مضرة أنفسهم ﴿ولو أنهم﴾ أي بني إسرائيل ﴿آمنوا﴾ بالله ورسوله بدلًا من هذا السحر، واتباع نزغات الشياطين ﴿واتقوا﴾ عذاب الله باتباع أوامره، والإقلاع عن كل ما لا يرضيه من السحر وخلافه ﴿لمثوبة﴾ لنالوا ثوابًا ﴿من عند الله خير﴾ من الطرق غير المشروعة التي انتهجوها ﴿لو كانوا يعلمون﴾ ما يترتب على اتباعهم لهذه الطرق من الأضرار العظيمة التي ستعود عليهم بالدمار.
وقد دلتنا هذه الآيات على التحذير الشديد من ترك العمل بكتاب الله، وتعاطي السحر والعمل به؛ وأن ما ينسبه بعضهم إلى سيدنا سليمان من الطلاسم والعزائم وأعمال السحر لا صحة له وما هو إلا محض افتراء. فالسحر كفر وما كان سليمان كافرًا.
وبعد أن نبه الله نبيه ﷺ إلى طبائع بني إسرائيل وأخلاقهم، خاطب المؤمنين كافة، ونبههم إلى سيئات الإسرائيلين، ومطاعنهم ضد الإسلام، ونوعها على أنواع:
«النوع الأول» ما كان موجهًا إلى الإسلام في شخص رسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك أنهم كانوا يقولون له راعنا، وهي كلمة عبرانية أصلها «راعينو» أي شرير، ويقصدون بها الحط من قدره، دون أن يشعر الصحابة رضوان الله عنهم بذلك، حتى إنهم كانوا يخاطبونه بها أيضًا لأن معناها في العربية انظر إلينا، أو لا تخرجنا من تحت نظرك ورعايتك، فنهاهم الله عن التلفظ بهذه الكلمة حيث قال ﴿يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا﴾ وقرئ ﴿راعونا﴾ فكان هذا بمثابة لفت نظر المؤمنين بما يراد بهذه الكلمة عند اليهود؛ حتى لقد رُوِيَ: أن سعد بن معاذ قال لليهود: يا أعداء الله عليكم لعنة الله، والذي نفسي بيده لو أني سمعتها من رجل منكم يقولها لرسول الله لأضربن عنقه. ﴿وقولوا﴾ بدلًا عنها المعنى المقصود حقيقة منها وهو ﴿انظرنا﴾ يا رسول الله بضم الظاء وقرئ بكسرها ﴿واسمعوا﴾ ما أمرتم به حتى لا ترجعوا إلى ما نهيتم عنه. ﴿وللكافرين﴾ الذين يقصدون النيل من مقام الرسول ﴿عذاب أليم﴾ إذا لم ينتهوا عن ذلك سرًّا وعلنًا.
«النوع الثاني» من سيئات بني إسرائيل ومطاعنهم ضد الإسلام: ما كان موجهًا إليه في شخص أتباعه، وذلك أنهم كانوا يتظاهرون لهم بالود، ويقولون وددنا لو كان دينكم خيرًا مما نحن فيه لنتبعه، فحذرهم الله منهم بقوله ﴿ما يود الذين كفروا﴾ بهذا الدين الإسلامي {من أهل
وهنا عاد فبالغ في النهي عن كل ما يعد بمثابة التصريح لهن بالزواج مما يشعرهن بأن أمر الزواج أصبح في حكم الأمر الواقع حيث قال ﴿ولا تعزموا عقدة النكاح﴾ أي لا تجزموا في أنفسكم بأمر الزواج وتأخذوا في أسبابه ﴿حتى يبلغ الكتاب أجله﴾ أي حتى تنتهي المدة التي فرضها الله في الكتاب للعدة ﴿واعلموا أن الله﴾ لا يخفى عليه شيء من أمركم و ﴿يعلم ما في أنفسكم﴾ وما تكنونه من العزم ﴿فاحذروه﴾ فاحذروا أن يراكم مستهزئين بما أمركم به ﴿واعلموا أن الله غفور﴾ فيما إذا أرجأتم الأمر وانحلت عزيمتكم وتبتم إلى الله من ذلك ﴿حليم﴾ لا يعجل عقابه بل أنه يمهلكم لعلكم ترجعون.
