علينا ميثاقًا. فأنزل الله قوله ﴿أوكلما﴾ وقرئ بإسكان الواو ﴿عاهدوا﴾ وقرئ ﴿عوهدوا﴾ و ﴿عهدوا﴾ ﴿عهدًا﴾ أي ميثاقًا ﴿نبذه فريقٌ منهم﴾ وزعم أنه ما علم به ولم يحصل، وهذا هو شأنهم من قبل مع الأنبياء السابقين، فما قاله لك اليوم مالك بن الصيف ليس هو رأيه الخاص فيك ﴿بل أكثرهم لا يؤمنون﴾ لأنهم قوم لا عهد لهم ولا ميثاق، ولا إيمان لمن لا عهد له.
وهذا يدل على أن من كان طبعه المكابرة في الحق، ونقض العهد، فلا سبيل إلى إيمانه، لأن الدين الإسلامي دين قناعة ووفاء، ومن كان طبعه المكابرة لا يمكن أن يقنع، وناقض العهد لا ثبات له فلا يؤمن جانبه.
«الطبع الثاني عشر» من طبائع بني إسرائيل هو: نبذهم الدين كلية عند الاقتضاء، وقد تجلى ذلك في نبذ فريق منهم للتوراة وراء ظهورهم؛ بمعنى تركهم العمل بها عند ما جاء القرآن مؤيدًا لها، وداعيًا لمثل ما تدعوهم إليه من توحيد الله، وعدم الشرك، حيث قال تعالى ﴿ولما جاءهم رسولٌ من عند الله مصدقٌ لما معهم﴾ من التوراة ﴿نبذ فريقٌ من الذين أوتوا الكتاب﴾ ممن يدعون التمسك به من بني إسرائيل ﴿كتاب الله﴾ الذي هو التوراة ﴿وراء ظهورهم﴾ نبذ من لا يعلم عنه شيئًا ﴿كأنهم لا يعلمون﴾ أنه نزل عليهم مبالغة في تركه وإهماله، بل إنهم لم يتورعوا من ارتكاب ما هو أكبر من هذا.
«الطبع الثالث عشر» من طبائعهم: اللجوء إلى طرق غير مشروعة في سبيل أغراضهم وقد تجلى هذا في تعاطيهم السحر، وما أشبه في سبيل مقاومة الدين حيث قال تعالى ﴿واتبعوا﴾ في هذه الحياة ﴿ما تتلوا الشياطين﴾ من الإنس والجن وتنسبه افتراء ﴿على ملك سليمان﴾ لأنهم كانوا يقرؤون كتب السحر، ويزعمون أن ملك سليمان ما قام إلا على هذا العلم الذي يخيل للناس أن للساحر قدرة على خلق الأجسام، وإيجاد الحياة، وترتيب الأشكال، والعلم بالمغيبات، وكل هذا كفر يبرأ منه سليمان. ولذلك قال تعالى ﴿وما كفر سليمان﴾ لأنه لم يكن ساحرًا وما عمل بالسحر قط ﴿ولكن﴾ أولئك ﴿الشياطين﴾ وقرئ بسكون نون لكن وضم نون الشياطين، من نسل إبليس وأتباعه من الإنس والجن هم الذين ﴿كفروا﴾ بنسبة السحر إلى سليمان كذبًا وزورًا؛ لأن هذا يعد إنكارًا لمعجزاته، وجحودًا لنبوته، وزاد في كفرهم أنهم صاروا ﴿يعلمون الناس السحر﴾ ليوهموا العامة أنهم قادرون على ما لا يقدر عليه إلا الله،
لتزوجها بآخر يمنعها حق ذلك الزوج عن الرضاعة ﴿أن تسترضعوا﴾ أيها الآباء ﴿أولادكم﴾ لبن المراضع ﴿فلا جناح عليكم﴾ من حرمان الطفل من لبن أمه بالنظر لقيام العذر المانع منه ﴿إذا سلمتم ما آتيتم﴾ بألف ممدودة أي أعطيتم وقرئ ﴿أتيتم﴾ بألف مقصورة بمعنى أقدمتم وقرئ ﴿أوتيتم﴾ أي آتاكم الله وأقدركم عليه ﴿بالمعروف﴾ أي بشرط تسليمكم المراضع ما كنتم تنفقونه عليه من الأجر ليكن طيبات النفس فيبذلن ما في وسعهن من العناية بحال الطفل ويسهرن على راحته ﴿واتقوا الله﴾ في أولادكم فلا تجلبوا لهم الإضرار من جراء تخالفكم وعدم تنفيذكم ما ذكر من الأحكام ﴿واعلموا أن الله بما تعملون بصير﴾ فإذا قمتم بحقوق الأطفال كانوا لكم بررة في الدنيا ونلتم المثوبة من الله على ذلك في الآخرة.
بعد أن أوضح الله الأحكام المتعلقة بانفصال النساء عن أزواجهن بالطلاق أخذ يبين الأحكام الخاصة بالنساء اللواتي يموت بعولتهن وما يجب عليهن من الحداد والاعتداد ومن تجوز خطبتهن ومتى يتزوجن فقال ﴿والذين يتوفون منكم﴾ معشر الرجال وإنما خاطبهم بهذا الحكم لأنهم يشتركون في تنفيذه ﴿ويذرون أزواجًا﴾ في عصمتهم فعليكم أن تكلفوهن أن ﴿يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا﴾ أي عشرة ليال لا يتعرضن خلالها لكل ما يلفت إليهن أنظار الرجال من المغريات كالطيب والزينة والخروج من المنزل إلا لعذر شرعي محافظة على حقوق الزوجية الماضية وحدادًا على أزواجهن ووفاء لهم؛ إذ التعجيل بالزواج مما يسيئ إلى أهل الزوج وقد يفضى إلى اتهام المرأة بعدم حزنها بفقد زوجها وشغفها بسواه قال ﷺ «لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم والآخر أن تحد فوق ثلاث إلا على زوج فإنها تحد عليه أربعة أشهر وعشرًا» وأخرج ابن جرير عن الفريعة بنت مالك قالت «قتل زوجي وأنا في داره فاستأذنت رسول الله ﷺ في النقل فلم يأذن ثم ناداني بعد أن توليت فرجعت فقال يا فريعة حتى يبلغ الكتاب
وقد أقام بعمله الدليل القوي على ما نقول من أن نصر القلة على الكثرة لم يكن من المعجزات أو الكرامات وإنما هو باتباع دستور الله، ووفق ما سنه خاتم الرسل ﷺ وهناك أمثلة كثيرة تؤيد قولنا، وتبرهن على ما جنحنا إليه؛ من أنه لا بد في نيل النصر من اتباع دستور الله وتوافر شروطه الثلاثة السابقة، نكتفي منها بما يأتي:
١ - هذه حكومة الريخ «ألمانيا العظمى» التي اعتمدت على أساطيلها وطائراتها، ودباباتها وغواصاتها، وأعدت للحرب من السلاح ما لم يكن يحلم به خصومها، فدكت الحصون واكتسحت الممالك وظن رجالها أن النصر لا بد أن يكون لها ولكنها في النهاية غلبت وجيشها متوغل في صميم بلاد أعدائها، ولم يفز بالنصر غير بريطانيا التي طبقت دستور الله، فلم يدخل الخوف إلى قلوب أبنائها في الوقت الذي كان تشرشل رئيس وزرائها ينادي في البرلمان بأعلى صوته بأنه ليس لديه من القوة ما يقاوم به ألمانيا، ولذلك فإنه يستجدي رجال الأديان أن يدعوا الله لهم في الجوامع والكنائس بالنصر على أعدائهم، ومن أجل هذا كتب الله لهم النصر في الحرب، ودل هذا على أن الموضوع موضوع دستور إلهي عام يقضي بالنصر لمن اتبعه ونفذ تعاليمه والخذلان لمن تجاهله واتكل على أحد أطرافه دون الأخرى، ولا فرق في هذا بين أن يكون أحد الفريقين المتحاربين مسلمًا والآخر بوذيًا أو أن يكون كلاهما مسلمين أو مسيحيين. وإني على يقين ثابت من أن بريطانيا وحلفاءها لم يأفل نجمهم إلا عندما ناصبوا الله العداء بمناصرتهم اليهود أعداءه الألداء وإسكانهم في فلسطين العربية التي ستكون بقدرة الله مقبرة لهم ولكل من والاهم من المستعمرين.
