للناس أجمعين، ومن أجل هذا أنزل عليك باعتبارك من العرب، ولو أنه أنزل على واحد من بني إسرائيل لاعتبر خاصًًّا بهم؛ وهذا ما لم يرده الله، بل أراد أن يكون القرآن للعموم ﴿وهدًى﴾ لمن رام الهداية ﴿وبشرى﴾ بعظيم الثواب الذي أعده الله ﴿للمؤمنين﴾ الذين اهتدوا بما جاء في القرآن من أوامر ونواه، فصدقوا بما ورد فيه من أخبار يوم القيامة، وحيث ثبت أن جبريل لم يكن له أي تصرف في إنزال القرآن على النبي ﷺ دون غيره، تبين أن عداءهم لجبريل إنما كان عداء للحق، والداعين إليه، بل عداء لله المقدر لكل ذلك؛ ولذا قال تعالى ﴿من كان عدوًّا لله﴾ الذي قضى بجعل الرسالة في نبيه العربي ﴿وملائكته﴾ المطيعين لأوامره، المبلغين لأحكامه ﴿ورسله﴾ الصادعين برسالته، ﴿وجبريل وميكال﴾ بصورة خاصة باعتبارها موضع البحث ﴿فإن الله عدو للكافرين﴾ الذين لا يؤمنون بنزول هذا القرآن من عند الله على عبده محمد بن عبد الله، وعداوة من عادى الله وملائكته ورسله لا تؤثر فيهم، بخلاف عداوتهم له فإنها تؤدي به في العاجلة إلى الذلة والمسكنة، وفي الآجلة إلى العذاب الدائم المقيم.
وفي هذا إشارة إلى عداوة القائم بالحق، والداعي إليه عداء للحق نفسه، وعداوة القرآن وهو أفضل الكتب كعداوة سائر الكتب الإلهية، لأن الغرض من الجميع واحد؛ وعداوة النبي ﷺ وهو أفضل الأنبياء كعداوة جميع الرسل، لأن وظيفة الجميع واحدة، وعداوة أولياء الله عداوة لله كما جاء في الحديث القدسي: «من عادى لي وليًا فقد آذنته بالحرب».
«الطبع العاشر» من طبائع بني إسرائيل: المكابرة في الحق، وقد تجلى ذلك فيما كان بينهم وبين معاذ بن جبل حيث قال لهم: يا معشر اليهود اتقوا الله وأسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد، ونحن أهل الشرك، وتخبرونا أنه سيبعث، وتصفوه لنا. فأجابه بعضهم بقوله: ما جاءنا بشيء من البينات، وما هو بالذي كنا نذكره لكم، فأنزل الله تعالى قوله: ﴿ولقد أنزلنا إليك آياتٍ بيناتٍ﴾ فكابروا وقالوا ما جاءنا بشيء من البينات ﴿وما يكفر بها﴾ ويكابر في حجتها بعد أن جاءت ﴿إلا الفاسقون﴾ الذين تجاوزوا في الكفر النهاية القصوى.
«وأما الطبع الحادي عشر» من طبائع بني إسرائيل فهو: نقض العهود، وقد تجلى ذلك فيما قاله جماعة منهم لرسول الله ﷺ عندما ذكرهم بما أخذه الله عليهم، وعهده إليهم من أن يؤمنوا به، فقال له مالك بن الصيف: والله ما عهد الله إلينا عهدًا من أجلك، ولا أخذ
انتشار الفسق وارتكاب الموبقات ﴿والله يعلم﴾ بهذه الحقيقة ﴿وأنتم لا تعلمون﴾ لقصر أنظاركم ضمن حدود المرئيات وعدم العلم والاطلاع على سر التشريع وحكمته.
بعد أن أوضح الله الأحكام الخاصة بالطلاق والرجعة من حيث العدة والرجعة وما إلى ذلك أخذ يبين ما يترتب على الطلاق من أحكام تتعلق بحقوق الوالدات المطلقات من إرضاع الولد وما يجب لهن تلقاء ذلك من نفقة فقال ﴿والوالدات يرضعن أولادهن﴾ أي من حقوقهن ذلك فلا يجوز أن يمنعهن عنه خلال ﴿حولين كاملين﴾ وليس هذا بأمر لازم دوامًا بل إنه يعتبر ﴿لمن أراد أن يتم الرضاعة﴾ عادة على أكثر تقدير وأقصى مدة ﴿وعلى المولود له رزقهن﴾ أي يجب على الوالد الإنفاق على الوالدات المرضعات لأنه هو واضع البذرة ﴿وكسوتهن بالمعروف﴾ أي على قدر حال الأب من السعة والضيق بحيث ﴿لا تكلف نفس إلا وسعها﴾ في النفقة بما لا ينتهي إلى عسر وضيق ﴿لا تضار﴾ بفتح الراء وقرئ بضمها وقرئ بسكون الراء مشددة وقرئ ﴿تضار﴾ مخففة من ضاره يضيره ﴿والدة بولدها﴾ لا ينبغي أن تكلف الأم بإرضاع مولودها على غير رغبة منها في إرضاعه أو أن تمنع منه حتى بعد مدة الرضاع والحضانة ﴿ولا مولود له بولده﴾ لا تتعمد الأم إلحاق الضرر بالأب بسبب ولده بأن تلقي به إليه في الوقت الذي يوفيها حقوقها ولم يمنع عنها ما أوجبه الشرع لها من النفقة والكسوة أو أن تمهل رعاية طفلها من تغذيته وتربيته من كل الوجود للتنكيل بأبيه ﴿وعلى الوارث﴾ أي وارث الأب في حالة عدم وجوده ﴿مثل ذلك﴾ أي ما كان واجبًا على الأب من نفقة وكسوة وعدم المضارة ﴿فإن أرادا﴾ الوالدة والوالد ﴿فصالًا﴾ الفصال فطام الولد ﴿عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما﴾ فلا يجوز الإقدام على فطام الولد إلا بشرط موافقتهما برضاء وطيبة خاطر وبعد تشاور ينتهي بأن الفطام في مثل تلك المدة لا يضر بصحة الطفل ﴿وإن أردتم﴾ في حالة قيام مانع من إرضاع الأم ولدها كمرض أو انقطاع لبنها أو
