ويحملوهم على التعلق بهم من دونه، ويضلوهم عن سبيله ﴿وما أنزل﴾ ويعلموهم أيضًا ما أنزل ﴿على الملكين﴾ بفتح اللام وكسرها ﴿ببابل﴾ أي ببلدة بابل وهي مدينة في أرض شنعار على شاطئ نهر الفرات، وقد كان أهلها قومًا صابئين، يعبدون الكواكب ويسمونها آلهة، ويعتقدون أن حوادث العالم كلها من أفعالها. فبعث الله ملكين هما: ﴿هاروت وماروت﴾ بفتح التاء وقرئ بضمها في الاسمين فصار هذان الملكان يعلمان الناس حقيقة السحر، ووسائل تأثيره، وطرق إفساده، ليعلم الناس الفرق بين المعجزة والسحر، حتى يتمكنوا من معارضة الذين يدعون النبوة كذبًا، وليفضحوا أسرار السحر، وليكشفوا للناس وجوه الحيل؛ حتى لا ينخدعوا بها ﴿وما﴾ كان هذان الملكان ﴿يعلمان﴾ هذا العلم ﴿من أحدٍ﴾ أي أحد ﴿حتى﴾ يحذراه من العمل به، ويفهماه بأن المقصود منه هو مجرد التحرز من السحر بل ﴿يقولا﴾ له صراحة ﴿إنما نحن﴾ بتعليمنا لهذا العلم ﴿فتنة﴾ لنرى إن كنت تعمل على مقاومة السحر، وفضح أسراره، أم تتوصل به إلى المفاسد والمعاصي ﴿فلا تكفر﴾ بالله، ولا تستعمله فيما نهيت عنه ﴿فيتعلمون منهما﴾ ما يروق لهم من ذلك وهو ﴿ما يفرقون به بين المرء وزوجه﴾ ويستعملونه لهذا الغرض، ويتصورون لأنفسهم قوة غيبية خفية يفعلون بها ما يوهم الناس أنهم قادرون على ما هو فوق استعداد البشر ﴿وما هم بضارين به من أحدٍ﴾ وقرئ ﴿وما هم بضاري به من أحدٍ﴾ ﴿إلا بإذن الله﴾ وفاتهم أنه إذا أصيب أحد من أعمالهم فإنما ذلك بسبب من الأسباب التي قضت به قدرة الله أن له ذلك التأثير، فهذا السحر الذي يحسبون به لأنفسهم قدرة على محاكاة قدرة الله لا يؤثر إلا بمشيئة الله، وتخليه تعالى بينه وبين الضر، ولن ينالهم من ورائه غير العذاب ﴿و﴾ هم به ﴿يتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم﴾ لأن المنفعة التي تحصل منه يمحقها الله الذي أخبر بعدم نفعها ﴿ولقد علموا﴾ من التوراة أن عمل السحر كعبادة الأوثان ﴿لمن اشتراه﴾ وآثره على كتاب الله ﴿ما له في الآخرة من خلاقٍ﴾ فهو بذلك قد باع آخرته بدنياه، بل باعها من غير ثمن، وفي غير منفعة ﴿ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعلمون﴾ حكمة تحريم السحر، ويصدقون بما أوعد الله به مرتكبيه في الآخرة من العذاب، إذن لأدركوا مبلغ الخسران الذي لحقهم، والعدوان الذي شملهم، والنكاية التي أضرت بهم، والتجارة المزجاة التي خسروها بابتياعهم الضلال بالهدى والباطل بالحق، والظلام بالنور. ولو أنهم التفتوا وتبصروا ما قدموا على
أجله» ورُوِيَ عنه ﷺ أن امرأة جاءت له فقالت إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفتكحلها؟ فقال «حتى يبلغ الكتاب أجله» ﴿فإذا بلغن أجلهن﴾ أي مدة العدة المذكورة، والحكمة في جعلها بهذا المقدار هو أن هذه المدة هي أقصى مدة لحركة الجنين في بطن أمه ﴿فلا جناح عليكم﴾ معشر الرجال بعد ذلك ﴿فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف فيما إذا تطيبن أو اكتحلن أو خرجن من بيوتهن أو تفاوضن مع الرجال على الزواج بشرط أن يكون كل ذلك ضمن دائرة الحد المعروف بحيث لا يتنافى مع الشرع في شيء {والله بما تعملون﴾ من كل أمر يتنافى مع هذه الأحكام ﴿خبير﴾ فإنه سيحاسبكم على ذلك حسابًا عسيرًا يوم القيامة. وبعد أن أوضح الله للرجال ما فرض على النساء من حقوق بالنسبة لأزواجهن المتوفين أخذ يوضح لهم ما هم مطالبون به إزاءهن خلال مدة العدة فقال ﴿ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء﴾ أي على أنه يباح لكم معشر الرجال التعريض والتلميح لهن بالزواج في زمن عدة الوفاء كأن تقولوا لهن بأنكم على استعداد للزواج بامرأة صالحة تعزية لهن وتطيبًا لخاطرهن ﴿أو﴾ عرضتم بما ﴿أكننتم في أنفسكم﴾ من عطف وتقدير لهن لما في ذلك من إحياء روح الأمل فيهن وإدخال السرور عليهن ﴿علم الله أنكم ستذكرونهن﴾ أي وإنما أباح الله لكم ذلك لأنه علم أنكم راغبون في الزواج بهن فلن تستطيعوا كتمان ما في أنفسكم من تلك الرغبة ومن أجل هذا أباح لكم التعرض لهن دون التصريح ﴿ولكن﴾ على شرط أن ﴿لا تواعدوهن سرًّا﴾ أي ألا تطلبوا منهن وعدًا سريًا بالزواج بكم في حال فجيعتهن بأزواجهن فذلك مما يجرح شعورهن ﴿إلا أن تقولوا قولًا معروفًا﴾ بأن تذكروا أمامهن قولًا طيبًا يحملهن على الإعجاب والرضاء بكم دون أن يكون هناك وعد صريح منهم لكم بالقبول.
وسائل القوة، ومن أهمها قوة تضامننا واتحادنا ولا نشك في نصر الله لنا، فما أن سمعت هذا على لسان زعمائهم حتى أيقنت أنهم قد عرفوا شيئًا من دستور الله وهم ساعون في تطبيقه فلا بد أن يكتب لهم النصر وأكدت لهم هذا وبشرت جلالة الملك به فأعجب بهذه الروح الدينية فيهم ودعا لهم بالنصر، ثم دارت الأيام دورتها فإذا بجيش اليابان يحتل بلادهم، ويرميهم بأشد أنواع الاستعباد، فلم يهنوا ولم يستكينوا بل ثابروا على خطتهم، إلى أن خذل الله اليابان، وجعلها تضطر إلى الانسحاب، وترك ما لديها من وافر العتاد في يد الأندنوسيين، فأخذوه واستعملوه ضد عدوهم اللدود هولندا، وكلهم أمل في نصر الله لهم ولم يفت في عضدهم ما استعملته ضدهم من أنواع العذاب، ولم يخف زعماءهم ما أصيبوا به من اختطاف وسجن وإرهاق، ولم يحملهم ذلك على التساهل بشيء من حقوقهم، مما اضطر هولندا في النهاية إلى الإذعان والتسليم لهم بسائر الحقوق، ثم انتدبني جلالة مولاي الملك الرحل عبد العزيز آل سعود لأمثل جلالته في عيد استلام السلطة من يد الهولنديين، في (سربايا) جاكرتا حاليًا فتذكرت ما كان يقوله لي زعماؤهم، وتجلت لي عظمة الله عندما شهدت العلم الهولندي ينزل من قصر الحاكم ليرفع بدله علم الدولة الإسلامية، ويبارح الحاكم الهولندي القصر، بل يأخذ الطائرة عائدًا إلى بلاده صاغرًا واستعرضت في خاطري الأدوار التي تخللت الفترة الماضية؛ وكلها تشير إلى عظيم تدبير الله، وتهيئته الوسائل في سبيل تحقيق مطالب كل من آمن بحقه، وآمن بنصر الله له وجمع بين القوة المادية والمعنوية وزادني هذا إيمانًا بنصر الله، وتأييده لكل من طبق في الحياة دستوره.