٢ - وهذا شعب أندنوسيا ذلك الشعب الفقير الذي استعمرته هولندا الدولة الصغيرة مئات السنين وحرمت عليه اقتناء أصغر أنواع الأسلحة وقد انتدبني جلالة الملك لزيارته وتفقد أحواله في عام ١٩٣٧ فوجدت فيه حركة قوية تعمل للاستقلال وتؤلف الجمعيات وتعقد المؤتمرات لهذا الغرض فخلوت ببعض أقطابه، وسألته ألا تخافون من الحكومة فقال لي لا: لأنا نطالب بحقوقنا وصاحب الحق ينبغي أن لا يخاف وهي لا تعارضنا بل إنها تسخر منا في سرها لما تتوهمه من أن وجود القوة في يدها لا يجعل لعملنا أي قيمة، قلت وعلى أي شيء تعتمدون، وماذا أعددتم من قوة لإخراجها من بلادكم؛ فقال نحن لا نعتمد إلا على الله وحده وإنما نسعى لنيل حقوقنا بما ييسره لنا من
ربهم} هذا الدعاء. بما يشعرهم بأن مجرد الإيمان والدعاء لا يكفي لتحقيق ما طلبوا بل لابد أن يقترن ذلك باتباع السنن المؤدية إليه، وأكد لهم ما يقتضيه عدله تعالى ونظامه الذي سنه لعباده بقوله: ﴿أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى﴾ فالعبرة في النجاة من العذاب والفوز بحسن الثواب إنما يكون بصالح العمل والإخلاص فيه لا بمجرد الدعاء ووافر الأمل ﴿بعضكم من بعض﴾ فالرجل مولود من المرأة والمرأة مولودة من الرجل لا فرق بينهما في الأنساب ولا تفاضل إلا بالأعمال ﴿فالذين هاجروا﴾ من ديار الكفر إلى ديار الإيمان فرارًا بدينهم، أو ترفعًا من أن يكون للكفار سيادة عليهم ﴿وأخرجوا من ديارهم﴾ بالقوة رغم أنوفهم ﴿وأوذوا﴾ ضيق عليهم ووجهت إليهم الإساءة ﴿في سبيلي﴾ من أجل كونهم مؤمنين بي وداعين إلي أو مبشرين بديني ﴿وقاتلوا وقتلوا﴾ تبادلوا القتال الحسي والمعنوي ابتغاء مرضاة الله وقرئ "وقتلوا وقاتلوا" وقرئ "وقاتلوا وقتلوا" بتشديد التاء ﴿لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار﴾ التي وعدتهم بها على لسان رسلي ﴿ثوابا﴾ جزاء عظيمًا يفوق التصور ﴿من عند الله﴾ لقاء ما أصابهم من أجله من هجرة وإخراج من الديار وقتال وتقتيل ﴿والله عنده حسن الثواب﴾ فجزاؤه جل وعلا من محض الفضل وواسع الرحمة.
لقد أخبر الله رسوله بأنه جعل في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار آيات لأولي الألباب الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا إلى آخر الآية، ليشير إلى أن من لم يتخذ من ذلك آيات للدلالة على الله فليس بذي لب ثم أراد جل وعلا أن يدحض بعض تصورات قد تطرأ على قلوب بعض البشر إذ يقولون: كيف هذا ونحن نرى الكثير من الذين لم يهدهم عقلهم إلى الإيمان أصحاب عقول نيرة هدتهم إلى اكتشاف مباهج الحياة واختراع جميع وسائل السعادة والهناء فكيف نحكم عليهم بأنهم ليسوا من ذوي الألباب الناضجة، فخاطب الله رسوله بقوله ﴿لا يغرنك﴾ أيها الرسول، وخطاب الرسول خطاب لأمته ﴿تقلب الذين كفروا في البلاد﴾ في أنواع من النعم فتحسب ذلك دليلاً على نضج عقولهم التي أوصلتهم إلى ما أوصلتم إليه فإن هذا الذي ينعمون به ﴿متاع قليل﴾ في هذه الحياة الدنيا فقط وهي قصيرة الأمد ﴿ثم مأواهم﴾ في الحياة الأخرى التي هي دار القرار ﴿جهنم﴾ يصلونها ولا ينفكون عنها أبدًا ﴿وبئس المهاد﴾ فلو كانوا من ذوي الألباب لما آثروا المتاع القليل الزائل على النعيم الدائم المقيم {لكن الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجري من تحتها
تلتمس لهم الأعذار أو تلقنهم من الحجج على برائتهم ما لا حقيقة له ﴿إن الله لا يحب من كان خوانًا﴾ يخالف الحق ويعتدي على ما أؤتمن عليه ﴿أثيمًا﴾ الإثم ما حاك في الصدر أي من لا يخاف عقاب الله ولا يراقبه تعالى في سره وقد عرفهم تعالى بأنهم الذين ﴿يستخفون من الناس﴾ أي يسترون جرائمهم عن الناس وأمام القضاء ليرفعوا عن أنفسهم العقاب ﴿ولا يستخفون من الله﴾ أي ولا يبالون أن يراهم ربهم وهم كاذبون في ادعائهم ولا يخشون بأسه وشدة انتقامه ﴿وهو معهم﴾ أي في حين أنه تعالى كان مطلعًا عليهم ﴿إذ يبيتون﴾ يقررون في الليل ﴿ما لا يرضى من القول﴾ استعدادًا للمرافعة لتضليل القضاء طمعًا في تبرئة أنفسهم ورمي غيرهم بالجرم والخيانة ﴿وكان الله بما يعملون محيطًا﴾ أي أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أساس الموضوع وجميع ما طرأ عليه. ﴿ها أنتم﴾ يا ﴿هؤلاء﴾ المحامون الذين تصديتم للدفاع عنهم ﴿جادلتم عنهم﴾ اليوم أمام القضاة من المخلوقين ﴿في الحياة الدنيا﴾ بما أتيتم به في أثناء المرافعة من الأقوال المنمقة والحجج الزائفة لتخليصهم من العقاب ﴿فمن يجادل الله عنهم يوم القيامة﴾ أي من منكم يقف معهم طرف خصومة أمام الله محاولًا الدفاع عنهم وتبرئتهم مما هو ثابت عليهم في الحياة من الإثم ﴿أم من يكون عليهم وكيلًا﴾ يعتمدون عليه في حمايتهم من عذابه حيث يكون الخصم والحاكم هو الله العليم بكل شيء. ولما كان من مقتضى هذا الوعيد الشديد أنه لا يحق للمجرم أن يحاول الدفاع عن نفسه بل عليه أن يعترف دائمًا بالذنب وينال عليه الجزاء في الدنيا وهذا من الأمور الصعبة على النفوس ويكاد يشبه المستحيل أخذ سبحانه وتعالى يبين المخرج من ذلك والحل لهذه المشكلة فقسم الناس في هذا الباب إلى ثلاثة أقسام حيث قال:
ويعطفون عليهم.