يؤمن بهذا ويأبى أن يطلب النصر من ربه، فلا يلومن إلا نفسه قال تعالى «من كان يظن أن لن ينصره الله في الدنيا والآخرة فليمدد بسبب إلى السماء ثم ليقطع فلينظر هل يذهبن كيده ما يغيظ». ومعنى هذا أن اليائس من نصر الله له، مثله كمثل إنسان مد حبلًا إلى السماء ليصعد عليه فعجز فيئس فقطع الحبل فهل في ذلك ما يزيل غيظه، مع أنه لو ترك الحبل كما هو ربما أمكنه أن يتصل به إلى السماء إذا حاول ذلك مرة أخرى، ولقد آمن بهذه الحقيقة في عصرنا هذا شاب لم يبلغ العشرين من عمره وليس لديه شيء من المال أو العتاد رأى نفسه مظلومًا، سلب الغاصب ملك آبائه وأجداده وتركه طريدًا شريدًا يهيم على وجهه في الصحراء وقد نبذه المجتمع لأنه في نظره يحمل عقيدة فاسدة بينما هو يعتقد أن فيها سعادة الناس في الدنيا والآخرة، فلم يجد أمامه إلا أن يعمل لاسترداد الملك من المغتصبين، وينشر الدعوة التي يحملها رغم الجاحدين، عن طريق تطبيق هذا الدستور الإلهي، فآمن بحقه، ووثق بنصر الله له وأزاح الخوف من قلبه، فكاشف بالأمر بعض أخصائه فوافقوه على رأيه وأعربوا له عن استعدادهم للعمل معه إلى النفس الأخير، وتعاهدوا على ذلك، فخطأ الخطوة الثانية فقصد أميرًا من أمراء العرب يطلب منه إمداده بشيء من العتاد، فمنحه مائتي ريال وثلاثين بندقية وأربعين جملًا وشيئًا من الزاد، فأخذ ذلك ومضى لتنفيذ خطته، وسخر منه قومه فقال لهم في شجاعة وعزم، إذا كنا نعتقد أن النصر بالعدة والعدد فيجب ألا نخطو خطوة في هذا السبيل، وإذا كنا نؤمن بأن النصر بيد الله فالله قد وعدنا بالنصر في قوله (يا أيها الذين آمنوا إن تنصروا الله ينصركم ويثبت أقدامكم). فما علينا إلا أن نثق بوعده، ونعتمد عليه وحده، والنصر مضمون لنا، وحاشا أن نخذل أو أن نذل والله معنا، ومضى بأربعين من صحبه لتحقيق خطته فنجح، واستعاد ملك آبائه، ونشر دعوته، وقهر خصومه، وامتد نفوذه ولم تمض عليه عشرون عامًا حتى كانت له مملكة عظيمة مترامية الأطراف، يشار إليها بالبنان، ذلك هو الملك عبد العزيز آل السعود رحمه الله الذي أسس مملكته بساعده وقرر شكلها بمحض إرادته، ولم يخف من بأس الدولة العثمانية، ولا الحكومة الهاشمية، ومن خلفها من الدولة الإنجليزية، ولم يستجد الملك من دولة أجنبية، وإنما هو وثق بالله، فنصره الله على من عاداه، واتبع دستوره في الحياة فنال ما يتمناه.
فاحصة في هذه الأشجار والزروع ودقة مواعيد زرعها وحصادها وتساقط ورقها وعودتها في الوقت المقرر تدلنا دلالة واضحة على أن الخالق الأعظم لها إنما يعمل بحكمة ونظام عجيب، وأنه تعالى لا يعرف اللهو ولا العبث كقوله تعالى: ﴿وما خلقنا السماء والأرض وما بينهما لاعبين﴾، وقوله تعالى: ﴿أفحسبتم أنما خلقناكم عبثًا وأنكم إلينا لا ترجعون﴾ وهذا ما يهدينا إلى الاعتقاد بأنه لابد للإنسان من عودة إلى الحياة كعودة الحياة إلى الأشجار وأنه لا يمكن أن تكون نهاية هذه الحياة الدنيا الفناء المحض بل يتعين أن تكون هذه بدء حياة أخرى خالدة أرقى من حياتنا الدنيا وأهنأ، بل هي حياة الراحة والهناء والسعادة الكاملة التي أشار إليها تعالى بقوله: ﴿يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب كما بدأنا أول خلق نعيده وعدا علينا إنا كنا فاعلين﴾، وقد آمنا بك وبكل هذا ونزهناك عن الباطل والعبث ﴿سبحانك﴾ فلكل شيء عندك حكمة وأنت لم تخلقنا وتمتنا إلا لتبعثنا مرة أخرى وتردنا إليك مردًا جميلاً ﴿فقنا عذاب النار﴾ أي احفظنا منه ما دمت قد هديتنا إلى معرفتك وذكرك وأوصلتنا بالتفكير في خلقك إلى اليقين ببعثك، فلولا محبتك للغفران ما مننت علينا بحقيقة الإيمان ﴿ربنا﴾ إنا لا نخاف النار لذاتها وما فيها من آلام، بل لسبب آخر أجل من ذلك في نظرنا، وهو ﴿إنك من تدخل النار فقد أخزيته﴾ فدخولها دليل على سخطك وهذا ما نتحاشاه وننفر منه ﴿و﴾ نحن نؤمن ونعتقد بأنه ﴿ما للظالمين من أنصار﴾ فإذا أعلنت سخطك علينا بخزينا بدخول النار فقد تخليت عن نصرتنا، ونحن نجزم بأنه لا نصير لنا سواك ﴿ربنا﴾ يا من آمنا بوجودك وربوبيتك من آياتك الكريمة ﴿إننا سمعنا مناديا﴾ من قبلك من الأنبياء والرسل ومن دعا بدعوتهم هو نبينا محمد عبدك ورسولك ﴿ينادي﴾ ويدعو الناس أجمعين ﴿للإيمان﴾ بوحدانية الله حيث يقول ﴿أن آمنوا بربكم﴾ الإله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، لا إله إلا هو النافع الضار المحي المميت ﴿فآمنا﴾ بما جاء به من التوحيد الخالص فلم نشرك بك أحدًا ﴿ربنا فاغفر لنا ذنوبنا﴾ من التقصير في العبادة تحقيقًا لوعدك فأنت القائل: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء {وكفر عنا سيئاتنا﴾ من الذنوب والآثام والاعتداء على حقوق العباد والإساءة إليهم ﴿وتوفنا مع الأبرار﴾ أمتنا على حالتهم وطريقتهم ﴿ربنا وآتنا ما وعدتنا﴾ به ﴿على﴾ ألسنة ﴿رسلك﴾ من حسن الجزاء في الدنيا والآخرة ﴿ولا تخزنا يوم القيامة﴾ لا تفضحنا وتهتك سترتا ﴿إنك لا تخلف الميعاد﴾ إذ نحن واثقون بهذا {فاستجاب لهم
يسير على مقتضاها في الفصل بين العباد في الخصومات أو الأمور الفرعية وخطاب النبي تشريع لأمته فقال ﴿إنا أنزلنا إليك﴾ أيها الرسول ﴿الكتاب﴾ الذي هو القرآن ﴿بالحق﴾ أي بما يطابق الحق لأسباب ثلاثة:
أولًا ﴿لتحكم﴾ على ضوئه ﴿بين الناس﴾ أثناء تقاضيهم بين يديك ﴿بما أراك الله﴾ أي هداك إليه من اجتهاد في تطبيق الأحكام العامة على القضايا الخاصة.