٣ - وعندما عينت سفيرًا لحكومتي في باكستان واختلطت بكثير من الزعماء والقادة ورجال الدين وعلمت بالكثرة الساحقة للهنادكة في بلاد الهند ومبلغ النفوذ الذي كان للإنجليز عليهم، عجبت كيف أمكن لهذه الدولة أن تقوم وكنت أحسب أنها إن خلصت من سيطرة الإنجليز، ونالت الاستقلال، فإنها لا يمكن أن تتخلص من تحكم الأكثرية البوذية على المسلمين، ولكني عدت فأدركت أن ما حصل لم يكن إلا نتيجة إتباع القائد الأعظم محمد علي جناح لدستور الله، بإيمانه بنصر الله له، ودعوته الصادقة لتأسيس دولة للمسلمين تحكم بينهم بأحكام دين الله، فتم له ما يريد، ولقد قال لي رحمه الله عند مقابلتي له (إنا لا نستطيع أن نجاري الغرب في تسلحه، ولكننا نستطيع أن نتغلب عليهم باتباعنا لتعاليم ديننا، الذي يدعو إلى الاتحاد وجمع الكلمة وقال لي أيضًا
الأنهار} في الحياة الأخرى ﴿خالدين فيها﴾ والخلود له أثره ومزاياه عند أرباب العقول السليمة ﴿نزلا﴾ لا ينال إلا ﴿من عند الله﴾ للذين اتقوه وأحكموا صلتهم به في الحياة الدنيا ﴿وما عند الله﴾ غير ذلك النعيم الجسماني في الجنة من المتع الروحية كالقرب منه والحظوة لديه جل وعلا ﴿خير للأبرار﴾ الذين أخلصوا عبادتهم لله لا طمعًا في جنته ولا خوفًا من عقابه بل ابتغاء مرضاته وقيامًا بواجبه عليهم ﴿وإن من أهل الكتاب﴾ فريقًا ممن كان قبلكم اتصفوا بخمس صفات الأولى قوله ﴿لمن يؤمن بالله﴾ إيمانًا لا يشوبه شيء من الشرك. الثانية ﴿وما أنزل إليكم﴾ أي كانوا يتوقعون رسالة محمد ﷺ ويؤمنون بما سيوحي به إليه. والثالثة ﴿وما أنزل إليهم﴾ أي يؤمنون بصحة الكتب المنزلة إليهم. والرابعة كونهم ﴿خاشعين لله﴾ من أثر الخوف منه. والخامسة أنهم ﴿لا يشترون بآيات الله ثمنا قليلا﴾ لا يتاجرون باسم الدين ولا يحرفون آياته ويتلاعبون بأحكامه ﴿أولئك﴾ المتصفون بما ذكر من الصفات ﴿لهم أجرهم عند ربهم﴾ الذي رباهم بنعمه وهداهم إلى الإيمان به وبكتبه ورسله ﴿إن الله سريع الحساب﴾ حيث يعرض عليهم أعمالهم في الآخرة في أمد وجيز كما تعرض الصور المتحركة التي تمثل الوقائع في هذا العصر. وقد روى ابن جرير والنسائي أن هذه الآية نزلت في النجاشي، أي أنه هو المعني بها. ولذلك لما نعى إلى رسول الله ﷺ أمر بالصلاة عليه، وصلى هو عليه. وقد ختم الله هذه السورة بنصح المؤمنين بالتزام ما فيه سعادة الدارين حيث قال ﴿ياأيها الذين آمنوا﴾ بالله ﴿اصبروا﴾ احبسوا أنفسكم على ما يصيبكم من مرض أو أمر خاص بكم ﴿وصابروا﴾ أي غالبوا أهواءكم وجاهدوا نفوسكم الأمارة بالسوء وأخضعوها لأمر الله ﴿ورابطوا﴾ احملوا أنفسكم على النية الحسنة على فعل الطاعة، ومن أعظمها الاستعداد لمقاومة الأعداء وحماية الأوطان ﴿واتقوا الله﴾ احذروا إتيان ما يغضب الله عليكم ويكون سببًا في إنزال سخطه بكم ﴿لعلكم تفلحون﴾ بتمسككم بما ذكر.
١ - ﴿ومن يعمل سوءًا﴾ السوء الشر والفساد ﴿أو يظلم نفسه﴾ بالدفاع عنها أمام القضاء ﴿ثم يستغفر الله﴾ من كلا الأمرين ﴿يجد الله غفورًا رحيمًا﴾ لأنه اعترف بالإساءة والظلم وطلب العفو عن ذلك ممن يملك حق الغفران ومن هو مصدر الرحمات ومن يستر عليه ذلك في الدنيا قادر على غفرانه له في الآخرة.
٢ - ﴿ومن يكسب إثمًا﴾ أي من يقدم على أمر مخالف لما يرضي الله دون أن يجني به على أحد ﴿فإنما يكسبه على نفسه﴾ أي فإنما يضر بذلك نفسه ويعرضها للنتائج المترتبة عليه بحسب نظام الكون وعلاقة الأسباب بالمسببات ﴿وكان الله عليمًا حكيمًا﴾ أي إن شأنه في هذا هو مجرد العلم وإحالة أمره إلى ما يستحقه بحسب نظام قضائه وقدره الذي يقضي بأن من يعمل سوءًا يجز به.