الصفة الثانية:
<٦٨>
أن يراهم الرائي (أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) بمعنى أنهم لا يخضعون ولا يطأطئون رؤوسهم لأعدائهم من غير المؤمنين.
الصفة الثالثة: هي أن يراهم الرائي (يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) أي أنهم لا يفترون من العمل المتواصل في سبيل إعلاء كلمة الله ونشر دينه الحق ومناصرة إخوانهم في الدين بقدر ما في استطاعتهم.
والصفة الرابعة: هي أن يراهم الرائي يصدعون بقول الحق مهما كلفهم الأمر (وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ) اللومة المرة الواحدة من اللوم والتنكير فيها وفي كلمة لائم ما يفيد المبالغة قيل إنهم لا يخافون شيئا قط من لوم أو سواه (ذَلِكَ) أي ما ذكر من الصفات الأربع (فَضْلُ اللَّهِ) الذي قرر في دستوره العادل أن (يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاء) نيله من عباده عن طريق ترويض النفس عليه بمعنى أن من أراد أن يبادله الله الحب فليحاول دائما أن يتصف بهذه الصفات الأربع ليكون مفضلاً عند الله ويكثر من النوافل حتى يصبح محبوبا له في وقت واحد (وَاللهُ وَاسِعٌ) القدرة لا يعجزه الإتيان بقوم من هذا النوع من الناس (عَلِيمٌ) بمن هو أهل لذلك ممن اتصف بهذه الصفات الأربع (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ) الذي يصح أن يلي شئونكم وتخضعوا لحكمه أيها المؤمنون هو (اللَّهُ) الخالق لكم والمدبر لكافة شؤونكم (وَرَسُولُهُ) الذي أرسله تعالى مرشدا وهاديا لكم إلى ما يضركم وما ينفعكم (وَالَّذِينَ آمَنُوا) باعتبارهم إخوانا لكم مأمورين ومكلفين من قبل الله ببذل النصح لكم والدفاع عنكم بكل الوسائل والحكم بينكم بما أنزل الله ولما كان المؤمن لا يعد مؤمنا حقا إلا إذا عمل بما يقتضيه واجب الإيمان أراد سبحانه وتعالى أن يشعر المؤمنين بأنه لا ولاية عليهم لمطلق المؤمن بل لمن اتبع شريعة الإسلام وأدى فروضها الظاهرة فقال (الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ) بالصفة التي صلى بها الرسول ﷺ ويؤدونها في أوقاتها (وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ) لمستحقيها عن رضى وطيب نفس (وَهُمْ رَاكِعُونَ) أي خاضعون لأوامر الله (وَمَنْ يَتَوَلَّ) أي يرضى ويطمئن بولاية (اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا) فقد آوى إلى ركن حصين ذلك لأنهم بهذا
رب العالمين ﴿الذي إليه تحشرون﴾ أي تجمعون يوم القيامة ليحاسبكم على أعمالكم ويجزيكم عليها بحسب ما أنذركم به ﴿وهو الذي خلق السماوات والأرض بالحق﴾ أي خلقًا حقيقيًا لا شبهة فيه ولا خلاف ﴿ويوم يقول كن فيكون﴾ أي ويوم القيامة أيضًا ﴿قوله الحق﴾ الذي لا يخلف كما بدأهم يعودون ﴿وله﴾ وحده ﴿الملك﴾ أي السلطان المطلق ﴿يوم ينفخ في الصور﴾ وقد سئل النبي ﷺ عنه فقال: «هو قرن ينفخ فيه» وهو ما يسمى بالبوق كالذي ينفخ فيه لجمع الجند في الساحات وهو ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ الغيب: ما غاب مما لا يرى، والشهادة: ما ظهر للعيان، ويراد بهذا السر والجهر ﴿وهو الحكيم﴾ الذي يضع كل شيء في موضعه ﴿الخبير﴾ بدقائق الأمور وخفاياها فلا يشذ عن علمه شيء منها. فلا يليق بعاقل أن يدعو غيره ولو بقصد التوسل والتقرب إليه زلفى.
