وإخراجهم من ديارهم ﴿فما جزاء من يفعل ذلك﴾ منه ﴿منكم﴾ بعد اليوم ﴿إلا خزيٌ في الحياة الدنيا﴾ لأنه اتصف بصفات المنافقين، واتسم بسيمائهم، فاستحق الهوان والخذلان ﴿ويوم القيامة يردون﴾ وقرئ ﴿تردون﴾ بالتاء ﴿إلى أشد العذاب﴾ جزاء نقضهم عهد الله وميثاقه، وعدم تجنبهم ما نهى الله عنه ﴿وما الله بغافلٍ عما تعملون﴾ وقرئ ﴿يعلمون﴾ بالياء من أمثال هذا الاختلاف، والتناقض في الأقوال والأفعال، خصوصًا فيما له علاقة بالدين، واتباع بعضه، والإعراض عن بعض، تمشيًا مع الرغبة النفسية، وإيثارًا للدنيا على الآخرة، مما يسبب الخزي في الدنيا، والعذاب في الآخرة فهذا شأن ﴿أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا﴾ وما فيها من متاع زائل ﴿بالآخرة﴾ لنقص في عقولهم، ﴿فلا يخفف عنهم العذاب﴾ لفساد أخلاقهم، ﴿ولا هم ينصرون﴾ إذ لا نصير ولا شفيع في ذلك اليوم إلا بأمره.
«الطبع الثاني» من طبائع بني إسرائيل: الكبرياء، وقد أشار إليه سبحانه وتعالى بقوله ﴿ولقد آتينا موسى﴾ من قبلك ﴿الكتاب﴾ الذي هو التوراة فظل يدعو قومه إلى العمل بها إلى أن مات ﴿وقفينا من بعده بالرسل﴾ وهم يوشع وشموئل وداود وسليمان وشعيب وأرمنياء وعزير وحزقيل وإلياس واليسع ويونس وزكريا ويحيى وغيرهم، وكلهم يدعون بدعوته، ويأمرون باتباع شريعته ﴿وآتينا عيسى ابن مريم﴾ الذي انتهت به رسالة بني إسرائيل، وجاء بشريعة نسخت أكثر شرع موسى عليه السلام، وأقام لهم ﴿البينات﴾ على صحة رسالته من المعجزات التي ظهرت على يده كإحياء الموتى، وإبراء الأكمة والأبرص ﴿وأيدناه بروح القدس﴾ بضم الدال وقرئ بإسكانها، أي الوحي الذي كان يملي عليه الإنجيل المدون للشريعة التي يجب أن يسيروا عليها، فاستكبروا عن الإصغاء لدعواتهم والإذعان لتعاليمهم، فقل لهم يا محمد إلى متى هذا الحال ﴿أفكلما جاءكم رسولٌ بما لا تهوى أنفسكم﴾ من الأحكام ﴿استكبرتم﴾ عن الإذعان لها واتباعها، وقاومتم الرسل ﴿ففريقًا﴾ منهم ﴿كذبتم﴾ بما جاءوا به ﴿وفريقًا﴾ منهم كنتم ﴿تقتلون﴾ كأمثال زكريا ويحيى؟. ﴿وقالوا﴾ أي بنو إسرائيل
************************************************************************************************
قيس بن شماس وكان رجلًا دميمًا فجاءت إلى الرسول ﷺ شاكية تقول: «والله لولا مخافة الله لبصقت في وجهه، والله ما أعتب على ثابت في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام، يا رسول الله لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبدًا، إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سوادًا وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهًا. فقال زوجها: يا رسول الله إني قد أعطيتها أفضل مالي لي "حديقة" فقال الرسول: «أتردين عليه حديقته؟» قالت نعم وزيادة فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أما الزيادة فلا ولكن حديقته» قالت نعم ففرق الرسول بينهما وردت عليه حديقته وهذا أول خلع في الإسلام، وبمثل هذه الحرية الكاملة التي أقرها الإسلام للمرأة وطبقها الرسول ﷺ في حكمه ضمنت السعادة العائلية وشعر كل من الرجل والمرأة بأن الحياة الزوجية لا يمكن أن تقوم إلا على أساس التفاهم وحسن العشرة وأن من واجب كل منهما أن يحرص على رضاء الآخر وإلا فليوطد النفس على ما يترتب على التفريق بينهما من متاعب وآلام ولا يلومن إلا نفسه.
ولقد ترتب على عدم اتباع المسلمين لهذا الحكم الصريح من أحكام رسول الله ﷺ وأخذهم برأي بعض الأئمة في وجوب إخضاع المرأة لعشرة زوجها بالرغم عنها بانقيادها إلى ما سموه "بيت الطاعة" مع أنه لم يحدث أن قضى رسول الله ﷺ بمثل هذا على أحد من النساء في عصره، وقد شهدنا ما ترتب على هذا فعلًا من أضرار عظيمة لا تخفى على كل ذي بصيرة فالمرأة التي لا تحب زوجها ولا تجد مصلحتها في البقاء معه لا يبعد أن تخونه أو تدبر له المكائد وتنصب له الشباك للأضرار به والتخلص منه وثبت روح البغضاء في نفوس أبنائها منه. وقد يضطرها الأمر إلى الفساد ومعاشرة غيره من الرجال بطرق غير مشروعة بل وإنكار الزوجية والتزوير في العقود الرسمية أو اللجوء إلى المحرمات كالسرقة والنصب والاحتيال حرصًا على
في كتابه، فنثبت لله ما أثبته لنفسه ونجريها على ظواهرها، ونعتبرها دليلًا على كمال الذات وجميل الصفات مع مراعاة ما في القرآن من آيات محكمة نزلت في تنزيهه عن المشابهة للحوادث، فننزهه عن الشبيه، وننزه صفاته عن صفات المخلوقات، إذ الكلام عن الصفات فرع عن الكلام في الذات، وإذا كان معلومًا أن إثبات رب العالمين إنما هو إثبات وجود لا إثبات تحديد وتكيف، فكذلك إثبات صفاته إنما هو إثبات صفات أثبتها الله لنفسه، فلا نقول إن معنى اليد «القدرة» ولا إن معنى السمع والبصر «العلم» كما يقول علماء الكلام ولا نقول إنها جوارح وأدوات لأفعال معينة، كما يقول المجسمة فإنها في نفس المخلوقات قد لا تؤدي ذلك العمل ذاته، ولا نشبهها بالأيدي والأسماع والأبصار التي هي جوارح وأدوات للفعل لقوله تعالى «ليس كمثله شيء» بل كما يليق بجلال الله بلا تكييف ولا تشبيه (وما يذكر) هذه الحقيقة ويعقلها (إلا أولوا الألباب) الذين إذا أثبتوا لله صفة فإنما يثبتونها له كما يليق بجلاله وكما يريد لذاته تعالى لا كما يريد بالخلوقين من عباده من هذه المرئيات المحدودة المعلومة وهذه هي عقيدة السلف الصالح رضوان الله عليهم وهي أسلم وأحكم لا كما يزعم بعضهم من أن عقيدة الخلف التي تجاري ما يقوله علماء الكلام أحكم ولذا يلقنونها للناس وسيحملون وزرها ووزر من يقول بقولهم إلى يوم القيامة أما أصحاب العقول النيرة والإيمان القوي الراسخ فإنهم إلى جانب هذا الإيمان والتسليم يدعون ربهم بقولهم (ربنا) ثبتنا في عقائدنا و (لا تزغ قلوبنا) بشبه المبطلين (بعد إذ هديتنا) إلى الإيمان بآياتك وتقديس ذاتك عما يشينها من التجسيم والتشبيه والتعطيل (وهب لنا من لدنك رحمة) تستر بها ما يبدو لنا من قصور، وما يصدر من ذنوب، فنحن بالعجز موصوفون، وبمواضع الزلل محاطون، ولا تكلنا إلى أعمالنا (إنك أنت الوهاب) فلا غرو إذا كان طمعنا في رحمتك عظيمًا (ربنا إنك جامع الناس) بعد موتهم (ليوم) معلوم (لا ريب فيه) أي في مجيئه واجتماع الناس فيه للحساب والعقاب (إن الله لا يخلف الميعاد) فما أخبر الله بوقوعه فيه من جنة ونار لا يمكن خلفه، وهذا إنما يضاعف الرغبة في طلب الرحمة منة من الله وكرمًا.