٣ - ﴿ومن يكسب خطيئة﴾ جريمة في حق أحد من الناس ﴿أو إثمًا﴾ ذنبًا مخالفًا لما يرضي الله ﴿ثم يرم به بريئًا﴾ أي لم يكتف بمحاولة التنصل مما اقترفه بل هو يحاول أن يلقي بمسؤولية ذلك على سواه ﴿فقد احتمل﴾ أي كلف نفسه أن يتحمل وزرين اثنين ﴿بهتانًا﴾ أي وزر البهتان وهو الكذب الذي يدهش البريء ويجعله في حيرة من أمره ﴿وإثمًا مبينًا﴾ ذنبًا عظيمًا على أساس الخطيئة ﴿ولولا فضل الله عليك﴾ أيها الرسول بما أنزل عليك من الوحي ﴿ورحمته﴾ بتأييدك بالعصمة عن الوقوع في الخطأ ﴿لهمت طائفة منهم﴾ أي من هؤلاء الخونة والمدافعين عنهم ﴿أن يضلوك﴾ عن الحكم العادل بقول الزور وتزكية الجرم وبهت البريء ﴿وما يضلون إلا أنفسهم﴾ هذا استدراك لقوله ﴿أن يضلوك﴾ أي إن ذلك كان تجوزًا وإلا فإن الضلال عائد عليهم لا عليك ﴿وما يضرونك بشيء﴾ أي ولا يأتي إليك أي ضرر من الشيء الذي ينالونه ولا حق لهم فيه فإنما حرمة
الاعتبار يعدون من
<٦٩>
حزب الله المعتمدين عليه وقد ضمن لهم الغلبة على أعدائهم حيث قال (فَإِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْغَالِبُونَ) متى توافرت لهم الثقة الكاملة بالله واليقين بنصره وبتأييده وأهلوا أنفسهم لأن تكون لهم الغلبة على الدوام.
بعد أن رسم الله للمؤمنين سبيل العزة وجعل في مقدمة ذلك عدم الرضوخ لحكم المستعمرين من اليهود والنصارى وثنى بضرورة الثبات على العقيدة الإسلامية وعدم التفريط في شيء مما تقتضيه شريعتها أخذ ينبههم إلى أن هذا وحده لا يكفي بل لا بد من العمل لإعلاء كلمة الله ونصر دينه وعدم السماح لأحد بالتعرض له بأذى من قريب أو بعيد صراحة أو تلميحا فقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) بالله عن يقين وعقيدة قوية ثابتة (لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا) أي الذين جعلوا من شريعة الله وتعاليمه محلا للسخرية والاستخفاف وأداة للهو والمزاح (مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ) أي من اليهود والنصارى (وَالْكُفَّارَ) بفتح الراء وقرئ بكسرها أي الذين ينكرون وجود الله كليا كالشيوعيين (أَوْلِيَاءَ) أي أصدقاء ومحبين لأن من سخر بدينك وجعله ألعُوبَة في يده فقد احتقرك وأساء إليك (وَاتَّقُوا اللَّهَ) أن يراكم في حال ترضون فيه الدناءة لدينكم والمسبة في عقيدتكم (إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) حقا إذ الإيمان يوجب عليكم عدم السكوت على هذا وأنه لا بد أن تدافعوا عن دينكم أكثر مما تدافعون عن عرضكم وشرفكم بكل ما تملكون حتى توقفوا المعتدين عليه عند حدهم (وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ) بالأذان وما اشتمل عليه من التكبير والشهادتين والدعوة إلى إقامة هذه الفريضة (اتَّخَذُوهَا) أي مجرد المناداة إلى الصلاة (هُزُوًا وَلَعِبًا) بمعنى سخروا من الداعي أو المؤذن سواء في سرهم أم في جهرهم (ذَلِكَ) أي اتخاذهم الدين أو الدعوة إلى الصلاة هزوا ولعبا دليل قائم (بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ) إذ لو كان لديهم ذرة من عقل لما هزؤوا وسخروا من هذا الدين القائم على أساس العقل والمنطق والعدل والرحمة وجميع الفضائل والمكرمات (قُلْ) يا أيها الرسول لأمثال هؤلاء القوم المستهزئين وخص منهم بالذكر من
بمعنى أنه تعالى يكشف له من أسرار الكائنات والآيات الدالة على عظمة الله وواسع قدرته ما يحقق له غايته من معرفة الله معرفة تامة ﴿وليكون من الموقنين﴾ هذا تعليل ثان للإرادة. والمعنى أنا أريناه ملكوت السموات والأرض لما كان منه من إنكار ما عليه قومه، ولأجل أن يكون من الموقنين بوحدانية الله. إذ اليقين عبارة عن علم يحصل بسبب التأمل بعد زوال كل شبهة ﴿فلما جن﴾ استتر بمعنى أظلم ﴿عليه الليل﴾ فلم ير شيئًا مما حوله ﴿رأى﴾ وقرئ بالإمالة وكسر الراء والهمزة ﴿كوكبًا﴾ عظيمًا ممتازًا على سائر الكواكب بإشراقه ﴿قال هذا ربي﴾ باعتباره ليس هو من صنع البشر ﴿فلما أفل﴾ أي غرب واحتجب ﴿قال لا أحب الآفلين﴾ أي إني كبشر على الفطرة لا أحب ولا أؤمن إلا بإله لا يغيب عن ناظري لأتأكد دائمًا من وجوده وملاحظته لي ﴿فلما رأى القمر بازغًا﴾ أي طالعًا ﴿قال هذا ربي﴾ لأنه أكبر من الكوكب الأول ولعله لا يأفل ﴿فلما أفل﴾ أدرك أن العقل وحده لا يمكن أن يوصله إلى بلوغ غايته ﴿قال لئن لم يهدني ربي﴾ إلى معرفته والإيمان به ﴿لأكونن من القوم الضالين﴾ الذين يتخبطون في الحياة على غير هدى ﴿فلما رأى الشمس بازغة﴾ ساطعة ﴿قال هذا﴾ مشيرًا إلى كوكب الشمس ﴿ربي﴾ الذي يحق لي أن أعبده لأنه يسطع على جميع الكائنات ﴿هذا أكبر﴾ حجمًا وأعظم فائدة ﴿فلما أفلت﴾ الشمس كما أفل غيرها من قبل هداه الله إلى حقيقة ثابتة هي أن كل شيء مادي مرئي صائر إلى الزوال لا محالة، وأن الإله الذي يجب أن يعبد لا يمكن أن يرى بالبصر وإنما يستدل عليه بآثاره ﴿قال يا قوم إني بريء مما تشركون﴾ أي من كل ما تنسبون إليه النفع والضر من الأشياء المادية المرئية ﴿إني وجهت وجهي﴾ أي غيرت اتجاهي في البحث عن الله من المرئيات إلى ما فوقها من المغيبات ﴿للذي فطر﴾ أنشأ وابتدأ خلق ﴿السماوات والأرض﴾ كائنًا من كان ﴿حنيفًا﴾ أي مائلًا عن عبادة كل شيء مادي مخلوق ﴿وما أنا من المشركين﴾ الذين توجهون في الضائقات وطلب قضاء الحاجات إلى غيره من المخلوقات كالكواكب أو الملائكة أو الأولياء والصالحين فضلًا عن الأصنام والتماثيل أمثالكم. فإيماني إيمان خالص ويقيني به ثابت لا يتزعزع.
بعد أن دلل الله بقصة إبراهيم مع نفسه على أن هداية العقل وحدها لا تكفي بل إن الهدى الصحيح لا يكون إلا باتباع ما جاء من عند الله، أخذ يشرح موقفه بعد ذلك من قومه فقال ﴿وحاجه﴾ أي خاصمه ﴿قومه﴾ بمعنى آذنوه بالعداء والإيذاء والتنكيل وهددوه بأنواع العذاب
تنبت ولكن الزرع لا يخرج إلا نكدًا أي سيئًا فقد يكون شوكًا وقد يكون حرملًا وحنظلًا وهكذا الناس إذ يخرجون من الأرض يوم القيامة من استثمر حياته في مرضاة الله في الدنيا خرج معه عمله ثمرًا يانعًا ومن أهمل استثمار حياته فيما يرضي الله ولم يعمل لآخرته لا يجني غير سيئ العمل ونكده ﴿كذلك﴾ بمثل هذا المثال ﴿نصرف الآيات لقوم يشكرون﴾ أي نقيم الأدلة العقلية لمن يقدر نعم الله فيستفيد منها ويشكره عليها جعلنا الله منهم بمحض كرمه.