بعد أن ذكر الله أحكام المطلقات المدخول بهن من أنه لا يؤخذ منهن في حالة الفراق شيء على سبيل الظلم ولهن كامل المهر وأن عدتهن ثلاثة قروء أخذ يبين حكم المطلقات قبل الدخول حيث قال ﴿لا جناح عليكم﴾ مطلقًا يا معشر الرجال ﴿إن طلقتم النساء﴾ أي في طلاق النساء وهذا مشروط بحالتين: إحداهما ﴿ما لم تمسوهن﴾ وقرئ ﴿تماسوهن﴾ بألف المفاعلة أي قبل أن تدخلوا بهن، أما إذا كنتم دخلتم بهن فإن إباحة الطلاق إذ ذاك لا تكون مطلقة بل مقيدة بشرط أن لا يكون الطلاق في زمان الحيض ولا في الطهر الذي جومعت فيه ﴿أو تفرضوا لهن فريضة﴾ أو بمعنى الواو أي والحالة الثانية ما لم تقرروا لهن مهرًا ﴿ومتعوهن﴾ أي ولكنه يجب عليكم في هذه الحالة أن تقدروا لهن شيئًا بمثابة تعويض في مقابل إلغائكم للعقد السابق من قبلكم من غير سبب موجب منهن وهذا الشيء لم يحدده الشارع بل ترك أمره عائدًا لكم ﴿على الموسع قدره﴾ بفتح الدال وقرئ بسكونها أي يختلف باختلاف ثروته ﴿وعلى المقتر﴾ وهو من قل ماله وافتقر ﴿قدره﴾ بما يتناسب مع مقدرته وطاقته ﴿متاعًا بالمعروف﴾ أي متعوهن المتاع المألوف بين الناس بحسب اختلاف أوساطهن ومنزلتهن ﴿حقًّا على المحسنين﴾ أي وذلك ما يقضي به واجب الإحسان لما فيه
إننا لم نؤسس باكستان لأجل أن ننال الحكم بل لنجعل منها مقرًا للدعوة الإسلامية فأدركت من هذا سر قيام باكستان وآمنت بأنها لن تغلب إذا هي سارت على النهج الذي رسمه لها قائدها الأعظم من الثقة بالله والأخذ بأسباب القوة مع التمسك بالإسلام.
٤ - وهذا المغرب العربي الذي بدأ نضاله في سبيل نيل الحرية، وطاف مندوبوه بسائر البلاد الإسلامية يستحثونها على المساعدة وأقام المؤتمر الإسلامي في باكستان وجمعية علماء باكستان في كراتشي حفلات عامة لتأييدهم، وقد القيت في تلك الحفلات بعض كلمات قلت فيها «إنني لا أعتقد أن إخواننا في مراكش وتونس والجزائر قد قاموا بحركتهم هذه معتمدين فيها على مساندة الدول العربية، وقد رأوا بأعينهم ما أصاب فلسطين وما منيت به من السرطان الصهيوني الذي تحاول الخلاص منه، كما اعتقد أنه لا يمكن أن ينتظروا المدد من غيرهم من الدول الأوروبية، التي هي مصدر الشر ولذلك فإني على يقين تام، بأنهم إنما يعتمدون على نصر الله وحده الذي هو الأساس، وهو مسبب الأسباب ومالك النصر وما جاء إليكم وفدهم إلا لابتغاء القوة التي أمرهم الله بإعدادها، وإن في تضامنكم معهم وتأييدكم لهم وبذل المستطاع في مساندتهم أمام الله لمما يكفل لهم منه جل وعلا النصر المبين وهكذا كان، واستقلت مراكش وتونس وستليها الجزائر بقدرة الله.