ثانيًا ﴿ولا تكن للخائنين﴾ أي ولأجل أن لا تكون للذين يخونون الحقائق بإخفائها ويحاولون أن يضلوك بما يزيفونه من الدعاوي الباطلة وما يقيمون من براهين غير صادقة ﴿خصيمًا﴾ الخصيم كثير المخاصمة أي لا تنصب نفسك خصمًا لهم وتدخل معهم في جدل لا طائل تحت فكرة المخاصمة مما يؤدي بهم إلى اللجج وعدم الاكتراث بل استعمل فراستك واستخدم مواهبك لانتزاع الحقيقة من حين ثنايا أقوال الخصوم وتحرى العدل ما استطعت وأصدر حكمك مؤيدًا بالحيثيات ﴿واستغفر الله﴾ بعد كل حكم يصدر منكم رغم اجتهادك فإنك إنما تحكم بالظواهر ولا تدري لعله لم يصادف الحق في نفس الأمر ولذا كان يقول ﷺ «أمرت أن أحكم بالظواهر والله يتولى السرائر» ويقول: «إنما أنا بشر وإنكم لتختصمون إلي فلعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض فأقضى له على نحو ما أسمع فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليأخذها أو ليتركها» ﴿إن الله كان غفورًا﴾ لما يصدر من أحكا ممبنية على دعوى وبراهين إذا كانت في الواقع غير صحيحة ﴿رحيمًا﴾ لا يؤاخذ الناس على ما فوق مقدورهم.
ثالثًا ﴿ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم﴾ أي ولأجل أن لا تدافع عنهم بأن
(فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده) ما يحمل معنى الرجاء من الله بتحقيق ما ذكر وقد كان، وصدق الله وعده، ونصر المسلمين في بور سعيد بمعجزة من عنده على اليهود والنصارى مجتمعين وألب عليهم جميع دول العالم الذين شهدوا بظلمهم وعدوانهم ونواياهم الاستعمارية وأساليبهم الشيطانية حتى أصبح أنصارهم على أسروا في أنفسهم نادمين.
بعد أن نبَّه الله المؤمنين إلى سبيل العزة وذكر في مقدمة ذلك عدم الخضوع لحكم غير المسلمين من اليهود والنصارى أخذ ينبههم إلى أمر آخر من دواعي العزة هو التمسك التام بعقيدة الشريعة الإسلامية والثبات على مبادئها والذب عن حياضها الأمر الذي يدل على تمكن محبة الله في القلوب فالمحبة وليدة المعرفة التامة وسبيل الطاعة الخالصة ولذا قال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله وكتبه ورسوله نتيجة معرفتهم وحبهم له حذار أن تتغير عقائدكم وتضعف ثقتكم بربكم وتفرطوا في دينكم أو تجحدوا شيئا مما فرض الله عليكم فإن (مَنْ يَرْتَدَّ) وقرئ من «يَرْتَدِدْ» أي يرجع (مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ) الحق وعقيدته الصحيحة إلى الباطل وذلك بالكفر بالله أو جحود شيء مما فرضه الإسلام كالصلاة والزكاة كما حدث في عهد أبي بكر رضي الله عنه إذ قال جماعة من المسلمين «نصلي ولا نزكي ولا تغصب أموالنا» فقال أبو بكر «لا والله لا أفرق بين شيء جمع الله بينه ولو منعوا عقالا مما فرض الله ورسوله لقاتلناهم عليه» وقاتلهم فعلا وعاملهم معاملة الكافرين لأن الكفر بأوامر الله كفر به ومن كفر بالله أو جحد ما فرض عليه فقد برهن على تخليه عما يوجبه الإسلام من محبة الله وهذا لن يضر الله شيئا والنتيجة الطبيعية لذلك هي أن يدعه الله وشأنه ويكله إلى نفسه ويستبدل به من هو خير منه ولذا قال (فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ) أي يبادلهم سبحانه الحب ويصطفيهم لطاعته ويغمرهم بنعمه ومن أهمها طمأنينة القلب (وَيُحِبُّونَهُ) هم فيؤمنون به إيمانا كاملا يحملهم على طاعته وعدم التفريق بين شيء مما أوجبه عليهم من الطاعات بحيث يكون مظهر ذلك باديا في أعمالهم والتقرب إليه باتصافهم بأربع صفات:
الأولى: أن يراهم الرائي (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ) لم يقل الله تعالى «أذلة للمؤمنين» لئلا يظن أن الذل من طبعهم بل هم على شرفهم وعلو مقامهم وفضلهم يتذللون على المؤمنين بمعنى يتواضعون لهم
بعد أن علم الله رسوله الطريقة التي ينبغي أن يسير عليها في معاملة خصومه ومخالفيه من الكفرة المعاندين، أخذ يلقنه من الأقوال ما يقطع به كل أمل لهم في تشكيك المسلمين وعودتهم إلى ما كان عليه آباؤهم من الشرك وعبادة غير الله فقال ﴿قل﴾ أيها الرسول لكل من لا يؤمن برسالتك ويريد منك أن تظل على ما كان عليه قومك من الشرك وعبادة الأوثان ﴿أندعو﴾ أي أتريدون منا أن نشرك في دعائنا ﴿من دون الله﴾ الذي يسمع النداء ويجيب الدعاء ﴿ما لا ينفعنا ولا يضرنا﴾ من الأحجار والأموات التي لا تسمع ولا تبصر ولا تملك نفع نفسها أو ضرها فكأنكم بهذا تريدون منا أن نتجرد من عقولنا ﴿ونرد على أعقابنا﴾ أي نتقهقر إلى الوراء فنضحي بعزتنا وكرامتنا فهذا ما يتنافى مع العقل ومع الكرامة ﴿بعد إذ هدانا الله﴾ بالإسلام إلى السبيل السوي المؤدي إلى سعادة الدنيا والآخرة فيكون مثلنا ﴿كالذي استهوته﴾ وقرئ «استواه» بالألف ممالة أي ذهب بهواه وعقله ﴿الشياطين﴾ وهي مخلوقات خفية من فصائل الجن جبلت على الأذى. ومن طبع الشياطين أن يندسوا في النفوس ويوسوسوا لها الشر ويحببوا إليها فعل السيئات. قال صلى الله عليه وسلم: «إن الشيطان ليجري في الإنسان مجرى الدم» فيجعله ﴿في الأرض حيران﴾ أي مترددًا بين الأمرين. وقد وضح الرسول ﷺ ذلك بقوله: «إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق، وأما لمة الملك فإيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك، ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان». انظر ص ٨٦ جزء ٣٠ ﴿له أصحاب يدعونه إلى الهدى﴾ أي في حين أن له من الإنس من يدعونه إلى الهدى ويرشدونه إلى أقوم السبل التي سنها الله ويقولون له ﴿ائتنا﴾ أي انضم إلى صفوفنا تكن من الناجحين. فلم يصغ لدعوتهم ولم يستجب لندائهم مستسلمًا لاستهواء الشياطين له. ونحن بما أوتينا من عقل وفهم نعيذ أنفسنا أن نكون مثل هؤلاء ﴿قل﴾ أيها الرسول ﴿إن هدى الله﴾ الذي رسمه لعباده في كتبه وعلى لسان رسله ﴿هو الهدى﴾ الذي يجب أن يتبع لا ما يأتي عن طريق العقل فقط ﴿وأمرنا﴾ بطلب هذا الهدى ﴿لنسلم لرب العالمين﴾ أي لأجل أن نسلم قلوبنا ونوجهها لله وحده بالإذعان له والخضوع لدينه والإخلاص في عبادته ﴿وأن أقيموا الصلاة﴾ أي وأمرنا بإقامة الصلاة بمعنى المواظبة عليها ﴿واتقوه﴾ أي مع ملازمة التقوى بمعنى اتقاء ما يترتب على مخالفة دين الله وشرعه ﴿وهو﴾ أي
من استجابته لدعائكم برًّا بوعده لكم في قوله ﴿ادعوني استجب لكم﴾ ﴿إن رحمة الله قريب من المحسنين﴾ الإحسان في كل شيء مطلوب وسياق الآية يدل على أن المراد بالمحسنين هنا من يحسنون في دعائهم فيخلصونه لله ويحسنون الظن بربهم القائل في حديث قدسي «أنا عند حسن ظن عبدي فليظن بي خيرًا» فلا يداخلهم أي شك في بره سبحانه بوعده بإجابة الدعاء ورحمته بعباده وقبول التوبة منهم وعفوه عن السيئات فيدعونه تضرعًا وخفية ويدعونه خوفًا وطمعًا قال صلى الله عليه وسلم: «سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل وأفضل العبادة انتظار الفرج» وقال أيضًا «من لم يسأل الله يغضب عليه» وقال أيضًا «ادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة واعلموا أن الله لا يستجيب دعاء من قلب غافل لاه».