بعد أن حذر الله بني آدم من فتنة الشيطان وأخبرهم بأنه سيرسل لهم رسلًا منهم يقصون عليهم آياته وبسط لهم ماذا يكون جزاء المصدقين والمكذبين أخذ يشرح ما كان من أمر إرساله الرسل فعلًا وماذا أجيبوا من قبل أن أرسل إليهم فقال ﴿لقد أرسلنا نوحًا﴾ وهو أول رسول أرسله الله ﴿إلى قومه﴾ يدعوهم إلى معرفة الله والرجوع إليه في النائبات وقد صدع لأمر ربه وجاء إليهم ﴿فقال يا قوم﴾ أي ناشدهم باسم الرابطة القومية التي كانوا يدينون لها إذ لم يكن لهم آلهة يقدسونها أو يحترمونها ﴿اعبدوا الله﴾ جرى المفسرون على أن المراد بالعبادة معناها اللغوي من الخضوع والطاعة والصواب ما عرفها لنا الرسول ﷺ بقوله «الدعاء هو العبادة» أي ادعوا الله فإن الدعاء يعبر عن الإذعان لله بالقدرة على تحقيق الرغبات والاعتراف بالحاجة إليه في جميع الأوقات وسائر الحالات وقد أشار إليه تعالى في الآية السابقة بقوله: ﴿ادعوا ربكم تضرعًا وخفية﴾ وأكد هذا بقوله هنا ﴿ما لكم من إله﴾ يسمع النداء ويجيب الدعاء ويفرج الكرب ويقضي الحوائج ﴿غيره﴾ برفع الراء وقرئ بكسرها لأنه هو الذي خلقكم وقدر أرزاقكم وهو المهيمن على جميع حركاتكم وسكناتكم وإليه مرجعكم ومآبكم ﴿إني أخاف عليكم﴾ في حال عدم الإيمان به ولجوئكم إلى غيره بالدعاء ﴿عذاب يوم عظيم﴾ كأنه بهذا يهددهم بالطوفان العام المنتظر والذي كان نوح يصنع الفلك من أجل الوقاية منه فلم يعبؤا بتهديده واستبعدوا ظهور الماء في تلك المفازة وكانوا يعتبرونه في نظرهم ضالًا ولذا ﴿قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين﴾ إذ تأمرنا أن ندعوا إلهًا غيبيًا لم نره ولم نحس بوجوده وتهددنا بأمر بعيد ﴿قال يا قوم ليس بي ضلالة﴾ فإني على بينة من أمري وأعقل ما أقول ﴿ولكني رسول من رب العالمين﴾ أي أني أحمل رسالة من خالق الخلق أجمعين وقد أمرني ربي أن ﴿أبلغكم﴾ بتشديد اللام وقرئ بتخفيفها ﴿رسالات ربي﴾ أي أن أكون واسطة لإشعاركم بما يريده سبحانه وتعالى منكم وما ينهاكم عنه ﴿وأنصح لكم﴾ أي ولأسدي إليكم خالص
الله لن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له وإن يسلبهم الذباب شيئا لا يستنقذوه منه ضعف الطالب والمطلوب}.
وهنا وجه الله خطابه إلى رسوله والمؤمنين فقال ﴿وإن تدعوهم﴾ أي هؤلاء الأغبياء الذين لا يحكمون عقولهم فيما تقيمه لهم من هذه الحجج والبراهين ﴿إلى الهدى﴾ وهو التوحيد الخالص من شوائب الشرك ودعاء غير الله ﴿لا يسمعوا﴾ دعاءكم أي لا يستجيبون لما تدعونهم إليه من الحق الذي جاء من عند الله من أن الدعاء لا يكون إلا لله ولا يرجى النفع والضر من أحد سواه لما طبع في أذهانهم من تقليد الآباء في الرأي والتعصب للعادات والتقاليد ﴿وتراهم ينظرون إليك﴾ وأنت تقيم لهم من كتاب الله والسنة الأدلة بخطئهم في دعاء غير الله نظرة تحير لأنه مخالف **************** ﴿وهم لا يبصرون﴾ أي وكأنهم فقدوا حاسة النظر كفقدهم لحاسة السمع إذ يعتمدون على قول من يقول إن الدعاء في مثل هذه الآيات لا يراد به حقيقته اللغوية بل إن معناه العبادة من باب تسمية الكل باسم الجزء، ولذلك فإن دعاء غير الله بقصد التوسل به إلى الله والاستشفاع به لا ينافي التوحيد في نظرهم متجاهلين قول الرسول صلى الله عليه وسلم: «الدعاء مخ العبادة» وفي رواية «الدعاء هو العبادة» ذلك لأنه عبارة عن اعتراف الداعي بالعجز للمدعو وطلب العون ممن يملك ذلك العون وهو واثق بمقدرته على تحقيق مطالبه وهذا ما لا ينطبق إلا على الله رب العالمين إذ يقول تعالى: ﴿أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض أإله مع الله قليلًا ما تذكرون﴾ وكأنهم لا يعلمون بأن المشركين من قبل كانوا يدعون أصنامهم بينما هم لا ينكرون ألوهية الله إذ يقولون: ﴿ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾.