٥ - وهذا شعب مصر العظيم الذي كان يرزح في قيود الذل والاستعباد لأنه كان يخاف ملوكه المستبدين الذين تسندهم الحراب الإنجليزية ردحًا من الزمن استطاع أن يحقق أمانيه حينما آمن رجال الثورة بأن النصر بيد الله فلم يتطرق الخوف من السلطة الغاشمة إلى نفوسهم وأخذوا للأمر عدته وأقدموا على ما أقدموا عليه فطردوا فاروق وأخرجوا الإنكليز من بلادهم وحققوا للشعب كل ما يصبوا إليه من حرية واستقلال بل طبقوا ما رسمه زعيمهم الرئيس جمال عبد الناصر في مخيلته من قبل من الوحدة العربية والقضاء على الاستعمار وكل ما فيه سعادة الشعب ورفاهيته وعزته وسلطانه وكافة المشاريع التي لم تكن في الحسبان وأثبت بهذا للملأ قول الشاعر الفذ:
@إذا الشعب يومًا أراد الحياة
#فلا بد أن يستجيب القدر
سورة النساء
مدنية وآياتها مائة وست وسبعون
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (١) وَآتُواْ الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً (٢) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي الْيَتَامَى فَانكِحُواْ مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُواْ (٣) وَآتُواْ النَّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً (٤) وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَاماً وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (٥) وَابْتَلُواْ الْيَتَامَى حَتَّىَ إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُواْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً (٦) لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً (٧) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُم مِّنْهُ وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً (٨) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافاً خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللهَ وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً (٩) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (١٠) يُوصِيكُمُ اللهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِن كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِن لَّمْ يَكُن لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُسُ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيما حَكِيماً (١١) وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّهُنَّ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُن لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً أَو امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السُّدُسُ فَإِن كَانُوَاْ أَكْثَرَ مِن ذَلِكَ فَهُمْ
ذلك عائدة إليهم وحدهم ﴿وأنزل الله عليك الكتاب﴾ القرآن ﴿والحكمة﴾ وهي العلم بفقه الكتاب ومقاصده وأسراره ﴿وعلمك ما لم تكن تعلم﴾ من شئون الحكم وسائر العلوم التي لم تأخذها عن أساتذة ولا جامعات ﴿وكان فضل الله عليكم عظيمًا﴾ إذ والى عليك نعمه وأرسلك للناس كافة بشيرًا ونذيرًا.
بعد أن أمر الله نبيه بأن لا يكون للخائنين خصيمًا ولا يجادل عنهم لأنه تعالى أعلم بما يبيتون من القول الذي لا يرضي الله وفصل حكمه فيمن يقدم على ذلك أخذ سبحانه وتعالى يوضح الأمور التي يحسن التناجي بها فقال ﴿لا خير في كثير من نجواهم﴾ أي من الأعمال التي يحسن فيها التكتم والتناجي في السر ﴿إلا﴾ نجوى واحد من ثلاثة الأول ﴿من أمر بصدقة﴾ فالصدقة من الأمور التي ينبغي أن يكون الحض عليها في السر لأنه يكون أوقع في النفس وأضمن للقبول وأحفظ لكرامة الفقير الذي قد يتأذى من إعلان حاجته إلى الصدقة ويشعر بشيء من الإهانة فيه. الثاني: ﴿أو معروف﴾ أي أو أمر بمعروف والمعروف اسم لكل فعل يعرف بالعقل أو الشرع حسنه كما أن المنكر ما ينكر بهما وذلك لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في السر أوقع في النفس من الجهر بذلك لأنه قد يؤذي المأمور لما يرى فيه من معنى الاستعلاء عليه بالعلم ونسبة الجهل والقصور إليه فتأخذه العزة بالإثم ويأبى الإصغاء للأمر ولذا كان من الخير التناجي به الثالث: ﴿أو إصلاح بين الناس﴾ أي الدعوة أو العمل لإصلاح ذات البين فهذا من الأمور التي يعد من الخير فيها مناجاة جميع المتخالفين على انفراد حتى تتصافى القلوب وتزول الأحقاد من النفوس وبدون ذلك يخشى من تطاول أحد المتخاصمين في القول فيؤدي الأمر إلى زيادة اتساع رقعة الخلاف وتفاقم الخطب ولذا
<٧٠>
يزعم أن له دينا سابقا يتمسك به (يَا أَهْل الْكِتَابِ) من قوم موسى وعيسى ما الداعي لسخريتكم منا واحتقاركم لديننا و (هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا) وتحقدون علينا (إِلَّا) لأمرين أثنين لا ثالث لهما:
الأول: الحسد الذي يأكل قلوبكم منا بسبب (أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ) على أنبيائكم ومعنى هذا أننا جميعا متفقون على الإيمان بإله واحد والكتب التي أنزلت عليكم مضافا إليها ما أنزل على خاتم النبيين من كتاب الله القرآن ومن أجل هذا نقمتم علينا وإلا فما هو وجه النقمة ونحن لم نكفر بالله إلهنا وإلهكم ولم ننكر رسلكم ولا كتبكم وكان عليكم أن تدرسوا ما أنزل علينا لتتدبروا ما فيه بدلا من السخرية به والنقمة علينا من أجله.