بعد أن لقن الله رسوله من الأقوال ما يقطع كل أمل للمشركين في تشكيك المسلمين وعودتهم إلى ما كان عليه آباؤهم، وأمره أن يعلن أن الهدى الصحيح ما جاء من عند الله لا ما يرشد إليه العقل فقط، وأنه إنما أمر بالدعوة إلى الإسلام وإقامة شريعته فقط ليس إلا؛ أخذ يرسم له سبيل نيل الهداية بذكر قصة إبراهيم عليه السلام فإنه كان يؤمن بضرورة أن يكون للناس إله يعبد، ولكن عقله رفض التسليم بأن يكون هذا الإله من خلق الإنسان وأخذ يتلمسه في الأشياء المادية العظيمة فقال ﴿وإذ قال﴾ أي واذكر قول ﴿إبراهيم﴾ وهو ذلك الفتى الذي ولد من أب عريق في الشرك ﴿لأبيه آزر﴾ بفتح الراء وقرئ بضمها. الذي كان يصنع الأصنام ويعبدها هو وقومه، وكان المفروض في مثله أن يسير على سيرة والده ويعبد ما كان يعبد غير أن نفسه العصامية وعقله المتحرر لم يسمحا له بذلك فأخذ ينكر على أبيه فعله قائلًا ﴿أتتخذ﴾ أي أتجعل أنت ﴿أصنامًا﴾ تصنعها بيدك ثم تتخذها ﴿آلهة﴾ تعبد ﴿إني﴾ بسكون الياء وقرئ بفتحها ﴿أراك وقومك﴾ بهذا الاتخاذ ﴿في ضلال مبين﴾ أي واضح الضلال. فإذا كانت هذه الأصنام من خلقك وصنعك فأنت الذي تستحق العبادة من دونها. ولا يستسيغ العقل البشري أن يكون المخلوق ربًّا لخالقه ﴿وكذلك﴾ أي ولأجل ما كان عليه إبراهيم من إنكاره ما عليه قومه من ضلال ورغبته في معرفة الله والاتصال به ﴿نري﴾ أي نطلع دائمًا ﴿إبراهيم﴾ ومن سار سيرته في طلب الحق ﴿ملكوت﴾ أي ملك الله العظيم الذي اختص به جل وعلا في ﴿السماوات والأرض﴾
يتحول البخار إلى ماء يثقل على الهواء فيسقط على الأرض القاحلة بحسب سنة الله في جاذبية الثقل وقد فصل الله ذلك في آية أخرى بقوله: ﴿الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابًا فيبسطه في السماء كيف يشاء ويجعله كسفًا فترى الودق يخرج من خلاله﴾. ﴿فأخرجنا به من كل الثمرات﴾ أي من كل ما تخرج الأرض من أنواع الزرع ومختلف المأكولات ﴿كذلك﴾ أي بمثل هذا الإخراج لأنواع النبات من الأرض الميتة بإحيائها عن طريق إرسال الهواء والماء ﴿نخرج الموتى﴾ أي نعيد الحياة إلى الموتى من البشر وغيرهم وقد ورد في الحديث عن أبي هريرة عن الشيخين أن كل شيء من الإنسان يبلى إلا عجب الذنب منه يركب الخلق ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل أي تعود إليهم أجسامهم وقد أشار الله إلى هذا بقوله: ﴿قال من يحيي العظام وهي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة﴾ وعجب الذنب في اللغة أصل الذنب عند رأس العصعص وأعتقد أن المراد به نفس الإنسان التي هي المخلوق الذري الذي لا يرى والتي هي مصدر العجب ومحل الذنب أي المعصية والله أعلم ﴿لعلكم تذكرون﴾ أن من أحي الأرض الميتة بمجرد سقيها بالماء بقدرته لا يعجزه أن يعيد إلى الأموات حياتهم متى غمرها بماء الحياة في النهاية ﴿والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدًا﴾ لقد جرى المفسرون على أن هذا مثل ضربه الله للمؤمنين في الدنيا فإنهم يهتدون بالقرآن كالأرض الخيرة التي إذا نزل عليها المطر أنبتت بخلاف الكفار فإنه لا يمكن أن يهتدوا بالقرآن لأن مثلهم كمثل الأرض السبخة التي لا تنبت مهما عني بخدمتها، وبنوا على ذلك قولهم.
@إن السعيد لسعيد الأزل
#وعكسه الشقي لم يبدل
ويترتب على زعمهم هذا أن تكليف الكافر بالإيمان تكليف بما لا يطاق و ﴿لا يكلف الله نفسًا إلا وسعها﴾ فيكون الكافر غير مكلف وهذا باطل وخلاف الواقع فكم من كافر اهتدى وكم من مؤمن ضل حسب سنن الله والذي أراه أن مجرى الآية يدل على أن الله تبارك وتعالى عندما قال ﴿كذلك يخرج الله الموتى﴾ يوم القيامة وينبتهم من الأرض إنباتًا أراد أن يصور الأرض وما يخرج منها في ذلك اليوم بما هو شأنها في هذه الحياة فالأرض الطيبة وهي التي تخدم وتعد للزرع ويبذر فيها البذر ينبت بمجرد السقي كما يريد صاحبها ومصلحها بمقتضى سنة الله في الزرع وأما الأرض الخبيثة التي لم تخدم ولم تحرث ولم تعد للزرع ولم يبذر فيها شيء فإنها
تصدقون هذا ﴿فادعوهم﴾ أي استنجدوا بهم في ساعة الشدة لكشف الضر عنكم ﴿فليستجيبوا لكم﴾ أي فلينجدوكم لكشف الضر عنكم ﴿إن كنتم صادقين﴾ فيما تزعمونه لهم قدرة تفوق قدرتكم، ولإثبات فساد هذه العقيدة من أساسها لفت الله نظرهم إلى أن من يدعونهم من دون الله قد فقدوا جوارح الكسب التي يناط بها في الحياة أسباب النفع والضر فقال: ﴿ألهم أرجل يمشون بها﴾ لنجدتكم ﴿أم لهم أيد يبطشون بها﴾ أي يفتكون بها بأعدائكم ﴿أم لهم أعين يبصرون بها﴾ أحوالكم وما أنتم عليه من بؤس وشقاء ﴿أم لهم آذان يسمعون بها﴾ دعاءكم ويعرفون مطالبكم، كل هذا غير ميسور لديهم كما ترون وتشاهدون فأنتم والحالة هذه أفضل منهم وأقدر على النفع والضر بما أودعكم الله من قوى عظمى لا أثر لها فيهم فما الذي يحملكم على دعائهم، وهم أقل درجة منكم وإذا كنتم تستنكرون الرسالة على بشر منكم إذ تقولون لبعضكم عن رسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ما هذا إلا بشر مثلكم يأكل مما تأكلون منه