خير يرجى منهم ما داموا على هذه الحال ﴿ومن الذين أشركوا﴾ ستجد أيضًا من يحرص على الحياة بحيث ﴿يود أحدهم لو يعمر ألف سنةٍ﴾ والحياة الدنيا إنما جعلت لتكون مزرعة للآخرة، وسبيلًا للتخلص من عذاب الله، فماذا تفيدهم الحياة إذا لم يستغلوها في سبيل إرضاء الله؟ وماذا يجديهم طول العمر إذا ما انتهى بالموت ﴿وما هو بمزحزحه من العذاب أنه يعمر﴾ على أن إطالة العمر لا تزحزح عن العذاب، فلأي شيء إذن كل هذا الحرص على الحياة؟ ﴿والله بصيرٌ بما يعملون﴾ والله مطلع على ما يصنعون، وسيحاسبهم حسابًا عسيرًا على كل ما اقترفوه في هذه الحياة التي فتنوا بحبها، ومضوا فيها على غير هدى.
وهذا تحذير للمؤمنين من التكالب على الدنيا، والتفاني في سبيلها إلى حد يدعو إلى كراهة الموت، لئلا يتقاعسوا عن واجب الجهاد لإعلاء كلمة الله، ويضنوا عن الإنفاق في سبيله، وهذا من أكبر العوامل في تأخر الأمم؛ ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «يوشك أن تداعى الأمم عليكم كما تداعى على القصعة أكلتها، قالوا: أمن قلة نحن يومئذ يا رسول الله؟ قال: لا بل أنتم كثير ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم وليقذفن في قلوبكم الوهن، قالوا: وما الوهن يا رسول الله؟ قال: حب الدنيا وكراهة الموت».
«الطبع التاسع» من طبائع بني إسرائيل: خصومتهم لكل من يدعو إلى الحق، وقد تجلى ذلك في إعلانهم الخصومة ضد جبريل باعتباره هو الملك الذي عهد إليه إنزال القرآن على النبي العربي، فإنهم لما طبعوا عليه من عداوة كل داع إلى الحق، زعموا أن جبريل عدوهم، لأنه أمر أن يجعل الرسالة فيهم، فجعلها في غيرهم. وقالوا للمؤمنين لو أن ميكائيل هو الذي ينزل عليكم لاتبعناكم فإنه ينزل بالرحمة والغيث، فكشف الله سرهم، وصرح لهم بأن عداوة الداعين للحق عداوة للحق نفسه، بل عداوة للآمر به وهو الله سبحانه وتعالى حيث قال ﴿قل﴾ أيها الرسول ﴿من كان عدوًّا لجبريل﴾ بكسر الجيم وقرئ بفتحها وكسر الراء وقرئ أيضًا بفتح الجيم والراء مهموزًا بمعنى أن من كان يعاديه للسبب الذي يزعمونه فإن عداءه باطل، لأنه لم يكن لجبريل أي تصرف في الأمر، بل هو ملك رسول منفذ لإرادة ربه. وعند ما أمر بتبليغ القرآن إليك ﴿فإنه نزله على قلبك﴾ عن حكمة إلهية ﴿بإذن الله﴾ وأمره، وهذه الحكمة هي أن يكون ﴿مصدقًا﴾ ومؤيدًا ﴿لما﴾ سبق ﴿بين يديه﴾ من كتب الأنبياء السابقين، ليكون دينًا قيمًا
فتنظروا إليها نظرة عدم المكترث دون ملاحظة الحكمة فيها وما يترتب على عدم العمل بها وذلك بعدم تطبيقها لأن المقتنع بثمرة الأمر لا بد أن يأتيه، والمتردد في تنفيذ أمر دليل على وجود تشكك لديه في نفعه فكأنه يستهزئ به، وهذا تهديد عظيم من الله جلت قدرته لكل من يقدم على عصيان الله ومخالفة أحكامه ﴿واذكروا﴾ ولا تنسوا ﴿نعمة الله﴾ التي امتن بها ﴿عليكم﴾ معشر الأزواج وهي المودة والرحمة في قوله تعالي – ﴿وجعل بينكم مودة ورحمة﴾ – أي فلا تكفروا بها وتحلوا محلها العداوة والبغضاء ﴿وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة﴾ ولا تنسوا ما أنزل عليكم في هذا الصدد من آيات وما وراء هذه الآيات من حكمة تترتب عليها ﴿يعظكم به﴾ أي بما أنزل ﴿واتقوا الله﴾ وراقبوه بقلوبكم وضمائركم واحذروا بطشة وعقابه ﴿واعلموا أن الله بكل شيء عليم﴾ فلا يخفى عليه شيء من أعمالكم ونواياكم وسوف يعاقبكم على كل شيء تخالفون فيه أوامره.
بعد أن أوجب الله على المؤمنين عدم مضارة المرأة في حالة الإمساك أوجب عدم مضارتها في حالة التسريح بعد انقضاء العدة فقال ﴿وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن﴾ دون أن تراجعوهن ﴿فلا تعضلوهن﴾ أي تحولوا دونهن ودون الزواج بمن يردن بجحود طلاقهن أو ادعاء الرجعة في العدة أو تهديد من يرغب زواجها أو الكلام في سمعتها بما ينفر الأزواج منها ﴿أن ينكحن أزواجهن﴾ الذين يرغبون فيهن ﴿إذا تراضوا بينهم﴾ إذا حصل الاتفاق بينهم ﴿بالمعروف﴾ بالطريقة المعروفة شرعا وعرفًا ﴿ذلك﴾ الأمر الإلهي بعدم العضل ﴿يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر﴾ لأن الإيمان الصحيح يقتضي العمل به. أما من لم يكن يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يكترث بالأمر ولا يتعظ منه ﴿ذلكم﴾ الامتناع عن عضل النساء ﴿أزكى لكم﴾ وأرفع لذكركم من أن ينسب إليكم الظلم ﴿وأطهر﴾ لأنسابكم لأن عضل النساء والتضييق عليهن قد يكون سببًا في
كرم الله يمنحه لمن يستجيب لأوامره، ويتبع سننه، ويطبق دستوره في الحياة، حيث قال «وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم».
وقد أمر الله رسوله في القرآن بقوله «يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال إن يكن منكم عشرون صابرون يغلبوا مائتين وإن يكن منكم مائة يغلبوا ألفا من الذين كفروا بأنهم قوم لا يفقهون» وضرب الأمثال على هذا بما كان عليه حال المؤمنين في بدر من القلة، وما كانوا عليه من الكثرة في وقعة حنين عندما قال قائل منهم لن نغلب اليوم من قلة حيث قال «ولقد نصركم الله ببدر وأنت أذلة فاتقوا الله». وقال «لقد نصركم الله في مواطن كثيرة ويوم حنين إذا أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئًا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين».