الأمر الثاني: من سبب نقمتكم علينا قوله (وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ) الفسق هو الفجور أي إن الأغلبية الساحقة منكم لا تريد الخضوع لأوامر الله فترفض الداعي إلى الأديان (قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ) الأمر الذي سبب نقمتكم علينا (مَثُوبَةً) الثواب ما يرجع إلى الإنسان من جزاء أعماله وتستعمل في الأمر المحبوب كقوله تعالى (فأثابهم الله بما قالوا جنات) وفي المكروه كقوله تعالى (فأثابهم غما بغم) وقيل استعماله في السيئ تهكم (عِنْدَ اللَّهِ) هو عمل من اتصف بأربع صفات تنطبق عليهم ويعرفونها من أنفسهم:
الصفة الأولى: قوله (مَنْ لَعَنَهُ اللهُ) وهم من نص القرآن على لعنتهم كإبليس والكافرين وأصحاب السبت والظالمين وغيرهم.
والصفة الثانية قوله (وَغَضِبَ عَلَيْهِ) وهم من استحقوا غضب الله بأعمالهم كالذين اتخذوا العجل إلها يعبد واستبدلوا الذي هو أدنى بالذي هو خير.
والصفة الثالثة: قوله (وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ) أي الذين قال الله في حقهم (كونوا قردة خاسئين) ولقد قال كثير من المفسرين إنهم طائفة من اليهود مسخوا قردة وخنازير ثم انقرضوا وقد سئل رسول الله ﷺ عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود فأجاب «إن الله لم يلعن قوما قط فيمسخهم فكان لهم نسل ولكن هذا خلق كان من قبل فلما غضب الله على اليهود فمسخهم
التي منها الإحراق فلم يعبأ بذلك ﴿قال أتحاجوني﴾ بتشديد النون وقرئ بتخفيفها أي أتعادوني وتتوعدوني بأنواع الأذى ﴿في الله﴾ أي سبب دعوتي إلى الله ﴿وقد هدان﴾ إلى معرفته والإيمان به إيمانًا لا يقبل الشك والارتياب حتى أصبحت أثق كل الثقة بأنه لا نافع ولا ضار سواه، وهذا من أعظم المنن التي لا يعادلها شيء في الحياة، فلا أعبأ بتهديداتكم ﴿ولا أخاف ما تشركون به﴾ من الأصنام أن تصيبني بأي أذى، لأني أعلم يقينًا أنها من الجمادات التي لا قدرة لها بذاتها على إلحاق الضر بأي مخلوق ﴿إلا أن يشاء ربي شيئًا﴾ أي إلا في حدود مشيئة الله التي جعلت للأحجار أثرًا في الضر كأن تلقون بأصنامكم الجامدة عليَّ فتشجني وتحطمني بما أودعها الله من تلك الخواص، لا لأنها بذاتها ومشيئتها تستطيع أن تؤثر في ذلك الأثر، فالتأثير إذا لله ربي لا لأصنامكم. ومع ذلك فقد ﴿وسع ربي كل شيء علمًا﴾ فلا يخفى عليه ما تدبرونه ضدي من مكائد في إمكانه جل وعلا إحباطها وإبطال آثارها ﴿أفلا تتذكرون﴾ هذه الحقيقة الثابتة وهي أن هذه الأصنام التي تعبدونها ليس لها مشيئة خاصة ولا تملك أي نفع أو ضر، وأن السلطة الغيبية العليا إنما هي لله وحده وليس لغيره تأثير فيها معه ولا تدبير، حتى الأشخاص الذين جعلهم الله سببًا في النفع أو الضر في الظاهر لا يستطيعون أن يؤثروا ذلك الأثر إلا بما يهب الله لهم من قوة الروح التي تمكنهم من ذلك. فلا