ويسدي النصيحة إلى من عرف ومن لم يعرف؛ وواجب أمام نفسه: هو أن يهذبها ويصقلها بالصلاة المفروضة، ويزكيها ببذل المال في سبيل الله. وبعد أن عدد الله لنبيه الأسباب التي تحول دون الطمع في إيمان بني إسرائيل فيما تقدم، أخذ يبين له أيضًا ما هم عليه من طبائع لا سبيل إلى تحويلهم عنها، وقد كانت ولا تزال من أكبر الأسباب المانعة من هدايتهم وانقيادهم لله ورسوله وما جاء من عنده، ذلك لأن السر في تأخر الأمم إنما هو لعدم التمسك بالأخلاق الفاضلة، واتباع الأوامر الإلهية، وقد نوه سبحانه وتعالى بذكر هذه الطبائع بما يأتي:
«الطبع الأول»: التناقض في الأقوال والأفعال، وقد أشار إليه بقوله ﴿وإذ أخذنا ميثاقكم﴾ بالانتهاء عن أمرين: هما أولًا ﴿لا تسفكون دماءكم﴾ وثانيًا ﴿ولا تخرجون أنفسكم من دياركم﴾ أي أن الله قد أخذ على بني إسرائيل في التوراة أن لا يقتل بعضهم بعضًا، ولا يخرج بعضهم بعضًا من ديارهم، وأيما عبد أو أمة وجدوه من بني إسرائيل فليشتروه بما قام من ثمنه ويعتقوه، وكان بنو قريظة حلفاء الأوس، وبنو النضير حلفاء الخزرج، وكانوا يقتتلون، ويخربون ديار بعضهم، ويخرجونهم منها، ولكنه إذا أسر رجل منهم جمعوا له المال الكافي لفدائه، ويقولون إنا نحاربهم تأييدًا لحلفائنا، ونفديهم لأن التوراة قد أوجبت علينا فداءهم، وبذلك ألزمهم الله الحجة، وأثبت عليهم تناقضهم حيث قال ﴿ثم أقررتم﴾ بحصول الميثاق ممن قبلكم ﴿وأنتم تشهدون﴾ اليوم على صحته ﴿ثم أنتم هؤلاء﴾ الجاحدون المشاهدون ﴿تقتلون﴾ وقرئ ﴿تقَتلون﴾ ﴿أنفسكم﴾ من إخوانكم المحاربين إلى جانب حلفائهم ﴿وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم﴾ إلى جانب حلفائكم المشركين ﴿تظاهرون﴾ وقرئ ﴿تتظاهرون﴾ و ﴿تظهّرون﴾ أي تتعاونون ﴿عليهم بالإثم والعدوان﴾ دون أن يكون هناك دين تناصرونه، أو غاية سامية تعملون لتأييدها ﴿وإن يأتوكم أسارى﴾ وقرئ ﴿أسرى﴾ بفتح الهمزة عن غير ألف، وإسكان السين ﴿تفادوهم﴾ وقرئ ﴿تفدوهم﴾ بفتح التاء وإسكان الفاء بلا ألف، مع أنكم أنتم الذين حاربتموهم وأخرجتموهم من ديارهم، وحملتموهم على الوقوع في الأسر ﴿وهو محرمٌ عليكم إخراجهم﴾ وهذا تناقض ظاهر فلا أنتم اتبعتم التوراة ورفضتم الاشتراك في الحرب ضد بعضكم، ولا أنتم تجاهلتم ما جاء في التوراة بتاتًا فلم تقدوا الأسير منكم ﴿أفتؤمنون ببعض الكتاب﴾ فيما يتعلق بفداء الأسير ﴿وتكفرون ببعضٍ﴾ فيما يتعلق بسفك دماء بعضكم،
٤ - إن الشارع قد جعل للرجل حق الرجوع في طلاقه وإعادة العلاقات الزوجية إلى سابق عهدها من غير حاجة إلى عقد ولا مهر جديد في المرتين الأوليين وشدد عليه الأمر في المرة الثالثة فلم يسمح له بالعودة إليها إلا بعد أن تكون قد تزوجت برجل آخر ودخل بها ورضي بها هو بعد ذلك حيث قال «الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان» فإذا ندم على الطلاق أو زالت أسبابه بعد الطلقة الأولى وسعه أن يراجعها إلى عصمته فإذا طلقها ثانية ثم ندم على طلاقها فله أن يراجعها إلى عصمته ويعودا إلى ظل الزوجية الظليل حتى إذا عزم الأمر وطلقها الطلقة الثالثة لم يعد في وسعه مراجعتها وحرمت عليه حرمة كبرى فلا يجوز أن يعود إليها إلا إذا تزوجت غيره بعد انقضاء عدتها من الأول ثم طلقت منه وانقضت عدتها وكان الزواج زواج رغبة ودوام واستقرار فعندئذ يجوز له أن يتزوجها وذلك قوله تعالى ﴿فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره﴾.
ولا يخفى ما في هذا الحكم من الحمل على التروي الكثير والحذر الشديد في إيقاع الطلاق، وأمر الرجال في هذه الحالة أن لا يأخذوا من النساء شيئًا مما ملكوه لهن حيث قال تعالى ﴿ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا﴾ بل إنه نهى عن مضايقتهن أو عدم تطليقهن في حال كرههم لهن ليحملوهن على التنازل لهم عن شيء من أموالهن بدون حق حيث قال ﴿ولا تعضلوهن لتذهبوا ببعض ما آتيتموهن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة﴾.
هذا من جانب الرجل أما من جانب المرأة فإن الإسلام لم يحرمها أيضًا من مثل هذا الحق. وجعل لها من طلب الخلع وسيلة إلى التخلص من الرجل الذي لا تريده على أن ترد إليه شيئًا مما أخذته منه إذا هي لم تلتئم معه أو أبغضته لسبب من الأسباب، فقد وردت عدة أحاديث بطرق متعددة عن رسول الله ﷺ أن أخت عبد الله بن أبي ابن سلول كانت زوجة لثابت بن
«الراسخون في العلم» الذين لا يجرءون على إنكار ظاهر اللفظ، ولا يشغلون أنفسهم بتأويله أو تحريفه، لأن رسوخهم في العلم يجعلهم ينظرون إلى هذا المعنى الظاهر الذي يتشكل في الذهن باعتباره وصفًا للبشر، فيجزمون بأنه غير مراد الآيات بتاتًا، لأن الله جل وعلا «ليس كمثله شيء» في ذاته وصفاته فهو فرد صمد، ليس له نظير، وصفاته وإن تعددت فإنها حق ولكنها لا مثيل لها ولا نظير، ونحن عاجزون حائرون في معرفة حقيقة الروح الموجودة فينا، المكلفة بإدارة أجسامنا، وتصور شكل النفس التي تهيمن علينا وكيف تتوفى بالليل، وكيف ترسل بالنهار، وكيف تكون بعد الموت، وكيف يحيا الشهيد المرزوق عند ربه، ونحن لا نعلم شيئًا عن ذوات الملائكة والجن وحركاتهم وسكناتهم، فكيف نستطيع أن نتصور خالق كل ذلك، وإذا كانت نفس الإنسان غير مماثلة لجسمه في الأوصاف والحركات والسكنات، فكيف يجوز لنا أن نتصور صفات الله سبحانه وتعالى وأفعاله كصفات الجسم وأفعاله، وإن كانت الملائكة وهم مخلوقون من نور، والجان وهم مخلوقون من نار، لا تماثل صفاتهم وأفعالهم صفات الإنسان وأفعاله، فالله سبحانه وتعالى أعظم مباينة لمخلوقاته من مباينة الملائكة والجان للآدميين، فإن كليهما مخلوق، والمخلوق أقرب مشابهة للمخلوق، وليس من شبه بين المخلوق والخالق جل وعلا في صفاته واستوائه ونزوله وسائر أفعاله، فالبعد في الشبه بين المخلوقات وخالقهم واضح من غير لبس ولا حاجة إلى بحث أو استقصاء.