من الناس من يتصور أن ما كتب لصحابة رسول الله ﷺ رغم قلتهم إنما كان من معجزات الرسول، وتأييد الله له بملائكة تقاتل في صفوفه، وقد انتهى كل ذلك بوفاته عليه الصلاة والسلام وصحابته الأولين رضوان الله عليهم أما اليوم فقد مضى زمن المعجزات والكرامات وأصبحنا في وقت لا ينفع فيه غير المدافع والقنابل الذرية، والنصر مرتبط بكثرة العدد ووافر العدة، وهذا في الواقع رأي خاطيء من أساسه فالرسول عليه الصلاة والسلام لم يعتمد في دعوته على السلاح، ولم يتكل في حربه على مجرد صلته بالله، وجهاده في سبيل نشر دين الله، بل إنه كان يسير في الحياة وفق سنن الله بتطبيق دستوره الأزلي الذي يقضي أولًا وقبل كل شيء بالإيمان بأن النصر من عند الله، فلا بد من طلبه منه وثانيًا عدم الخوف، من الناس وثالثًا الأخذ بأسباب القوة والاستعداد للحرب بقدر المستطاع فهذه الشروط الثلاثة لا بد من توافرها لدى كل من يريد النصر سواء كان من المسلمين أو النصارى أو غيرهم من الملل، أما التزام أحد الشروط دون الأخرى، فذلك مما لا يؤدي إلى النصر بل ربما كان سببًا في الخذلان وفق دستور الله الأزلي الذي نتحدث عنه والمستنبط من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ التي سنها للناس ليتبعوه فيها، فيحرزوا من النصر على أعدائهم مثل ما أحرز الرسول وصحبه من قبل، إذ أن الله سبحانه قد أخذ على نفسه عهدًا بأن ينصر كل من استنصر به وهو لا يمكن أن يختلف عهده، أما من لا
الفلاة البعيدة التي لا ماء بها فلا يصل إليها أحد ﴿من العذاب﴾ بل إنهم قريبون منه بانتصار أهل الحق عليهم وكشف أمرهم وحلول نقم الله السماوية بهم في هذه الحياة الدنيا ﴿ولهم﴾ في الآخرة ﴿عذاب أليم﴾ جزاء على ذلك ﴿ولله ملك السماوات والأرض﴾ فأنى لهم بالنجاة من عذابه؟ ﴿والله على كل شيء قدير﴾ لا يعجزه شيء من أمرهم.
بعد أن اخبر الله رسوله بمصير أهل الكتاب الذين أساءوا إلى الكتاب بنبذه وكتمانه والإتجار به، وفرحوا بمدح الناس لهم، أخذ يبين له جل وعلا بأن أولئك القوم قد ضلت عقولهم فحرموا من نعمة العقل الكامل والتمتع بلذة الحياة الحقة حيث قال ﴿إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب﴾ الذين إذا نظروا إلى السموات والأرض لم تخدعهم مظاهرها، بل إنما ينصرف تفكيرهم إلى دقة صنعها وعظمة خالقها، وإذا رأوا اختلاف الليل والنهار لم يقتصر نظرهم إلى مجرد أنهما ظلمة وضياء، بل إنما يحملهم هذا على التأمل في سر هذا التطور وماله من مزايا وما وراءه من غاية، فيكون لهم من ذلك آيات تدلهم على وجود الله إذ يوقنون بأنه لابد لهذا الخلق العظيم من خالق مدبر حكيم، أما من لم ينظر إلى ما يحوطه من سماء وأرض وليل ونهار من هذه النواحي نظرة تدقيق فلا يتخذ من ذلك دليلاً على قدرة الله فيعتبر فاقد اللب قصير النظر، ومن أجل هذا وصف الله أرباب الألباب بقوله ﴿الذين﴾ ترونهم ﴿يذكرون﴾ بألسنتهم وقلوبهم ﴿الله﴾ الخالق لكل شيء عند نظرهم لكل صغير وكبير من خلقه في كل لحظة ﴿قياما وقعودا وعلى جنوبهم﴾ فهم في هذه الحالات الثلاث محاطون بالأرض والسماء ملازمون لواحد من الليل أو النهار شاعرون بقلوبهم بوجود خالق الكل يلتذون بذكرهم له بالتأمل في آثار الكائنات الدالة عليه سبحانه ﴿ويتفكرون في خلق﴾ الله لهذه ﴿السماوات والأرض﴾ وما فيها من عجائب المخلوقات وأسرار الكائنات تفكيرًا يحملهم على الإيمان باليوم الآخر، فما من شك بأن عظمة هذا الكون وما فيه من مخلوقات يدل دلالة قاطعة على وجود خالق له عظيم اتصف بالقدرة الكاملة على الخلق والإبداع وحسن التدبير ودقة النظام. ومتى ثبت هذا فإن العقل لا يسلم بأن ربا اتصف بهذه الصفات العالية يمكن أن يقيم خلقًا عظيمًا كهذا الخلق ثم يأتي عليه ويهدمه من غير حكمة أو سبب هو إعادة بشكل آخر أعظم وأرقى، ولولا ذلك لكان هذا الخالق عابثًا سيء التصرف فلا يسعهم إلا أن ينزهوا الله تعالى عن ذلك بقولهم ﴿ربنا ما خلقت هذا باطلا﴾ فإن نظرة
حال الإقامة على مجرد القيام بواجب الصلاة فإلى جانبها يجب أن لا تنسوا أنكم مطالبون باستعداد للحرب دائمًا والجهاد في سبيل الله بالنفس والمال فلا تستكينوا ولا ترضوا لأنفسكم الضيم ﴿ولا تهنوا في ابتغاء القوم﴾ أي الذين ناصبوكم العداء واضطروكم على الهجرة فرارًا بدينكم بل اعملوا على مهاجمتهم لنصر دينكم وتحرير المستضعفين من إخوانكم المسلمين من رق الاستعمار الممقوت وألا يدخل نفوسكم أي خوف من لقائهم فلديكم من القوى المعنوية ما لا أثر له عندهم وذلك لأن خوف الموت وإن كان أمرًا طبيعيًا في كل إنسان فإنكم ﴿إن﴾ بكسر الألف ﴿تكونوا تألمون﴾ من الاصطلاء بنار الحرب ﴿فإنهم يألمون كما تألمون﴾ ولكن ما يدفعكم إليه غير ما يدفعهم إليه فأنتم تجاهدون في سبيل الله الذي يملك من وسائل القوى ما لا يملكون والذي يقدر وحده على نصر من يريد بما لم يكن في الحسبان ﴿وترجون من الله﴾ وحده النصر في الدنيا وحسن الجزاء في الآخرة وهو القادر على كل ذلك ﴿ما لا يرجون﴾ لأنهم إنما يعتمدون في قتالهم على قوتهم المحدودة ولا يؤملون النصر إلا عن طريقها ولا يطمعون بحسن جزاء في الآخرة وشتان بين من يعتمد على الأسباب ولا يطمع بعد موته بحياة وبين من يحصر ثقته بمسبب الأسباب ويؤمن بالحياة الآخرة وما يؤمله فيها ﴿وكان الله عليمًا﴾ بكل وسائل النصر ﴿حكيمًا﴾ إذ جعل أمر النصر خاصًّا به جل وعلا إذا لو كان راجعًا إلى القوى المادية لتحكم الأقوياء في الضعفاء واستعبدوهم وعم الفساد وساد الطغيان