ولقد ترتب على هذا ما نراه من بناء التوابيت على قبور الصالحين وعكوف الناس والطواف حولها ودعاء أصحابها لقضاء الحوائج والتمسح بأبوابها وشبابيكها بقصد البركة وعقد الخرق البالية عليها ونذر النذور لقضاء الحوائج وبلوغ المرام، الأمر الذي أدى إلى تفريق كلمة المسلمين بتعدد المعتقد فيهم من دون الله واعتمادهم على غيره في النائبات حتى حل بهم ما حل من ذل وهوان. ولقد شهدت بعيني في الهند والباكستان مئات التوابيت في كل مكان والناس حولها عاكفون يضجون بالدعاء يبكون ويتمرغون على العتبات ويسألون قضاء الحاجات فقلت ما أكثر
إليهم قائلين: ﴿لو استطعنا﴾ الخروج إلى الجهاد: ﴿لخرجنا معكم﴾ وما كان تخلفنا إلا عن اضطرار: ﴿يهلكون أنفسهم﴾ بالحلف الكاذب لاسترضائكم: ﴿والله يعلم إنهم لكاذبون﴾ فهم بهذا إنما يضيفون إلى جريمة التخلف عن الجهاد جريمة اليمين الكاذبة: ﴿عفا الله عنك﴾ أيها الرسول عن تصديقك لأعذارهم بحسن نية وموافقتك لهم على عدم الخروج الذي أمروا به: ﴿لم أذنت لهم﴾ بالقعود والتخلف أو هلا تريثت بالإذن: ﴿حتى يتبين لك الذين صدقوا﴾ في الاعتذار: ﴿وتعلم الكاذبين﴾ فيه أي أنه كان ينبغي عليك أن تتأكد من حقيقة أمرهم فالتقاعس عن هذا الواجب لا يقبل فيه مجرد العذر ما لم يكن هناك ما يؤيده ولا بد فيه من التحري والتأكد من صحته وهنا أراد الله أن ينبه رسوله إلى حقيقة يجب أن يدركها ويتبين بها حقيقة المؤمنين الصادقين من المنافقين فقال: ﴿لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر أن يجاهدوا بأموالهم وأنفسهم﴾ أي أنه ليس من شأن المؤمنين بالله الطامعين في ثواب الآخرة أن يتقاعسوا عن إجابة دعوة الجهاد بل هم يستعدون له من وقت السلم وينتظرونه بفروغ صبر طمعًا في الفوز بإحدى الحسنيين الغنيمة والنصر، أو الشهادة والأجر، ولا يمنعهم عن ذلك غير أعذار واضحة فصلها الله في آخر الجزء بقوله: ﴿ليس على الضعفاء ولا على المرضى ولا على الذين لا يجدون ما ينفقون حرج إذا نصحوا لله ورسوله ما على المحسنين من سبيل والله غفور رحيم * ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون﴾.: ﴿والله عليم بالمتقين﴾ الذين يخافون من عذاب الله إذا هم خالفوا أوامره أكثر من خوفهم على أرواحهم وأموالهم من الفناء: ﴿إنما يستأذنك﴾ في عدم الخروج للجهاد: ﴿الذين لا يؤمنون بالله واليوم الآخر﴾ ذلك لأن الكفر بالله واليوم الآخر من شأنه أن يثبط الهمم عن الجهاد بالنفس والمال إذ يرون فيه آلامًا ومتاعب وتعرضًا للقتل وإضاعة للمال من غير مقابل: ﴿وارتابت قلوبهم﴾ أي لم تكن لديهم الثقة الكاملة بالله ووعده لهم بالنصر وقدرته تعالى على ذلك: ﴿فهم في ريبهم يترددون﴾ فكلما عرض لهم ما يشق عليهم فعله ضاقت صدورهم به وحاولوا التخلص منه وجاءوا إليك يعتذرون وهم يعلمون أنك لطيبة نفسك ستقبل العذر ولا تريد أن تشق على أحد فما جعل الله في الدين من حرج: ﴿ولو أرادوا الخروج﴾ فعلًا: ﴿لأعدوا له﴾ من قبل: ﴿عدة﴾ من زاد وراحلة وما أشبه: ﴿ولكن﴾ الواقع أنه: ﴿كره الله انبعاثهم﴾ أي خروجهم معكم لما يعلمه من ضعف إيمانهم
بوجوده المصلحة فيه ونتائج ما ستقدمون عليه لكيلا تترددوا فيه أو تتحولوا عنه بعد ذلك: ﴿ثم اقضوا إليّ﴾ ذلك الأمر بعد الإجماع عليه أي باشروا تنفيذه بالفعل وقرئ «ثم أفضوا لي» بالفاء بدل القاف أي أعلموني بما انتهى إليه قراركم الأخير بشأني: ﴿ولا تنظرون﴾ أي لا تمهلوني بتأخير تنفيذه: ﴿فإن توليتم﴾ أي انصرفتهم عني مكتفين بمجرد الإعراض عن تذكيري: ﴿فما سألتكم من أجرٍ﴾ أي فأنا لم أطلب منكم أجرًا على دعوتي ونصحي حتى إذا ما أعرضتم عني أحرم منه: ﴿إن أجري إلا على الله﴾ أي ما أجري وثوابي على دعوتكم وتذكيركم إلا على الله: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين﴾ أي المنقادين المذعنين لما أدعوكم إليه: ﴿فكذبوه﴾ أي فكذب قوم نوح نبيهم: ﴿فنجيناه ومن معه في الفلك﴾ أي السفينة التي كان يصنعها بأمرنا وكانت موضع سخرية قومه منه: ﴿وجعلناهم﴾ أي من كان معه في الفلك: ﴿خلائف﴾ أي يخلفون المكذبين في الأرض كلها على قلتهم: ﴿وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا﴾ بعد أن أنذرناهم: ﴿فانظر﴾ أيها الرسول أو أيها المتأمل في أحكام الله: ﴿كيف كان عاقبة المنذرين﴾ في السابق وما سيؤول إليه أمر المكذبين من قومك إذا هم أصروا جميعًا على تكذيبك.
بعد أن سرد الله قصة نوح مع قومه قال: ﴿ثم بعثنا من بعده﴾ أي بعد نوح: ﴿رسلًا﴾ مثله: ﴿إلى قومهم﴾ أي أرسلنا كل رسول منهم إلى قومه كهود إلى عاد وصالح إلى ثمود: ﴿فجاءوهم بالبينات﴾ أي بما يبين لهم حقيقة ما يدعون إليه من وحدانية الله ووجوب إخلاص العبادة له: ﴿فما كانوا ليؤمنوا﴾ أي فاستمروا على ما كانوا عليه في جميع الأوقات من عدم الإيمان: ﴿بما كذبوا به من قبل﴾ أي بما نقل إليهم خبره من بقايا من كان قبلهم كثمود من بقايا عاد وعاد من بقايا قوم نوح عليه السلام من أمر التكذيب فكانت حالتهم بعد مجيء رحلهم كحالتهم قبل مجيئهم، تكذيب وجحود مستمر كأن لم يبعث إليهم أحدًا نظرًا لشدة عنادهم وإصرارهم على تقليد الآباء والأجداد: ﴿كذلك﴾ أي بمثل هذا الطبع من العناد وسنة التمسك بالتقاليد: ﴿نطبع على قلوب المعتدين﴾ الطبع على القلوب هو عبارة عن عدم قبولها شيئًا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها بما يخالفه. والمعتدين: الظلمة المتجاوزين حدود الحق والعدل اتباعًا لهوى النفس وشهواتها فالطبع المذكور أثر طبيعي للحالة النفسية التي عبر عنها بوصف الاعتداء وليس عقابًا قضى به الله لمنع الناس من الإيمان والمعنى أن سنة الله في خلقه تقضي بأن من شأن