ولذلك فإنهم لا ينكرون ما وصف الله به نفسه، ولا يشبهونه بخلقه، بل لا يرون فيما وصف الله به نفسه تشبيهًا، لأن الاشتباه في اللغة لا يحصل بالتسمية، وإنما تشبه الأشياء بنفسها أو بهيئات فيها كالبياض بالبياض، والسواد بالسواد والطويل بالطويل والقصير بالقصير، ولو كانت الأسماء توجب اشتباهًا لا اشتبهت المسميات كلها لشمول اسم الشيء لها، وعموم تسمية الأشياء به، فكما أن الله موجود ولا يوجب وجوده الاشتباه بينه وبين الموجودات، فكذلك هو حي وسميع وبصير ومتكلم، ولا يلزم من ذلك اشتباهه بمن اتصف بهذه الصفات من المخلوقات، وعليه فإنهم (يقولون آمنا به) سلمنا وصدقنا بالكتاب بقسميه المحكم منه والمتشابه باعتباره وحدة لا تتجزأ، يفسر بعضه بعضًا، ويوضح محكمه متشابهة (كل من عند ربنا) كل منهما صادر منه سبحانه وتعالى، فهو حقيقة لا مراء فيها فلا ينبغي أن نصدق بشيء دون شيء، ولا أن ننزه الله عما وصف نفسه به
الله بترك المنهيات والمبادرة إلى فعل الطاعات ﴿فلكم﴾ عنده ﴿أجر عظيم﴾ وهذا وعد قاطع من الله لعباده المؤمنين المتقين والله سبحانه لا يخلف والميعاد.
بعد أن بالغ الله في التحريض على بذل النفس في الجهاد في الآيات السابقة شرع هاهنا في التحريض على بذل المال في الجهاد وأخذ ينذر المتخلفين عنه بشر مستطير حيث قال ﴿ولا يحسبن﴾ وقرئ بالتاء بدل الياء ﴿الذين يبخلون﴾ يضنون ﴿بما آتاهم الله﴾ من المال والعلم والجاه وكل ما يمن الله به على عباده ﴿من فضله﴾ فلا يطعمون الجائع ولا يكسون العاري ولا يرشدون الجاهل ولا يساعدون ذا الحاجة بجاههم وهم قادرون على ذلك ﴿هو خيرا لهم﴾ يستفيدون به في هذه الحياة لا ﴿بل هو شر لهم﴾ في الدنيا لأنه مما يولد الحقد في قلوب ذوي الحاجة للبخلاء، ويسبب التقاطع بين الناس ويؤدي إلى تفشي الجهل وارتكاب الجرائم في كثير من الحالات، وعدا ذلك فإنهم ﴿سيطوقون﴾ الطوق ما يجعل حول العنق كالغل ﴿ما بخلوا به يوم القيامة﴾ أي سيحملون وزر بخلهم هذا في أعناقهم في ذلك اليوم العصيب يقول الله تعالى يوم القيامة: «يا ابن آدم استطعمتك فلم تطعمني فقال يا رب كيف أطعمك وأنت رب العالمين فقال أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي» ﴿ولله ميراث السماوات والأرض﴾ فكل ما فيهما من ناطق وصامت وحيوان وجماد ينتهي أمره إلى الله الذي شرع أنظمة المواريث وخص من شاء بما شاء ﴿والله بما تعملون خبير﴾ لا يخفى عليه شيء مما تقدمونه من إحسان وما تعمدون إليه من بخل ﴿لقد سمع الله قول﴾ أولئك البخلاء ﴿الذين﴾ جحدوا فضل الله وبلغت بهم الوقاحة معه أن ﴿قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء﴾ وهم جماعة من اليهود لما أنزل الله تعالى ﴿من ذا الذي يقرض الله قرضًا حسنًا فيضاعفه له أضعافًا كثيرة﴾ قالوا يستقرضنا ربنا إنما يستقرض الفقيرُ الغنيَّ، وقال آخرون: فقير ربك يسأل عباده القرض، وقال فنحاص من أحبارهم لأبي بكر رضي الله عنه ما بنا إلى الله تعالى من فقر وإنه إلينا لفقير، وما نتضرع إليه كما تضرع إلينا وإنا عنه لأغنياء ولو كان غنيًا عنا لما استقرض منا كما يزعم صاحبكم، وإنه ينهاكم عن الربا ويعطينا ولو كان غنيًا عنا لما أعطانا الربا، فغضب أبو بكر وضرب وجهه ضربة شديدة وقال والذي نفسي بيده لولا العهد الذي بيننا وبينك لضربت عنقك يا عدو الله فذهب فنحاص إلى رسول الله ﷺ فقال يا محمد انظر ما صنع صاحبك بي فقال رسول الله صلى الله
﴿إلا المستضعفين﴾ حقًّا لا المتخذين الضعف عذرًا لهم ﴿من الرجال والنساء والولدان﴾ الذين بلغوا من الضعف أو العجز درجة لا تمكنهم من الهجرة و ﴿لا يستطيعون حيلة﴾ للخلاص من تلك البلاد التي يسأمون فيها الخسف بحيث شدد عليهم أعداؤهم الخناق ووضعوا عليهم من القيود ما يحول دونهم ودون الهجرة من البلاد ﴿ولا يهتدون سبيلًا﴾ لنشر الدعوة والجهر بالحق ﴿فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم﴾ ويسامحهم على قصورهم في واجبهم ولو بالهجرة من الديار التي هي أقل درجات الجهاد في سبيل الله ﴿وكان الله عفوًا غفورًا﴾ أي من شأنه أن لا يؤاخذ على المخالفات التي لها أعذار صحيحة ويغفرها بالتجاوز عنها. ولما كان الله تعالى يعلم السبب الحقيقي لتخلف المؤمنين عن الهجرة بعد أن سئلوا عنه ولم يجيبوا وهو أنهم كانوا يخافون على أموالهم التي كانت معهم في بلادهم ويخشون عليها أن تصادر أو لا يستطيعون استصحابها معهم فيفقروا بعد أن كانوا أغنياء أراد سبحانه وتعالى أن يطمئنهم من هذه الجهة فقال تعالى: ﴿ومن يهاجر في سبيل الله يجد في الأرض﴾ ذلك لأن الأرض جميعها ملك لله والناس كلهم عبيد له خلقهم للعمل