ويشرب مما تشربون * ولئن أطعتم بشرًا مثلكم إنكم إذا لخاسرون﴾ فما أحراكم أن تنكروا ألوهية الجماد، وهنا انتقل من تزييف دعاء الجمادات والأوثان إلى ما تطور إليه حال الناس من دعاء الأشخاص الذين يظن أن لهم عند الله جاهًا أو دالة أو كرامة تخولهم حق الشفاعة لهم عنده فقال ﴿قل﴾ أيها الرسول لمن يزعم أن الله شريكًا في ملكه وسلطانًا إلى جانب سلطانه ﴿ادعوا شركاءكم﴾ الذين اتخذتموهم أولياء وزعمتم أنهم فيكم شفعاء ﴿ثم كيدون﴾ أي دبروا في الخفاء كل الخطط والوسائل التي تؤدي إلى حصول شيء في الوجود خارج عن إرادتي ﴿فلا تنظرون﴾ أي لا تتمهلوا وأسرعوا بعمل ذلك إن استطعتم وأنا واثق من فشلكم ﴿إن ولي الله﴾ أي إن ناصري الذي يتولى كل شئوني هو الله ﴿الذي نزل الكتاب﴾ الناطق بوحدانيته في ربوبيته والذي ينفي أن يكون لأحد أي سلطان معه ويوجب إفراده تعالى بالدعاء دون غيره من سائر المخلوقات ﴿وهو يتولى الصالحين﴾ بمعنى يجزل ثوابهم وينصرهم ويؤيدهم لا أن يشركهم في ملكه ويحكمهم في شئون خلقه أو يغير بسببهم سننه ويلغي دستوره ﴿والذين تدعون من دونه﴾ لنصركم من سائر البشر ﴿لا يستطيعون نصركم﴾ لأنهم لا يملكون من وسائل النصر غير ما عندكم ولا يتسنى لهم أن يمدوكم بأي مدد خفي خارق للعادة أو خارج عن السنن بل ﴿ولا أنفسهم ينصرون﴾ أي لا يستطيعون نصر أنفسهم فيما إذا اعتدى عليهم أحد من الناس قال تعالى: {يا أيها الناس ضرب مثل فاستمعوا له إن الذين تدعون من دون
٧ - إجابة داعي الله إلى الجهاد في سبيله بالنفس والمال حيث قال تعالى: ﴿انفروا﴾ عندما يعلن النفير العام: ﴿خفافًا وثقالًا﴾ أي سواء كنتم على الصفة التي يجب عليكم الجهاد أو الصفة التي يثقل عليكم الجهاد من الأسباب الشخصية والموانع فلا عذر لمن خف أو ثقل اللهم إلا أمرًا قاهرًا من الله كالمرض: ﴿وجاهدوا﴾ أعداءكم الذين يقاتلونكم في سبيل الطاغوت: ﴿بأموالكم وأنفسكم﴾ عند القدرة عليها ومن قدر على أحدهما دون الآخر أوجب الله عليه ما كان في قدرته منها: ﴿في سبيل﴾ غاية مشتركة هي إعلاء كلمة: ﴿الله﴾ ونصر دينه وإقامة شرعه والعمل لما يرضيه: ﴿ذلكم﴾ الاستجابة لما أمرتم به من النفرة والجهاد: ﴿خير لكم﴾ في الدنيا والآخرة أما في الدنيا فلأن ذلك مما يرهب أعداءكم ويحملهم على حرمتكم ويجعلكم موضع المهابة والعزة في جميع الأوقات وأما في الآخرة فلأنكم نفذتم أوامر الله وأهلتم أنفسكم لنيل العزة التي كتبها الله لكم أو التي يريدكم أن تتلبسوا بها: ﴿إن كنتم تعلمون﴾ حقائق الأمور وأن الله لا يفرض عليكم أمرًا إلا إذا كان فيه خيركم وسعادتكم. والله سبحانه وتعالى أعلم.
بعد أن أتم الله الآيات التي أمر رسوله بإعلانها للناس يوم الحج الأكبر من سورة براءة ليحدد موقفه من المشركين وأمره بدعوتهم إلى الإيمان بالله والانخراط في سلك المجاهدين أخذ ينبهه إلى أمر لم يكن يخطر له على بال هو أن من بين المسلمين المنضمين إليه من هم أسوأ حالًا وأشد خطرًا على الإسلام من المشركين وهم المنافقون الذين لا تعرف غوائلهم وقد كان الرسول ﷺ يأمن لهم ويصدق أقوالهم ولا يتهمهم بسوء عندما تثاقلوا عن السير معه إلى الجهاد في غزوة تبوك واقتبسوا له مختلف الأعذار التي قبلها منهم حتى كشف الله له حقيقة أمرهم وعدد أنواعهم وبسط له ما اقتضته سننه تعالى من تهافت بعض الناس على المنافع المادية وترجيح ما سهل منها، وما ينبغي أن يكون عليه المؤمن من إيثار ما عند الله من ثواب الآخرة على كل شيء فقال: ﴿لو كان﴾ ما استنفرتهم له ودعوتهم إليه أيها الرسول: ﴿عرضًا﴾ أي ما يعرض من حطام الدنيا: ﴿قريبًا﴾ منا له: ﴿وسفرًا قاصدًا﴾ أي متوسطًا بين القرب والبعد لا مشقة فيه: ﴿لاتبعوك﴾ واستجابوا لدعوتك: ﴿ولكن بعدت عليهم الشقة﴾ وهي الطريق التي لا تقطع إلا بتكبد المشقة والتعب ويعني بها تبوك وخافوا من قتال الروم في ديار ملكهم وهم أكبر دول الأرض الحربية فتخلفوا طمعًا في الراحة والسلامة: ﴿وسيحلفون بالله﴾ لكم معتذرين عن تخلفهم بعد رجوعكم
حكمته: ﴿إن عندكم من سلطانٍ بهذا﴾ أي هل لديكم من حجة أو دليل عقلي أو وحي إلهي يؤيد ما تقولون: ﴿أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾ أي إن هذا من نسج خيالكم فلا قيمة له وهذا دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من دليل قاطع وإلا فهي باطلة والتقليد فيها غير جائز: ﴿قل﴾ أيها الرسول: ﴿إن الذين يفترون على الله الكذب﴾ باتخاذ الشركاء أو الأولياء شفعاء أو الزعم بأن لله ولدًا: ﴿لا يفلحون﴾ أي لا يفوزون في الآخرة بما يؤملونه من النجاة من العذاب بشفاعة أولئك ولهم: ﴿متاعٌ في الدنيا﴾ قليل قصير الأمد: ﴿ثم إلينا مرجعهم﴾ بعد الموت بالبعث للحساب: ﴿ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون﴾ أي بسبب كفرهم بآياتنا ونعمنا والافتراء علينا بأنواع المفتريات سواء بتحليل ما حرمنا وتحريم ما حللنا أو نسبة الشركاء والولد إلينا. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