بعد أن بين الله ما يقوله الراسخون في العلم وما يدعون ربهم به من الرحمة وما حكاه عنهم من اعترافهم بالبعث وعدم خلف الله للوعد أراد أن يبين حال الكافرين بآياته فقال: (إن الذين كفروا) بآيات الله واتخذوا منها وسيلة للفتنة والضلال (لن تغني) أي تنفع وتجدي وقرئ «يغني»
عليه وسلم لأبي بكر ما حملك على ما صنعت فقال يا رسول الله قال قولاً عظيمًا يزعم أن الله تعالى فقير وهم أغنياء فلما قال ذلك غضبت لله تعالى وضربت وجهه فجمد فنحاص وقال ما قلت ذلك فأنزل الله تعالى فيما قال فنحاص تصديقًا لأبي بكر هذه الآية وأنزل في أبي بكر وما بلغه من الغضب قوله في آية أخرى ستأتي بعد ﴿ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيرًا﴾ ﴿سنكتب﴾ وقرئ "سيكتب" بالياء مضمومة مع رفع اللام في قتلهم ﴿ما قالوا﴾ نسجل ذلك عليهم لنحاسبهم عليه حسابًا عسيرًا ﴿وقتلهم الأنبياء بغير حق﴾ كما نسجل عليهم ما اقترفوه من قتل الأنبياء؛ إذ أن الجريمتين في العظم واستحقاق العقوبة سواء ﴿ونقول﴾ لهم وقرئ ﴿يقول﴾ بالياء بدل النون ﴿ذوقوا عذاب الحريق﴾ يوم القيامة ﴿ذلك﴾ أي العذاب الذي تذوقون حرارته ﴿بما قدمت أيديكم﴾ أي بسبب ما باشرتموه بأنفسكم من الطعن في الخالق جل وعلا وقتل الأنبياء ﴿و﴾ لأجل أن تعلموا ﴿أن الله ليس بظلام للعبيد﴾ وأن عذابكم كان عدلاً منه تعالى فلولا ما نسبتموه إلى الله من الفقر وما اقترفتموه من جرائم قتل الأنبياء ما أصابكم هذا العذاب.
وعلى ذكر ما كان يردده اليهود من قولهم إن الله فقير ونحن أغنياء أنذرهم الله بأنه سيكتب ما قالوا؛ وأردف ذلك جل وعلا بقول آخر كانوا يرددونه أيضًا تشكيكًا في دين الله حيث قال: ﴿الذين قالوا﴾ أي: وسمع الله قول الذين قالوا ﴿إن الله عهد إلينا ألا نؤمن﴾ بالرسالة ﴿لرسول﴾ من قبله ﴿حتى يأتينا بقربان﴾ يقرب أمامنا قربانًا ﴿تأكله النار﴾ نار بيضاء من السماء لها دوي فتأخذه وتحرقه بزعمهم ﴿قل﴾ أيها الرسول لهؤلاء القائلين ﴿قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات﴾ المعجزات الدالة على نبوتهم، بل ﴿و﴾ جاءكم ﴿بالذي قلتم﴾ من القرابين لكنكم مع ذلك قتلتموهم ﴿فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين﴾ في أن إيمانكم بي واتباعكم لي متوقف على مجيئي بالقربان الذي تزعمون أن الله قد عهد إليكم ألا تؤمنوا برسول حتى يأتيكم به ﴿فإن كذبوك﴾ بأن أصروا على عدم الإيمان بما جئتهم به من الهدى المؤيد بالأدلة والبراهين فلا تعجب لذلك فإن من طبع النفوس القسوة وعدم الرضوخ للحق بسهولة ﴿فقد كذب رسل من قبلك جاءوا﴾ لأقوامهم ﴿بالبينات والزبر والكتاب المنير﴾ البينات: الدلالات الواضحة والزبر: جمع زبور هو الكتاب المقصور على الحِكَم العقلية دون الأحكام الشرعية وأما الكتاب فهو ما يتضمن الأحكام والحِكَم
الذي وطن نفسه لنشر الدعوة له وإعلاء كلمته ونصرة دينه ﴿وكان الله غفورًا﴾ لما سبق من الذنوب لأمثال هؤلاء المهاجرين بسبب إقدامهم على الهجرة ﴿رحيمًا﴾ بمن ضحى بماله وهناءته في سبيل رضاء ربه وعزة قومه...