والجهاد في سبيل ما يأمر به مما فيه صلاح العالم وعمار الكون فهم إذ يتركون بلادهم ويهاجرون منها فأيما بلد يهبطون بها يجدون فيها ﴿مراغمًا﴾ مهربًا ﴿كثيرًا﴾ يحتمي فيه برغم أنف من كانوا مستضعفين له ﴿وسعة﴾ من الرزق إذ الرزق ليس محصورًا في بلد دون أخرى بل هو موجود في جميع أنحاء الدنيا وليس للإنسان إلا مجرد السعي لاكتشاف مواضعه هذا بالنسبة إلى حال الإنسان في الدنيا أما بالنسبة إلى الآخرة فقد قال عنه تعالى ﴿ومن يخرج من بيته مهاجرًا إلى الله ورسوله﴾ أي فارًا بدينه محتفظًا لنفسه بالكرامة وعدم الخضوع لحكم المستعمرين الظالمين ﴿ثم يدركه﴾ بسكون الكاف وقرئ بضمها ﴿الموت﴾ قبل أن يصل إلى مأمنه ﴿فقد وقع أجره على الله﴾
بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ) بنصب العين والأنف والأذن والسن وقرئ برفعها بمعنى وكذلك العين بالعين والأذن بالأذن بضمه الذال وقرئ بإسكانها (وَالْجُرُوحَ) بنصب الحاء وقرئ برفعها (قِصَاصٌ) أي تعتبر في أجزائها المساواة بقدر الاستطاعة (فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ) أي بما ثبت له من حق القصاص بأن عفا عن الجاني (فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ) أي يكفر الله من ذنوبه ويعفوا عنه كما عفا عن أخيه وقد كتبنا عليهم فيها من قبل بضرورة تطبيق الأحكام في الجنايات وقلنا لهم (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) في التوراة وعدل عن ذلك إلى غيره من الجزاءات الوضعية (فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) الذين لم ينصفوا المظلوم من الظالم ولم يجعلوه يشعر بالعدل والتسوية التي أمر الله بها بل إنهم بصنيعهم إنما يشجعون الناس على الظلم واعتداء بعضهم على بعض فالله سبحانه العليم بما يصلح لشؤون عبيده وهو إذ شرع هذه العقوبة على بني إسرائيل إنما شرعها ليرتدع الناس عن ارتكاب مثلها ويحرص كل امرئ على عضو من أعضاء ذاته أما إذا علم الإنسان أنه سوف لا يجزي على عدوانه بمثله فهذا ما يحمله على الاستخفاف بأعضاء الناس ويجرؤ على إحداث العاهات فيهم غير مكترث بأي عقوبة أخرى بدنية أو مالية لا يرضى بها المعتدى عليه مهما كانت لقاء ما أصابه (وَقَفَّيْنَا) أي أتبعنا (عَلَى آثَارِهِمْ) آثار بني إسرائيل (بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) التي جاء بها موسى بأنها حقا كتاب منزل من عند الله ولذا قال تعالى
<٦٢>
(وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ) خمس صفات:
الأولى: كونه (هُدًى) إلى عظيم قدرة الله الذي خلق عيسى بدون أب.
والثانية: قوله (وَنُورٌ) يضيء القلوب ويمنع عنها الشبهات فلا تسلم العقول النيرة أن يكون عيسى وهو من البشر ابنا لله.
والثالثة: قوله (وَمُصَدِّقًا) أي الإنجيل (لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ) فلا يكذب شيئا مما جاء فيها.
والرابعة: قوله (وَهُدًى) إلى طريق الخير والشر.
والخامسة: (وَمَوْعِظَةً) مجموعة نصائح من شأنها أن تهذب النفوس وتحطم من كبريائها.
فيه. وقد فصلنا معنى الوفاة في الصفحة ٣٢ من الجزء الثالث من هذا التفسير حيث قلنا إن الوفاة إنما هي للنفس بفقد عاقليتها بخلاف الموت فإنه للبدن بانتزاع الروح منه ﴿ويعلم ما جرحتم﴾ جرح الشيء عابه، والجارحة العضو من الإنسان لا سيما يده. والمعنى أنه تعالى يعلم بكل عمل يصدر منكم باختياركم ﴿بالنهار﴾ أي في حال اليقظة ﴿ثم يبعثكم فيه﴾ البعث إثارة الشيء وتوجيهه يقال بعثت البعير أثرته من مبركه وسيرته أي يوقظكم بالنهار ويرسلكم في أعمالكم ﴿ليقضى﴾ أي لينفذ ﴿أجل مسمى﴾ في علم الله تعالى. فإن لكل فرد منكم أجلًا معلومًا عنده لا بد من استيفائه وإتمامه. ﴿ثم إليه مرجعكم﴾ يوم القيامة عند انتهاء آجالكم المعلومة لديه ﴿ثم ينبئكم بما كنتم تعملون﴾ في حال يقظتكم ويحاسبكم على ذلك وفق ما أعلنه لكم من دستور العمل ما يستحق منه الثواب وما يستحق عليه العذاب ﴿وهو القاهر﴾ الغالب المستعلي بقدرته فلا يستطيع أحد أن يناله ﴿فوق عباده﴾ أي إنهم جميعًا تحت قبضته وحياتهم مستمدة منه ولا حول ولا قوة لهم إلا به، ولا يستطيع أحد أن يتخطى ما سنه من سنن ونواميس ﴿ويرسل﴾ مع هذا ﴿عليكم حفظة﴾ من الملائكة تقيكم من الأخطار التي تقعون فيها كما قال تعالى في سورة الرعد: ﴿له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله﴾ وتحفظ أعمالكم بإحصائها وتدوينها كما قال تعالى في سورة ق ﴿ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد * إذ يتلقى المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد﴾.
