﴿عنا﴾ اليوم: ﴿من عذاب الله من شيء﴾ أي هل لكم
الدنيوية التي يوسوس بها الشيطان من باب أولى: ﴿فاستعذ بالله﴾ أي أن التعوذ بالله من شأنه ومن خصائصه أن يقي الإنسان من وساوس: ﴿من الشيطان﴾ ويجعله يولي هاربًا: ﴿الرجيم﴾ وهو إبليس اللعين الذي طلب من الله الإنظار فأنظره فآلى على نفسه أن يضل عباده ولأجل أن يرد الله كيده في نحره ويقي عباده من شره جعل من حق كل مؤمن أن يطلب منه تعالى أن يعيذه منه فيعيذه برًّا بوعده جل وعلا القائل: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ فالمعنى أن الله الذي جعل لكل شيء خواصًا قد صير الاستعاذة بالله مانعة للشيطان من إلقاء الوسوسة في القلب ورادعة لكيده وقد ذكر الله العلة في ذلك بقوله: ﴿إنه﴾ أي الشيطان: ﴿ليس له سلطان على الذين آمنوا وعلى ربهم يتوكلون﴾ لأن الله إذ منحه حق غواية الناس قد أعلمه بأنه لا سلطان له على عباده المخلصين وأخذ إبليس علمًا بذلك حيث: ﴿قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين﴾ وما دامت إرادة الله قد قضت بهذا وجعلت من الاستعاذة درعًا للوقاية من الشيطان فأيما مؤمن صدق بهذا واستعاذ بالله وتوكل عليه في صد الشيطان عنه فقد دخل من غير شك في عداد من منع الشيطان من غوايتهم وأصبح في هدى من ربه القائل: ﴿إن الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون﴾ وقد أكد الله هذه الحقيقة بقوله: ﴿إنما سلطانه﴾ أي الشيطان الذي منح له إنما هو: ﴿على الذين يتولونه﴾ أي يطيعونه ويتبعونه ولا يستعيذون بالله منه: ﴿والذين هم به مشركون﴾ أي والذين هم بسبب الشيطان ومن أجل ما يلبسه عليهم من زائف الأقوال أضحوا من المشركين وهم لا يشعرون ولعله يعني بهم من يدعون غير الله من الأولياء والصالحين وينتظرون منهم المدد وقضاء الحوائج.
بعد أن أرشد الله المؤمن إلى الطريقة التي تقيه من وساوس الشيطان وفتنه وهي الاستعاذة بالله منه أردف ذلك بالتنبيه إلى أنواع من الشبهات التي يتسرب بها الشيطان إلى قلوب منكري النبوة فيضلها ليحذر الناس منها حيث قال: ﴿وإذا بدلنا آية﴾ في هذا القرآن: ﴿مكان آية﴾ سابقة في الكتب السماوية السابقة تنسخ حكم ما مر من الشرائع: ﴿والله أعلم بما ينزل﴾ أولًا وآخرًا من الأحكام التي تختلف بتطور الزمن فكم من مصلحة في وقت تنقلب مفسدة في وقت آخر
شيئًا من التصرفات إذا ما دعاهم الداعي أو توسل بهم إلى الله: ﴿لكل أمةٍ أجلٌ﴾ أي أن الله قد قدر عمر كل أمة فمنها من تكون من طويلي الأعمار ومنها من تكون من قصارها: ﴿إذا جاء أجلهم﴾ أي أجل تلك الأمة المقدر لفنائها: ﴿فلا يستأخرون ساعةً ولا يستقدمون﴾ أي فلا يملك رسول تلك الأمة من دون الله أن يطيل فيه أو ينقص بخلاف أعمار الأفراد في الأمم فإن ذلك مرتبط بمزاولتهم للأسباب التي قدرها الله للموت وإن لم تخرج عن دائرة علم الله القائل: ﴿وما يعمر من معمر ولا ينقص في عمره إلا في كتاب﴾ وقد أخبرنا الرسول ﷺ بأن صلة الرحم والبر مما يزيدان في العمر والمعاصي تنقصه: ﴿قل﴾ أيها الرسول: ﴿أرأيتم﴾ أي أخبروني: ﴿إن أتاكم عذابه بياتًا أو نهارًا﴾ أي وأنتم نائمون أو مستيقظون: ﴿ماذا يستعجل منه﴾ أي ما الذي يستفيد من استعجاله القوم: ﴿المجرمون﴾ الذين لا يؤمنون بقدرة الله وعظيم بأسه: ﴿إذ قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم.: {أثم﴾ بضم التاء وقرئ بفتحها أي هنالك: ﴿إذا ما وقع﴾ العذاب وحل بكم: ﴿آمنتم﴾ بأنه حق حيث لا ينفع الإيمان لأنه يصبح ضروريًا بالمشاهدة والعيان لا تصديقًا لما أخبر به الرسول ﷺ إذ يقال لكم: ﴿آلآن﴾ وقرئ «آلآن» بحذف الهمزة ونقل حركتها إلى اللام: ﴿آمنتم به﴾ اضطرارًا: ﴿وقد كنتم به تستعجلون﴾ من قبل لاستخفافكم بوعيد الله وعدم ثقتكم بعظيم قدرته: ﴿ثم قيل للذين ظلموا﴾ أنفسهم باتباع السنن المؤدية إلى العذاب من الكفر والضلال: ﴿ذوقوا عذاب الخلد﴾ أي العذاب الدائم وطبقوا ما شهدتم على ما أنذرتم به من قبل: ﴿هل تجزون إلا بما كنتم تكسبون﴾ أي هل آتاكم من العذاب غير ما هو مقرر لجزاء الأعمال التي كنتم تقترفونها باختياركم من الكفر والظلم والفساد في الأرض وما أنذرتم به من قبل ولم يكن شيء من ذلك نتيجة أمر فرضه الله عليكم فرضًا دون أن تكون لكم القدرة على تركه أو التحول عنه: ﴿ويستنبئونك﴾ أي ويسألونك أيها الرسول أن تنبئهم عن هذا العذاب الذي تعدهم به في الدنيا والآخرة: ﴿أحقٌ هو﴾ أي سيقع بالفعل كما وصفت أم هو إرهاب وتخويف: ﴿قل إي﴾ بكسر الهمزة وسكون الياء الحقيقة بمعنى نعم: ﴿وربي إنه لحقٌ﴾ أي أقسم لهم بأنه مطابق للواقع فقد كان الصدق من أخلاق العرب في الجاهلية ولكنه قد يخالطه شيء من الهزل ولذلك فإنهم لا يطمئنون إلى التمييز بينهما
نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (٣) إِن تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِن تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (٤) عَسَى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (٦) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (٧) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٨) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (٩) ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (١٠) وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (١١) وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (١٢)
سورة التحريم: لقد أشار الله جل جلاله في السورة السابقة إلى ما قد يصدر من النساء من أعمال استفزازية قد تؤدي بالرجل إلى طلاقهن فأمر نبيه بعدم التسرع في طلاقهن واستعمال الحكمة في معاملتهن بعده رحمة بهن لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا ووضح حقوق المرأة في حال العدة وحض على التقوى من حيث هي وفي حقهن بصورة إذ عدد مزاياها في ثلاثة مواضع من تلك السورة دون غيرها من السور ثم أخذ جل وعلا في هذه السورة يذكر طرفًا من مساوئهن ويلقي ضوءًا على ما كان سببًا في طلاق السيدة حفصة وما ترتب عليه وما أنزل الله من أحكام في هذا الباب فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ﴾ وتفصيل القصة كما رواها ابن جرير عن ابن عباس أن رسول الله ﷺ أصاب مارية القبطية أم إبراهيم أمته في بيت حفصة في نوبتها فوجدت حفصة من ذلك وقالت يا نبي الله لقد جئت إلي شيئًا ما جئته إلى أحد من أزواجك في يومي وفي دوري وعلى فراشي قال ألا ترضين أن أحرمها فلا أقربها قالت بلى
تصوره طريقة جمع العظام بعد فنائها إن كان هذا حقًّا فنحن نقول له: ﴿بلى﴾ لقد كنا من الابتداء: ﴿قادرين﴾ وقرئ «قادرون»: ﴿على أن نسوي﴾ سوى الشيء صنعه مستويًا وتأتي بمعنى مطلق الصنع: ﴿بنانه﴾ البنان: العقدة العليا من الأصبع وقد خصه الله بالذكر من دون سائر الأعضاء لما فيه من دقة في الشكل بحيث لا يطابق بنان أي شخص بنات الآخر من بني الإنسان كما أثبت هذا علماء تحقيق الشخصية في العصر الأخير فيكون المعنى أن الذي ميز شخصيات الناس في الحياة بالعلامات الفارقة في الأصابع لا يعجزه الاهتداء إلى عظام كل إنسان وجمعها عند اللزوم في الآخرة وتسوية بنانه طبقًا لما كان في الدنيا والحقيقة أن هذا ليس هو ما يحمل الإنسان على إنكار البعث فليس من يستطيع أن يكابر في خلقنا له وقدرتنا على تسوية بنانه: ﴿بل﴾ إن السبب الحقيقي لذلك يرجع إلى شيء آخر هو أنه: ﴿يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ أي أن الإنسان الذي يميل بطبعه إلى الاسترسال في الشهوات والاستكثار من اللذات يأبى أن يقر بالبعث والحساب والعقاب لئلا يتفكر صفوه فهو يتخذ من الإنكار وسيلة لإشباع شهوته ومن أجل هذا: ﴿يسأل﴾ في سخرية واستهزاء: ﴿أيان يوم القيامة﴾ كما كان يقول الكافر: ﴿متى هذا الوعد إن كنتم صادقين﴾.: ﴿فإذا برق﴾ بكسر الراء وقرئ بفتحها أي تحير ودهش: ﴿البصر﴾ وذلك عندما يرى شبح الموت ماثلًا أمام عينيه يقضي على شهواته فييأس من بقائه وتظلم الدنيا في عينيه: ﴿وخسف القمر﴾ بالبناء للفاعل وقرئ على البناء للمجهول أي ذهب ضوءه عن نظر الإنسان في ساعة الاحتضار: ﴿وجمع الشمس والقمر﴾ أي جمع بينهما في زوال أثرهما من النور والضوء بانتهاء الأجل المحتوم: ﴿يقول