يصح أن يرتفعوا عن رتبة المخلوقات ويكونوا أربابًا ومعبودات تقصد في السر من دون الله ﴿وكيف أخاف﴾ بطش ﴿ما أشركتم﴾ من الأصنام التي لا تأثير لها بذاتها بل بما قدر الله لها من قوى ﴿ولا تخافون أنكم أشركتم بالله﴾ الذي هو صاحب السلطة الغيبية والقوى المعنوية الخفية ﴿ما لم ينزل به عليكم سلطانًا﴾ أي ما لم يأتكم أمر من الله تستندون عليه فيما تزعمونه لها من تأثير أو نفع وضر، وهذا لا وجود له فهو باطل ﴿فأي الفريقين﴾: فريق الذين هداهم الله إلى الإيمان به تعالى مسبب الأسباب والقادر على وقف مفعولها، أم فريق الذين جمدت أفكارهم في حدود المادة فنسبوا كل شيء إلى السبب دون المسبب ﴿أحق بالأمن﴾ على نفسه من عاقبة عقيدته وعبادته ﴿إن كنتم تعلمون﴾ أي إن كنتم من أهل العلم والبصيرة النيرة. وهنا سكت القوم عن الجواب مفحمين، فأوحى الله إلى إبراهيم فصل الخطاب في هذا بقوله ﴿الذين آمنوا﴾ بالله وحده القادر على كل شيء ﴿ولم يلبسوا﴾ أي يخلطوا ﴿إيمانهم بظلم﴾ أي ما ينقضه من الشك والتردد بمعنى أن يكونوا أقوياء الإيمان بالله والثقة
النصح بفعل ما فيه خيركم وسعادتكم ﴿وأعلم من الله ما لا تعلمون﴾ أي وإني إذ أقوم بواجب النصح فإنما أتكلم عن علم بما أوحاه الله إليّ من أمر الطوفان العام ﴿أو عجبتم أن جاءكم ذكر من ربكم على رجل منكم﴾ أي وما يكون لكم أن تعجبوا من أن تأتيكم الرسالة من ربكم على لسان واحد منكم فذلك ليس من فعلي بل من فعل من خلقكم وهو الفعال لما يريد خصوصًا وإنه لم يطلب إليكم عبادته شخصيًا حتى تتهمونه في دعواه بل إنه ما جاء إلا ﴿لينذركم﴾ عذابًا في الدنيا والآخرة دون أن يحملكم على تصديقه قسرًا ﴿ولتتقوا﴾ أي وليبث فيكم روح التقوى بمعنى يدلكم على سبيل رضاء الله عنكم ﴿ولعلكم ترحمون﴾ أي ولأنه إنما يرجو لكم رحمة الله وكل هذه من الغايات التي ينبغي عليكم تقديرها له والإيمان به من أجلها ﴿فكذبوه﴾ في رسالته وأبوا الاستجابة لدعوة التوحيد التي جاء بها ﴿فأنجيناه﴾ من الغرق ﴿والذين معه﴾ ممن آمن به ﴿وما آمن معه إلا قليلا﴾. ﴿في الفلك﴾ أي السفينة التي ألهمه الله عملها من قبل ﴿وأغرقنا﴾ بالطوفان ﴿الذين كذبوا بآياتنا﴾ أي بسبب تكذيبهم بآيات الله الدالة على وحدانيته وعظيم قدرته على إرسال الرسل ﴿إنهم كانوا قومًا عمين﴾ أي عمي البصائر والقلوب وإن كانوا سليمي النظر.
بعد أن شرح الله ما كان من إرساله نوحًا إلى قومه الذين كانوا لا يعترفون بوجود الله ودعوتهم إلى معرفته وتكذيبهم به وإغراقه تعالى لهم جزاء على ذلك أردف ذلك بقصة قوم عاد وهم جماعة كانت منازلهم بالأحقاف بين عمان وحضرموت عرفوا بالبأس والقوة قيل كانوا يعبدون صنمين أحدهما يقال له "صمود" والثاني يقال له "الهتار" فبعث الله لهم رسولًا اسمه هودًا رُوِيَ عن ابن عباس أنه قال كان هود أول من تكلم العربية وولد له أربعة أولاد أولهم