بعد أن دعا الله الناس إلى توحيد الألوهية وإفراده تعالى بالعبادة أخذ يدعوهم إلى اليقين بالبعث ومهد لذلك بما يشعرهم أن البعث لم يكن إلا من رحمته بعبيده فقال ﴿وهو﴾ أي الله ﴿الذي يرسل الرياح﴾ وقرئ «الريح» أي الهواء المتحرك وهو جسم لطيف يعبر عنه علماء الكيمياء بالغاز لا لون له ولا رائحة مركب تركيبًا مزجيًا من عنصرين غازيين أصليين يسمى أحدهما "الأكسجين" وخاصته توليد الاحتراق والاشتعال وإحداث الصدأ في المعادن وهو يسبب حياة الأحياء كلها من حيوان ونبات وثانيهما "الآزوت – أو النيتروجين" وهو أخف عناصر المادة وزنًا ويوجد في أجسام النبات كما يوجد في لحم الحيوان وبيضه ولبنه وهو الأصل فيه وهو ضروري للحياة من حيث تعديله للأكسجين ومنعه إياه من الطغيان وهو في ذاته ركن من أركان الغذاء للحيوانات ﴿بشرًا﴾ بالباء مضمومة وسكون الشين وفي رواية بضمهما وقرئ «نشرًا» بفتح النون وإسكان الشين والمراد بالنشر التفريق يقال نشرت الثوب ضد طويته ﴿بين يدي رحمته﴾ أي أن إرساله ونشره دليل على استمرار رحمة الله بعباده فكل عاقل يستطيع أن يتصور كيف يكون حاله وحال العالم أجمع إذا خلا الجو من هذا الهواء الذي نستنشقه أو توقف إرساله إلى غير ذلك من المنافع الجمة التي جعلها الله فيه لمصالح الإنسان ومنها تطهيره سطح الأرض التي نعيش عليها من الرطوبات القذرة وما يتولد فيها من ميكروبات الأمراض فهو يمتصها ويدفعها في الفضاء الواسع ليتفرق شملها وتموت محترقة بأشعة الشمس وقد ورد في الحديث «تنكبوا الغبار فإن منه النسمة» وهي نفس حية ولعلها الميكروبات، ﴿حتى إذا أقلت﴾ أي رفعت الرياح ﴿سحابصا﴾ أي غيمًا ﴿ثقالًا﴾ مشبعًا بالبخار ﴿سقناه﴾ أي السحاب في السماء ﴿لبلد ميت﴾ أي أرض لا نبات فيها وهناك
نسيان فضل الله تعالى فيما أنعم به عليهم من تكوينهم أجنة في بطون أمهاتهم وسلامتهم من الإجهاض إلى أن ولدوا كاملي الأعضاء على أحسن حال ومن هنا يتطور الشرك في نفوس بعضهم فينسى خالقه ويلجأ إلى سواه ولذا أخذ جل وعلا يهزأ بسخافة عقولهم وضلالهم فقال ﴿أيشركون﴾ مع الله في الخلق والتكوين ﴿ما لا يخلق شيئًا﴾ أي من هو بالنسبة إلى الله كالجماد الذي ليس له أي تأثير في خلق النفس وإيجادها ﴿وهم﴾ أنفسهم ﴿يخلقون﴾ أي لم يكن لهم أي دخل حتى في خلقه أنفسهم ﴿ولا يستطيعون لهم﴾ أي لأبنائهم ﴿نصرًا﴾ في المستقبل ﴿ولا أنفسهم ينصرون﴾ أي بل لا يستطيعون نصر أنفسهم إذا ما اعتدى أحد عليهم ومن عجز عن دفع الضر عن نفسه فهو عن دفع الضر عن غيره أعجز ﴿وإن تدعوهم إلى الهدى﴾ وهو التجرد عن كل حول وطول والاعتقاد الجازم بأن الإنسان لا يملك نفع نفسه أو ضرها إلا وفق مشيئة الله وسننه كما قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: ﴿قل لا أملك لنفسي نفعًا ولا ضرًا إلا ما شاء الله﴾.
﴿لا يتبعوكم﴾ بتشديد التاء وقرئ بإسكانها فذلك من سجية الإنسان الذي يأبى إلا أن ينسب لنفسه كل شيء من عمل يده وينسى أو يتجاهل قدرة الله التي يستمد منها قوته والتي لولاها ما استطاع أن يعمل شيئًا ولذا قال تعالى: ﴿ولا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدًا إلا أن يشاء الله﴾. ﴿سواء عليكم أدعوتموهم﴾ إلى الإيمان بهذه الحقيقة ﴿أم أنتم صامتون﴾ فذلك أمر لا يتأتى إلا لمن كان قوي الإيمان بربه متمكنًا من معرفته.