﴿حتى إذا جاء أحدكم الموت﴾ أي حل الأجل المحتوم كفت الحفظة عن أداء مهمة الحفظ وانتزعت الروح من الجسم فلم يعد يبدي حراكًا وإذ ذاك ﴿توفته﴾ وقرئ «توفاه» ﴿رسلنا﴾ الموكول إليهم قبض الأنفس إلى جانب انتزاع الروح من البدن وقد قال تعالى في سورة الزمر: ﴿الله يتوفى الأنفس حين موتها﴾ أي في ساعة الموت مما يدل على أن الوفاة غير الموت ﴿وهم لا يفرطون﴾ أي لا يقصرون في أداء مهمتهم في الحال من غير توان ﴿ثم ردوا﴾ أي أولئك الذين توفتهم الرسل ﴿إلى الله مولاهم الحق﴾ الذي لا شك في ولايته عليهم ومردهم إليه. أما ولاية غيره فولاية باطلة ﴿ألا له﴾ وحده ﴿الحكم﴾ في ذلك اليوم الموعود ﴿وهو﴾ سبحانه {أسرع
﴿وعلى الأعراف﴾ وهي أعالي الأشياء وكل مرتفع من الأرض وغيرها أي وبأعالي ذلك الحجاب أو السور ﴿رجال﴾ لعلهم الأنبياء والشهداء من كل أمة الذين أشار إليهم سبحانه بقوله: ﴿فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدًا﴾ ﴿يعرفون كلا بسيماهم﴾ أي يتفرسون في الناس ويعرفون كل أمة أو كل شخص بشكله ﴿ونادوا﴾ أي هؤلاء الرجال ﴿أصحاب الجنة أن سلام عليكم﴾ أي يقرؤونهم السلام إيذانًا بدخول الجنة التي هي دار السلام وتحيتهم فيها سلام حال كونهم ﴿لم يدخلوها﴾ بعد ﴿وهم يطمعون﴾ في دخولها ثقة منهم بوعد الله ولما بدا لهم من يسر الحساب وانفصال الكافرين عنهم ﴿وإذا صرفت أبصارهم﴾ أي تلفت أصحاب الأعراف ﴿تلقاء أصحاب النار﴾ أي إلى الجانب الذي هم فيه داخلهم الرعب و ﴿قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين﴾ أي نعوذ بالله من منازلهم ﴿ونادى أصحاب الأعراف رجالًا﴾ مخصوصين من أصحاب النار ﴿يعرفونهم﴾ في الدنيا ﴿بسيماهم﴾ أنهم كانوا من أشد الناس كفرًا واستكبارًا واعتدادًا بقوتهم من الملوك والأمراء والزعماء و ﴿قالوا﴾ لهم ﴿ما أغني عنكم جمعكم﴾ أي لم يفدكم اليوم ما كان لكم من حول وطول ﴿وما كنتم تستكبرون﴾ أي تكبركم واحتقاركم لمن كان يدعوكم إلى دين الله بقولكم ﴿أهؤلاء منّ الله عليهم من دوننا﴾ ثم يشيرون إلى أولئك المستضعفين الذين كانوا يضطهدونهم ويعذبونهم في الدنيا قائلين ﴿أهؤلاء﴾ هو ﴿الذين أقسمتم﴾ في حياتكم الدنيا أن ﴿لا ينالهم الله برحمة﴾ انظروا إليهم ترون الرحمة قد شملتهم وقد أمرنا أن نقول لهم ﴿ادخلوا الجنة﴾ التي وعدكم الله بها في الحياة الدنيا ورجوتموها برحمة الله ﴿لا خوف عليكم﴾ من الخروج منها إذ هي دار القرار ﴿ولا أنتم تحزنون﴾ فيها على شيء يفقد منكم أو تتمنونه فلا تجدونه ففيها ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين ﴿ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة﴾ عندما وثقوا بنجاتهم ﴿أن أفيضوا علينا من الماء﴾ الذي يتدفق في الأنهار التي تجري من تحتكم ﴿أو مما رزقكم الله﴾ من مختلف الملذات فما كان جوابهم على هذا الاستجداء إلا أن ﴿قالوا إن الله حرمهما﴾ أي ماء الجنة ورزقها ﴿على الكافرين﴾ وليس المراد منهم من ينكر وجود الله فقط بل الموصوفون بالصفات الآتية ﴿الذين اتخذوا دينهم﴾ الذي أمروا باعتناق مبادئه والعمل وفق تعاليمه ﴿لهوًا﴾ اللهو ما يشغل الإنسان عن الجد والأعمال النافعة كالذين يؤمون المساجد للحديث وتقطيع الوقت أسوة بالمقاهي والنوادي مثلًا لا للعبادة وذكر الله ﴿ولعبًا﴾ أي وسائل للتسلية وترويح النفس كالغناء في الكنائس والرقص عند الذكر والتلذذ بصوت المقرئين والمنشدين وما أشبه ذلك مما
عن طريق التوسل إلى الله والوجاهة عنده فإن ذلك يؤدي بهم إلى اللجوء إلى ذلك الغير ودعائه من دون الله. وبهذا تضعف ثقتهم بالله وتتعدد وجهاتهم. ومن هنا تتفرق كلمتهم وتضمحل قوتهم ويذهب سلطانهم وأكبر مصداق لذلك حال المسلمين في الصدر الأول وفي عهدهم الحاضر فإنهم ما نالوا القوة والمنعة وفتحوا العالم إلا عندما كانوا يؤمنون بالله حق الإيمان ويضعون فيه كل ثقتهم وجميع آمالهم ويضحون في سبيله بالنفس والمال. ثم إنهم عند ما أشركوا معه غيره من الأولياء والصالحين الذين اعتقدوا أنهم يقربونهم إلى الله زلفى أو الأحجار والأشجار التي نسبوا إليها البركة والفوائد بعدوا عن الله وضعفت ثقتهم به فإذا أرادوا المنعة والمدد اعتمدوا على التمائم أكثر من اعتمادهم عليه سبحانه وتوجهوا إلى أصحاب القبور يسألونهم قضاء الحاجات وتفريج الكربات فحل بهم ما حل من الضعة والهوان وهم لا يشعرون، فلا سبيل إذن لاستعادة مجد الإسلام إلا بالرجوع إلى ما كان عليه سلفنا الصالح رضوان الله عليهم فلقد كانوا محافظين على دينهم صريحين في أقوالهم وأعمالهم ساعين لإعلاء كلمة الله بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهر بالحق مهما كلفهم ذلك ﴿وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين﴾. ومن أجل هذا اتفق الشيخ محمد بن عبد الوهاب مع ناصره الأمير محمد بن سعود (جد الأسرة المالكة في الحجاز اليوم) على العمل لإعلاء كلمة الله وتصحيح العقائد ومحاربة الشرك وكل ما يؤدي إليه من أنواع البدع والخرافات التي لا ترضي الله بكل ما يستطيعون حتى النفس الأخير لا يهمهم في الجهر بالحق لومة لائم، ولم يعترض طريقهم الخوف من غير الله قط. على هذا المبدأ تم الاتفاق بين الأمير محمد بن سعود والشيخ محمد بن عبد الوهاب، وأخذ الشيخ محمد بن عبد الوهاب ينشر دعوته ويؤيده فيها نصيره وحاميه الأمير محمد بن سعود وفقًا للمبدأ الذي اتفقا عليه ولم يمض على ذلك قليل من الزمن حتى حفظ الكثير من الناس القرآن وامتلأت المساجد بالمصلين والتف الجميع حول الشيخ لطلب التفقه في علوم الدين من التفسير والحديث حتى زهت الدرعية وتمثلت فيها صورة مصغرة لما كان عليه السلف الصالح في عهد النبوة والخلفاء الراشدين وأمّها العرب من كل جهة طلبًا للهدى ورغبة في التقرب إلى الله بصالح الأعمال وحميد الخصال وانتشر تلامذته في سائر البلاد يدعون إلى الدين الصحيح وإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له. فكبر ذلك في نفوس أهل الضلال ومروجي