بعد أن بسط الله مداخل الشيطان إلى القلوب لإضلالها بمختلف الوسائل وأمر رسوله أن يعلن للناس أن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون وأنه سيمتعهم في الدنيا ثم يذيقهم في الآخرة العذاب الشديد عاد فأمر رسوله أن يقص على قومه ما كان من أمر من سبقهم من الرسل وما انتهى إليه أمرهم مع أقوامهم مبتدئًا بقصة نوح عليه السلام ليأخذ المسلمون لأنفسهم من ذلك عبرة فقال: ﴿واتل﴾ أيها الرسول: ﴿عليهم﴾ أي على قومك: ﴿نبأ نوح﴾ أي ما أنزلناه عليك من دعوته لقومه إلى الإيمان بوحدانية الله: ﴿إذ قال لقومه﴾ عندما لاحظ مبلغ إعراضهم عنه وضجرهم منه وتأففهم من كثرة ترديده لدعوتهم إلى إخلاص العبادة لله والإصلاح في الأرض: ﴿يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي﴾ أي طول مكثي بينكم إذ أنه عاش ألف سنة إلا خمسين: ﴿وتذكيري بآيات الله﴾ أي ما أقوم به من إيراد الدلائل القاطعة على وحدانية الله وفساد ما أنتم عليه من عقائد فاسدة وأردتم الإيقاع بي أو التخلص مني: ﴿فعلى الله توكلت﴾ أي فاعلموا أني قد وكلت أمري إلى الله الذي أرسلني إليكم واعتمدت عليه وحده في أمر نصرتي عليكم ولا يهمني من أمركم شيئًا: ﴿فأجمعوا أمركم وشركاءكم﴾ أي اتفقوا على ما تريدون إيقاعه بي واستعينوا بمن تعتقدون فيهم القدرة على النفع والضر من دون الله وقرئ «فاجمعوا» بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع أي اجمعوا ما تفرق منه: ﴿ثم لا يكن أمركم﴾ الذي تعتزمونه: ﴿عليكم غمةً﴾ أي خفيا بمعنى أن تكونوا على بصيرة وعلم تام
شئون الدولة لما أتفرسه في من النبل والذكاء: ﴿أو نتخذه ولدًا﴾ إذ لا ولد لنا ونحن في حاجة إلى من يرث مالنا ومجدنا فاستجابت امرأته لأمره وصارت تعنى به كل عناية: ﴿وكذلك﴾ أي وعلى مثل هذا النحو من التدبير والتسخير الإلهي: ﴿مكنا ليوسف في الأرض﴾ أي جعلنا له مكانة عالية في قلب العزيز وامرأته حملت كل من في مصر على احترامه والرغبة في التقرب منه: ﴿ولنعلمه من تأويل الأحاديث﴾ ولأجل أن نعلمه حقائق الأمور التي بها ينتهي إلى الغاية من التمكين: ﴿والله غالب على أمره﴾ أي على أمر يوسف بمعنى أن ما ناله من التمكين وتأويل الأحاديث لم يكن نتيجة لما تقدم من الأسباب بل هو من محض فضل الله وعونه وحسن تدبيره: ﴿ولكن أكثر الناس لا يعلمون﴾ أن السعادة لا تنال بمجرد السعي بل بعناية الله ولطفه ورحمته بعباده فلا غنى للإنسان عن ذلك كما قال الشاعر:
@إذا لم يكن عون من الله للفتى
#فأول ما يجني عليه اجتهاده
﴿ولما بلغ أشده﴾ أي عند استكمال نموه البدني والعقلي وهو سن الوقوف ما بين الثلاثين والأربعين: ﴿آتيناه﴾ أي وهبناه منا: ﴿حكمًا﴾ أي سلطانًا ونفوذًا: ﴿وعلمًا﴾ لدنيا يدرك به ما يستعصى فهمه عن طريق العقل جزاء له على صبره وجلده على تحمل ما امتحن به من المصائب منذ حداثة سنه: ﴿وكذلك﴾ أي بمثل هذا من إيتاء الحكم والعلم: ﴿نجزي المحسنين﴾ المتصفين بصفة الإحسان أي أن سنة الله قد قضت بأن يكون لكل محسن حظه من الحكم الصحيح والعلم النافع بقدر إحسانه منة من الله غير ما يستفيده بالكسب من غيره، لا يؤتي مثله المسيئون باتباع أهوائهم وطاعة شهواتهم.
لقد عملت امرأة العزيز بوصية زوجها وبالغت في إكرام يوسف حتى بلغ أشده واستوى فأعجبت بجماله الفتان وأحبته حب غرام وطمعت منه أن يبادلها النظرات كما أخبرنا الله بهذا بقوله: ﴿وراودته التي هو في بيتها عن نفسه﴾ المراودة: أن تطلب من غيرك شيئًا لا يريده وتتلطف في الطلب حتى تخدعه وتحمله على قبول طلبك كقوله تعالى: ﴿سنراود عنه أباه﴾ أي إنها استعملت جميع المغريات من المغازلة والمهازلة لاستمالته إليها ثم لجأت إلى الصراحة وكاشفته بأمر حبها: ﴿وغلقت الأبواب﴾ أي أحكمت إغلاق ما للغرفة من منافذ بحيث يكون
تغطيها بحيث لا تعرف وذلك: ﴿ليجزي الله كل نفس﴾ مجرمة: ﴿ما كسبت﴾ من أعمال الكفر والمعاصي وفقًا لما أنذرت به من قبل: ﴿إن الله سريع الحساب﴾ أي لا يؤخر حساب أحد في ذلك اليوم: ﴿هذا﴾ أي ما ذكر من قوله: ﴿ولا تحسبن الله غافلًا﴾ إلى قوله: ﴿سريع الحساب﴾: ﴿بلاغ﴾ البلاغ كتاب يودعه صاحبه حكمًا في مسألة ليعلم ويعمم: ﴿للناس﴾ من رب العزة فلا يعذر من يزعم عدم العلم به: ﴿ولينذروا به﴾ أي وليحذروا من عواقب تجاهله: ﴿وليعلموا﴾ بالتأمل فيما اشتمل عليه هذا البلاغ من وصف لما سيكون من أمر الظالمين يوم القيامة: ﴿أنما هو﴾ الله مصدر هذا البلاغ العليم بشؤون خلقه في الدنيا والآخرة: ﴿إله واحد﴾ لا شريك له يحاسب الناس في الآخرة على أعمالهم في الدنيا: ﴿وليذكر أولوا الألباب﴾ ما كانوا يعملون من قبل فيرجعوا إلى ربهم ويتمثلوه جل جلاله مطلعًا على ضمائرهم عالمًا بأحوالهم فيخافوا بأسه ويتجنبوا ما لا يرضيه. وفقنا الله للاهتداء بهديه والعمل بما يرضيه هذا وقد كان الانتهاء من تأليف هذا الجزء في يوم الجمعة ٢٦ من شهر جمادى الأول سنة ١٣٧٩ الموافق ٢٧ نوفمبر ١٩٦٠ والله المسئول أن يوفقني ويعينني على إتمام باقي الأجزاء ويلهمني الصواب فيما أكتب إنه سميع مجيب.