بعد أن استعرض الله حالة البشر بفطرتهم السليمة ووصف أول شرك طرأ على نفوسهم بكفران نعم الله وتصورهم بأن لهم القدرة على نفع أنفسهم وضرها ناسين أو متجاهلين قوة الروح التي وهبها الله لهم والتي لولاها ما استطاعوا أن يفعلوا شيئًا أخذ يشير سبحانه إلى الاعتقاد بأن هناك من المخلوقات العظيمة كالشمس والقمر والنجوم والأوثان والأصنام شيئًا من أثر في النفع والضر ولذلك فإنهم يلجئون إليهم في الشدائد والملمات ويدعونهم من دون الله فشرع يناقشهم في هذا الأمر الذي لا ينبغي السكوت عليه ويقنعهم بضرورة الرجوع إلى الله والإيمان بوحدانيته وأن دعاء غيره يعد شركًا به جل وعلا فقال ﴿إن الذين تدعون﴾ أي تنادونهم لتفريج الكروب ودفع الضر عنكم وتحسبون أن في استطاعتهم إعانتكم ونصركم على أعدائكم ﴿من دون الله عباد أمثالكم﴾ أي خلق من خلقه جل وعلا لا يستطيعون نفعكم ولا نفع أنفسهم وإذا كنتم لا
٦ - التهيؤ للقتال دائمًا والاستعداد في كل وقت لإجابة داعي الله وقد علم الله أن بعضهم في غزوة تبوك كان غير ميال في سيره إلى القتال متباطئًا في السير فأراد الله جل وعلا أن ينتزع من قلوبهم ذلك وأمرهم بعدم التردد لحظة في إجابة الأمر حيث قال: ﴿يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض﴾ أي تباطأتم ولم تنهضوا للنجدة وإجابة الداعي: ﴿أرضيتم بالحياة الدنيا﴾ ولذتها الفانية الناقصة: ﴿من الآخرة﴾ بدلًا من سعادتها الكاملة الدائمة: ﴿فما متاع الحياة الدنيا﴾ الذي تعجبون به: ﴿في الآخرة﴾ أي بالنسبة لمتاعها: ﴿إلا قليل﴾ لا يرضى به عاقل يؤمن بالله واليوم الآخر وقد شبه رسول الله نعيم الدنيا بالإضافة إلى نعيم الآخرة في قلته في نفسه وزمنه بمن وضع أصبعه في اليم ثم أخرجها منه وقال: «فانظر بم ترجع».: ﴿إلا تنفروا﴾ إذا دعاكم داعي الله إلى الجهاد في سبيله: ﴿يعذبكم﴾ الله: ﴿عذابًا أليمًا﴾ في الآخرة وفي الدنيا حيث يجعلكم ضعفاء أذلاء مستعبدين لحكام مستبدين أو شعوب مستعمرين: ﴿ويستبدل﴾ بكم: ﴿قومًا غيركم﴾ خيرًا منكم: ﴿ولا تضروه شيئًا﴾ بتثاقلكم عن طاعته ونصرة دينه لأن الذي سيكوى بنار الذل إنما هو أنتم أما دينه فهو قادر على تأييده ونشره بمختلف الوسائل: ﴿والله على كل شيء قدير﴾ فلا يعجزه أن يرسل عليكم من الوباء ما يقضي به عليكم عن آخركم متى أراد: ﴿إلا تنصروه﴾ أي الرسول الذي استنفركم في سبيله: ﴿فقد نصره الله﴾ كتب له تعالى النصر: ﴿إذ أخرجه الذين كفروا﴾ أي عندما تسببوا في خروجه من مكة وألجئوه إليه بما بيتوا في دار الندوة قتله أو حبسه أو نفيه فأذن الله له بالهجرة فهاجر ولم يكن معه غير صديقه أبي بكر وكان هو: ﴿ثاني اثنين إذ هما في الغار﴾ ولم يكن معه شيء من الرجال والعتاد: ﴿إذ يقول﴾ من عظم ثقته بربه وبنصره له: ﴿لصاحبه﴾ الذي هو ثانيه وهو أبو بكر حين رأى منه شيئًا من الخوف والفزع والقلق: ﴿لا تحزن إن الله معنا﴾ بنصره ومعونته وتأييده وحفظه ومن كان الله معه بنصرته التي لا تغلب وقوته التي لا تقهر فما يكون له أن يستسلم للحزن والقلق: ﴿فأنزل الله سكينته عليه﴾ أي على صاحبه أبي بكر الذي كان قلقًا: ﴿وأيده﴾ أي الرسول في كل موضع: ﴿بجنود لم تروها﴾ أي بقوى غيبية غير ظاهرة لكم: ﴿وجعل﴾ الله: ﴿كلمة الذين كفروا﴾ التي اجتمعوا عليها واعتقدوا بضرورة تنفيذها: ﴿السفلى﴾ الحقيرة التي لا قيمة لها: ﴿وكلمة الله﴾ التي يريدها ويأمر بها: ﴿هي العليا﴾ التي يجب أن تكون: ﴿والله عزيز﴾ ذو سلطان واسع: ﴿حكيم﴾ ذو تدبير عظيم.
يأتي للملك ويطلب عفوه رأسًا من غير واسطة فكيف بملك الملوك؟ حتى أصبحت العامة تدين بهذا وتعد خارجًا عن الإسلام أو عن إجماع المسلمين كل من يدعو إلى التوحيد الخالص وتنزيه حكم الله عن الشفاعة بمعناها المتعارف عند الناس والتي نفاها الله في عدة مواضع وبكل شدة كما وضحنا ذلك في الصفحة السابعة من الجزء الثالث من هذا التفسير: ﴿وإن هم إلا يخرصون﴾ أي وما هم في اتباع هذا الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا إلا يحذرون ويقدرون كمن يخرص الشجرة. إذ يقدر ما تحمله من الثمر: ﴿هو الذي﴾ بمحض كرمه ومن غير وسيط ولا شفيع قدر لكم ما أنتم في حاجة إليه من وسائل الراحة أولًا ويسر لكم وسائل العمل والكسب ثانيًا إذ: ﴿جعل لكم الليل لتسكنوا فيه﴾ أي لتأخذوا فيه حظكم من الراحة لتستعدوا للحركة والعمل المضني في سبيل طلب الرزق: ﴿والنهار مبصرًا﴾ أي وجعل النهار مضيئًا لتنتشروا في الأرض وتبتغوا من فضل الله وتؤدوا مهمتكم في سبيل إعمار هذا الكون: ﴿إن في ذلك﴾ أي فيما ذكر من عناية الله بكم وتأمين راحتكم قبل أن يرهقكم بالعمل دون وسيط أو شفيع: ﴿لآياتٍ﴾ تدل على أنه تعالى ليس ممن يستدر عطفه عن طريق الوسطاء والشفعاء بل هو أرحم الراحمين وأشفق على عباده من كل أحد ويستجيب دعاءكم ويحقق آمالكم بمجرد الدعاء: ﴿لقوم يسمعون﴾ ما يتلى عليهم من وجوب إفراد الله بالوحدانية والامتناع عن كل ما يشم منه رائحة الشرك أو المحاباة في الحكم تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
بعد أن نبه الله الأفكار إلى مداخل الشيطان إلى القلوب لإضلالها عن طريق التقرب إليه بالوسطاء ونهى رسوله عن الحزن من قولهم وألقى ضوءًا على معتقداتهم الفاسدة التي لا يقرها كل ذي عقل سليم أخذ يشير إلى من هم أشد ضلالًا من أولئك وهم الذين: ﴿قالوا اتخذ الله ولدًا﴾ حيث زعم المشركون أن الملائكة بنات الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال اليهود عزير ابن الله ويرى بعض المؤرخين أن المراد بعزير أحد الآلهة عند قدماء المصريين: ﴿سبحانه﴾ أي الله منزه عن اتخاذ الأولاد، ذلك لأنه لا يريد الولد إلا من يرجو معونته والاعتزاز به خصوصًا في حال شيخوخته وهذا ما لا يجوز على الله جلت قدرته: ﴿هو الغني﴾ بذاته عن كل ما سواه: ﴿له ما في السماوات وما في الأرض﴾ من جميع الموجودات التي خلقها من غير معين وبدون حاجة إليها، وإنما كان ذلك للدلالة على عظيم قدرته وفائق تدبيره وكمال
﴿جاءوا على قميصه بدم كذب﴾ أي جاءوا بقميصه ملطخًا بدم يشهد ظاهره على أنه مصطنع فهو ملوث من بعض نواحيه وليس فيه شيء من التمزيق الذي يدل على افتراس الذئب له ولهذا لم يصدقهم إذ: ﴿قال﴾ إن الذئب لم يأكل بني: ﴿بل سولت لكم أنفسكم أمرًا﴾ أردتم به فجيعتي فيه: ﴿فصبر جميل﴾ أي فإني سأصبر صبرًا لا جزع فيه ولا قنوط من رحمة الله بي وبه: ﴿والله المستعان على ما تصفون﴾ من أكل الذئب ليوسف في حال استباقكم فهو سبحانه القدير على ظهار الحقيقة ودحض مفترياتكم.