ومصداقًا لهذه الآية الكريمة اعتراف إليّ كثير من كبار التجار المؤمنين في باكستان عندما كنت سفيرًا بها أنّه هاجر بدينه من الهند عند التقسيم لئلا يكون ذليلًا تحت حكم الهندوس هو وأهله وتركوا كل ما يملكون وقتل منهم من قتل وعذب من عذب ولكنهم عندما وصلوا إلى باكستان استأنفوا أعمالهم التجارية وكتبوا إلى عملائهم من أرباب المصانع في أوروبا وأمريكا فأمدوهم بمختلف البضائع التي عادت عليهم بالمال الوفير حتى استعادوا مراكزهم المالية بأحسن مما كانوا عليه ولذلك فهم يحمدون الله وينفقون في سبيله بما يستطيعون بعد أن سد الله باب الاعتذار بالضعف في وجوه المتقاعدين عن الجهاد في سبيله بما شرعه لهم من الهجرة وما أكده لهم من أن في أرض الله متسعًا للإفلات من سطوة أصحاب النفوذ وميدانًا فسيحًا للرزق وأجرًا عظيمًا عنده أخذ يخبرهم جل وعلا بمبلغ رضائه عنهم في حال الهجرة بما تفضل به عليهم من التجاوز عن بعض التكاليف التي فرضها عليهم في حال الإقامة وما أكرمهم به من الرخص في أهم أركان الإسلام وهي الصلاة في حال السفر وحال الخوف فقال عن الحالة الأولى ﴿وإذا ضربتم في الأرض﴾ والضرب في الأرض عبارة عن السفر فيها لأن المسافر يضرب الأرض برجليه أ وبقوائم راحلته وهذا أعم من أن يكون السفر لغرض ديني أو دنيوي ﴿فليس عليكم جناح﴾ أي إثم أو حرج ﴿أن تقصروا من الصلاة﴾ التي فرضها عليكم كاملة في أوقاتها تخفيفًا عنكم وتشجيعًا لكم على مداومة الأسفار وتحمل
(لِلْمُتَّقِينَ) أي الذين يخافون الله وقضينا عليهم في الإنجيل قوله (وَلْيَحْكُمْ) بسكون اللام والميم وقرئ بكسر اللام وفتح الميم (أَهْلُ الْإِنْجِيلِ) أي النصارى (بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهِ) أي الإنجيل من التسامح وعدم مقابلة الظلم بمثله (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) من الكتب السماوية ويعدل عنها إلى الأحكام الوضعية (فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) جمع فاسق وهو الخارج عن طريق الحق والصلاح فلما لم يخضعوا لأحكام الإنجيل كانوا من الفاسقين.
بعد أن وضح الله مزايا التوراة والإنجيل وأمر المسلمين بالحكم بما أنزل الله وأخبرهم بأنه تعالى سبق أن أمر كلا من اليهود والنصارى بالحكم بما أنزل الله في كتبهم إلى خطاب رسوله وخاتم أنبيائه فقال (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ) وهو القرآن المجيد (بِالْحَقِّ) أي بالحديث الصحيح من أخبار من سبق من الأمم وشرائعهم وما كان من أمرهم مع أنبيائهم (مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ) أي معلنا صحة ما قرب ودنى من جنس الكتب المنزلة من عند الله كالتوراة والإنجيل وأنها من عند الله وأن الرسل الذين جاءوا بها لم يؤلفوها من تلقاء أنفسهم (وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) أي قائما ومؤتمنا بمعنى أن ما يرويه أو ينسبه القرآن إلى كل من التوراة
<٦٣>
والإنجيل حق لا مراء فيه وأن ما كتبه أتباع هذه الشرائع مخالفا لهذا الأصل فلا عبرة به (فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ) أي بين جميع أهل الكتاب (بِمَا أَنْزَلَ اللهُ) عليك لأنه الحق المصدق والمهيمن على تلك الكتب السابقة (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ) وهو الحكم بما يوافق أهواءهم أو يزعمون أنه كتبهم أو ما كان في شرائعهم (عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) من الدين الذي هو أساس الشرائع من الأمور الاعتقادية التي جاء بها سائر الرسل من عند الله والشريعة التي أمرت بالعمل بها دون غيرها من الشرائع ذلك لأنه (لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ) يا معشر الرسل (شِرْعَةً) أي شريعة وهي الأحكام العملية التي تختلف باختلاف الرسل وينسخ لاحقها سابقها وهي أخص من الدين إذ هو الأصول الثابتة التي لا تختلف باختلاف الأنبياء (وَمِنْهَاجًا) أي طريقا واضحا وأسلوبا خاصا يسير عليه في الدعوة إلى الله ويتلاءم مع درجة عاقلية قومهم فشريعة موسى كانت مبنية على المشادة وشريعة عيسى كانت مبنية على التسامح والزهد في
الحاسبين} أي إنه يحاسب الخلائق كلها في أسرع زمن وأقصره لا يشغله حساب واحد عن حساب غيره كما لا يشغله شأن عن شأن.
بعد أن أمر الله رسوله بالإعلان عن واسع علمه جل وعلا وقهره لعباده مع لطفه بهم ومردهم إليه، وأنه تعالى هو أسرع الحاسبين، عاد فأمره بدعوة الناس أجمعين إلى توحيده عن طريق مناشدة ضمائرهم بما توحيه إليهم فطرتهم في النائبات وأحلك الساعات من ضرورة اللجوء إلى الله فقال ﴿قل من ينجيكم من ظلمات﴾ جمع ظلمة وهي ذهاب النور ﴿البر والبحر﴾ أي عندما تضلون في الصحراء أو في خضم البحر، وتفقدون ما يهديكم إلى طريق الصواب كتراكم السحب وشدة العواصف وتنوع المخاوف، والخطر يتهددكم بنفاد الزاد والماء والموت الذي لا مفر منه؛ لا شك أنكم لا تجدون أمامكم في تلك الساعة الرهيبة غير الله فلا يسعكم إلا أن ﴿تدعونه تضرعا﴾ أي في ذل واستسلام ﴿وخفية﴾ خفية بضم الخاء وقرئ بكسرها أي دعاء صادر من دخيلة القلب وعن إيمان بأنه لا يملك النجدة في مثل تلك الحالة غير الله سبحانه وتعالى قائلين في سركم ﴿لئن أنجانا﴾ الله وقرئ «أنجيتنا» ﴿من هذه﴾ الظلمة التي نحن فيها وفرج عنا كربتنا ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ أي لنكونن من عداد المؤمنين بالله المعترفين بنعمه المؤدين لحقوقه. فهذه منة لا تنسى لأنها جاءت إثر موقف رهيب وحالة يأس شامل ﴿قل الله﴾ وحده هو الذي ﴿ينجيكم﴾ المرة بعد الأخرى ﴿منها﴾ أي من تلك الظلمة بما سخره لكم من النجوم التي تهديكم إلى خطوط سيركم على الدوام ﴿ومن كل كرب﴾ أي همّ وغم شديد يحل بكم ويقض مضاجعكم من الحزن بما يأتيكم به من اللطف الخفي واليسر بعد العسر والفرج القريب ﴿ثم أنتم﴾ بعد أن تنقشع الظلمة ويأتي الفرج من محض كرمه وتدبيره ﴿تشركون﴾ أي تأبون أن تعترفوا بهذه المنة لله وحده بل إنكم لتنسبونها إلى محض الصدف أو الأسباب الجسمانية والجهود الشخصية، متناسبين ما كان منكم من دعاء وضراعة إلى الله وما قطعتموه على أنفسكم من عهد بالشكر في أثناء تلك الظروف. فتلك سجية من سجايا النفس البشرية لا يمكن أن تزول عنها إلا باهتدائها بما جاء من عند ربها.