قحطان أبو اليمن وآخرهم نافع أبو مضر واثنان لم ينسلا وهما مقحط وقاحط وقد بسط الله ما كان منه مع قومه إذ قال ﴿وإلى عاد﴾ أرسلنا ﴿أخاهم هودًا﴾ ليدعوهم إلى الإيمان بالله ﴿قال﴾ كما قال نوح من قبله ﴿يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره﴾ وذروا هذه الأصنام التي تدعونها من دونه فهي لا تسمع ولا ترى ولا تنفع ولا تضر ﴿أفلا تتقون﴾ الله الذي خلقكم والقادر على محوكم إذا أنتم لم تقلعوا عما أنتم عليه من الشرك ودعاء غير الله وقدم علمتم ما حل بمن قبلكم من قوم نوح ﴿قال الملأ الذين كفروا من قومه﴾ لقد وصف الله الملأ من قوم هود بالكفر ولم يصف الملأ من قوم نوح بالكفر إشارة إلى أن أولئك كانوا لا يتصورون وجود الله فيتهمون الداعي إليه بالضلال أما هؤلاء فإنهم يؤمنون بوجود الله ولكنهم يتصورونه متمثلًا في
الأولياء في هذه الديار فقال لي أحد التجار هناك إن الحكومة الإنجليزية لم تبسط سلطانها في البلاد إلا بتشجيعها لهذه المنكرات فما من أحد يزعم أن في منطقة من المناطق حتى ولو في رؤوس الجبال وليًا مدفونًا إلا أسرعت ببناء مسجد له ووضعت به تابوتًا يعكف الناس حوله وأوجبت على الناس حرمته حتى إذا مر الهنادكة بالقرب منه في أفراحهم وجب عليهم أن يسكتوا آلات الموسيقى وإلا قامت بينهم وبين المسلمين فتنة وقتال عنيف. ولقد نجحت بريطانيا في مكيدتها هذه من عدة جهات فهي أولًا أحدثت المشاكل بين المسلمين والهنادكة حتى صارت الفتن والقتل تحدث بينهم يوميًا وثانيًا أوجدت لهم في كل مسجد وليًا يعبدونه ويلجئون إليه ويثبتون له كرامات لا صحة لها يتناقلوها وكل يزعم أن كرامات وليه وقدرته على النفع أكثر من غيره وأعظم وثالثًا صرفتهم عن الله إلى غيره من المخلوقات وحملتهم على الشرك بالله من حيث لا يشعرون.
ولقد حدث لي أن ذهبت لمشاهدة قبر «جها نكير» أحد ملوك المغول في لاهور من باكستان وهو أثر تاريخي جميل حلي بالمجوهرات الثمينة فوجدت المسلمين حول قبره عاكفين وقد عقدوا الخرق على تابوته فأخذت أفهمهم أن صاحب هذا القبر ليس هو بولي وأنه على قرض صلاحه فطلب الحوائج منه ضلال مبين فهو لا ينفع ولا يضر فلم يرد عليّ أحد منهم فعمدت إلى تقطيع ما عقدوه من الخرق على التابوت بقصد النذر وقلت لهم من أراد دخول الجنة فليتقرب إلى الله بقطعها فلما رأوا جرأتي على ذلك دون أن يمسني أي ضرر اشتركوا معي في القطع ونفحت خادم القبر شيئًا من النقود ونصحته ألا يسمح للزائرين بذلك وإذا فرض أن أحدهم فعل ذلك نهارًا فليقطعه ليلًا فوعد بذلك ثم عدت إليه بعد ثلاث سنوات فوجدته قد عمل بنصيحتي فشكرته وقلت في نفسي لو أن علماء الإسلام في سائر الأقطار عملوا كعملي وأدوا واجبهم أمام الله بمثل ما فعلت لصلحت حال المسلمين واجتمعت كلمتهم على التوحيد الخالص وكان لهم شأن غير ما هم عليه اليوم فإنا لله وإنا إليه راجعون.