لقد تذرع يعقوب بالصبر على بلواه وفوض أمره إلى مولاه واستعان به على إظهار الحق فسبب لابنه من الأسباب ما لم يكن في الحسبان إذ قال: ﴿وجاءت سيارة﴾ صيغة مبالغة من السير «كجوالة وكشافة» أي جماعة من الناس إلى تلك الجهة التي بها الجب: ﴿فأرسلوا واردهم﴾ أي المختص منهم بورود الماء للاستقاء: ﴿فأدلى دلوه﴾ أي أرسله لإخراج الماء من ذلك الجب فتعلق به يوسف فلما خرج ورآه صاح من فرحه في جماعته: ﴿قال يا بشرى﴾ بالألف الساكنة بدون ياء وقرئ «يا بشراي» بالألف وفتح الياء على الإضافة، وقرئ بإمالة الألف: ﴿هذا غلام﴾ ففرح الجميع بذلك: ﴿وأسروه﴾ أي أخفوه من الناس لئلا يدعيه أحد من أهل ذلك المكان: ﴿بضاعة﴾ أي لأجل أن يكون بضاعة لهم يبيعونه في مصر من ضمن عروضهم التجارية: ﴿والله عليم بما يعملون﴾ من أمر إخفائه واتخاذه بضاعة لهم فأسبغ ستره عليهم ولم يشأ أن يظهر الحقيقة ليمضوا في سبيلهم ويكون ذلك سببًا في إيصاله إلى مصر وتحقيق رؤياه: ﴿وشروه﴾ شرى الشيء يشريه باعه واشتراه ابتاعه: ﴿بثمن بخس﴾ أي بقيمة بسيطة بمعنى تساهلوا في أمر ثمنه: ﴿دراهم معدودة﴾ أي بقيمة لم تبلغ الأربعين درهمًا. ذلك لأن العرب كان من عاداتها أن تزن ما بلغ الأوقية وهي أربعون درهمًا فما فوقها وتعد ما دونها: ﴿وكانوا فيه من الزاهدين﴾ أي راغبين في الخلاص منه لئلا يظهر من يطالبهم به أو يثبت حريته ومن أجل هذا باعوه بالثمن البخس وإلا فلو أنهم كانوا واثقين من رقه لتمسكوا فيه وطلبوا فيه ثمنًا باهظًا كل هذا ويوسف ساكت ينظر ماذا سيفعل الله به ولم يحاول أن يكشف عن حقيقة أمره: ﴿وقال الذي اشتراه من مصر﴾ وهو عزيز مصر ولعله لقب حاكمها وصاحب الأمر فيها في ذلك العصر: ﴿لامرأته أكرمي مثواه﴾ أي إنه أوصاها بإكرامه وحسن معاملته لا أن يعامل معاملة العبيد والخدم: ﴿عسى أن ينفعنا﴾ في
وأنتم لم تستجيبوا لطلبه ولم تثقوا بكلامه فذوقوا العذاب الموعود: ﴿وسكنتم﴾ هذا معطوف على قوله أقسمتم أي أو لم تكونوا سكنتم واستوطنتم: ﴿في مساكن الذين ظلموا أنفسهم﴾ بعد انقراضهم: ﴿وتبين لكم﴾ بمشاهدة الآثار وتوافر الأخبار: ﴿كيف فعلنا بهم﴾ أي ماذا أنزلناه عليهم من العذاب والهلاك عقوبة على ما اقترفوه من الظلم والفساد: ﴿وضربنا لكم الأمثال﴾ بهم في القرآن وأنتم في حياتكم الدنيا، لتتعظوا بكل ذلك فلا محل لطلبكم اليوم العودة إلى تلك الحياة: ﴿وقد مكروا﴾ أي الذين ظلموا أنفسهم: ﴿مكرهم﴾ أي تدبيرهم الخفي لإبطال الحق وتقرير الباطل بما أشار إليه تعالى بقوله: ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك﴾: ﴿وعند الله مكرهم﴾ أي وكان عند الله من التدابير الخفية ما يحبط مكرهم: ﴿وإن كان مكرهم﴾ لشدة إحكامه: ﴿لتزول﴾ بكسر اللام الأولى ونصب الثانية وقرئ بفتح الأولى ورفع الثانية: ﴿منه الجبال﴾ الراسيات عن مقارها ولكنه لا يلبث أن ينهار أمام تدابير الله حيث يعلو الحق على الباطل إن الباطل كان زهوقًا: ﴿فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله﴾ بتأييدهم وقيام حجتهم ونصرهم على أعدائهم كقوله: ﴿كتب الله لأغلبن أنا ورسلي﴾ وقوله: ﴿إنا لننصر رسلنا﴾: ﴿إن الله عزيز﴾ لا ينال في الدنيا بمكر الماكرين وكفر الكافرين: ﴿ذو انتقام﴾ لمن كفر به وكذب رسله وأعلن عصيانه.