بعد أن أمر الله رسوله بدعوة الناس إلى الإيمان بوحدانيته عن طريق مناشدة ضمائرهم بما توحيه إليهم فطرتهم في النائبات من ضرورة اللجوء إلى الله وختم الآية السابقة بإخبارهم بأن
لا يصحبه خشوع وحضور قلب ورغبة في العظة والخوف من الله ﴿وغرتهم الحياة الدنيا﴾ بزخرفها واطمأنوا لها وشغلوا بها عن ذكر الله وأداء الواجبات فسيقول الله جل جلاله في حقهم إذ ذاك ﴿فاليوم ننساهم﴾ أي نعاملهم معاملة المنسي الذي لا يفتقد من أحد لسببين أولهما ﴿كما نسوا لقاء يومهم هذا﴾ أي لأنهم نسوا الاستعداد له بصالح الأعمال فمن أهمل البذر في موعده حرم من الثمرة يوم الحصاد وثانيهما ﴿وما كانوا بآياتنا يجحدون﴾ أي ولأنهم كذبوا بالآيات فلم يصغوا إليها ولم يعملوا بها وبهذا جنوا على أنفسهم ونالوا جزاء ذلك حسب ما أنذروا به والجزاء من جنس العمل.
بعد أن فصل الله ما سيجري يوم القيامة وما بعده وأشار إلى الأسباب التي بسببها حرّم الله على الكافرين نعيم الجنة أخذ يقرر انقطاع عذر البشر كافة إذا لم ينتبهوا إلى ما هو محدق بهم من الخطر فقال ﴿ولقد جئناهم بكتاب﴾ عظيم الشأن هو القرآن ﴿فصلناه﴾ أي بينا آياته ووضحناها ﴿على علم﴾ منا بمبلغ إدراك الناس وحاجتهم إلى الإيضاح حتى يتمكنوا من تنفيذ مقتضاه وجعلناه ﴿هدى﴾ أي السبيل المؤدي إلى الهدى من توحيد الألوهية وتجنب الضلال بالاكتفاء بتوحيد الربوبية مع اتخاذ الشركاء والوسطاء إليه جل وعلا، ﴿ورحمة﴾ أي وجعلناه رحمة للناس بما فصلناه من حلال وحرام ونافع وضار ولولا ذلك لكان الناس في جهل بما يرضي الله وما يغضبه وما ينفعهم ويضرهم ﴿لقوم يؤمنون﴾ بأنه كتاب الله الواجب الاتباع أما من لا يؤمن به فسوف لا يهتدي ولا يستفيد منه فلا يعد رحمة في نظره ﴿هل ينظرون إلا تأويله﴾ أي ولم يبق أمامهم إلا أن ينتظروا وقوع ما يؤول إليه مما جاء فيه من أخبار المغيبات عن أمر البعث والحساب والعقاب والجنة والنار فليس بعد البيان إلا النظر بالعيان ﴿يوم يأتي تأويله﴾ أي بيان حقيقة ما يؤول إليه وهو يوم القيامة إذ يتأكدون صحته ﴿يقول الذين نسوه﴾ أي تركوه ولم يعنوا بحفظه وتدبره ﴿من قبل﴾ أي في الحياة الدنيا ﴿قد جاءت رسل ربنا بالحق﴾ أي لقد ثبت لنا الآن أن الرسل كانوا صادقين فيما أخبرونا به ونحن الذين أعرضنا عنهم حتى حل هذا اليوم الموعود فما هو السبيل لخلاصنا ﴿فهل لنا من شفعاء فيشفعوا لنا﴾ أي هل لله من ذوي المكانة عنده من نلجأ إليهم ليشفعوا لنا كما كنا نتصور في الدنيا رغم ما سمعوا من قوله تعالى: ﴿ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون﴾ ﴿أو نرد فنعمل غير الذي كنا نعمل﴾ أي يتمنون العودة إلى الحياة لعمل الصالحات بعد اليأس من وجود الشفعاء ﴿قد خسروا أنفسهم﴾ التي كانوا يستطيعون توجيهها إلى عمل الخير وطاعة الله
البدع والخرافات فأخذوا يذيعون عن الشيخ الدعايات الكاذبة ويصورونه بصورة الرجل الخارج عن الأئمة الأربعة المزيف لمعتقدات المسلمين المتوارثة المسفه لرأي آبائهم وشيوخهم، المحارب لأنبيائهم وصلحائهم فرماه قوم بالكفر وآخرون بالزندقة عن جهل وبدون تحقيق وأيدتهم في ذلك الدولة العثمانية لأسباب سياسية وهو ماض في طريقه الذي سلكه ابتغاء مرضاة الله يدعو إلى الله على بصيرة ويعمل لنشر العقيدة السلفية الصحيحة ويأمر باتباع الكتاب والسنة ويقضي في فروع الأحكام بمذهب إمامه الإمام أحمد بن حنبل لم يدع الاجتهاد المطلق ولم يؤسس له مذهبًا ولم يأت في كل ما قام به بشيء جديد فعقيدته السلفية هي التي أجمع المسلمون أنها أسلم من سواها لأنها هي التي كان عليها الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين والأئمة الأربعة المجتهدون وهي عقيدة الإيمان بإثبات كل ما أخبر الله به عن نفسه من الصفات على مراد الله من غير تأويل أو تكييف بل مع الجزم بعدم مشابهة صفاته تعالى للحوادث فكل ما خطر ببالك فالله غير ذلك، أما إفراد الله بالحب والدعاء وتجنب الشرك فذلك مما دعت إليه جميع الأنبياء والمرسلين وانعقد عليه إجماع المسلمين. وأما تحطيم القباب والتوابيت وتحريم تعليق التمائم وما إلى ذلك فهذا أيضًا مما صرحت به الأحاديث ونص عليه العلماء من جميع المذاهب لأن ذلك من وسائل الشرك ولم يقل أحد بجوازها وإنما الذي امتاز به الشيخ محمد بن عبد الوهاب من غيره من العلماء المعاصرين هو أنه قوي الإيمان بالله ولذلك استطاع أن يجهر بالحق واتبع القول بالعمل. أما غيره فمنهم من كانت له مصلحة من وراء تلك البدع فروجها ومنهم من خاف على نفسه من غضب العوام فجاراهم على ضلالهم واكتفى بإنكار ذلك في سره وهذا من ضعف الإيمان لأنه حرام على العالم أن يرى العوام على الضلال ولا يبين لهم الحق فقد حرم الله كتمان العلم والخوف منهم يعد مداهنة لهم. ولقد ظل الشيخ محمد بن عبد الوهاب يعمل على نشر دعوته غير هياب ولا وجل إلى أن توفاه الله في آخر ذي القعدة سنة ١٢٠٦هـ عن عمر جاوز التسعين قضاه مجاهدًا في سبيل عز الإسلام عن طريق معرفة الله المعرفة الكاملة وإخلاص العبادة له وتجنب الشرك وما يؤدي إليه ومحاربة البدع والخرافات التي تبعد الناس عن جوهر الدين وتنتج تفرق كلمة المسلمين بعزيمة لا تعرف الكلال والملال وصراحة تمقت المداهنة طمعًا في زائف الأمل. وسار أبناؤه وتلاميذه المخلصون على سيرته وعملوا على نشر دعوته ومن أجل هذا لقبت طريقته بالوهابية وسمي أنصاره السائرون على
رضي الله الرحيم بصلب ابنه: ﴿ذلك قولهم﴾ الذي قالوه في عزير والمسيح: ﴿بأفواههم﴾ فلا يمكن لهم أن يتناصلوا منه وهو قول مجرد عن البرهان أشبه بالمهمل الذي يمر في الأفواه فهم إذ يقولون بالتثليث تأباه عقولهم ولذلك نراهم يقولون إن الثلاثة في حكم الواحد: ﴿يضاهئون﴾ بالهمزة وكسر الهاء وقرئ بغير همزة وضم الهاء به: ﴿قول الذين كفروا﴾ بالله: ﴿من قبل﴾ من مشركي العرب الذين قالوا إن الملائكة بنات الله: ﴿قاتلهم الله أنى يؤفكون﴾ أي كيف يصرفون الناس عن حقيقة التوحيد والتنزيه للخالق الذي جاء به سائر الرسل إلى الباطل الذي لا برهان عليه.