أن نبينا ﷺ أمر أن يطبق شريعة إبراهيم عليه السلام لأن معنى هذا أنه لم يأت بشريعة خاصة في حين أن الله قد أوضح المراد بالاتباع في ما كان عليه من أنه حنيفًا وأنه ما كان من المشركين.
بعد أن قص الله على نبيه قصة إبراهيم وكيف كان هو أول من عرف الله بعقله فآمن به ودعا إلى توحيده فكان أمة بمفرده فأنعم الله عليه بما أنعم من الاجتباء والهداية وجعل من نسله الأنبياء وأنه في الآخرة من الصالحين واستجاب دعاءه فجعل من نسله من يكون بطبعه منحرفًا عن الضلال إلى الهدى ناقمًا على الشرك والمشركين متبعًا بذلك ملة جده إبراهيم في دعوته إلى التوحيد الخالص وعبادة الله في جميع الأيام أخذ ينبه رسوله إلى أمر يزعم اليهود أنه من ملة إبراهيم وهو التفرغ للعبادة في يوم السبت فقال: ﴿إنما جعل السبت﴾ أي فرض تعظيمه وترك الصيد فيه بعد إبراهيم بآلاف السنين: ﴿على الذين اختلفوا فيه﴾ أي على قوم موسى ليختبر الله بذلك مبلغ طاعتهم له فليس هو من ملة إبراهيم وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد باختلافهم فيه أن منهم من قال بالسبت ومنهم من لم يقل به وذهب آخرون إلى أن المراد بأن منهم من أحل الصيد فيه تارة وحرمه أخرى بينما الواقع أن اليهود مجمعون على تقديس يوم السبت وحرمة الصيد فيه وعندي أن المراد باختلافهم إنما هو في التطبيق فهم يحرمون الصيد فيه بالإجماع وفي ذات الوقت الذي يحتالون عليه بحسبه فيه وصيده بعده فهذا التناقض في الحكم يعد اختلافًا لا ريب فيه مرده إلى الله حيث قال: ﴿وإن ربك ليحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾ أي أن الله هو الذي سيفصل في هذا الأمر لأنه تشريع خاص بهم سيحاسبون هم عليه فلا تأبه لأقوالهم ولا تظن أنه من ملة إبراهيم فتحاول أن تجاريهم عليه فتفرض، على المسلمين تعظيم يوم بعينه وتحريم العمل فيه غير ما أمرك به الله بقوله: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون فإذا قضيت الصلاة فانتشروا في الأرض وابتغوا من فضل الله واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون﴾.
بعد أن امتن الله على رسوله بأنه هو الذي ألهمه وأوحى إليه باتباع ملة إبراهيم الذي كان بفطرته حنيفًا وما كان من المشركين ونفى أن إبراهيم كان يخص يوم السبت بالعبادة أخذ يملي عليه صلى
حكمته: ﴿إن عندكم من سلطانٍ بهذا﴾ أي هل لديكم من حجة أو دليل عقلي أو وحي إلهي يؤيد ما تقولون: ﴿أتقولون على الله ما لا تعلمون﴾ أي إن هذا من نسج خيالكم فلا قيمة له وهذا دليل على أن كل قول لا دليل عليه فهو جهالة وأن العقائد لا بد لها من دليل قاطع وإلا فهي باطلة والتقليد فيها غير جائز: ﴿قل﴾ أيها الرسول: ﴿إن الذين يفترون على الله الكذب﴾ باتخاذ الشركاء أو الأولياء شفعاء أو الزعم بأن لله ولدًا: ﴿لا يفلحون﴾ أي لا يفوزون في الآخرة بما يؤملونه من النجاة من العذاب بشفاعة أولئك ولهم: ﴿متاعٌ في الدنيا﴾ قليل قصير الأمد: ﴿ثم إلينا مرجعهم﴾ بعد الموت بالبعث للحساب: ﴿ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون﴾ أي بسبب كفرهم بآياتنا ونعمنا والافتراء علينا بأنواع المفتريات سواء بتحليل ما حرمنا وتحريم ما حللنا أو نسبة الشركاء والولد إلينا. تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
بعد أن بسط الله مداخل الشيطان إلى القلوب لإضلالها بمختلف الوسائل وأمر رسوله أن يعلن للناس أن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون وأنه سيمتعهم في الدنيا ثم يذيقهم في الآخرة العذاب الشديد عاد فأمر رسوله أن يقص على قومه ما كان من أمر من سبقهم من الرسل وما انتهى إليه أمرهم مع أقوامهم مبتدئًا بقصة نوح عليه السلام ليأخذ المسلمون لأنفسهم من ذلك عبرة فقال: ﴿واتل﴾ أيها الرسول: ﴿عليهم﴾ أي على قومك: ﴿نبأ نوح﴾ أي ما أنزلناه عليك من دعوته لقومه إلى الإيمان بوحدانية الله: ﴿إذ قال لقومه﴾ عندما لاحظ مبلغ إعراضهم عنه وضجرهم منه وتأففهم من كثرة ترديده لدعوتهم إلى إخلاص العبادة لله والإصلاح في الأرض: ﴿يا قوم إن كان كبر عليكم مقامي﴾ أي طول مكثي بينكم إذ أنه عاش ألف سنة إلا خمسين: ﴿وتذكيري بآيات الله﴾ أي ما أقوم به من إيراد الدلائل القاطعة على وحدانية الله وفساد ما أنتم عليه من عقائد فاسدة وأردتم الإيقاع بي أو التخلص مني: ﴿فعلى الله توكلت﴾ أي فاعلموا أني قد وكلت أمري إلى الله الذي أرسلني إليكم واعتمدت عليه وحده في أمر نصرتي عليكم ولا يهمني من أمركم شيئًا: ﴿فأجمعوا أمركم وشركاءكم﴾ أي اتفقوا على ما تريدون إيقاعه بي واستعينوا بمن تعتقدون فيهم القدرة على النفع والضر من دون الله وقرئ «فاجمعوا» بوصل الهمزة وفتح الميم من الجمع أي اجمعوا ما تفرق منه: ﴿ثم لا يكن أمركم﴾ الذي تعتزمونه: ﴿عليكم غمةً﴾ أي خفيا بمعنى أن تكونوا على بصيرة وعلم تام
ثمرة التقوى حسب دستور الله
ثمرة التوكل
عدة اليائسة والصغيرة والحامل
ما ضمنه الله للمتيقن
نفقة الرضيع
دستور الله في العسر واليسر
دستور الله في عذاب المعاندين
دستور الله في جزاء العباد
سورة التحريم
تحريم النبي لمارية على نفسه
تحلة القسم واسترضاء مارية
إباحة حفصة بالسر ومجازاتها
تحذير الله المؤمنين من إغضاب الرسول
الحض على التوبة
الأمر بالجهاد
لا ينفع الإنسان إلا عمله والأمثلة على ذلك
مطبوعات المؤلف
١ - سيرة سيد ولد آدم ﷺ نظم السيرة النبوية في ألفي بيت.