لقد أمر الله المؤمنين في عدة آيات سابقة بطاعة الله وطاعة رسوله وأملى عليهم جل وعلا من الأحكام العامة ما فيه رضاء ثم أخذ يضع لرسوله الأسس التي ينبغي أن
دون أن يكون لكم مصلحة في ذلك
<٦٦>
(وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ) ويرضى بحمايتهم (فَإِنَّهُ مِنْهُمْ) أي فيعطي حكمهم فلا يؤجر على العمل معهم ولا يعد شهيداً إذا هو قتل في صفوفهم وتحت رايتهم (إِنَّ اللَّهَ) في دستوره (لَا يَهْدِي) إلى الحق أو إلى أسرار التشريع (الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) لأنفسهم باستعمال مواهبهم في غير ما خلقت له من طلب الهداية واستمداد العزة من غير مانحها وهو الله ومن أجل هذا عم الضلال في الأرض (فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ومرض القلوب ضعف إيمانها (يُسَارِعُونَ فِيهِمْ) أي يندمجون فيهم من شدة التقرب إليهم بتوثيق علاقتهم بهم والرضاء بحكمهم ومناصرتهم و (يَقُولُونَ) صراحة للناس تبريرا لعملهم (نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ) أي مصيبة كبيرة مما يدور به الزمان أو أن تدول الدولة لهم ونحن ضعفاء فلا نجد من يحمينا ويرد العدوان عنّا غيرهم وكل هذا مما يتنافى مع الإيمان الكامل بالله وأنه تعالى وحده الذي يملك النصر وتفريج الكرب والعون على النائبات (فَعَسَى اللهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ) أي يفتح قلوب المؤمنين إلى الاهتداء بهدي القرآن فيعتمدوا على الله ويرجعوا إليه في كل شؤونهم حتى ينالوا نصره (أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ) بنصر القلة من المؤمنين على أعداء الله المستعمرين وتحرير بلاد الإسلام من طغيانهم بمعجزة إلهية تدهش عقول أولئك الذين كانوا يثبتون نفوذهم في البلاد فيثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا إلى ربهم ويؤمنوا بقدرته (فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) يتوارون خجلا من الناس (وَيَقُولُ) وقرئ «يقولُ» بغير واو العطف وقرئ «ويقولَ» بنصب اللام (الَّذِينَ آمَنُوا) لأولئك الذين يوالون أعداء الله من أذناب الاستعمار (أَهَؤُلَاءِ) المستعمرون (الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ) ما بالهم لم يمدوكم ولم ينصروكم ولم يخلصوكم من قضاء الله (حَبِطَتْ) أي فسدت (أَعْمَالُهُمْ) بما اتضح من سوء نواياهم (فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ) في الدنيا بما فقدوه من سلطة ونفوذ وما نالهم من فضيحة وعار.
<٦٧>
وكأني بهاتين الآيتين قد صورتا قبل مئات السنين ما عليه حال المسلمين اليوم وإن في قوله تعالى
خطئهم ﴿لعلهم يتقون﴾ أي يخافون مغبة المعارضة والمقاطعة ﴿وذر﴾ أي دع ولا تحفل بأمر ﴿الذين اتخذوا دينهم﴾ أي الأعمال التعبدية التي يأمر بها الدين والتي يجب أن تؤدى في خضوع وخشوع بغية التقرب إلى الله وطلب رضاه ﴿لعبًا ولهوًا﴾ كأن يتخذوا من تلاوة آي القرآن ومديح الرسول أناشيد غنائية يلجئونها على توقيع الأوتار ويطربون لسماع ألحانها دون فهم لمعانيها، أو أن يجعلوا من أعياد الإسلام التي شرعت للعبادة وذكر الله مواسم للهو والفسوق ﴿وغرتهم﴾ أي أورثتهم داء الغرور ﴿الحياة الدنيا﴾ بما حسبوا لأنفسهم فيها من علوم ومعارف وقدرة وسلطان فشغلوا بلذاتها الحقيرة الفائدة المشوبة بالمنغصات عما جاءهم من الحق مؤيدًا بالآيات البيّنات ﴿وذكر﴾ أي واقتصر على مجرد التذكير ﴿به﴾ أي بالقرآن الذي أمرت بالتذكير به في آية أخرى بقوله: ﴿فذكر بالقرآن من يخاف وعيد﴾ ولا تتجاوز حد التذكير خشية ﴿أن تبسل﴾ أي تشتد يقال هذا يوم باسل أي شديد ورجل باسل أي شجاع ممتنع عن أقرانه ﴿نفس بما كسبت﴾ أي لا تتجاوز حد التذكير مع هذا الفريق من الناس المغرور بنفسه من مدعي العلم بكل شيء لئلا تستثير في نفس أفراده كبرياءها إذا ما أغلظت لها القول لعظم ما اكتسبت من السيئات في حين أنه ﴿ليس لها﴾ أي للنفس من تعتمد عليه في حال تبسلها وعنادها ﴿من دون الله ولي ولا شفيع﴾ ولكن تلك سنة الله في الخلق ﴿و﴾ في حين أنها ﴿إن تعدل كل عدل﴾ العدل: ما عادل الشيء وساواه من غير جنسه كما في قوله تعالى: ﴿أو عدل ذلك صيامًا﴾ بمعنى أن النفس إن تأت بكل ما تملكه من الحسنات لتعدل به ما اكتسبت من السيئات وتتفادى به العذاب ﴿لا يؤخذ منها﴾ أي لا يقبل منها ذلك العدل أو الفداء، فالنجاة من العذاب ونيل رضاء الله لا يكون إلا باتباع ما جاء في كتاب الله من الإيمان والعمل الصالح الذي تتزكى به الأنفس لا بالشفاعة والفداء ﴿أولئك الذين أبسلوا بما كسبوا﴾ أي اشتدوا في عنادهم لما اجترحوا من السيئات واتخذوا دينهم لعبًا ولهوًا وغرتهم الحياة الدنيا حتى أحاطت بهم خطاياهم ولم يكن لهم من دينهم ما يزجرهم عنها ﴿لهم شراب من حميم﴾ أي ماء شديد الحرارة، جزاء إبسالهم بما كسبوا ﴿وعذاب أليم بما كانوا يكفرون﴾ أي جزاء كفرهم. وهذا نهي عن الدخول في جدل مع أصحاب الأهواء الذين لا ينظرون إلى الدين نظرة حرمة، بل يتخذونه لعبًا ولهوًا تقليدًا لآبائهم أو ما أقره مشايخهم من الأحكام التي تتعارض ونصوص القرآن.