الثانية: اعتقادهم أن لغير الله سلطانًا مع الله وهذا أمر لم يأت في إنجيلهم أيضًا والإسلام ما جاء إلا ليحرر الناس من رق العبودية لغير الله. ممن لا يضر ولا ينفع ولا يشفع ولا يغني من الله شيئًا والحرية هي أقصى أماني الإنسان في الحياة فلو تدبر اليهود والنصارى القرآن وعرفوا حقيقة الإسلام لما ترددوا لحظة واحدة في نبذ تلك الخرافات التي يمليها عليهم قساوستهم ورهبانهم مما لا يقبله العقل ولا يقره المنطق السليم من ضرورة الاعتراف لهم بالذنوب وطلب الغفران منهم مما هم منغمسون فيه وقد أشار الله إلى هذه النقطة بقوله تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا﴾ يعظمونهم كتعظيمه ويحبونهم كحبه وينسبون إليهم من التصرفات ما لا يقدر عليه غير الله ويطيعونهم في كل ما يأمرونهم به: ﴿من دون الله﴾ فإذا أحلوا لهم شيئًا استحلوه وإذا حرموا عليهم شيئًا حرموه وإذا أمروهم بدعاء غير الله استجابوا لهم وأطاعوهم عاقين قوله الله تعالى: ﴿وأن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدًا﴾ قال عدي بن حاتم الطائي أتيت رسول الله ﷺ وفي عنقي صليب من ذهب وكان يقرأ سورة براءة فقال يا عدي اطرح هذا الوثن فطرحته فلما انتهى إلى قوله تعالى: ﴿اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله﴾ فقلت يا رسول الله ما كنا نعبدهم فقال أليسوا يحرمون ما أحل الله فتحرمونه ويحلون ما حرم الله فتستحلونه فقلت بلى فقال تلك عبادتهم: ﴿والمسيح ابن مريم﴾ بأن جعلوه ابنًا لله تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا، ولما كانت الربوبية تستلزم الألوهية بالذات إذ الرب هو الذي يجب أن يعبد وحده قال تعالى: ﴿وما أمروا إلا ليعبدوا إلهًا واحدًا﴾ لا يطيعون في الدين سواه إذ هو وحده الذي يملك حق التحليل والتحريم: ﴿لا إله إلا هو سبحانه﴾ ننزهه ونقدسه: ﴿عما يشركون﴾ معه أو من دونه من الأنبياء والأحبار والرهبان: ﴿يريدون﴾ أي النصارى واليهود: ﴿أن يطفئوا نور الله﴾ حجته الدالة على دعوة التوحيد
كان موافقًا لما جاء في القرآن أو مخالفًا له: ﴿إلا كنا عليكم شهودًا﴾ أي رقباء مطلعين عليكم: ﴿إذ تفيضون فيه﴾ أي تندفعون فيه سواء بتنفيذه بدقة أو بلغو زائد عن الحد لنجزيكم بمقتضاه: ﴿وما يعزب عن ربك﴾ أي لا يبعد ولا يغيب عن علمه ولا يخفى عليه شيء من المخلوقات حتى لو كانت: ﴿من مثقال ذرةٍ﴾ مما خف وزنه ودق حجمه وتطلق الذرة على الدقيقة من الهباء وهو الغبار الذي لا يرى إلا في ضوء الشمس الداخل من الكوي إلى البيت: ﴿في الأرض ولا في السماء﴾ في سائر أنحاء الموجودات السفلية والعلوية: ﴿ولا أصغر من ذلك ولا أكبر﴾ بفتح راء أصغر وأكبر وقرئ برفعهما: ﴿إلا﴾ هو معلوم ومرقوم: ﴿في كتابٍ مبينٍ﴾ من قبل خلقه فقد كان الناس يعتقدون إلى عهد قريب أن الذرة أو الجوهر الفرد هو قوام المادة لأنه أصغر أجزائها وليس أصغر منه ثم أثبت العلم أن الذرة تتألف من عدة وميضات كهربائية لا يعلم حقائقها غير الله خالقها وإن توصل المخترعون إلى اكتشاف مزاياها واستخدامها في التخريب والتعمير.
بعد أن فصل الله أحوال الجاحدين المكذبين بلقائه وما يكون مصيرهم وما ينالهم من عذاب يوم القيامة لا سبيل إلى تفاديه ونبههم إلى أن لله ما في السموات والأرض وأن وعد الله حق وذكرهم بآلائه وإحاطة علمه بكافة شئونهم وإحصائه لجميع أعمالهم أخذ يوجه أفكارهم إلى ما يجعلهم في مأمن من كل ما ذكر فقال: ﴿ألا إن أولياء الله﴾ الأولياء جمع ولي وهو النصير والمتولي للأمر والحكم أي الذين يسلمون أمر ولايتهم لله ولا يرضون بولاية غيره عليهم كما قال تعالى: ﴿الله ولي الذين آمنوا﴾ وهم ضد أعدائه الذين يدينون لمن دونه بالولاء والطاعة من المشركين والكافرين: ﴿لا خوف عليهم﴾ في الدنيا من تزلزل العقيدة والوقوع فيما يستوجب غضب الله، ولا في الآخرة من أهوال الموقف وعذاب جهنم: ﴿ولا هم يحزنون﴾ على ما يفوتهم في الدنيا من متع أو ما سيتركونه بالموت من مال وولد، ذلك لأن ولاية الله لهم من شأنها أن تكسبهم طمأنينة في النفس ورضاء بما يرضاه الله ويختاره لهم وليس من حقهم ولا في مقدورهم نفع أحد أو الشفاعة له عند الله وبالنظر لما يعلمه تعالى من الأباطيل التي سيدخل بها الشيطان إلى قلوب أوليائه من فهم لمعنى الأولياء وخصائصهم من أنهم جماعة قربهم الله إليه ومنحهم من الكرامات ما يستطيعون بواستطها خرق العادات والأخبار بالمغيبات وقضاء
@هو ما به أوحى الإله لعبده
#إنشاءه المسطور في الصفحات
@وهو الذي في الصدر محفوظ وما
#يجب التدبر فيه بالإنصات
@لا ينسبن لمن تلاه لأنه
#أصل وما التالون غير روات
﴿نحن نقص عليك﴾ أيها الرسول: ﴿أحسن القصص﴾ القصص مصدر أو اسم من قص الخبر إذا حدث به على أصح الوجوه وأصدقها، وقص الأثر إذا تتبعه وأحاط به خبرًا: ﴿بما أوحينا إليك هذا القرآن﴾ أي بإيحائنا إليك هذه السورة من القرآن: ﴿وإن كنت من قبله لمن الغافلين﴾ عما حدث ليوسف وأبيه وإخوته من تحاسد وما يعترض الإنسان من فتن ودسائس داخلية لا يمكن النجاة منها إلا بالاعتصام بالله ونيل المدد منه ولولانا لما علمت شيئًا من هذا كله.