٢ - تائية الخطيب منظومة في سر تأخر المسلمين وحكمة التشريع الإسلامي ومبادئ الإسلام وغاياته في خمسة آلاف بيت.
٣ - مناجاة الله منظومة في التوحيد الخالص وعقائد السلف الصالح.
٤ - في حب الله ورسوله مجموعة قصائد: تحية الحبيب، ونهج البردة، همزية الخطيب، بانت سعاد، أحبك يا ربي.
تمكنه من التمييز بين الحق والباطل والخير والشر وتجعله مخيرًا كل التخيير بين أن يكون شاكرًا أو كفورًا وفصل مصير كل منهما يوم القيامة وأشاد بذكر ما ينتظر الأبرار من نعيم وذكر الأعمال التي تضمن للناس السعادة في الحياة الأخرى ليغرس في قلوبهم حبها والعمل من أجلها وانتهى من ذلك إلى ما يؤكد أن السعادة هنالك ليست سوى نتيجة الاختبار الذي أداه الإنسان في حياته الدنيا وجزاء على ما قدم من أعمال قلبية وبدنية ثم أخذ يعلم رسوله ﷺ واجبه وما ينبغي عليه التزامه كرسول أمر بتبليغ القرآن إلى الناس أجمعين وكيف السبيل إلى حملهم على اتباع أحكامه والاهتداء بهديه فقال: ﴿إنا نحن نزلنا عليك القرآن﴾ وجعلناه مادة أساسية لاختبار الناس في إيمانهم وتصديقهم بما جاء فيه وقد كان إنزاله عليك: ﴿تنزيلًا﴾ أي مرتبًا ومتفرقًا ولم تنزله دفعة واحدة لنسن للناس سنة الاهتداء به تدريجيًا بحسب نضج العقول وارتقاء الأفكار وقوة الإيمان في النفوس: ﴿فاصبر لحكم ربك﴾ الذي أعطى الناس حرية الخيار وقضى بضرورة التريث والانتظار حتى يترك لهم فرصة كافية لدراسة القرآن وتدبر معانيه والإيمان به عن عقيدة ويقين لا قسرًا بدون اختيار فلا تحاول أن تكرههم جميعًا على الاهتداء به: ﴿ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين﴾.
﴿ولا تطع﴾ أي خالف ولا تتأثر بقول واحد: ﴿منهم آثمًا أو كفورًا﴾ الإثم ما حاك في الصدر والكفر عدم التصديق والإنكار والمعنى وحاذر أن يثنيك عما أمرت به من الصبر أحد من الناس فإن من يدعوك إلى فرض الإسلام على الناس فرضًا والحيلولة دونهم ودون الاختيار الذي منحه الله لهم أو الدعاء عليهم أو اليأس من هدايتهم لا شك أنه لم يخرج عن كونه واحدًا من اثنين لا ثالث لهما إما آثم قلبه أو كافر بما أنزل إليك: ﴿واذكر اسم ربك﴾ أي وما عليك إلا أن تردد ذكر الله والدعوة إليه: ﴿بكرة وأصيلا﴾ صباحًا ومساءً بمعنى طوال النهار واترك الناس أحرارًا في اختيار ما يريدون فمن أحب لنفسه الهداية وعمل لها هداه الله وتقبل عمله وغفر له خطاياه ومن أعرض عن ذلك فلا يلومن إلا نفسه: ﴿ومن الليل فاسجد له وسبحه ليلًا طويلًا﴾ أي تفرغ لعبادة ربك طوال الليل بمعنى لا ترهق نفسك بأمر الدعوة ليل نهار واعلم: ﴿أن هؤلاء﴾ الناس أو الكفار: ﴿يحبون العاجلة﴾ أي أن الذي يحملهم على عدم الاهتداء بهدي القرآن وتنفيذ أحكامه إنما هو حبهم للدنيا وملاذها الحقيرة وتكالبهم عليها والاشتغال بمصالحهم فيها وهذا أمر فطري في
فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ فيله وعبأ جيشه وسار نحو البيت يريد هدمه، فأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف ترميهم بحصى صغيرة، لا يصيب أحداً إلا أصيب بمرض الجدري.
قال عكرمة: وهو أول جدري ظهر في بلاد العرب وقد فعل الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله فكان لحمهم يتناثر ويتساقط حتى ذعر الجيش وقائده وولوا هاربين ولم يزل لحم القائد يتساقط حتى انصدع صدره ومات في صنعاء وقد أشار تعالى إلى تلك القصة بقوله: ﴿أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ﴾ هم الأحباش الذين أخذهم الغرور بقوتهم فأرادوا هدم الكعبة وعجز العرب عن مقاومتهم: ﴿أَلَمْ يَجْعَلْ﴾ الله: ﴿كَيْدَهُمْ﴾ الكيد: التدبير السيئ في الخفاء وهو هنا هدم الكعبة: ﴿فِي تَضْلِيلٍ﴾ أي مصيره إلى الضلال بمعنى عدم نجاحه: ﴿وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبَابِيلَ﴾ الطير كل ما يطير في الهواء سواء أكان صغيراً أم كبيراً، والأبابيل: الفِرق والجماعات يتبع بعضها بعضاً: ﴿تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ﴾ السجيل: الطين المتحجر ولعله نوع من أنواع الطين المسموم اليابس الذي تحمله الرياح فيعلق بأرجل الطيور الصغيرة فإذا اتصل بجسدٍ دخل في مسامه فأثار فيه قروحاً تنتهي بإفساد الجسم، ولعل هذه الطيور من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض إلى جسم الإنسان، ولعل منها أيضاً ما اكتشف أخيراً من المكروبات وهي عبارة عن حيوانات صغيرة لا ترى إلا بالمكبرات: ﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾.
﴿فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ﴾ العصف: ورق الزرع والمأكول: الذي يأكله الدود والسوس فيصبح منخوراً تذروه الرياح بمعنى أن المرض أو الوباء لما تسلط عليهم جعلهم هياكل منخورة بالية.
وإن في هذه السورة ما يدل على عظيم قدرة الله الذي جعل من الإنسان المعتد بقوته وقهره للفيل الضخم يعجز ويذل أمام الطائر الصغير الحجم، كما يشير إلى أن من أنواع الوباء ما يفعل في جسم الإنسان ما هو أعظم من فعل النيران في حرقتها وآلامها أجارنا الله من عذابه.
سورة قريش
مكية عدد آياتها أربع


الصفحة التالية
Icon