بعد أن عرفت الآية السابقة الناس بحقيقة الربوبية جاءت هذه الآية على إثرها لإفهامهم ما يقتضيه ذلك من وجوب توحيد الألوهية وهو إفراده تعالى بالعبادة وروحها ومخها الدعاء بل هي الدعاء بذاته لقوله ﷺ الدعاء هو العبادة فقال ﴿ادعوا ربكم﴾ أي ما دمتم قد عرفتم أن لكم ربًّا هو الذي خلقكم وخلق السموات والأرض فادعوه والدعاء هو توجه القلب بطلب الشيء إلى من يملك ذلك الشيء وهو الله فاطلبوا منه ما تريدون مما أنتم في حاجة إليه يؤته لكم ولكن بشرط أن يكون الدعاء موصوفًا بحالتين الأولى كونه ﴿تضرعًا﴾ أي في تذلل وابتهال إلى الله وتصور لقربه منكم يسمع ويرى. والحالة الثانية ﴿وخفية﴾ أي سرًّا لقوله تعالى: ﴿واذكر ربك في نفسك تضرًعا وخفية ودون الجهر من القول﴾ أو في حال الاعتزال عن الناس حتى لا يشوبه شيء من الرياء والتصنع ﴿إنه﴾ أي ربكم ﴿لا يحب المعتدين﴾ أي المتجاوزين في الدعاء حد الضراعة والخفية أو التوجه به إلى غير الله من باب أولى فقد امتدح الله دعاء نبيه زكريا ﴿إذ نادى ربه نداء خفيا﴾ وثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال كنا مع النبي ﷺ في سفر فجعل الناس يجهرون بالتكبير فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصمًا ولا غائبًا إنكم تدعون سميعًا قريبًا وهو معكم» وروى أحمد وأبو داود عن أبي وقاص أنه سمع ابنًا له يقول اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها وكذا وكذا. وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها فقال لقد سألت الله خيرًا كثيرًا وتعوذت من شر كثير وإني سمعت رسول الله ﷺ يقول «سيكون قوم يعتدون في الدعاء فإياك أن تكون منهم» ولقد صدق رسول الله وأصبحنا في وقت استخفت الناس فيه بالدعاء واعتدوا فيه وصاروا يرسلونه من أفواههم بلا حساب ومن غير قصد ودون يقين بالإجابة أو تصور لله أثناء ترتيلهم لحزب البر والبحر وما أشبه ذلك من الأدعية ودلائل الخيرات التي يسردونها من غير وعي كالببغاء ومنهم من يوجهه إلى غير الله ولا يرى في ذلك من حرج عليه لأن علماء الدين لا ينهونهم عنه. ﴿ولا تفسدوا في الأرض﴾ بإفساد عقائد الناس وإبعادهم عن الله ﴿بعد إصلاحها﴾ بما أنزله تعالى من شرائع من شأنها أن ترفع مستواهم العقلي والعملي وتجعلهم يعتمدون على الله كل الاعتماد فيصلح بذلك أمر دينهم ودنياهم وآخرتهم ﴿وادعوه﴾ أي الجئوا إليه ﴿خوفًا﴾ خائفين من عقابه وفي حال الخوف من كل شيء يسؤكم من أمر الدنيا والآخرة يؤمن الله خوفكم ويغفر ذنوبكم ﴿وطمعًا﴾ أي حال كونكم طامعين في رحمته واثقين
وكيف يطرأ الشرك بالله عليهم عن طريق كفرانهم بنعم الله واعتمادهم على الأسباب دون المسبب فقال ﴿هو﴾ أي الله الذي أرسلني لإنذاركم ﴿الذي خلقكم﴾ جميعًا ﴿من نفس﴾ وهي كما قدمنا مخلوق خفي قائمة بنفسها تصعد وتنزل وتتصل بالجسم وتنفصل عنه دون أن ترى شأنها في ذلك كشأن سائر المخلوقات التي تسبح في هذا العالم غير المنظور وقد فصلنا أمرها في الصفحة ٣٢ من الجزء الثالث من التفسير ﴿واحدة﴾ ذلك أن كل خلية من الخلايا التي يتكون منها الجسم الحي لا بد أن تنطوي على حويتين ذكر وأنثى فإذا لم يجتمعا لم ينسلا ﴿وجعل منها﴾ أي من هذه النفس المتحدة ﴿زوجها﴾ الزوج كل واحد معه آخر من جنسه يقال للاثنين «هما زوجان» بمعنى ثم أخرجناهما إلى الدنيا نوعين ذكر وأنثى كما قال تعالى: ﴿يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى﴾ وهكذا سائر أجناس الأحياء كما قال تعالى: ﴿ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون﴾ والحكمة أو الغاية من هذا بينها الله بقوله ﴿ليسكن إليها﴾ أي ليطمئن ويرتاح كل منهما إلى زوجه وينسى جميع همومه أثناء ذلك الاجتماع ﴿فلما تغشاها﴾ معنى الغشاء الغطاء الذي يستر الشيء من أعلاه أي فلما أصبح الرجل كالغطاء للزوجة ﴿حملت حملًا خفيفًا﴾ أي علقت منه بشيء بسيط لا تشعر به هو الحوينة المنوية ﴿فمرت به﴾ أي فمضت به تحمله وهي مستمرة في أعمالها وقضاء حاجاتها من غير مشقة إلى قرب ميلاده ﴿فلما أثقلت﴾ أي شعرت بالتعب عندما كبر الجنين في بطنها أخذ الزوجان يفكران فيما عسى أن يكون نوع المولود وما هي أوصافه وليس لهما من يد في صنعه وتركيبه ﴿دعوا الله ربهما﴾ أي أنهما بحكم الفطرة لا يسعهما إلا الاعتراف لله بالربوبية ويتوجهان إليه بالدعاء قائلين ﴿لئن آتيتنا﴾ مولودًا ﴿صالحًا﴾ للحياة معنا لا نقص في خلقه ولا فساد في تركيبه ﴿لنكونن من الشاكرين﴾ لك هذه المنة أبدًا فأنت الذي تهب له الحياة وأنت الذي تملك حق تصويره بأحسن صورة ﴿فلما آتاهما صالحًا﴾ أي فلما استجاب الله دعاءهما وجاءهما المولود كما يحبون ﴿جعلا له شركاء﴾ وقرئ «جعلا له شركا» أي اتخذا من أنفسهما شركاء لله ﴿فيما آتاهما﴾ الله إذ يقول كل من الرجل والمرأة أنه لولاه لما وجد الولد ونسيا أن الله وحده هو خالق النفس من العدم وهو الذي جعل منها زوجها وكونها في داخل الأرحام من طور إلى طور وصورها كيف يشاء واستجاب لدعائهما إذ منحها الحياة في الدنيا ولو لم يشأ ذلك سبحانه لأخرجه ميتًا ﴿فتعالى الله عما يشركون﴾ أي فترفع الله عن مؤاخذة البشر عن هذا الشرك الذي هو