﴿يوم تبدل الأرض غير الأرض﴾ أي في ذلك اليوم روى أبو هريرة عن رسول الله ﷺ أنه قال «يبدل الله الأرض غير الأرض فيبسطها ويمدها مد الأديم العكاظي فلا ترى فيها عوجًا ولا أمتا»: ﴿والسماوات﴾ أي تبدل السماوات غير السماوات ولعل تبديلها يكون بانتثار كواكبها وانفطارها وتكوير شمسها وخسوف قمرها وتفتح أبوابها: ﴿وبرزوا﴾ أي ظهر الخلق بأعمالهم التي كانوا يعملونها في الخفاء: ﴿لله الواحد﴾ الذي لا شريك له: ﴿القهار﴾ الذي لا سلطان لأحد في الوجود سواه: ﴿وترى المجرمين يومئذ مقرنين﴾ أي مقرونًا بعضهم إلى بعض: ﴿بالأصفاد﴾ أي القيود والأغلال: ﴿سرابيلهم﴾ جمع سربال وهو القميص: ﴿من قطران﴾ وهو سائل يستخرج من بعض الأشجار ويطبخ ويطلى به الإبل الجربى فيحرق الجرب بحرارته وحدته وهو أسود اللون منتن الريح سريع الاشتعال تطلى به جلود أهل النار حتى يصير ذلك الطلي كالسرابيل فيجتمع لهم بذلك أربعة أنواع من العذاب حرقة القطران واللون الرديء والريح المنتن وسرعة الاشتغال كل ما نضجت جلودهم بدلهم الله جلودًا غيرها: ﴿وتغشى وجوههم النار﴾ أي
عما كان عليه قومه من الضلال إلى جانب الهدى من تلقاء نفسه، الناحية الثالثة أنه منذ نشأته: ﴿ولم يك من المشركين﴾ أي لم تؤثر فيه تعاليم البيئة والوالدين بل كان أول من تحرر من قيود التقاليد وبحث في طلب الحق فأنكر ما كان عليه قومه من تلقاء نفسه وانفرد بعقيدة هداه إليها ربه فآمن بها ودعا إليها وحارب قومه من أجلها وثبت عليها، الناحية الرابعة أنه كان: ﴿شاكرًا لأنعمه﴾ فقد آمن بأن الله هو مصدر جميع النعم فأخذ يتحدث بذلك ويدعو الناس إلى ربه بما حكاه الله عنه في قوله: ﴿واتل عليهم نبأ إبراهيم إذ قال لأبيه وقومه ما تعبدون قالوا نعبد أصنامًا فنظل لها عاكفين قال هل يسمعونكم إذ تدعون أو ينفعونكم أو يضرون قالوا بل وجدنا آباءنا كذلك يفعلون قال أفرأيتم ما كنتم تعبدون أنتم وآباؤكم الأقدمون فإنهم عدو لي إلا رب العالمين الذي خلقني فهو يهدين والذي هو يطعمني ويسقين وإذا مرضت فهو يشفين والذي يميتني ثم يحيين والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين رب هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين واجعل لي لسان صدق في الآخرين واجعلني من ورثة جنة النعيم واغفر لأبي إنه كان من الضالين ولا تخزني يوم يبعثون يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم﴾ فرضي الله عن عمله وتقبل دعاءه وكان من أثر ذلك أن: ﴿اجتباه﴾ الاجتباء هو أن تأخذ الشيء بالكلية بمعنى اصطفاه واختصه لذاته العلية: ﴿وهداه إلى صراط مستقيم﴾ أي أرشده إلى دعوة الناس عن بينة إلى ما يقربهم إلى ربهم من الدين الخالص من شوائب الشرك والضلال: ﴿وآتيناه في الدنيا حسنة﴾ إذ جعلنا من نسله هداة الخلق من الأنبياء والمرسلين: ﴿وإنه في الآخرة لمن الصالحين﴾ أصحاب الدرجات العالية في الجنة وفق ما سأله: ﴿ثم﴾ إنه بعد تقادم الزمن: ﴿أوحينا إليك﴾ أي ألهمناك في صباك كما أوحينا إلى أم موسى من قبل: ﴿أن اتبع ملة إبراهيم﴾ أي الطريقة التي كان عليها إبراهيم بفطرته: ﴿حنيفًا﴾ منحرفًا عن قومه فكنت كذلك: ﴿وما كان من المشركين﴾ فلم يتأثر بأباطيل قومه ولم يتابعهم في شركهم قط فكنت أيضًا كذلك وهذا أيضًا استجابة لدعائه عليه السلام فقد قال: ﴿ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك وأرنا مناسكنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ربنا وابعث فيهم رسولًا منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم﴾ ولذا قال ﷺ «أنا دعوة إبراهيم وبشارة عيسى» ولعل هذا هو الصواب لا كما يتصوره بعضهم من
يأتي للملك ويطلب عفوه رأسًا من غير واسطة فكيف بملك الملوك؟ حتى أصبحت العامة تدين بهذا وتعد خارجًا عن الإسلام أو عن إجماع المسلمين كل من يدعو إلى التوحيد الخالص وتنزيه حكم الله عن الشفاعة بمعناها المتعارف عند الناس والتي نفاها الله في عدة مواضع وبكل شدة كما وضحنا ذلك في الصفحة السابعة من الجزء الثالث من هذا التفسير: ﴿وإن هم إلا يخرصون﴾ أي وما هم في اتباع هذا الظن الذي لا يغني من الحق شيئًا إلا يحذرون ويقدرون كمن يخرص الشجرة. إذ يقدر ما تحمله من الثمر: ﴿هو الذي﴾ بمحض كرمه ومن غير وسيط ولا شفيع قدر لكم ما أنتم في حاجة إليه من وسائل الراحة أولًا ويسر لكم وسائل العمل والكسب ثانيًا إذ: ﴿جعل لكم الليل لتسكنوا فيه﴾ أي لتأخذوا فيه حظكم من الراحة لتستعدوا للحركة والعمل المضني في سبيل طلب الرزق: ﴿والنهار مبصرًا﴾ أي وجعل النهار مضيئًا لتنتشروا في الأرض وتبتغوا من فضل الله وتؤدوا مهمتكم في سبيل إعمار هذا الكون: ﴿إن في ذلك﴾ أي فيما ذكر من عناية الله بكم وتأمين راحتكم قبل أن يرهقكم بالعمل دون وسيط أو شفيع: ﴿لآياتٍ﴾ تدل على أنه تعالى ليس ممن يستدر عطفه عن طريق الوسطاء والشفعاء بل هو أرحم الراحمين وأشفق على عباده من كل أحد ويستجيب دعاءكم ويحقق آمالكم بمجرد الدعاء: ﴿لقوم يسمعون﴾ ما يتلى عليهم من وجوب إفراد الله بالوحدانية والامتناع عن كل ما يشم منه رائحة الشرك أو المحاباة في الحكم تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
بعد أن نبه الله الأفكار إلى مداخل الشيطان إلى القلوب لإضلالها عن طريق التقرب إليه بالوسطاء ونهى رسوله عن الحزن من قولهم وألقى ضوءًا على معتقداتهم الفاسدة التي لا يقرها كل ذي عقل سليم أخذ يشير إلى من هم أشد ضلالًا من أولئك وهم الذين: ﴿قالوا اتخذ الله ولدًا﴾ حيث زعم المشركون أن الملائكة بنات الله وقالت النصارى المسيح ابن الله وقال اليهود عزير ابن الله ويرى بعض المؤرخين أن المراد بعزير أحد الآلهة عند قدماء المصريين: ﴿سبحانه﴾ أي الله منزه عن اتخاذ الأولاد، ذلك لأنه لا يريد الولد إلا من يرجو معونته والاعتزاز به خصوصًا في حال شيخوخته وهذا ما لا يجوز على الله جلت قدرته: ﴿هو الغني﴾ بذاته عن كل ما سواه: ﴿له ما في السماوات وما في الأرض﴾ من جميع الموجودات التي خلقها من غير معين وبدون حاجة إليها، وإنما كان ذلك للدلالة على عظيم قدرته وفائق تدبيره وكمال
سبيل الغنى والعزة
سورة التغابن
الإنسان حر في عقيدته
تصوير الإنسان بأحسن الصور
علم الله
لا ينال الإنسان إلا ما يستحق
معنى استغناء الله
الحكمة في عدم إرسال الرسل من الملائكة
إنكار الكافرين للبعث
الدعوة إلى الإيمان
يوم التغابن
الوعد بتكفير السيئات ودخول الجنة
الوعيد بالنار
كيف يقي الله من يريد من المصائب
طاعة العبد تستجلب رضاء الله عنه
مهمة الرسول البلاغ
معنى التوكل وثمرته
عداوة الأزواج والأبناء
معنى شح النفس
القرض الحسن
سورة الطلاق
أحكام الطلاق والعدة
المرأة صاحبة الحق في بيت الزوجية
حدود الله في أمر الزوجية
الذي يستخرج منه الخمر عادة فله طعم ولذة تغاير خمر الدنيا. قال ابن عباس «كل ما ذكره الله في القرآن مما في الجنة ليس منه في الدنيا غير الاسم».