وهنا بدأ الله بذكر هذه القصة التي هي من أحسن القصص المليئة بالعبر فقدم لها بذكر أساسها من أن طفلًا صغيرًا رأى في منامه رؤيا عادية كما يراها سائر الناس فقصها على والده ففهم تعبيرها وما تستهدف إليه فنبهه وأنذره بكيد إخوته له وبشره بما سيئول إليه أمره من حسن العاقبة فقال: ﴿إذ قال يوسف﴾ في طفولته: ﴿لأبيه﴾ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السلام: ﴿يا أبت﴾ بكسر التاء وقرئ بفتحها: ﴿إني رأيت﴾ في منامي: ﴿أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين﴾ من سجد البعير إذا خفض رأسه لراكبه عند ركوبه أي خاضعين له: ﴿قال﴾ يعقوب وقد فهم من تعبيره لهذه الرؤيا أن ابنه سيكون له بأس وسلطان يسود به أهله حتى أباه وأمه وإخوته: ﴿يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك﴾ لئلا يفهموا منها ما فهمت: ﴿فيكيدوا لك كيدًا﴾ أي يدبروا لك أمرًا يحول دونك ودون تحقيق هذه الرؤيا: ﴿إن الشيطان﴾ المخلوق الخفي الذي يجري من ابن آدم مجرى الدم: ﴿للإنسان عدو مبين﴾ أي ظاهر العداوة مما تجلى من أعماله التي بدأها بالحقد على آدم وعدم إطاعة أمر الله بالسجود له ثم بما أخذه على نفسه من إضلال أبنائه من بعده فهو لا يترك فرصة تمر به إلا اغتنمها لتنفيذ خطته:
لكم على الإضلال عن سبيل الله كما قال تعالى في سورة الزمر: ﴿وإذا مس الإنسان ضر دعا ربه منيبًا إليه ثم إذا خوله نعمة منه نسي ما كان يدعو إليه من قبل وجعل لله أندادًا ليضل عن سبيله قل تمتع بكفرك قليلًا إنك من أصحاب النار﴾ ولما كانت هذه الآية قد تشعر بأن التمتع بملاذ الحياة مما يؤدي إلى النار فينبغي تركها أردف ذلك بما يصحح هذا الفهم ويشير إلى أن التمتع بأنواع الملذات في هذه الحياة أمر مشروع لا بأس به ما دام مقترنًا بطاعة الله فقال: ﴿قل لعبادي﴾ بفتح الباء وقرئ بسكونها: ﴿الذين آمنوا يقيموا الصلاة﴾ أي يواظبوا عليها في أوقاتها: ﴿وينفقوا مما رزقناهم﴾ أي من بعض ما خلقناه لهم من أنواع الرزق: ﴿سرًّا﴾ في حال التطوع لما في ذلك من كرامة المتصدق عليه: ﴿وعلانية﴾ في حال إخراج الزكاة المفروضة ليتبارى الناس في هذا الميدان ولا يتخلف منهم متخلف: ﴿من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال﴾ أي لا يمكن ابتياع الحسنات ولا الحصول عليها عن طريق المحبة كما قال تعالى في سورة البقرة: ﴿يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة﴾.
بعد أن ذكر الله مصير الكافرين بنعمه الذين اتخذوا له تعالى أندادًا ثم أمر المؤمنين بإقامة شعائر الدين من صلاة وإنفاق من الرزق الذي منَّ به عليهم أخذ يعدد نعمته عليهم ليعرفوه بها وليشعروا بمبلغ فضله عليهم وأنهم إنما يدينون بالسعادة في كل شيء لله جل جلاله فقال: ﴿الله﴾ الذي بدلوا نعمه وجعلوا له الأنداد هو: ﴿الذي خلق السماوات والأرض﴾ دون أن يكون له معين: ﴿وأنزل من السماء ماءً﴾ وزعه في سائر أطراف المعمورة كل بقدر مخصوص: ﴿فأخرج به من الثمرات﴾ أي وجعل من شأنه وطبعه أن ينبت مختلف الثمرات مما يأكل الناس والأنعام: ﴿رزقًا لكم﴾ أي موادًا أساسية لتقيم صلبكم وتحفظ حياتكم ولولا ذلك لمتم من الجوع: ﴿وسخر لكم الفلك﴾ أي ألهمكم صنعها وجعل فيها من المزايا ما يجعلها تطفو على الماء فلا تغرق: ﴿لتجري في البحر بأمره﴾ لتتخذوا منها مركبًا يحملكم فوق سطح الماء ولولا أن الله قد أذن وقدر للمواد الأولية للسفن بأن تطفو على وجهه ولا تغرق. لما كان باستطاعتكم أن تركبوا البحر وتتنقلوا بين البلاد التي يحول البحر بينكم وبينها: ﴿وسخر لكم الأنهار﴾ تخترق الأراضي الشاسعة بمائها العذب لتشربوا منها وتتخذوا منها جداول وترع تسلطوها على الأراضي البور فتنبت لكم مختلف الأشجار ومختلف الزراعات بأبسط الوسائل: ﴿وسخر لكم الشمس والقمر دائبين﴾ أي
تعالى قد طبعهم على الكفر وحال دونهم ودون الإيمان إذ يكونون في هذه الحالة معذورين وغير مؤاخذين، ولمنع تطرق هذا الوهم إلى النفوس وصفهم الله بالغفلة فقال: ﴿وأولئك هم الغافلون﴾ الغفلة سهو يعتري الإنسان من قلة التحفظ والتيقظ وقد توعد الله الغافلين بالعذاب في مواضع كثيرة من القرآن وعليه: ﴿لا جرم﴾ أي لا بد ولا محالة: ﴿أنهم في الآخرة هم الخاسرون﴾ لما صدر منهم من الأعمال الستة الآتية «أولًا» لأنهم عرضوا أنفسهم لغضب الله «ثانيًا» لأنهم رضوا بالعذاب العظيم بعد أن أعلنوا به «ثالثًا» لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة «رابعًا» لأنهم لم يسلكوا السبل المؤدية للهداية «خامسًا» لأنهم عطلوا حواسهم عن تبين الحقائق «سادسًا» لأنهم رضوا أن يكونوا من الغافلين.