أحلوه وحرموا مكانه شهرًا آخر: ﴿زيادة﴾ وإمعانًا: ﴿في الكفر﴾ لأنه تحريم ما أحله الله وتحليل ما حرمه الله فهو كفر آخر ضموه إلى شركهم، ذلك لأن القوم قد علموا أنهم لو رتبوا حسابهم على السنة القمرية لوقع حجهم تارة في الصيف وتارة في الشتاء وفي هذا مشقة عليهم وإخلال مصالحهم الدنيوية لأنه يؤدي إلى إحجام الناس عن زيارتهم بالتجارة إذا كان الحج في موسم الصيف فعمدوا إلى اعتبار السنة الشمسية. ولما كانت السنة الشمسية زائدة على السنة القمرية بمقدار معين احتاجوا إلى الكبيسة وحصل لهم بذلك أمران – أحدهما – أنهم كانوا يجعلون بعض السنين ثلاثة عشر شهرًا بسبب اجتماع تلك الزيادات – والثاني – أنه كان ينتقل الحج في بعض الشهور القمرية إلى غيره فكان الحج يقع في بعض السنين في ذي الحجة وبعده في المحرم وبعده في صفر وهكذا في الدور حتى ينتهي بعد نحو ست وثلاثين سنة مرة أخرى إلى ذي الحجة وترتب عليه أمران الزيادة في عدة الشهور وتأخير الحرمة الحاصلة لشهر إلى شهر آخر وفي هذا ما فيه من الافتئات على الله والعدوان على حقوق الربوبية إذ هم بعلمهم هذا شرعوا في الدين بأهوائهم ما لم يأذن به الله وهو وحده الذي يملك حق التحليل والتحريم وتحديد أوقات العبادات وهم في بنائهم العبادات على الحساب الشمسي قد راعوا مصالحهم الدنيوية ولم يلاحظوا ما في مراعاة الحساب القمري من حكمة إلهية هي أن تدور جميع الفصول على ثلاثة الأشهر الحرم فتؤدى العبادات بهذا الدوران في كل أجزاء السنة فمن صام رمضان في ثلاثين سنة يكون قد صام في كل أجزاء السنة وكذلك الحال في تكرار الحج ويترتب على هذا أن يجد المؤمن لذة الصوم في الشتاء ويصبر على آلامه في الصيف وينال الحاج من أجره على تحمله آلام البرد في حال الإحرام في الشتاء كما ينال الأجر على الصبر على حرارة الشمس في الصيف وسوف يقدر الله له الأجر في العبادات على قدر المشقة: ﴿يضل﴾ الله: ﴿به﴾ أي بسبب العمل الذي يصير به النسيء زيادة في الكفر: ﴿الذين كفروا﴾ تابعيهم والآخذين بأقوالهم: ﴿يحلونه عامًا ويحرمونه عامًا﴾ أي يجعلهم يتلاعبون في مواعيد تحليل القتال وتحريمه بحسب تقديرهم: ﴿ليواطئوا عدة ما حرم الله﴾ أي حتى يجعلوا عدد الأشهر الحرم أربعة مطابقة لما كان عليه الحال في عهد إبراهيم: ﴿زين لهم سوء أعمالهم﴾ هذه حيث ظنوها صوابًا وحكمة: ﴿والله﴾ من شأنه تعالى وأحكامه: ﴿لا يهدي﴾ إلى الحق والخير الصحيح: ﴿القوم الكافرين﴾ به ممن لا يستلهمون الهدى منه متأثرين بآرائهم متبعين شهواتهم.
بعد أن نبه الله الأفكار إلى مداخل الشيطان إلى القلوب لإضلالها عن طريق التقرب إلى الله بأوليائه إذ وصف الأولياء وبين مزاياهم بأنها لا تتجاوز حد ما بشروا به شخصيا في الحياة الدنيا وفي الآخرة من خير عائد إليهم لا يتعداهم إلى نفع الغير أو الشفاعة لأحد عنده، وكان من مقتضى هذا أن يحرص الناس أجمعين على الإيمان والتقوى ليكونوا من أولياء الله: ﴿الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ لا أن يعلقوا آمالهم بالأولياء ويقولوا عنهم إنهم شفعاؤنا عند الله ويصروا على هذا الضلال، الأمر الذي من شأنه أن يدخل الحزن إلى قلب رسوله ﷺ لعدم تمكنه من هدايتهم وإقناعهم بالحق الذي لا مراء فيه فقد قيل «لحمل الصخر على الأعناق خير من تفهيم من لا يفهم» ولذا قال تعالى: ﴿ولا يحزنك﴾ بفتح الياء وقرئ بضمها أيها الرسول: ﴿قولهم﴾ أي ما يقولونه في تكذيب ما جئت به عن الأولياء ومزاياهم بما يرجونه عن طريقهم من نيل العزة وكن على ثقة بما قال الله في حقهم: ﴿إن﴾ وقرئ بفتح الهمزة: ﴿العزة لله جميعًا﴾ أي إن الغلبة والقوة والمنعة جميعها لله لا يملك أحد من دون أن يمنح شيئًا منها للمخلوق أبدًا فإذا هم نسبوا إلى غيره من الأولياء شيئًا من ذلك فقولهم هذا لا يغير من الحقيقة شيئًا فقد قال تعالى: ﴿كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز﴾.: ﴿هو السميع﴾ لما يقولون من تكذيب للحق وترويج للشرك: ﴿العليم﴾ بما يترتب على أقوالهم من شيوع الضلال وتفشي البدع والمنكرات سيجزون عليه أشد العذاب: ﴿ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض﴾ من عابد ومعبود فهو ربهم ومالكم وهم جميعًا عبيده: ﴿وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء﴾ أي أن هؤلاء الذين يدعون غير الله في الشدائد ويستغيثون بهم في النوازل ويتقربون إليهم بالنذور لا يتبعون شركاء لله بمعنى إنهم لا يقولون إنهم شركاءه في تدبير أمورهم أو نفعهم وضرهم: ﴿إن يتبعون إلا الظن﴾ أي إنهم لا يتبعون في الحقيقة إلا ظنهم أن هؤلاء لهم عند الله من الجاه ما يمكنهم من الشفاعة لهم فكأنهم بهذا يقيسون الله جل جلاله على ملوكهم الظالمين المتكبرين الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا عن طريق الحجاب والوزراء والجلساء، وهذا ما لا يتورع من التصريح به والتدليل على صحته كثير من العلماء ومشايخ الطرق في عصرنا هذا إذ يقولون: هؤلاء أحباب الله وإذا كان الناس لا يردون وساطة أحبابهم فالله أجل من أن يرفض وساطة محبيه وهل يعقل أن مجرمًا
الصحراء: ﴿يرتع ويلعب﴾ وقرئ «نرتع ونلعب» أي ليشترك معنا في طيب عيشنا ورياضتنا إذ الرتع كل ما يطيب ولعب أهل البادية كثرة السباق والصراع والرمي بالسهام: ﴿وإنا له لحافظون﴾ من كل مكروه: ﴿قال﴾ يعقوب: ﴿إني ليحزنني أن تذهبوا به﴾ الحزن ألم في النفس من فقد محبوب أي إني أشعر بالحزن لمجرد بعده عني بمعنى لا أصبر على بعده: ﴿وأخاف﴾ عليه: ﴿أن يأكله الذئب وأنتم عنه غافلون﴾ أي في حال غفلة منكم عنه وانشغالكم بلعبكم عن مراقبته وحفظه: ﴿قالوا لئن أكله الذئب﴾ من بيننا: ﴿ونحن عصبة﴾ أي جماعة شديدة القوى: ﴿إنا إذًا لخاسرون﴾ أي خائبون في اعتصابنا فلسنا أهلًا لأن نعيش، وبطن الأرض أحق لنا من ظهرها.