بعد أن أثبت الله ضلال من يدعو غير الله وأقام البراهين العقلية القاطعة على وحدانيته تعالى: ﴿الذي أنزل الكتاب وهو يتولى الصالحين﴾ ووصف حال الممتنعين عن قبول الدعوة إلى الهدى وكان من الضروري معرفة ما ينبغي اتخاذه حيالهم هل يكف الإنسان عن نصحهم أم يستمر على أداء مهمته التي قد تؤدي بأولئك الأغبياء إلى الفتك به فأملى على رسوله والمتبعين له والمبلغين
وريبهم وترددهم: ﴿فثبطهم﴾ وفق سننه في خلقه التي تقضي بأن التردد في الأمور من شأنه أن يحمل الناس على عدم الحزم والإقدام ويؤدي إلى ضياع الفرص وفوات الأوان وتوالي الحسرات: ﴿وقيل﴾ أي قال بعضهم لبعض: ﴿اقعدوا مع القاعدين﴾ وزين لهم الشيطان ذلك فاستجابوا له واعتذروا عن الخروج وهنا ذكر الله الحكمة في كراهته لانبعاثهم بقوله: ﴿لو خرجوا فيكم﴾ أيها المجاهدون: ﴿ما زادوكم﴾ شيئًا من قوة اللهم: ﴿إلا خبالًا﴾ أي اضطرابًا في الرأي وخللًا في النظام فجيش قليل قوي الإيمان متحد في الرأي مطيع للقيادة خير من كثير وجل ضعيف العزيمة متفرق في كل شيء: ﴿ولأوضعوا خلالكم﴾ أي لاندسوا في صفوفكم وأدخلوا الرعب في نفوسكم وفرقوا كلمتكم: ﴿يبغونكم الفتنة﴾ أي يريدون أن يفتنوكم في دينكم ويحملوكم على التراجع عن القتال ويرهبوكم من قوة الأعداء: ﴿وفيكم﴾ أناس حديثو عهد بالإسلام: ﴿سماعون لهم﴾ يتأثرون بالأقوال وليسوا من أولي العزم حتى يؤمن عليهم من الفتنة: ﴿والله عليم بالظالمين﴾ أي محيط علمًا بذواتهم وسرائرهم وأعمالهم وما يترتب على خروجهم معكم من آثار سيئة لا يريدها الله لكم فجعل من ترددهم سببًا في خلاصكم منهم: ﴿لقد ابتغوا الفتنة من قبل﴾ أي من قبل غزوة تبوك بما كان منهم في غزوة أحد عندما قال عبد الله ابن سلول زعيم المنافقين عن الرسول ﷺ لقد أطاع الولدان ومن لا رأي له وعصاني فلا ندري علام نقتل هاهنا وما زال كذلك حتى تقهقر بنحو ثلث الجيش من المنافقين وثبت الله الآخرين وقد أشار الله إلى ذلك بقوله: ﴿إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا والله وليهما﴾ وقد فصلنا الموضوع في الصفحة ٩ من الجزء الرابع: ﴿وقلبوا لك الأمور﴾ أي دبروا لك الحيل والمكائد: ﴿حتى جاء الحق﴾ بنصره تعالى لك تنفيذًا لوعده على الذين لم يكونوا ليؤمنوا به من قبل: ﴿وظهر أمر الله﴾ أي تجلت قدرة الله على نصر نبيه برغم تخاذل المنافقين وانصرافهم عنه: ﴿وهم كارهون﴾ أي وما كانوا يريدون ذلك النصر لنبيه والمجاهدين الثابتين معه.
﴿ومنهم﴾ أي من أولئك المنافقين المتخلفين عن الجهاد: ﴿من﴾ لا يخجل أن يقتبس لك من الأعذار ما هو أوهى من بيت العنكبوت إذ: ﴿يقول ائذن لي ولا تفتني﴾ وهو الجد بن قيس من شيوخهم قال الرسول ﷺ له أثناء التجهيز للسفر إلى تبوك ما تقول في مجاهدة بني الأصفر فأجاب أتأذن لي يا رسول الله فإني رجل أحب النساء وإني أخشى إن أنا رأيت نساء بني
المقلدين لآبائهم ومشايخهم أن يرفضوا التسليم بالدليل العلمي حتى ولو كان من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا ما هو حاصل ومشاهد فعلًا في عصرنا هذا من تمسك الناس بأقوال الأئمة الأربعة وغلق باب الاجتهاد خلافًا لما جاء به الإسلام من تحرير العقول وتدبر الآيات والرجوع إلى الحق وعدم الأخذ بأقوال الفقهاء إذا لم يكن لها مستند من الكتاب والسنة وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يناقشون الرسول ﷺ في بعض ما يأمرهم به فيقولون له هل هذا بوحي من الله أم الرأي والاجتهاد فإذا قال لهم إنه الوحي أمسكوا وأطاعوا وإلا أبدوا رأيهم وأقرهم عليه الرسول إذ يقول «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