على قوم بينكم وبينهم ميثاق} وإنما اكتفى من أهل الذمة بأخذ الجزية في حال رفضهم الإسلام دون المشركين لأنهم أهل كتاب من الله لو رجعوا إليه قبل تحريفه وتبديله وتدبروه وتجردوا عن العصبية لآمنوا بما جاء به رسول الله ﷺ فهم أقرب إلى الإيمان وأدنى أن ينصاعوا إليه إذ هم يعترفون بوجود الله وإنما يخالفون المسلمين في مسألتين اثنتين لا ثالث لهما لا يقرها عليهما دينهم من الأساس وقد وضحهما الله فيما يأتي:
الأولى: زعمهم أن لله ولدًا حيث قال تعالى: ﴿وقالت اليهود عزير﴾ بالتنوين وقرئ بغير تنوين: ﴿ابن الله﴾: ﴿وقالت النصارى المسيح ابن الله﴾ استنادًا إلى أن المسيح كان يدعو الله بقوله «أبي» ويفسرون هذه الأبوة بأنه من طبيعته وأنه ابنه الوحيد الأزلي فهو جزء منه والإسلام لا يقر هذا بل يقول إن الله تعالى واحد أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد وإن عزيرًا عبد الله وإن عيسى ابن مريم عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه خلقه الله من غير أب كما خلق آدم من غير أبوين بمجرد أمره وبغير سنته في البشر التي تقتضي بالتناسل والتوالد من اجتماع ماء الرجل والمرأة وفي هذا يقول القرآن: ﴿إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون﴾ وأنه لم يخرج عن كونه من طبقة البشر كما قال تعالى: ﴿ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام﴾ والمسلمون واليهود والنصارى متفقون جميعًا على أن الله هو المتصرف في العالم وهو خالقه ومدبره وهو الذي أرسل الرسل ليعرفوا الناس بما يرضيه وما لا يرضيه من الأعمال ومما لا جدال فيه أن المسيح عليه السلام لم يدع لنفسه الألوهية وأنه كان يعترف بوحدانية الله ورسالته عنه حيث يقول في إنجيل يوحنا: «وهذه الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته» ولم يدع المسيح الناس إلى عبادته وعبادة أمه قط ولم ينكر أحد أنه كان يدعو إلى عبادة الله والإخلاص له بصريح القول. فالقول بأن مخاطبة عيسى الله بلفظ «أبي» تقتضي أن يكون من طبيعة الآلهة أمر لا يقره المنطق الصحيح أمام الواقع وأمام ما اعترف به نفسه من وحدانية الله ورسالته عنه. ولا ينبغي أن يقف في طريق الاتحاد مع المسلمين على الإيمان بوحدانية الله الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد. وأنه تعالى لم يتخذ صاحبة ولا ولدًا، بل يجب اعتقاد بطلان تلك الدعوة الزائفة التي لا يسلم بها العقل السليم إذ لو كان المسيح ابنًا لله من طبيعته الإلهية كما يزعمون لما انتابته أحوال المخلوقين ولما
العقاب فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول لمن يطعن في صحة القرآن ويأبى الرضوخ لأحكامه: ﴿أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ﴾ أي هذا الذي أفاضه الله عليكم من رزق تعيشون به من نبات وحيوان: ﴿فجعلتم منه حرامًا وحلالًا﴾ أي فترتب على إنزاله لمنفعتكم أن جعلتم بعضه حرامًا وبعضه حلالًا: ﴿قل آلله أذن لكم﴾ بهذا بمقتضى وحي بلغ إليكم: ﴿أم على الله تفترون﴾ كزعمكم إن الله حرم عليكم الوصيلة والسائبة وما أشبه مما لم يرد نص به في إحدى الكتب السماوية، ومن هنا أخذ الفقهاء قاعدة أصولية في الشرع هي أن الأصل في كل شيء الحل ما لم يرد نص بالحرمة وهذا يتضمن بطلان قول من يحرمون على أنفسهم أكل اللحوم من النباتيين ويستحلون ما نص الشارع على تحريمه إنهم بهذا لا شك يكذبون على الله: ﴿وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة﴾ هل يمكن أن يخطر لهم على بال أنهم سوف لا يعاقبون على هذا الافتراء على الله فويل لمن يجرأ على مثل هذا الأمر اعتمادًا على مجرد رأي بعض الفقهاء دون أن يكون هناك ما يؤيده من كتاب الله وسنة رسوله: ﴿إن الله لذو فضلٍ على الناس﴾ بما خلقه لهم من رزق وما شرعه لهم من دين لم يبح لأحد حق التصرف فيه بزيادة أو نقص أو تحريم وتحليل لئلا يتحكم فيهم أمثالهم من العباد كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله يحرمون لهم ويحلون فيطيعونهم فيما يقولون.: ﴿ولكن أكثرهم لا يشكرون﴾ فضل الله عليهم بتحريمهم ما أحله الله لهم ويحرمون أنفسهم من التمتع بما رزقهم الله من مختلف أنواع الطعام واللباس وأنواع الزينة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا آتاك الله مالًا فليره عليك فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنًا ولا يحب البؤس ولا التباؤس والشكر نصف الإيمان» والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ ويقول: ﴿وقليل من عبادي الشكور﴾.