لقد أوضح يعقوب لأبنائه بمبلغ حبه ليوسف وحزنه لفراقه ونبههم إلى أنه يخاف عليه من الذئب ليسترعي انتباههم وعنايتهم من هذه الناحية على الخصوص فيما إذا أخذوه فأجج هذا نار الحسد في قلوبهم وكشف لهم عن موطن الضعف من نفسه وهو الخوف عليه من الذئب فكان هذا بمثابة تلقين لهم بما يمكن أن يكون عذرًا مقبولًا لديه إذا هم اقترفوا جريمتهم فشجعهم هذا على الإصرار على طلبه حتى خدع بأقوالهم وسهل لهم سبيل المضي في تنفيذ خطتهم إذا أتمنهم عليه رغم ما حدثته نفسه به من كيدهم: ﴿فلما ذهبوا به﴾ إلى الصحراء البعيدة: ﴿وأجمعوا﴾ أي وهم متفقون على: ﴿أن يجعلوه في غيابة الجب﴾ نفذوا ما أجمعوا عليه: ﴿وأوحينا إليه﴾ عند إلقائه في الجب وحيًا إلهاميًا منبعثًا من قوة إيمانه بصحة ما تنبأ به له أبوه: ﴿لتنبئنهم بأمرهم هذا﴾ معك عندما يحقق الله لك تعبير رؤياك: ﴿وهم لا يشعرون﴾ الآن بما تنطوي عليه نفسك من إيمان بما سيؤول إليه أمرك من رفعة وسلطان بدلًا من الفزع الذي كانوا يتوقعونه لك والمستقبل المظلم الذي ينتظرك: ﴿وجاءوا أباهم﴾ بعد تنفيذ مؤامرتهم ويقينهم بأنه سوف لا يكشف سرهم: ﴿عشاء يبكون﴾ أي وقت العشاء متظاهرين بالحزن والبكاء ليقنعوه بصحة ما يسترون به جريمتهم: ﴿قالوا يا أبانا إنا ذهبنا﴾ من مكان اجتماعنا في الصحراء: ﴿نستبق﴾ أي نتريض بالسباق: ﴿وتركنا يوسف عند متاعنا﴾ من فضل الثياب وماعون الطعام والشراب ليحفظه لنا إذ لا يستطيع مجاراتنا في استباقنا: ﴿فأكله الذئب﴾ إذ أوغلنا في البعد عنه فلم نسمع صراخه ولم نستطع نجدته: ﴿وما أنت بمؤمن لنا﴾ أي ونحن نعلم من أنفسنا أنك سوف لا تصدق قولنا: ﴿ولو كنا صادقين﴾ في الواقع ونفس الأمر: ﴿و﴾ لأجل أن يؤيدوا زعمهم:
الذي يسمع من دعاه على ظهر الغيب: ﴿رب اجعلني مقيم الصلاة﴾ أي محافظًا على أداء صلواتي: ﴿ومن ذريتي﴾ أي واجعل بعضًا من ذريتي من مقيمي الصلاة ولم يدع لهم جميعًا لأنه علم بإعلام الله له أنه سيكون من ذريته جمع من الكفار وذلك في قوله: ﴿لا ينال عهدي الظالمين﴾: ﴿ربنا وتقبل دعاء ربنا اغفر لي ولوالدي وللمؤمنين يوم يقوم الحساب﴾.
بعد أن أخبر الله رسوله بمنشأ الدعوة الإسلامية التي جاء بها جده إبراهيم الخليل ودعوته لمكة وساكنيها من ذريته بتجنب عبادة الأصنام وتبرئه من من لا يتبع طريقته وختم الآية بدعائه بطلب الغفران له ولوالديه وللمؤمنين يوم يقوم الحساب أخذ يؤكد سعة علمه تعالى بجميع أعمال عباده ويحدد موعد الحساب ويصف حال الظالمين فيه فقال: ﴿ولا تحسبن﴾ أيها الرسول والمعني بهذا كل إنسان: ﴿الله غافلًا عما يعمل الظالمون﴾ أي لا تظن أن ترك عقاب الظالمين في الدنيا كان ناشئًا عن غفلة الله تعالى عنهم وعدم علمه بما يقترفونه من السيئات، الأمر الذي يحملهم على التمادي في الضلال: ﴿إنما﴾ إمهالهم هذا كان وفق خطة مرسومة وسنة من سننه وهي تقضي بأن الحساب على الأعمال لا يكون إلا بعد الفراغ منها ولذلك: ﴿يؤخرهم ليوم﴾ عصيب: ﴿تشخص فيه الأبصار﴾ أي تفتح فيه كافة عيون أهل الموقف: ﴿مهطعين﴾ أي مسرعين إلى الداعي مقبلين عليه للاطمئنان على مصيرهم من عظم ما يقاسون: ﴿مقنعي رؤوسهم﴾ أي مطأطئين رؤوسهم من الذل والخوف: ﴿لا يرتد إليهم طرفهم﴾ أي لا يرجع إليهم أمر تحريك أجفانهم التي كانوا يملكون التصرف فيها كل لحظة بل تبقى أعينهم هنالك مفتوحة جامدة لا تطرف من هول ما يرون: ﴿وأفئدتهم هواء﴾ أي وقلوبهم في حركة دائمة واضطراب مستمر كالهواء: ﴿وأنذر الناس﴾ هذا معطوف على قوله: ﴿ولا تحسبن﴾ أي نبههم إلى ما سيكون من موقف الظالمين: ﴿يوم يأتيهم العذاب﴾ الذي تقدم ذكره: ﴿فيقول الذين ظلموا﴾ أنفسهم بعدم تصديق رسل الله واتباع ما جاؤوا به: ﴿ربنا أخرنا﴾ أي أرجعنا إلى الدنيا وأمهلنا: ﴿إلى أجل قريب﴾ أي مدة قصيرة من الزمن: ﴿نجيب دعوتك﴾ إلى توحيدك: ﴿ونتبع الرسل﴾ فيما جاؤوا به من الشرائع فيقال لهم إذ ذاك توبيخًا وتقريعًا: ﴿أو لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال﴾ أي ألم تحلفوا من قبل أنه لا زوال للحياة الدنيا ولا معاد ولا حساب كما حكى الله عنهم ذلك بقوله: ﴿واقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت﴾ وقد وجدتم وشهدتم بأعينكم ما أنكرتموه من قبل ولا سبيل لتغيير سنن الله استجابة لطلبكم
باقترافهم لما اقترفوه من السيئات المتعددة استحقوا تعجيل فرض عقوبة عليهم ليتوبوا ويرجعوا إلى الله فيرفع عنهم هذه العقوبة فلم يفعلوا فكانوا بهذا ظالمين لأنفسهم: ﴿ثم إن ربك﴾ قد قضى في دستوره السماوي: ﴿للذين عملوا السوء﴾ ويراد به كل ما لا ينبغي فعله من الكفر وسائر المعاصي: ﴿بجهالة﴾ أي وهو لا يعلم أن ما صدر منه يعد كفرًا أو معصية: ﴿ثم تابوا﴾ إلى الله والتوبة لا تكون إلا أثرًا من آثار الشعور بالخطأ: ﴿من بعد ذلك﴾ أي عمل السوء بالجهالة: ﴿وأصلحوا﴾ أعمالهم السيئة بالإتيان بها على الوجه الذي يرضي الله: ﴿إن ربك من بعدها﴾ أي بعد التوبة: ﴿لغفور﴾ لذلك السوء: ﴿رحيم﴾ يثيب على ترك المعاصي أكثر مما يثيب على فعل الصالحات فالإنسان مهما أمعن في المعاصي ثم خاف الله ورجع إليه تائبًا نادمًا مستغفرًا وأخلص لله عمله محا الله سيئاته وأبدلها برحمته حسنات فهو القائل: ﴿إلا من تاب وآمن وعمل عملًا صالحًا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات وكان الله غفورًا رحيمًا﴾.