الإنسان﴾ المنكر للبعث: ﴿يومئذ أين المفر﴾ بفتح الفاء وقرئ بكسرها بمعنى الفرار أي إلى أين نهرب رُوِيَ في الحديث «الناس نيام فإذا ماتوا انتهبوا».: ﴿كلا﴾ ردع عن طلب المفر: ﴿لا وزر﴾ الوزر: الملجأ وكل معقل منيع: ﴿إلى ربك يومئذ المستقر﴾ أي أنك في طريقك إلى المكان المقرر الذي كنت تسأل عنه وهو يوم القيامة: ﴿ينبأ الإنسان يومئذ﴾ أي في يوم القيامة: ﴿بما قدم﴾ من عمل في حياته: ﴿وأخر﴾ بعد مماته من صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له أو سن سنة حسنة أو سيئة يكتب له ثوابها أو وزرها فلا داعي للسؤال عن يوم القيامة أو مصير الناس فيه: ﴿بل الإنسان﴾ منذ الآن له: ﴿على نفسه بصيرة﴾ البصيرة: الفطنة بمعنى أنه بما وهب الله له من نعمة العقل وما فصله له من الأحكام يستطيع أن يفطن من تلقاء نفسه إلى مصيره في ذلك
بشروا به من قبل في كتبهم وما جاء به من القرآن الذي لا يمسه إلا المطهرون ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد،: ﴿وَمَا أُمِرُوا﴾ في القرآن وعلى لسان هذا الرسول: ﴿إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ كما أمروا بذلك في سائر الكتب ولم يأمرهم الرسول بعبادته من دون الله حتى يكون لهم وجه في الطعن فيما جاء به: ﴿حُنَفَاءَ﴾ جمع حنيف وهو من يتبع ملة إبراهيم عليه السلام أو من يدعو بدعوته ويسير على منواله فقد كان حنيفاً أي مائلاً ومنحرفاً عن الوثنية إلى التوحيد الخالص: ﴿وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ بخشوع وحضور قلب لا مجرد أن تكون حركات ظاهرة: ﴿وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ﴾ لمستحقيها ابتغاء وجه الله: ﴿وَذَلِكَ﴾ أي ما أمروا به من التوحيد وإخلاص العبادة لله: ﴿دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ أي الدين الذي جاء في الكتب السابقة القيمة قبل تحريفها الأمر الذي يدل على وحدة الأديان لدعوتها جميعاً إلى إله واحد فلا داعي للتخالف وعلى هذا فقضاء الله في الجميع ما يأتي: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بما أنزل عليك وجحدوا رسالتك: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ الذين كانوا يعلمون ببعثتك ويترقبونها: ﴿وَالْمُشْرِكِينَ﴾ الذين لم يقتنعوا بما جئت به من الآيات البينات عناداً وكبراً فمأواهم ومقرهم: ﴿فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا﴾ أي لا سبيل إلى خلاصهم منها أبداً: ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ﴾ -وفي قراءة بالهمزة بعد الياء في هذه والتي بعدها- أي أشر خلق الله لأنهم لم يحكموا عقولهم في معرفة الحقائق واتباع سبيل الهدى وما ينفعهم في دنياهم وآخرتهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله وبما أُنزل عليك: ﴿وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ وفق أوامر الله وسنة رسوله: ﴿أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ﴾ أي هم أحسن خلق الله وأصلحهم لأنهم وثقوا بوجود الله ووحدانيته واتبعوا أوامره وانتهوا عن نواهيه: ﴿جَزَاؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ﴾ في الآخرة: ﴿جَنَّاتُ عَدْنٍ﴾ الجنات: البساتين التي تغرس فيها الأشجار النضرة، والعدن: الإقامة؛ من قولهم: عدن يعدن عدناً،: ﴿تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ جمع نهر وهو جدول الماء العظيم،: ﴿خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً﴾ أي يحيون فيها حياة دائمة لا فناء بعدها: ﴿رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ﴾ لأنهم آمنوا به واتبعوا رسوله وعملوا وفق ما جاء به: ﴿وَرَضُوا عَنْهُ﴾ بنيل ما وعدوا به من قبل فهم في نعيم دائم وحياة لا يعتريها سخط لا تبرم: ﴿ذَلِكَ﴾ ما ذكر من الجنة ونعيمها والرضاء المستمر: ﴿لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ﴾ أي هو جزاء مقدر من الأزل لكل من خاف الله في سره وجهره وراقبه في جميع حركاته وسكناته لا أن يكون لكل من


الصفحة التالية
Icon