قادرًا على الاستجابة لعاطفته كبشر بعيدًا عن أعين الناظرين: ﴿وقالت هيت لك﴾ بفتح الهاء وكسرها مع فتح التاء وضمها أي هلم لتغتنم هذه الفرصة السعيدة فإني تهيأت لك قالت هذا وهي تعتقد أنه يسر في نفسه ولا يعصي لها أمرًا فإذا بها تسمع منه جوابًا مرًّا لم يكن في الحسبان: ﴿قال معاذ الله﴾ أي إن هذا لن يكون لأني مستعيذ ومتحصن بالله فلا يمكن أن يصدر مني ما يستوجب نقمته عليّ وتخليه عن صيانتي وحفظي: ﴿إنه﴾ أي الله: ﴿ربي﴾ الذي تعهدني بتربيته منذ حداثة سني وإخراجي من كنف والدي وهو ولي أمري: ﴿أحسن مثواي﴾ أي مقامي عندكم وسخركم لي: ﴿إنه لا يفلح الظالمون﴾ لأنفسهم وللناس بالخيانة والتعدي على الأعراض وإني لا أريد أن أكون منهم، فلم تدرك معنى لقوله هذا لأنها لم تنظر إليه إلا كإنسان محلًّا للزلل والاستجابة للعاطفة والشهوات وهو خادم لها لا يمكن أن يخالفها كما هو شأن سائر الخدم وظنت ذلك تعففًا من الحياء ولذا استمرت ومضت في سبيلها كما قال تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى﴾ من الرأي أي تدبر بعقله: ﴿برهان ربه﴾ جرى الكثير من المفسرين على أن المراد بالهم هنا إرادة الفاحشة وأن ذلك أمر حصل عند المرأة وعند يوسف وأنه لولا أن رأى برهان ربه لاقترفها، وقال بعضهم إن يوسف كبشر يجوز أن تتوق نفسه إلى ذلك لولا عصمة الله له من ذلك ولم يخجل بعضهم من أن يروي من أخبار هياجه أمام تهتك المرأة ما لا يتفق مع مقام النبوة بل ولا مع ما يدل عليه قوله: ﴿معاذ الله﴾، والحقيقة التي لا مراء فيها والتي تدل عليها اللغة وظواهر الحال هي أن الهم معناه كل ما يهم الإنسان وما يجول بخاطره من أفكار توجب الحزن والقلق، يقال هم بالأكل وهم بالضرب، وقوله تعالى: ﴿وهموا بإخراج الرسول﴾ وقوله: ﴿وهموا بما لم ينالوا﴾ وسياق الآية يوضح لنا ما همّ به كل منهما ويصور لنا الحادث بأن امرأة العزيز عندما فشلت في مراودتها ليوسف بالقول وظنت أن ذلك حياء منه همت بتنفيذ ما أرادته وأقدمت على معانقته والتعلق به، وهنا ثارت في نفس يوسف ثائرة الغضب وهمّ بتنفيذ مقتضى ما أخبرها به من استعاذته بالله والامتناع عن مجاراتها في الضلال وذلك بإبعادها عنه دفاعًا عن نفسه وصيانه لشرفه، وأقل ما ينبغي في هذا الموقف هو أن يستعمل الغلظة والشدة في معاملتها ويضربها ويلقي بها في الأرض تخلصًا منها لولا أن أراه الله وبصره أن في ذلك برهانًا تستعمله المرأة ضده لإثبات محاولته اغتصابها والاعتداء عليها فتراجع عما همّ به وخلص نفسه منها
صدى هذا التفسير في مختلف الأوساط
كتب الأستاذ المحامي إسماعيل فاضل مدير ثانوية أبي العلاء بالسلمية يقول لقد اطلعنا على كتابكم تفسير الخطيب المكي وإني باسم الإسلام السمح الذي تغدقون عليه من إيمانكم به ما يصونه من عاديات الزمن، وباسم الفكر العربي الذي أنرتم سبله بتفسير كتاب الله نشكركم يا سيدي ونضرع إلى الله تبارك وتعالى أن يعزنا ويعز الإسلام بكم إن الله على كل شيء قدير.
وكتب الأستاذ خليل الحامدي من لاهور يقول: اطلعنا على تفسيركم الجليل فوجدناه يمتاز على ما سبقه من التفاسير بأسلوبه الأخاذ والإحاطة بما لا بد منه وملائمته مع مدارك العصر الحاضر نسأل الله أن يجزيكم عنا وعن الإسلام خير ما يجزي به عباده الصالحين ويكتب لهذا العمل الديني الجليل التمام ونضرع إليه سبحانه أن يوفقنا للاستفادة منه والاهتداء بهديه.
وكتب الأستاذ أبو الوفاء محمد درويش رئيس جماعة أنصار السنة بسوهاج يقول: لقد تلقيت بفيض الغبطة والسرور الجزء الثاني عشر من تفسيركم القيم الرائع للقرآن الكريم وقد راقني منه وشرح صدري ما دبجته براعتكم القديرة في تفسير قوله تعالى: ﴿ولقد همت به وهم بها لولا أن رأى برهان ربه﴾ من سورة يوسف فلقد قضيتم على السخافات والخرافات والأباطيل التي كتبها كثير من المفسرين عند معالجتهم تفسير هذه الآية الكريمة فبارك الله في عملكم وفضلكم.
وكتب الأستاذ حامد مير بوزارة المعارف بالمملكة العربية السعودية يقول اطلعت على تفسيركم الذي سهلتم أسلوبه بحيث يتمكن كل طالب علم من قرائته ووضحتم فيه كل غامض وبينتم كل مبهم وأحكمتم تنسيقه إحكامًا بديعًا ويسرتم به فهم القرآن الكريم للمسلمين جزاكم الله خيرًا ولا يفوتني أن أذكر بالشكر بعض آرائكم النيرة التي فسرتم بها بعض آيات لم يتعرض لها المفسرون وأنكم بما صنعتم قدمتم للمسلمين يدًا مثمرة محمودة أسأل الله لكم العافية والتوفيق.