بعد أن وجه الله خطابه للناس جميعًا ونبههم إلى: أنه تعالى هو الذي أوجد لهم أساس الرزق وألهمهم طريقة كسبه فعليهم أن يقدروا له تلك النعم ويشكروه عليها أخذ يقص على رسوله خبر فرد واحد من البشر استطاع أن يتنبه إلى هذه الحقيقة من تلقاء نفسه فعمل على التعرف على ربه والرجوع إليه في سره وجهره والدعوة إلى توحيده مخالفًا ما كان عليه قومه من الشرك وعبادة الأوثان معرضًا نفسه لأشد أنواع العذاب فتولاه الله برعايته وحفظه وأغدق عليه وافر نعمه واعتبره إمامًا للموحدين، وقدوة للصالحين على ممر السنين، وكانت هدايته إلى ما هدي إليه ثمرة من ثمرات تجنبه الشرك فقال: ﴿إن إبراهيم﴾ وهو واحد من أفراد البشر: ﴿كان﴾ بمفرده: ﴿أمة﴾ أي يعدل أمة بأسرها فقاومها ورجح عليها عقلًا وقوة، فقد ولد من أب كان يصنع الأصنام ويدعو الناس إلى عبادتها وتربى بين قوم مشركين ومع ذلك فإنه شذ عنهم جميعًا وأنكر بفطرته وكامل عقله ما كان عليه قومه وأخذ يتأمل في السماء وما فيها من الكواكب العظيمة حتى استدل من أفولها على وجود خالقها فآمن به ودعا إلى توحيده وأعلنها حربًا بمفرده على الأمة بأجمعها في أقدس شيء عندها وهو العقيدة دون أن يعبأ بكثرتها وما لديها من وسائل التعذيب فكان وحده بحق أمة لها مؤهلاتها من أربع نواحي الناحية الأولى أنه كان: ﴿قانتًا لله﴾ فلم يذل ولم يخضع لأحد سواه، الناحية الثانية أنه كان: ﴿حنيفًا﴾ أي مائلًا ومنحرفًا في عقيدته
بعد أن نبه الله الأفكار إلى مداخل الشيطان إلى القلوب لإضلالها عن طريق التقرب إلى الله بأوليائه إذ وصف الأولياء وبين مزاياهم بأنها لا تتجاوز حد ما بشروا به شخصيا في الحياة الدنيا وفي الآخرة من خير عائد إليهم لا يتعداهم إلى نفع الغير أو الشفاعة لأحد عنده، وكان من مقتضى هذا أن يحرص الناس أجمعين على الإيمان والتقوى ليكونوا من أولياء الله: ﴿الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾ لا أن يعلقوا آمالهم بالأولياء ويقولوا عنهم إنهم شفعاؤنا عند الله ويصروا على هذا الضلال، الأمر الذي من شأنه أن يدخل الحزن إلى قلب رسوله ﷺ لعدم تمكنه من هدايتهم وإقناعهم بالحق الذي لا مراء فيه فقد قيل «لحمل الصخر على الأعناق خير من تفهيم من لا يفهم» ولذا قال تعالى: ﴿ولا يحزنك﴾ بفتح الياء وقرئ بضمها أيها الرسول: ﴿قولهم﴾ أي ما يقولونه في تكذيب ما جئت به عن الأولياء ومزاياهم بما يرجونه عن طريقهم من نيل العزة وكن على ثقة بما قال الله في حقهم: ﴿إن﴾ وقرئ بفتح الهمزة: ﴿العزة لله جميعًا﴾ أي إن الغلبة والقوة والمنعة جميعها لله لا يملك أحد من دون أن يمنح شيئًا منها للمخلوق أبدًا فإذا هم نسبوا إلى غيره من الأولياء شيئًا من ذلك فقولهم هذا لا يغير من الحقيقة شيئًا فقد قال تعالى: ﴿كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله قوي عزيز﴾.: ﴿هو السميع﴾ لما يقولون من تكذيب للحق وترويج للشرك: ﴿العليم﴾ بما يترتب على أقوالهم من شيوع الضلال وتفشي البدع والمنكرات سيجزون عليه أشد العذاب: ﴿ألا إن لله من في السماوات ومن في الأرض﴾ من عابد ومعبود فهو ربهم ومالكم وهم جميعًا عبيده: ﴿وما يتبع الذين يدعون من دون الله شركاء﴾ أي أن هؤلاء الذين يدعون غير الله في الشدائد ويستغيثون بهم في النوازل ويتقربون إليهم بالنذور لا يتبعون شركاء لله بمعنى إنهم لا يقولون إنهم شركاءه في تدبير أمورهم أو نفعهم وضرهم: ﴿إن يتبعون إلا الظن﴾ أي إنهم لا يتبعون في الحقيقة إلا ظنهم أن هؤلاء لهم عند الله من الجاه ما يمكنهم من الشفاعة لهم فكأنهم بهذا يقيسون الله جل جلاله على ملوكهم الظالمين المتكبرين الذين لا يصل إليهم أحد من رعاياهم إلا عن طريق الحجاب والوزراء والجلساء، وهذا ما لا يتورع من التصريح به والتدليل على صحته كثير من العلماء ومشايخ الطرق في عصرنا هذا إذ يقولون: هؤلاء أحباب الله وإذا كان الناس لا يردون وساطة أحبابهم فالله أجل من أن يرفض وساطة محبيه وهل يعقل أن مجرمًا
سورة الصف
نهي المؤمنين عن أن يقولوا ما لا يفعلون
الدعوة إلى توحيد الصفوف
ضرب المثل بموسى وقومه
دستور الله في الزيغ والهدى
حديث عيسى مع بني إسرائيل
منتهى الظلم
الدعوة الإسلامية لا تُطفأ
التجارة الرابحة ورأس مالها
أنصار الله
سورة الجمعة
معجزة الله الخالدة
معنى المشيئة
مثل من يؤمن بدين ولا يعمل به
عدم هداية الظالمين
تحدي اليهود بتمني الموت
المبادرة إلى صلاة الجمعة
موقف الناس من طاعة الله
سورة المنافقون
لا ثمرة لشهادة المنافقين
طبع الله على القلوب
المظاهر لا تعبر عن الحقائق
دستور الله في الغفران والهداية
غرور المنافقين بأموالهم وقوتهم