بعد أن بين الله حكم من كفر بعد إيمانه وحكم من أكره على الكفر وقلبه مطمئن بالإيمان أردف ذلك بحكم من لم يكن واحدًا من هذين فقال: ﴿ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا﴾ بضم الفاء أي الذين فتنهم المشركون فجاروهم على ضلالهم ولم يؤمنوا بالله ولم يهاجروا مع رسوله وقرئ «فتنوا» بفتح الفاء أي الذين ساهموا في فتنة الناس وتضليلهم وحالوا دونهم ودون الهجرة، هؤلاء إذا هاجروا ابتغاء مرضاة الله وأعلنوا إسلامهم: ﴿ثم جاهدوا﴾ في سبيل إعلاء كلمة الله بأقوالهم وأعمالهم: ﴿وصبروا﴾ على ما يصيبهم من فقر وضيق أو أذى نتيجة الشك في إسلامهم: ﴿إن ربك من بعدها﴾ أي بعد تلك الأعمال -الهجرة والجهاد والصبر- التي لا يعلم بمدى إخلاص الناس فيها غير الله: ﴿لغفور رحيم﴾ أي سيشملهم بمغفرته ورحمته: ﴿يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها﴾ أي يوم يأتي كل إنسان يدافع عن ذاته ولا يهمه أمر غيره كقولهم: ﴿فأضلونا السبيلا﴾ وقولهم: ﴿والله ربنا ما كنا مشركين﴾ ويقول الله: ﴿هذا يوم ينفع الصادقين صدقهم﴾.
﴿وتوفى كل نفس ما عملت﴾ أي تنال جزاء ما قدمت من عمل من غير بخس ولا نقصان: ﴿وهم لا يظلمون﴾ وهذا ينفي ما يزعمه القائلون بأن لله أن يعذب الطائع ويثيب العاصي لأن هذا ظلم ومعناه أنه يجوز له أن يظلم والله منزه عن الظلم وإنما نقول إن لله أن يرحم العصاة ولا يمكن أن يضيع أجر المحسنين ورحمته وسعت كل شيء.
كان موافقًا لما جاء في القرآن أو مخالفًا له: ﴿إلا كنا عليكم شهودًا﴾ أي رقباء مطلعين عليكم: ﴿إذ تفيضون فيه﴾ أي تندفعون فيه سواء بتنفيذه بدقة أو بلغو زائد عن الحد لنجزيكم بمقتضاه: ﴿وما يعزب عن ربك﴾ أي لا يبعد ولا يغيب عن علمه ولا يخفى عليه شيء من المخلوقات حتى لو كانت: ﴿من مثقال ذرةٍ﴾ مما خف وزنه ودق حجمه وتطلق الذرة على الدقيقة من الهباء وهو الغبار الذي لا يرى إلا في ضوء الشمس الداخل من الكوي إلى البيت: ﴿في الأرض ولا في السماء﴾ في سائر أنحاء الموجودات السفلية والعلوية: ﴿ولا أصغر من ذلك ولا أكبر﴾ بفتح راء أصغر وأكبر وقرئ برفعهما: ﴿إلا﴾ هو معلوم ومرقوم: ﴿في كتابٍ مبينٍ﴾ من قبل خلقه فقد كان الناس يعتقدون إلى عهد قريب أن الذرة أو الجوهر الفرد هو قوام المادة لأنه أصغر أجزائها وليس أصغر منه ثم أثبت العلم أن الذرة تتألف من عدة وميضات كهربائية لا يعلم حقائقها غير الله خالقها وإن توصل المخترعون إلى اكتشاف مزاياها واستخدامها في التخريب والتعمير.
بعد أن فصل الله أحوال الجاحدين المكذبين بلقائه وما يكون مصيرهم وما ينالهم من عذاب يوم القيامة لا سبيل إلى تفاديه ونبههم إلى أن لله ما في السموات والأرض وأن وعد الله حق وذكرهم بآلائه وإحاطة علمه بكافة شئونهم وإحصائه لجميع أعمالهم أخذ يوجه أفكارهم إلى ما يجعلهم في مأمن من كل ما ذكر فقال: ﴿ألا إن أولياء الله﴾ الأولياء جمع ولي وهو النصير والمتولي للأمر والحكم أي الذين يسلمون أمر ولايتهم لله ولا يرضون بولاية غيره عليهم كما قال تعالى: ﴿الله ولي الذين آمنوا﴾ وهم ضد أعدائه الذين يدينون لمن دونه بالولاء والطاعة من المشركين والكافرين: ﴿لا خوف عليهم﴾ في الدنيا من تزلزل العقيدة والوقوع فيما يستوجب غضب الله، ولا في الآخرة من أهوال الموقف وعذاب جهنم: ﴿ولا هم يحزنون﴾ على ما يفوتهم في الدنيا من متع أو ما سيتركونه بالموت من مال وولد، ذلك لأن ولاية الله لهم من شأنها أن تكسبهم طمأنينة في النفس ورضاء بما يرضاه الله ويختاره لهم وليس من حقهم ولا في مقدورهم نفع أحد أو الشفاعة له عند الله وبالنظر لما يعلمه تعالى من الأباطيل التي سيدخل بها الشيطان إلى قلوب أوليائه من فهم لمعنى الأولياء وخصائصهم من أنهم جماعة قربهم الله إليه ومنحهم من الكرامات ما يستطيعون بواستطها خرق العادات والأخبار بالمغيبات وقضاء
وهو الجهاد في سبيل إعلاء كلمة الله بالنفس والمال فقال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ﴾ وخطاب النبي خطاب للأمة بجميع أفرادها: ﴿جَاهِدِ﴾ وإنما وجه إليه الأمر بالجهاد باعتباره هو الرأس الذي يقرره ويرسم خططه: ﴿الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ﴾ أي جاهد كل من يعلن كفره ومن يخفيه: ﴿وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ أي استعمل الشدة والحزم في معاملتهم ولا تأخذهم باللين والرأفة فيظنوا ضعفك فلا تؤثر فيهم أقوالك: ﴿وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ﴾ في الآخرة: ﴿وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ مصيرهم الذي انتهوا إليه بمحض اختيارهم واتباعهم سبل الضلال، ولدعم هذه الحقيقة وهي أن الإنسان لا ينفعه ولا يضره يوم القيامة إلا ما قدمت يداه، ولأجل أن لا يطمع نساء النبي في شفاعته ويحسبن أن مجرد انتسابهن إليه مما ينجيهن من العذاب وغيرهن من باب أولى: ﴿ضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ كَفَرُوا اِمْرَأَةَ نُوحٍ وَاِمْرَأَةَ لُوطٍ﴾ أي اعتبرا مثلًا للكفر لأنهما: ﴿كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ﴾ هما نوح ولوط: ﴿فَخَانَتَاهُمَا﴾ أي نقضتا عهدهما ولم تحفظا أمانتهما في السر ولعل المراد أنهما كانتا تفشيان أسرارهما فكان هذا بمثابة الكفر برسالتهما: ﴿فَلَمْ يُغْنِيَا﴾ أي نوح ولوط: ﴿عَنْهُمَا مِنَ اللهِ شَيْئًا﴾ أي لم تشفع لهما صلتهما بهما عند الله: ﴿وَقِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ﴾ من سائر البشر: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ﴾ وهي آسية بنت مزاحم التي كانت على رغم صلتها بفرعون تكفر به وتؤمن بالله واليوم الآخر: ﴿إِذْ قَالَتْ﴾ عندما علم فرعون بإيمانها وصار يعذبها عذابًا أليمًا احتملته عن طيب نفس وهي تقول: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ فقد آمنت بك ورضيت بكل ما أصابني من أجلك: ﴿وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ﴾ وعذابه لي: ﴿وَعَمَلِهِ﴾ أي لا تؤاخذني بسيئاته فإني بريئة من كل ما يصدر منه: ﴿وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ أي لا تؤاخذني بظلم غيري من الظالمين: ﴿وَمَرْيَمَ ابْنَةَ عِمْرَانَ﴾ أم عيسى عليه السلام: ﴿الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا﴾ التي اتصفت بالعفة والطهارة: ﴿فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا﴾ أي سلطنا عليه من قوة الروح ما جعلها تحمل من غير أب: ﴿وَصَدَّقَتْ﴾ بالتخفيف والتشديد أي آمنت وأيقنت: ﴿بِكَلِمَاتِ﴾ وقرئ «بكلمة» بالإفراد: ﴿رَبِّهَا﴾ التي أوحى بها إليها والتي منها قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (٤٢) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ ومنها قوله: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (٤٥) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾.