وكتب الأستاذ أحمد بن عبد العزيز الشوملي المدرس بالمدرسة الدينية بالمنامة البحرين يقول:
بمزيد الغبطة والسرور أحرر لكم هذه الرسالة شاكرًا لكم ما تفضلتم بإهدائه لمكتبة مدرستنا من أجزاء التفسير الكريم، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على الإخلاص للدين والتفاني في خدمة المسلمين وإني لأفخر بأني سأنشر ما أرسلتم به إلينا على كل أصدقائي ومعارفي وجميع الطلبة محاولًا بثه وبلورة هذه الذخيرة من المبادئ التي يجيش بها تفسيركم الذي تتجلى فيه الروح العربية
الله عليه وسلم الطريقة التي هدى سبحانه وتعالى إبراهيم إليها لنشر الدعوة ونجح فيها ليتأسى بها فقال: ﴿ادع إلى سبيل ربك﴾ أي في تبليغ ما أرسلت به أو ما أنزل عليك من الشريعة الإسلامية بوسيلتين لا ثالث لهما هي أولًا: ﴿بالحكمة﴾ أي بأسلوب لطيف وحجة مقنعة خالية من القدح والذم. والوسيلة الثانية قوله: ﴿والموعظة الحسنة﴾ التي تبين أوجه النفع ومواضع الزلل فيتبعون عن طيب نفس ومن غير إكراه: ﴿وجادلهم﴾ الجدل شدة الخصومة أي إذا لم يستجيبوا لدعوتك القائمة على أساس الحكمة والموعظة الحسنة فخاصمهم ولكن: ﴿بالتي هي أحسن﴾ أي ولتكن خصومتك لهم خصومة نزيهة شريفة للمبدأ ولا تتعداها إلى العداء الشخصي والعمل على التنكيل بهم فذلك ما لم يأذن به الله كما فعل إبراهيم عندما هدم الأصنام وناصب قومه الخصومة لله لم يتطاول على والده بل دعا له: ﴿إن ربك﴾ الذي أمرك بالدعوة إلى سبيله بالحكمة والموعظة الحسنة وبين لك طريقة الجدل: ﴿هو أعلم بمن ضل عن سبيله﴾ أي من لم تنفع فيه هذه الوسائل: ﴿وهو أعلم بالمهتدين﴾ أي الذين يتقبلون دعوتك القائمة على أساس الحكمة والموعظة الحسنة دون العنف والشدة والتعرض للأشخاص: ﴿وإن عاقبتم﴾ أي إن أردتم معاقبة أحد من الذين خاصمتموهم: ﴿فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به﴾ أي فقابلوا عملهم بمثل ما قابلوا به خصومتكم لهم من قبل فإذا هم قابلوا خصومتكم لهم بضربكم وإيذائكم فاضربوهم وآذوهم أو بالقتل فاقتلوهم ولا تزيدوا عن مقابلتهم بالمثل: ﴿ولئن صبرتم﴾ على أذاهم ولم تقابلوهم بالمثل: ﴿لهو﴾ أي الصبر: ﴿خير﴾ لكم من الانتصار لأنفسكم بالمعاقبة بالمثل: ﴿للصابرين﴾ هذا تصريح بأن الأولى ترك الانتقام لأن الرحمة أفضل من القسوة وقد وعد الله الصابرين بالأجر العظيم وهنا أوصى الله رسوله بالصبر بصورة خاصة فقال: ﴿واصبر﴾ على ما أصابك من قومك من الأذى في سبيل الله: ﴿وما صبرك إلا بالله﴾ أي ولا يتم لك الصبر بحيث تستسيغه إلا إذا ذكرت أنه بسبب الله ومن أجل نيل رضاه: ﴿ولا تحزن عليهم﴾ لعدم هدايتهم أو لما تخشاه عليهم من العذاب عاجلًا أو آجلًا: ﴿ولا تك في ضيق﴾ بفتح الضاد وقرئ بكسرها: ﴿مما يمكرون﴾ أي مما يدبرونه لك من المكائد وما ينصبونه من الشباك لإحباط دعوتك: ﴿إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون﴾ أي لا يهمك من أمر مكائدهم ومكرهم شيئًا فقد قضت مشيئة الله الأزلية وسننه في خلقه أن يكون دائمًا في جانب المتقين أي الذين
بوجوده المصلحة فيه ونتائج ما ستقدمون عليه لكيلا تترددوا فيه أو تتحولوا عنه بعد ذلك: ﴿ثم اقضوا إليّ﴾ ذلك الأمر بعد الإجماع عليه أي باشروا تنفيذه بالفعل وقرئ «ثم أفضوا لي» بالفاء بدل القاف أي أعلموني بما انتهى إليه قراركم الأخير بشأني: ﴿ولا تنظرون﴾ أي لا تمهلوني بتأخير تنفيذه: ﴿فإن توليتم﴾ أي انصرفتهم عني مكتفين بمجرد الإعراض عن تذكيري: ﴿فما سألتكم من أجرٍ﴾ أي فأنا لم أطلب منكم أجرًا على دعوتي ونصحي حتى إذا ما أعرضتم عني أحرم منه: ﴿إن أجري إلا على الله﴾ أي ما أجري وثوابي على دعوتكم وتذكيركم إلا على الله: ﴿وأمرت أن أكون من المسلمين﴾ أي المنقادين المذعنين لما أدعوكم إليه: ﴿فكذبوه﴾ أي فكذب قوم نوح نبيهم: ﴿فنجيناه ومن معه في الفلك﴾ أي السفينة التي كان يصنعها بأمرنا وكانت موضع سخرية قومه منه: ﴿وجعلناهم﴾ أي من كان معه في الفلك: ﴿خلائف﴾ أي يخلفون المكذبين في الأرض كلها على قلتهم: ﴿وأغرقنا الذين كذبوا بآياتنا﴾ بعد أن أنذرناهم: ﴿فانظر﴾ أيها الرسول أو أيها المتأمل في أحكام الله: ﴿كيف كان عاقبة المنذرين﴾ في السابق وما سيؤول إليه أمر المكذبين من قومك إذا هم أصروا جميعًا على تكذيبك.
بعد أن سرد الله قصة نوح مع قومه قال: ﴿ثم بعثنا من بعده﴾ أي بعد نوح: ﴿رسلًا﴾ مثله: ﴿إلى قومهم﴾ أي أرسلنا كل رسول منهم إلى قومه كهود إلى عاد وصالح إلى ثمود: ﴿فجاءوهم بالبينات﴾ أي بما يبين لهم حقيقة ما يدعون إليه من وحدانية الله ووجوب إخلاص العبادة له: ﴿فما كانوا ليؤمنوا﴾ أي فاستمروا على ما كانوا عليه في جميع الأوقات من عدم الإيمان: ﴿بما كذبوا به من قبل﴾ أي بما نقل إليهم خبره من بقايا من كان قبلهم كثمود من بقايا عاد وعاد من بقايا قوم نوح عليه السلام من أمر التكذيب فكانت حالتهم بعد مجيء رحلهم كحالتهم قبل مجيئهم، تكذيب وجحود مستمر كأن لم يبعث إليهم أحدًا نظرًا لشدة عنادهم وإصرارهم على تقليد الآباء والأجداد: ﴿كذلك﴾ أي بمثل هذا الطبع من العناد وسنة التمسك بالتقاليد: ﴿نطبع على قلوب المعتدين﴾ الطبع على القلوب هو عبارة عن عدم قبولها شيئًا غير ما رسخ فيها واستحوذ عليها بما يخالفه. والمعتدين: الظلمة المتجاوزين حدود الحق والعدل اتباعًا لهوى النفس وشهواتها فالطبع المذكور أثر طبيعي للحالة النفسية التي عبر عنها بوصف الاعتداء وليس عقابًا قضى به الله لمنع الناس من الإيمان والمعنى أن سنة الله في خلقه تقضي بأن من شأن
٥ - جوهر الدين في بيان حقيقة الإسلام وقصيدة إلى عموم المسلمين بالعربية والإنكليزية والأوردية والألمانية توزع مجانًا.
٦ - تفسير الخطيب المكي يوضح المعنى اللغوي والشرح والمغزى والحكم المستنبط من الآيات طبع منه ٤ أجزاء من أول القرآن وجزء عم وتبارك وقد سمع من آخر.
٧ - الإمام العادل تاريخ شامل لحياة صاحب الجلالة الملك عبد العزيز آل سعود وتاريخ الحجار في نصف قرن. جزءان عربي وإنكليزي.
٨ - أسمى الرسالات في حقائق الدعوة الإسلامية وأسرار التشريع مستنبطة من سيرة الرسول ﷺ ودعوته السامية. عربي، أوردو وإنجليزي.
٩ - هل الله مستبد، يبحث في حقيقة القضاء والقدر.
١٠ - مستقبلك في يدك ثلاثة أجزاء متى عرفت ربك، متى فهمت حقيقة نفسك، متى وثقت بنفسك، يرسم لك طريق السعادة بطريقة علمية ووسائل عقلية منطقية يؤيدها كتاب الله وسنة رسوله وما وصل إليه العلم الحديث من آراء ومخترعات، لا تجد فيه مجرد أبحاث وأفكار بل نتائج ثابتة عن خبرة وتجربة لوقائع حدثت وتحدث لكل من طبق دستور الله.