﴿عينًا فيها﴾ أي أن تلك الخمر تستخرج من عين ماء جار: ﴿تسمى سلسبيلا﴾ وهذا يعني أنه ليس لها مسمى أيضًا في الدنيا قال ابن الأعرابي لم أسمع السلسبيل إلا في القرآن: ﴿ويطوف عليهم﴾ لقضاء حوائجهم وخدمتهم: ﴿ولدان﴾ جمع وليد أي صبية صغار: ﴿مخلدون﴾ أي أنهم دائمًا على تلك الصورة الحسنة التي لا يراد في الخدم أبلغ منها: ﴿إذا رأيتهم حسبتهم لؤلؤًا﴾ في حسنهم وصفائهم وبياضهم الناصع الذي يأخذ بالألباب: ﴿منثورًا﴾ أي متفرقًا في جميع النواحي مستعدين لقضاء طلبات الناس: ﴿وإذا رأيت ثم﴾ أي وحيثما وقع بصرك: ﴿رأيت نعيمًا وملكًا كبيرًا﴾ أي لا تجد تفاوتًا في الطبقات فليس هناك غني وفقير وسيد ومسود بل كل واحد هناك يمثل العظمة والجاه والغنى والسلطان: ﴿عاليهم﴾ بفتح الياء وقرئ بإسكانها أي ما يعلوهم من اللباس: ﴿ثياب سندس﴾ وهو مارق من الديباج: ﴿خضر وإستبرق﴾ كلاهما بالرفع وقرئ كلاهما بالخفض وقرئ بخفض الأولى ورفع الثانية وبالعكس والإستبرق ما غلظ من الديباج أيضًا وكل ذلك من أنواع الحرير الفاخر: ﴿وحلوا أساور من فضة﴾ أي أنهم في الجنة يحلون أيديهم بالأساور تارة من فضة وأخرى من ذهب كما جاء في سورة الكهف بمعنى أن الرجل ليتزين في الآخرة كما تتزين النساء فليس هناك من شيء معيب أو محظور فلكل واحد ملء الحرية في أن يأكل ويلبس ويجلس كما يشاء لا قيود ولا تكاليف ولا عوائد ولا تقاليد: ﴿وسقاهم ربهم شرابًا طهورًا﴾ أي أنه جل جلاله فوق هذا كله سيكرمهم بضيافته ويسقيهم شرابًا خاصًّا من قبله يفضّل عن جميع أنواع الأشربة التي يجدونها في الجنة ويمتاز عنها بأنه طهور وهو ما يتطهر به أي يزيل عن نفوسهم الأحقاد والضغائن وجميع الخلال الذميمة ويبالغ الله في تكريمهم إذ يقول: ﴿إن هذا كان لكم جزاء﴾ على أعمالكم القلبية من الإيمان بي وتصديق رسلي والخوف من عذابي: ﴿وكان سعيكم﴾ أي أعمالكم لبدنية التي أردتم بها طاعتي وابتغاء مرضاتي: ﴿مشكورًا﴾ أي محمودًا مثابًا عليه بحسب ما قدره الله من الجزاء على الأعمال الصالحة.
بعد أن وضح الله تبارك وتعالى في أول السورة الحكمة الإلهية في خلق الإنسان وإيجاده من العدم وهي أن يؤدي في الحياة دور اختبار ودلل على هذا بما آتاه من السمع والبصر وملكة العقل التي
الصلاة والسلام من طيور ألقت عليهم أحجاراً جلبت لهم مرضاً لم يكونوا يعرفونه من قبل وقصتهم مدونة في كتب السير وهي تتلخص في أن أبرهة عامل النجاشي في اليمن أراد قهر العرب وإذلالهم فسار بجيش جرار إلى مكة بقصد هدم قبلتهم الكعبة المشرفة وكان هو يتقدم الجيش راكباً على فيل ضخم لزيادة الإرهاب فلما سمعت قبائل العرب بذلك صاروا يتصدون له في الطريق بمنعه ورده عن قصده، ولكنه كان يهزمهم ويستمر في مواصلة سيره حتى بلغ مكة واستولى على أنعام قريش ومن بينها مئتا بعير لعبد المطلب بن هاشم –وكان إذ ذاك سيد مكة وكانت عنده السقاية والوفادة فهبت قريش لحربه لولا أن أبرهة أرسل إليهم حناطة الحميري للتفاهم معهم، فجاء إلى عبد المطلب وقال له: إن الملك يبلغك أنه ما جاء لحربكم وإنما جاء لهدم هذا البيت، فإن لم تعارضوه في ذلك فلا حاجة له بدمائكم، فأجاب عبد المطلب: ونحن لا نريد حربه وما لنا من طاقة، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم عليه السلام فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه وإن يخل بينه وبينه فوالله ما عندنا دافع عنه، فقال حناطة: انطلق إليه معي فإنه أمرني أن آتيه بك، ولما أقبل عليه أجله أبرهة ونزل عن سريره وجلس إلى جانبه وأكرم مثواه، ثم سأله عن حاجته ليقضيها له، فقال: أن ترد علي ما أخذت من إبلي، فقال أبرهة لترجمانه: قل له: لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ثم زهدتك حين كلمتني، أتكلمني في مائتي بعير أخذتها لك وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك- جئت لهدمه فلا تكلمني فيه؟! قال له عبد المطلب: أنا رب الإبل، وإن للبيت رباً يحميه وسيمنعه، قال: ما كان ليمتنع مني، قال عبد المطلب: أنت، وذاك فردّ عليه إبله.
وعاد عبد المطلب إلى قريش فأخبرهم الخبر وأمرهم بالخروج من مكة والتحرز في رءوس الجبال والشعاب، ثم جاء إلى البيت وأنشد يقول:
لا همَّ إن العبد يمنع رحله فأمنع رحالك
لا يغلبنِّ صليبهم ومحالهم غدواً محالك
إن كنت تاركهم وقبلتنا فأمر ما بدا لك
وانصر على آل الصليب وعابديه اليوم آلك


الصفحة التالية
Icon