بعد أن أمر الله رسوله بإشعار الناس بضرورة التقيد بما جاء في القرآن من التحليل والتحريم وأن تدخل الناس في هذا الأمر يعد افتراء عليه وكفرًا به أخذ يذكره بإحاطة علمه بكافة شئونهم وأعمالهم صغيرها وكبيرها جليلها وحقيرها ليحاسبوا أنفسهم على ما قد يصدر منهم افتراء عليه ومخالفًا لأمره ونهيه فقال: ﴿وما تكون﴾ أيها الرسول: ﴿في شأنٍ﴾ أي أمر من أمورك الخاصة بك أو العامة: ﴿وما تتلوا منه﴾ أي من أجل ذلك الشأن: ﴿من قرآنٍ﴾ أنزل عليك لتتعبد به أو لتبلغه للناس: ﴿ولا تعملون﴾ يا من أنزل القرآن هداية لهم: ﴿من عملٍِ﴾ سواء
@ولقد حكاه أمينه لنبيه
#بالنص عنه بهذه الأبيات
@لا أنه هو محض معنى صاغه
#من عنده جبريل في السورات
@أو ما نرى الآلات في أيامنا
#نطقت كلامًا ليس باللهوات
@تحكي به نصًّا للفظ الناس لا
#هو لفظهم بالحرف والأصوات
@كلا وليس مغايرًا لحديثهم
#أبدًا ولا يعزي إلى (المكنات)
@وكذاك ما (بالأسطوانة) مثبت
#كالنقش ليس كحرفهم بالذات
@وبنقلنا الكلام ربي إننا
#في الخلق تشبه تلكم الآلات
@لكن وسيلتنا إلى النطق المخا
#رج فهي تبدي الحرف والحركات
@فإذا تلوناها تلونا آيه
#وكلامه نصًّا بلا مريات
@لكنما قد كان ذاك بصوتنا
#وحروفنا والخط في الورقات
@وإذا نسبناه إليه فإنما
#يعزى المقال لمنشئ القولات
@وعليه فالملفوظ قول إلهنا
#واللفظ كسب حناجر ولهات
قوله: ﴿ما لها من قرار﴾ أي أنها ضعيفة الجزع سرعان ما يتكسر بأتفه سبب بل لمجرد تزايد طوله كذلك شأن كلمة الكفر فإنها خبيثة لكثرة أضرارها واجتثت من فوق الأرض لأنها منبعثة عن هوى النفس ووساوس الشيطان وما لها من قرار لأنها لا تتفق مع ما أوحى به الله ولا يسلم بها العقل والمنطق السليم، وهنا أراد تعالى أن يبين ما له من سنن أخذ على ذاته العلية تطبيقها فقال: ﴿يثبت الله الذين آمنوا﴾ إذا اعترضهم شيء من الفتن: ﴿بالقول الثابت﴾ الذي يجريه الله على ألسنتهم وينير به قلوبهم: ﴿في الحياة الدنيا﴾ فلا يضلهم بل يجنبهم مواضع الزلل كما قال تعالى عن أصحاب الكهف: ﴿إنهم فتية آمنوا بربهم فزدناهم هدى﴾: ﴿وفي الآخرة﴾ فلا يضطربون من أهوال يوم القيامة ثقة واطمئنانًا بوعد الله ورحمته: ﴿ويضل الله الظالمين﴾ وفقًا لأحكامه القدرية للظالمين لأنفسهم بالإعراض عن السبل التي سنها الله للهداية لا أنه يضل المتقين فهذا شأن إبليس اللعين ولا يجوز نسبة ذلك لله رب العالمين: ﴿ويفعل الله ما يشاء﴾ أي ويحدث في ملكه ما يشاء من مخلوقات وتصرفات لا يسأل عن شيء فعله لم فعله كما قال تعالى في آية أخرى: ﴿لا يسأل عما يفعل﴾ أما أحكامه تعالى فإنها وفق ما جاء في القرآن ولا تسير إلا وفق ما قدره من نظم تتجلى فيها صفة العدل الإلهي.
بعد أن بيَّن الله ما للكلمة الواحدة عنده من أثر في سعادة الناس أو شقائهم أخذ يتكلم عن مقترفي الجرائم وما أعده من جزاء لهم فقال: ﴿ألم تر﴾ أيها السامع: ﴿إلى الذين بدَّلوا نعمة الله﴾ التي أنعم بها عليهم من إرساله لهم رسولًا عربيًا منهم وإنزاله القرآن بلغتهم: ﴿كفرًا﴾ أي جحودًا فلم يقدروا له تعالى هذه النعمة إذ أنكروا الرسالة وحاربوا القرآن: ﴿وأحلوا قومهم﴾ أي أنزلوهم بسبب هذا الكفر: ﴿دار البوار﴾ أي الهلاك أعني بها: ﴿جهنم﴾ التي: ﴿يصلونها﴾ في الآخرة: ﴿وبئس القرار﴾ أي المستقر الثابت الذي يكون فيه السكن: ﴿وجعلوا لله أندادًا﴾ أي أنهم لم يكتفوا بكفر نعم الله حتى اعتقدوا أن هناك آلهة غير الله تماثله في القدرة على منح النعم وسلبها: ﴿ليضلوا﴾ بضم الياء وقرئ بفتحها: ﴿عن سبيله﴾ أي ليصرفوا الناس عن التوجه إلى الله في طلب العون لتفريج الكرب وقضاء الحوائج إلى سواه إذ هم يعلمون أن الناس بفطرتهم لا بد لهم أن يلجئوا إلى الله في النائبات فأرادوا صرفهم عن ذلك بما جعلوه لله تعالى من الأنداد: ﴿قل تمتعوا﴾ أي خذوا حظكم من متع الدنيا ولذاتها في هذه الأيام القصيرة: ﴿فإن مصيركم إلى النار﴾ عقوبة
فهذا لا يعد كافرًا ولا عبرة بما نطق به إذ الإيمان هو التصديق بالقلب وقد قال رسول الله ﷺ «رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه» كما حصل لعمار بن ياسر عندما اعتقلته قريش مع أبيه وأمه وعذبوهم حتى مات الأب والأم وكانا أول قتيلين قتلا في الإسلام واضطر عمار أن ينطق بكلمة الكفر فلما اتصل خبره برسول الله ﷺ قال «إن عمار ملئ إيمانًا من فرقه إلى قدمه واختلط الإيمان بلحمه ودمه» وعندما أتى عمار رسول الله ﷺ وهو يبكي فجعل رسول الله ﷺ يمسح عينه ويقول «ما لك إن عادوا إليك فعد لهم بما قلت».