تطلب من محل إقامة المؤلف بدمر – سوريا تليفون ١٩٢٩٠
توجد هنا صورة بوصلة دليل القبلة
دليل القبلة في جميع أنحاء العالم: لأجل معرفة القبلة تضع «البوصلة» في وسط الدائرة للتأكد من معرفة الجهات الأصلية ثم تمد خطًّا مستقيمًا من البيت الحرام الذي هو وسط الدائرة إلى البلدة التي تكون بها فتهتدي إلى القبلة.
الإنسان: ﴿ويذرون وراءهم يومًا ثقيلًا﴾ أي يتركون خلف ظهورهم التفكير في مصيرهم يوم القيامة نتيجة كفرهم بالله بمعنى أنهم لم يلتفتوا ولم يهتموا بأمر الحساب والعقاب فلم يؤدوا من الطاعات ما يدخلهم الجنة ولم ينتهوا عما يؤدي بهم إلى النار وهم مخطئون في هذا فإن حبهم للعاجلة لم يكن ليمنعهم من تذكر فضلنا عليهم وخوفهم منا إذ أننا: ﴿نحن خلقناهم وشددنا أسرهم﴾ شد الشيء أوثقه وقواه وأسرهم أي مفاصلهم أو معدتي البول والغائط إذا خرج الأذى تقبضت ولا يسترخيان قبل الإرادة: ﴿وإذا شئنا بدلنا أمثالهم تبديلًا﴾ أي أن الله الذي خلقهم وهيمن على جميع جوارحهم وحركاتهم وسكناتهم هو وحده الذي يمكنهم من بلوغ جميع ملذاتهم العاجلة وهو القادر على إهلاكهم والاستغناء عنهم وتبديلهم بخلق آخر أفضل منهم يؤمنون بالله ولا يعصونه غير أن مشيئته تعالى قد قضت بخلق الجنة والنار ولذلك أعطى الناس الحرية في العقيدة والقول والعمل وجعل لهم الخيار في اتباع السبل الموصلة إلى أحدهما ومن أجل هذا أمد لهم في الحياة ولم يهلكهم ولم يبدلهم بمن هم خير منهم: ﴿إن هذه﴾ السورة من أولها إلى آخرها بما فيها من بيان الحكمة في خلق الإنسان وما أعطي له من كامل الاختيار: ﴿تذكرة﴾ للناس أجمعين تنبههم إلى ما قضت به مشيئته تعالى من نظام قضائه وقدره ومدى مسئولية الناس عن أعمالهم في الآخرة. ولما كان هذا الموضوع من الموضوعات الشائكة التي كانت سببًا في زلل المسلمين وانقسامهم إلى جبرية وقدرية ومعتزلة وأدى إلى تزلزل العقيدة وفهمها فهمًا خاطئًا جعل الكثير من الناس وخصوصًا منهم العوام والسذج يعتقدون بأن الإنسان في الحياة مسير لا مخير وحمل المستشرقين وهم من أبعد الناس عن المعرفة بحقائق الإسلام على أن يطعنوا في الإسلام ويقولوا عنه أنه دين الجبرية الذي يقرر بأن الإنسان لا يستطيع أن يتقي ما هو مقدر عليه من الأزل مهما حاول ومهما عمل وقد هداني ربي إلى حل لهذه المشكلة حلًا سليمًا يقوم على أساس العقل والدين وفصلته في رسالتي: «هل الله مستبد» وكتابي «أسمى الرسالات»، وأعتقد أن السبب في كل ذلك يرجع إلى خلط المفسرين بين مشيئة الله وإرادته وقضائه وقدره وأمره وعلمه ولم يفرقوا بينها متأثرين في ذلك بما جرى عليه واضعو كتب اللغة من دلالة الكلمات على عدة معان وترادف بعضها ببعض ولهذا أشكل عليهم فهم حقيقة القضاء والقدر وعندي أنه إذا جاز لنا أن نأخذ بما جاء في كتب اللغة في تخاطبنا فإنه يجب أن نلاحظ أنه بالنسبة لكلام الله وأحكامه جل وعلا لا بد

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿لإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ (٤)﴾.
سورة قريش: لقد ذكَّر الله نبيه في السورة السابقة بعظيم قدرته على إهلاك طغاة الأحباش عندما أرادوا هدم الكعبة وتخلت قريش عن الدفاع عنها مع أنها كانت مصدر عزة ومنعة وأمنٍ لها _ ذلك أنه كان لقريش رحلتان: إحداهما إلى اليمن في زمن الشتاء، والأخرى إلى الشام في فصل الصيف يذهب التجار فيها لجلب ما تحتاج إليه بلادهم من الأقوات وغيرها باعتبارها وادياً غير ذي زرع فلا يعترضهم أحد بسوء في حلهم وارتحالهم مراعاة لحرمة جوارهم للبيت الحرام وماله من كرامة في نفوس العرب أجمعين فكانوا يذهبون آمنين ويعودون سالمين وكان لقدسية البيت قوة تحتمي بها قريش من أذى سائر القبائل ولو لا حفظ الله لبيته الحرام من الهدم لزالت تلك الحرمة من النفوس وتعرضت قريش للأذى مما يضطرها إلى العدول عمَّا ألفته من تلكم الرحالات فتتعطل أسباب التجارة وتسد في وجوههم سبُل الرزق ولذا أخذ سبحانه وتعالى في السورة يذكرهم بتلك النعمة التي أنعم بها عليهم بإحباطه كيد الأحباش واضطرارهم إلى الرجوع عما أرادوه خاسرين فحفظ لهم بذلك ألفتهم للسفر والارتحال في الصيف والشتاء فقال: ﴿لإِيلافِ قُرَيْشٍ﴾ ألف الشيء إيلافاً: لزمه وعكف عليه، قريش اسم للقبائل العربية من ولد النضر بن كنانة أي أنه تعالى ما فعل بالطغاة الذين أرادوا هدم الكعبة لمجرد حماية بيته الحرام بل لتيسير إيلاف قريش وضمان مصالحهم: ﴿إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ﴾ أي أن ذلك الإيلاف هو بقاء واستمرار ما ألفوه من رحلة الشتاء والصيف التي تدر عليهم الرزق ورغد العيش ولولا ذلك لهاجروا من تلك الديار القاحلة: ﴿فَلْيَعْبُدُوا﴾ أي فليقدروا هذه النعمة لمسديها ويشكروه عليها بالقول والعمل: ﴿رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ﴾ صاحبه وحاميه الذي مكن منزلته من النفوس وهو سبحانه: ﴿الَّذِي أَطْعَمَهُم﴾ أي يسر لهم سبيل جلب الأرزاق: ﴿مِّن جُوعٍ﴾ أي برغم وجودهم في مكان محكوم عليه بالجوع لأنه لا يصلح للزرع لقلة مياهه: ﴿وَآمَنَهُم﴾ بفضل جوارهم له: ﴿مِّنْ خَوْفٍ﴾ بما أودعه قلوب الناس من تقديس البيت والحذر من الاعتداء على أهله وبما رد به كيد من رامه بالسوء والهدم.


الصفحة التالية
Icon