﴿إنا نخاف من ربنا﴾ أي أن الذي يحملنا على الإطعام والإحسان ليس هو الرغبة في ثواب لا نستحقه إذ المال مال الله وما نحن إلا واسطة في إعطائه لمستحقيه وإنما الذي يحملنا على هذا هو خوفنا من الله أن يحاسبنا على منعه عن من هم في أشد الحاجة إليه: ﴿يومًا عبوسًا قمطريرًا﴾ العبوس تقطيب الوجه والقمطرير الشديد من الأيام أي في يوم مخيف يشبه في شدته وضراوته الأسد العبوس: ﴿فوقاهم الله شر ذلك اليوم﴾ الذي كانوا يخافونه: ﴿ولقاهم﴾ أي جعلهم يلقون هنالك: ﴿نضرة وسرورًا﴾ أي أنه تعالى لم يجعلهم يشعرون بعبوس ذلك اليوم وشدته بل إنه سيعطيهم بسبب ذلك الخوف نضرة في الوجه وسرورًا في القلب: ﴿وجزاهم بما صبروا﴾ أي بصبرهم على الإيثار وما يؤدي إليه من القلة ومغالبة الشهوات أنواعًا كثيرة من الملذات عددها تعالى بقوله: ﴿جنة وحريرا﴾ أي سكنًا خيرًا من سكنهم ولباسًا خيرًا من لباسهم وهنا أخذ جل جلاله يصف حال أهل الجنة وما سينالونه فيها من نعيم مقيم وفضل عميم فقال: ﴿متكئين فيها على الأرائك﴾ وهي سرر مزينة فاخرة: ﴿لا يرون فيها شمسًا ولا زمهريرًا﴾ الشامس من الأيام: شديد الحرارة والزمهرير شديد البرودة أي ليس لديهم حر مزعج ولا برد قارص مؤلم بل جو معتدل لطيف مستمر: ﴿ودانية﴾ بالنصب وقرئ بالرفع أي قريبة: ﴿عليهم ظلالها﴾ أي ظل أشجارها: ﴿وذلك قطوفها تذليلًا﴾ أي انقادت وسهل تناولها: ﴿ويطاف عليهم بآنية﴾ أي انقادت وسهل تناولها: ﴿ويطاف عليهم بآنية﴾ هي وعاء الطعام: ﴿من فضة وأكواب﴾ هي ما يصب منه الماء كالإبريق من الطين وقد فسرها الله بقوله: ﴿كانت قواريرا﴾ وهي الأواني الرقيقة الصافية الشفافة التي تبرد فيها الأشربة وقد توصل العلم إلى جعلها من الزجاج الشفاف سريع الانكسار فأخبرنا جل جلاله بأن قوارير الجنة ليست كذلك بل هي: ﴿قوارير﴾ بفتح الراء في الموضعين غير منونين وقرئ بتنوينهما وبتنوين الأول ورفع الثانية: ﴿من فضة﴾ أي أنه تعالى سيجعل فيها من الفضة قوتها وشرف جوهرها ومن القارورة مزاياها من صفائها وشفافيتها وتبريدها للماء: ﴿قدروها تقديرا﴾ أي أعجب بها الشاربون منها إعجابًا شديدًا وأدركوا مبلغ قيمتها وما تستحق من ثمن لأنهم لم يألفوا مثلها في حياتهم الدنيا: ﴿ويسقون فيها كأسًا﴾ أي خمرًا لذة للشاربين دون أن تذهب بعقولهم كما هو حال شارب الخمر في الدنيا: ﴿كان مزاجها﴾ المزج خلط شيء بشيء: ﴿زنجبيلا﴾ الزنجبيل نبات له عقد حريف الطعم تحبه العرب أي أن خمر الآخرة من نوع آخر غير
اللماز الذي يعيب الناس بحضرتهم بالإشارة بالعين ونحوها والمراد بهما من يرى نفسه في مستوى أعلى من غيره ولذلك تراه يطعن في هذا ويحتقر ذاك وينزه نفسه من النقائص: ﴿الَّذِي جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ﴾ أي أن ذلك الذي اتصف بالصفتين السالفتين هو الذي حسب أن المال أعظم فضيلة فجمعه وأكثر من تعداده شغفاً به وتلذذاً بإحصائه فهو يحاول أن ينتقص من مكانة كل ذي فضيلة ومزية حرمها: ﴿يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ﴾ أي يظن أن المال الذي يجهد نفسه في جمعه مما يخلد ذكره بين الناس مدى الحياة: ﴿كَلاَّ﴾ ليس الأمر كما يظن فإنه لا يخلد ذكرى الإنسان في الدنيا والآخرة إلا العلم النافع والعمل الصالح أما الغمز واللمز فلا يحط من قيمة أصحاب الفضائل والمكرمات؛ وأما الفخور بجمع المال الساعي إلى الحط من كرامة الناس فإنه ببطره والإساءة إلى الناس: ﴿لَيُنبَذَنَّ﴾ أي يطرح في هذه الحياة الدنيا بحسب دستور الله ويُلقى: ﴿فِي الْحُطَمَةِ﴾ النار الشديدة: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ﴾ أي أنك لا تدري ما هي هذه النار إنها ليست كسائر النيران بل هي: ﴿نَارُ اللَّهِ﴾ وإن في نسبها لله تعالى ما يشير إلى أنه لا يعلم كنهها وحقيقتها غير الله خالقها: ﴿الْمُوقَدَةُ﴾ أي دائمة الوقود فلا تخمد أبداً: ﴿الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ﴾ أي التي تصل إلى الصدور فتأكل الأفئدة ولعلها نار الحسد والحقد التي تجعل عيشة الإنسان كلها شقاء و ﴿إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ﴾ أي مطبقة مغلقة: ﴿فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ﴾ العَمَد: جمع عمود وهو القضيب من الحديد أي أنه يغلق عليها بأعمدة من حديد غلقاً محكماً بمعنى لا سبيل إلى خلاصهم منها وقانا الله شرها برحمته وكرمه.
سورة الفيل
مكية عدد آياتها خمس

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ (٣) تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ (٥)﴾
سورة الفيل: بعد أن أنذر الله في السورة السابقة بالهلاك كل من أطغاه الغنى فراح يحتقر أصحاب الفضائل وفسر ذلك الهلاك في ختامها بنبذه في نار لا يعلم كنهها أحد سواه أخذ سبحانه وتعالى يضرب المثل لما لديه من وسائل الهلاك بما أصاب الطغاة في العهد القريب عهد مولد الرسول عليه


الصفحة التالية
Icon