سورة الإنسان
﴿هَلْ أَتَى عَلَى الإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً (١) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً (٢) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً (٣) إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلاسِلا وَأَغْلالاً وَسَعِيراً (٤) إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً (٥) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً (٦) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (٧) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً (٨) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُوراً (٩) إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (١٠) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً (١١) وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً (١٢) مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأَرَائِكِ لا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلا زَمْهَرِيراً (١٣) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً (١٤) وَيُطَافُ عَلَيْهِم بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (١٥) قَوَارِيرَ مِن فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً (١٦) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً (١٧) عَيْناً فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (١٨) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً (١٩) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً (٢٠) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً (٢١) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً (٢٢) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنزِيلاً (٢٣) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (٢٤) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٢٥) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (٢٦) إِنَّ هَؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (٢٧) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً (٢٨) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَن شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً (٢٩) وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً (٣٠) يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (٣١)﴾
وتسمى: ﴿الدهر﴾ لقد خطّأ الله في السورة السابقة الإنسان في تصوره بأنه إنما خلق هكذا من غير غاية وأشار إليها بأنها هي الحياة الأخرى وأقام الدليل على صحة البعث بالخلقة الأولى وما طرأ عليها من تطورات ثم أخذ يوضح في هذه السورة الحكمة الإلهية من خلق الإنسان وإيجاده من العدم فقال: ﴿هل﴾ يستطيع أحد أن ينكر أنه: ﴿أتى على الإنسان﴾ أي مطلق إنسان: ﴿حين من الدهر﴾ أي قبل وجوده أو قبل خلقه في بطن أمه: ﴿لم يكن شيئًا مذكورًا﴾ بمعنى لا وجود له في
﴿الْمَبْثُوثِ﴾ المنتشرة بكثرة يهيمون على وجوههم لا يدرون ماذا يصنعون، ولا ماذا سيكون مصيرهم،: ﴿وَتَكُونُ الْجِبَالُ﴾ وغيرها من جميع الماديات: ﴿كَالْعِهْنِ﴾ أي الصوف: ﴿الْمَنفُوشِ﴾ الذي تنفشه بيدك أو بآله فتفرق شعراته بحيث تصبح في حالة تتطاير مع الريح فلم يعد له أي قيمة بمعنى أنه في الوقت الذي لا عبرة فيه بضخامة الأجسام بل بنبل الصفات: ﴿فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ﴾ بما قدم في حياته الدنيا من أعمال صالحات وفضائل ومكرمات: ﴿فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ﴾ لا يشوبها همٌّ وقلقٌ أو ألم وأرق: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ﴾ لتغلب سيئاته على حسناته أو لتجرده من الفضائل وأعمال الخير: ﴿فَأُمُّهُْ﴾ التي يأوي إليها وتحتضنه: ﴿هَاوِيَةٌ﴾ اسم من أسماء جهنم سميت بذلك لكونها مهواة سحيقة: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ﴾ أي ما هي تلك الهاوية إنها: ﴿نَارٌ حَامِيَةٌ﴾ أي شديدة الحرارة أجارنا الله منها بمنه وكرمه.
سورة التكاثر

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨)﴾
سورة التكاثر: بعد أن قرّر الله في السورة السابقة بأن سعادة الناس وشقاءهم لا تظهر ولا تتبين إلا في يوم القيامة عند عرض الأعمال ووزنها بميزان العدالة الكاملة أخذ سبحانه في هذه السورة يفند أعمالهم في هذه الحياة وينبههم إلى ما تؤدي إليه وما هو الأمر الذي سيحاسبون عليه في يوم القيامة فقال: ﴿أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ﴾ أي شغلكم التكالب على المادة وطلب المزيد منها إذ جعلتموها غايتكم من الحياة بحيث أصبحتم تؤثرونها على طاعة الله وتعبدونها من دونه وضننتم بها في سبيل مرضاته: ﴿حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ﴾ أي حتى انتقلتم من حياة القصور الفخمة إلى حياة القبور الضيقة بالموت الذي لا مفر منه ولم تصبحوا معكم شيئاً مما كنتم تجدّون في الإكثار منه ولو أنفقتموه في سبيل الله لوجدتم جزاءه عنده وإن في قوله تعالى: ﴿زُرْتُمُ﴾ ما يشير إلى أن الموت ليس هو نهاية الحياة بل لا بد أن يعقبه بعث وحياة أخرى دائمة وأن المكث في القبر لا يكون طويلاً لأن الزائر لا بد وأن يرجع إلى منزله ومقره الأخير: ﴿كَلاَّ﴾ زجر عن اتخاذ المال غاية في الجمال: {سَوْفَ


الصفحة التالية
Icon