﴿ولكن﴾ الإثم وغضب الله لا يقع إلا على: ﴿من﴾ لم يكن كذلك بل: ﴿شرح بالكفر صدرًا﴾ أي فتحه ووسعه لقبول الكفر حتى رضي به وأقره حتى ولو لم ينطق بكلمة الكفر: ﴿فعليهم غضب من الله﴾ أي فقد استهدفوا لغضب الله: ﴿ولهم﴾ في الآخرة: ﴿عذاب عظيم﴾ هو الجزاء المقدر لكل من يغضب الله: ﴿ذلك﴾ أي حلول غضب الله عليهم واستحقاقهم لعذابه لم يكن ناشئًا عن كفرهم به فذلك لا يضر الله شيئًا وإنما هو لسببين اثنين أحدهما قوله: ﴿بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة﴾ أي بسبب أن الله قد رسم لهم طريق الخير وطريق الشر وشرح لهم ما اقتضته مشيئته مما يؤدي إلى سعادة الدنيا وما يؤدي لسعادة الآخرة وجعل لهم الخيار الكامل في أن يتبعوا ما يروق لهم فاستحبوا العمل للدنيا الفانية فقط وآثروه على ما ينفعهم في الآخرة مما يؤدي بهم إلى ذلك العذاب العظيم وارتضوا لأنفسهم ما لم يرضه الله لهم والسبب الثاني قوله: ﴿وأن الله﴾ قد قضت مشيئته الأزلية أنه تعالى: ﴿لا يهدي القوم الكافرين﴾ أي أنه لا يرغم الكافر الراغب عن الهداية بضرورة طلبها لما في ذلك من معنى الجبر على الطاعة وهذا مناف للحرية التي منحها لعباده بل إنه تعالى جعل أمر الهداية في متناول يد كل راغب فيها بممارسة ما سنه لنيلها من سنن وإرغام بعض الكفار على الهدى بما يضعف حجة الله في عقاب الباقين: ﴿أولئك الذين طبع الله على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم﴾ الطبع على القلوب معناه عدم قبولها لشيء جديد من العلم فيكون المعنى أن المؤمن الذي هداه عقله وسمعه وبصره إلى الإيمان بالله متى كفر بعد ذلك فقد عطل بعمله ومحض اختياره حواسه وجعلها غير قابلة للاستفادة بشيء جديد يدعوها إلى الإيمان مرة أخرى لا كما يتصور البعض من أن طبع الله على هذه الحواس معناه أنه
العقاب فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول لمن يطعن في صحة القرآن ويأبى الرضوخ لأحكامه: ﴿أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ﴾ أي هذا الذي أفاضه الله عليكم من رزق تعيشون به من نبات وحيوان: ﴿فجعلتم منه حرامًا وحلالًا﴾ أي فترتب على إنزاله لمنفعتكم أن جعلتم بعضه حرامًا وبعضه حلالًا: ﴿قل آلله أذن لكم﴾ بهذا بمقتضى وحي بلغ إليكم: ﴿أم على الله تفترون﴾ كزعمكم إن الله حرم عليكم الوصيلة والسائبة وما أشبه مما لم يرد نص به في إحدى الكتب السماوية، ومن هنا أخذ الفقهاء قاعدة أصولية في الشرع هي أن الأصل في كل شيء الحل ما لم يرد نص بالحرمة وهذا يتضمن بطلان قول من يحرمون على أنفسهم أكل اللحوم من النباتيين ويستحلون ما نص الشارع على تحريمه إنهم بهذا لا شك يكذبون على الله: ﴿وما ظن الذين يفترون على الله الكذب يوم القيامة﴾ هل يمكن أن يخطر لهم على بال أنهم سوف لا يعاقبون على هذا الافتراء على الله فويل لمن يجرأ على مثل هذا الأمر اعتمادًا على مجرد رأي بعض الفقهاء دون أن يكون هناك ما يؤيده من كتاب الله وسنة رسوله: ﴿إن الله لذو فضلٍ على الناس﴾ بما خلقه لهم من رزق وما شرعه لهم من دين لم يبح لأحد حق التصرف فيه بزيادة أو نقص أو تحريم وتحليل لئلا يتحكم فيهم أمثالهم من العباد كالذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله يحرمون لهم ويحلون فيطيعونهم فيما يقولون.: ﴿ولكن أكثرهم لا يشكرون﴾ فضل الله عليهم بتحريمهم ما أحله الله لهم ويحرمون أنفسهم من التمتع بما رزقهم الله من مختلف أنواع الطعام واللباس وأنواع الزينة فقد قال صلى الله عليه وسلم: «إذا آتاك الله مالًا فليره عليك فإن الله يحب أن يرى أثره على عبده حسنًا ولا يحب البؤس ولا التباؤس والشكر نصف الإيمان» والله سبحانه وتعالى يقول: ﴿لئن شكرتم لأزيدنكم﴾ ويقول: ﴿وقليل من عبادي الشكور﴾.
بعد أن أمر الله رسوله بإشعار الناس بضرورة التقيد بما جاء في القرآن من التحليل والتحريم وأن تدخل الناس في هذا الأمر يعد افتراء عليه وكفرًا به أخذ يذكره بإحاطة علمه بكافة شئونهم وأعمالهم صغيرها وكبيرها جليلها وحقيرها ليحاسبوا أنفسهم على ما قد يصدر منهم افتراء عليه ومخالفًا لأمره ونهيه فقال: ﴿وما تكون﴾ أيها الرسول: ﴿في شأنٍ﴾ أي أمر من أمورك الخاصة بك أو العامة: ﴿وما تتلوا منه﴾ أي من أجل ذلك الشأن: ﴿من قرآنٍ﴾ أنزل عليك لتتعبد به أو لتبلغه للناس: ﴿ولا تعملون﴾ يا من أنزل القرآن هداية لهم: ﴿من عملٍِ﴾ سواء
أراد جل وعلا أن يأخذ عباده المؤمنين من هذا عبرة وتذكرة لأنفسهم فيحرصوا كل الحرص على الإخلاص له في السر والعلن لئلا يبوءوا بسخطه ويصطلوا بناره في الآخرة فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا﴾ أي اجعلوها في مأمن من النار في يوم القيامة وذلك بمحبة الرسول والإخلاص له واتباع شريعته: ﴿وَقُودُهَا﴾ بفتح الواو وقرئ بضمها أي حطبها الذي يلقى فيها: ﴿النَّاسُ﴾ أي جثث بني آدم: ﴿وَالْحِجَارَةُ﴾ لعل المراد منها الأصنام لقوله تعالى في آية أخرى: ﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾.: ﴿عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ﴾ في طبائعهم أي أنه لا رحمة عندهم: ﴿شِدَادٌ﴾ في تركيبهم وقواهم: ﴿لا يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ﴾ أي أنهم ينفذون أوامر الله بمنتهى الدقة وقد أمروا بمخاطبة الكفار عند دخولهم إلى جهنم بقولهم: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ برسالة الرسول وما جاء به من عند ربه: ﴿لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ﴾ أي لا تحاولوا استجداء الرحمة بمختلف المعاذير فليس هذا وقته فجهنم دار عذاب لا موضع حساب: ﴿إِنَّمَا تُجْزَوْنَ﴾ فيها: ﴿مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ أي أن المصير هو النتيجة الطبيعية لأعمالكم أو الجزاء المقرر لسيئاتكم بحسب ما أعلنتم به في حياتكم الدنيا وهنا أعاد الله النداء إلى المؤمنين ليرشدهم إلى ما يقيهم من عذاب الله فيما إذا اقترفوا شيئًا من السيئات فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله واقترفوا السيئات لا تيأسوا من رحمة الله بل: ﴿تُوبُوا إِلَى اللهِ﴾ أي ارجعوا دائمًا إلى الله بطلب الغفران والندم على ما كان: ﴿تَوْبَةً نَّصُوحًا﴾ بفتح النون وقرئ بضمها أي توبة صادقة تنصح صاحبها بعد العود إلى ما تاب منه: ﴿عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ﴾ بهذه التوبة: ﴿سَيِّئَاتِكُمْ﴾ التي اقترفتموها لأن في الاعتراف بالجرم وطلب الغفران ما يستدعي الرحمة والرضوان ولكنهما لا يضمنان نيلهما إلا إذا اقترنا بالعمل الصالح وفق دستور الله: ﴿وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللهُ النَّبِيَّ﴾ برد شفاعته وهو يوم القيامة إذ يسجد تحت العرش ويتشفع لأمته فيقال له يا محمد ارفع رأسك سل تعط واشفع تشفع: ﴿وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ﴾ أي ويوم يكون حال المؤمنين كذلك نتيجة لما كانوا: ﴿يَقُولُونَ﴾ في حياتهم الدنيا: ﴿رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ومن أجل هذا جعل الله نورهم يسعى بين أيديهم وغفر لهم فإنه وحده القدير على ذلك وبعد أن أمر الله المؤمنين بالرجوع إلى الله بقلوبهم بالتوبة والندم لعل في ذلك ما يكون سببًا لنيل غفرانه أخذ يدعوهم إلى ما يضمن لهم السعادة في الدارين
﴿ولا صلى﴾ لله ابتغاء رضوانه: ﴿ولكن كذب﴾ بمعنى أنه لم يقف موقفًا سلبيًا بالنسبة للرسل بعدم التصديق بل سفه أقوالهم: ﴿وتولى﴾ أي تقلد أمر التكذيب بمعنى أنه تصدى لمحاربتهم بكل قواه: ﴿ثم ذهب إلى أهله يتمطى﴾ يتبختر ويزدهي بنفسه أن قاوم رسول الله: ﴿أولى لك فأولى﴾ أي أجدر بك أيها الإنسان أن تعدل عن هذه السيئات: ﴿ثم أولى لك فأولى﴾ أن تتبع طريق الحق لتكون من الفائزين: ﴿أيحسب الإنسان﴾ الذي منحه الله نعمة العقل الذي يميزه عن سائر الحيوانات: ﴿أن يترك سدى﴾ أي مهملًا لا ثمرة لوجوده ولا غاية من وراء موته. فلا يؤمن بالبعث والحياة الأخرى وأن نظرة فاحصة منه في خلق الله الأشجار والزرع ووقت مواعيد زرعها وحصادها وتساقط ورقها وعودتها في الوقت المقرر لتدل دلالة قاطعة على أن الخالق الأعظم لها إنما يعمل ذلك بحكمة ونظام عجيب ولغاية سامية ومرمى بعيد وأنه لا يعرف اللعب والعبث الأمر الذي يحمله لا محالة على الاعتقاد بأن ربًّا اتصف بتلك الصفات العالية والحكمة البالغة لا يمكن أن يقيم خلقًا عظيمًا كالإنسان ثم يأتي عليه من غير حكمة أو سبب وهو ما أخبر به الرسل من أن الحياة الدنيا ليست هي كل شيء وليست في ذاتها غاية وإنما هي حياة بدائية لما بعدها من حياة أخرى سعيدة دائمة لا يدركها الفناء وأن هذه الحياة التي ننعم فيها ما خلقت إلا لتكون بمثابة مزرعة يغرس فيها الإنسان بعمله ما يجيء ثمره في تلك الحياة الأخرى بنفس الطريقة والنظام المشاهد في أمر الأشجار والزرع تمامًا ومن أجل هذا أثبت الله أمر البعث بالاستدلال بالخلقة الأولى وما طرأ عليها من تطورات فقال: ﴿ألم يك﴾ أصل الإنسان: ﴿نطفة﴾ وهي الماء القليل: ﴿من مني﴾ المني: الماء الذي قدر الله أن يكون هو أصل الحيوانات: ﴿يمنى﴾ بالياء أي يصب وقرئ «تمنى» بالتاء أي النطفة: ﴿ثم كان﴾ هذا المني: ﴿علقة﴾ تنشب وتتمسك بالرحم: ﴿فخلق﴾ أي فقدر خلقها بنفخ الروح فيها: ﴿فسوى﴾ أي صنعه بشرًا كامل الأعضاء: ﴿فجعل منه الزوجين﴾ أي الصنفين: ﴿الذكر والأنثى﴾ مع أن الأصل فيهما واحد مما يدل على عظيم قدرة الله: ﴿أليس ذلك﴾ الذي أنشأ هذه الأشياء وأحكم هذه التطورات وأبلاها كما أبلى سائر الثمار: ﴿بقادر على أن يحيي الموتى﴾ كما أحياها أول مرة وكما يعيد سيرة الأشجار فتؤتي ثمرها في كل عام.
رُوِيَ أن الرسول ﷺ كان إذا قرأ هذه الآية قال «سبحانك إنك على كل شيء قدير».
فتفرق شملهم: ﴿إِنَّ الإِنسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ﴾ الكنود: كافر النعمة الذي لا يشكرها وقد روي عن رسول الله ﷺ أنه قال: «الكنود الذي يأكل وحده ويضرب عبده ويمنع رفده» يعني لا يقدر كل هذه النعم ولا ينسبها إلى مسديها الذي سخر له الخيل لتبذل من أجله كل هذه الجهود، وهكذا شأن الإنسان أنه إذا غمرته من الله نعمة أصاب إلى جانبها غفلة تدخل إلى قلبه ضرباً من القسوة فلم يعد يذكر ماضيه ولا يفكر فيما يكون عليه مستقبله بالنسبة لمن أعطاه ما أعطاه: ﴿وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ﴾ أي على الكنود وكفر النعمة: ﴿لَشَهِيدٌ﴾ بما يصدر منه من الغرور والكبرياء والقسوة على الفقراء ولولا ذلك لأحسن إلى الناس كما أحسن الله إليه: ﴿وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ﴾ أي أنه يريد أن يستأثر بكل شيء يرى فيه خيره ولا يبر به سواه من شدة بخله وحبه للمال: ﴿أَفَلا يَعْلَمُ﴾ هذا الإنسان أن الله لا يخفى عليه شيء من أمره وأنه: ﴿إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ﴾ بإخراج الموتى منها: ﴿وَحُصِّلَ﴾ أي جمع وأظهر: ﴿مَا فِي الصُّدُورِ﴾ من المقاصد والنيات: ﴿إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ﴾ بما يستحقونه من حسن جزاء أو سوء منقلب.
سورة القارعة
مكية عدد آياتها إحدى عشرة

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿الْقَارِعَة (١) مَا الْقَارِعَةُ (٢) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (٩) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (١٠) نَارٌ حَامِيَةٌ (١١)﴾
سورة القارعة: بعد أن ختم الله السورة السابقة بما يشعر الناس بعلمه تعالى بجميع أعمالهم وخبرته بما يستحقون في يوم القيامة أخذ يردد في هذه السورة ذكر أهوال يوم القيامة وما يكون فيها من حساب وعقاب فقال: ﴿الْقَارِعَة﴾ وهي اسم من أسماء القيامة كالحاقة والطامة والغاشية ولعل في تسميتها بالقارعة إشارة إلى أنها تقرع القلوب بأهوالها: ﴿مَا الْقَارِعَةُ﴾ استفهام يقصد به تهويل أمرها: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا﴾ حقيقة: ﴿الْقَارِعَةُ﴾ وما المراد منها، وماذا يصيب الناس فيها: ﴿يَوْمَ يَكُونُ﴾ أي أنها اليوم الذي يغدو فيه: ﴿النَّاسُ﴾ لكثرتهم وتزاحمهم: ﴿كَالْفَرَاشِ﴾ وهي تلكم الحشرات التي نراها تترامى على ضوء السراج ليلاً فلا ندري كيف خلقت ومن أين جاءت:


الصفحة التالية
Icon