ثم أن سرد الله مجمل قصة نوح ومن بعده من الرسل بالبينات وإصرار أقوامهم على التكذيب أتى بذكر قصة موسى وهارون عليهما السلام وما كان من استكبار فرعون وملئه عن الإيمان وتكذيبهم له فقال: ﴿ثم بعثنا من بعدهم﴾ أي من بعد أولئك الرسل: ﴿موسى وهارون إلى فرعون وملئه﴾ الملأ أشراف القوم الذين يملئون العيون أبهة ويراد بهم أركان الدولة الذين كانوا يستعبدون رعاياهم من القبط: ﴿بآياتنا﴾ الدالة على عظيم قدرتنا من خوارق العادات وأخذهم بمختلف المصائب والويلات المفصلة في سورة الأعراف: ﴿فاستكبروا﴾ عن التسليم برسالته والإيمان بربه: ﴿وكانوا قومًا مجرمين﴾ راسخين في الإجرام مطبوعين على الظلم والفساد: ﴿فلما جاءهم الحق﴾ وهو ما ظهر على يد موسى من المعجزات: ﴿من عندنا﴾ هذا إشارة إلى أن المعجزات لم تكن من عمل الرسل وإنما هي مما يجريه الله على يد أنبيائه لإثبات رسالتهم عنه جل وعلا.: ﴿قالوا إن هذا﴾ أي ما جاء به من المعجزات: ﴿لسحر مبينٌ﴾ أي ظاهر وليس هو من المعجزات في شيء والسحر صناعة كانت رائجة في ذلك العهد: ﴿قال موسى﴾ متعجبًا من قولهم: ﴿أتقولون للحق لما جاءكم﴾ واضحًا جليًا: ﴿أسحرٌ هذا﴾ أي يداخلكم الريب في أمره وهو مغاير لجنس ما تصنعه يد السحرة: ﴿ولا يفلح الساحرون﴾ أي والحال أنكم تعلمون أن الساحرين لا يفوزون في أمور الجد العملية ولا يفكرون في نشر دعوة إلى دين وتأسيس ملك وقلب نظام لأنهم يعرفون من أنفسهم أن السحر ما هو إلا شعوذة وتخيلات لا تلبث أن تنجلي حقائقها ويفتضح أمرها ولو كنت منهم ما تجرأت على الإقدام على ما دعوتكم إليه من الإيمان بالله واتباع أوامره: {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا
بلطف وآثر الفرار بنفسه وولى وجهه شطر الباب مسرعًا فلحقت به: ﴿كذلك﴾ ألهمنا يوسف في ساعة غضبه ما يترتب على استعمال الشدة في معاملة المرأة من ضرر يعود عليه، الأمر لذي جعله يعدل عن تنفيذ ما همّ به: ﴿لنصرف عنه السوء﴾ من قبل العزيز بسبب هذه الحادثة: ﴿والفحشاء﴾ أي الوقوع في الإثم فقد سلمناه وحفظناه منهما: ﴿إنه من عبادنا المخلصين﴾ أي الذين يراقبون الله في سرهم ويخلصون له في عبادتهم، وفي هذا إشارة إلى أن كل من حذا حذو يوسف لا بد أن يصرف الله عنه السوء والفحشاء ونظيره قوله تعالى: ﴿ومن يتق الله يجعل له مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب﴾. وقوله: ﴿ومن يتق الله يجعل له من أمره يسرًا﴾.
﴿واستبقا الباب﴾ أي أن يوسف فر من وجهها مسرعًا نحو الباب ليفلت من يدها وأسرعت هي خلفه تريد أن تمنعه من الخروج واجتذبته من ورائه: ﴿وقدت﴾ القد: القطع: ﴿قميصه من دبر﴾ أي من الخلف أثناء شدها له لتحول دون هربه: ﴿وألفيا سيدها﴾ وهو العزيز: ﴿لدى الباب﴾ واقفًا يحاول فتح الباب ليدخل فلم يكن منها إلا أن ابتدرته بالشكوى من يوسف بما يثير حفيظته ويشعل نار الغيرة في نفسه لتشفي غل صدرها وحنقها عليه لما فاتها من التمتع به وتوقعه في السوء جزاء إبائه عن مطاوعتها: ﴿قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءًا﴾ أي أمرًا يسوءك دون أن تصرح به ولكنها حددت عقوبته بقولها: ﴿إلا أن يسجن أو عذاب أليم﴾ وهذا منها خشية أن يشتد غضب العزيز عليه فيأمر بقتله أو بيعه أو نفيه من البلاد فتحرم منه وهي لا تزال طامعة فيه، فما كان من يوسف وقد سمع ما بهتته به إلا أن يصرح بالحقيقة كما هي عارية من كل مجاملة أو وجل: ﴿قال هي راودتني عن نفسي﴾ فامتنعت ولم أرد بها سوءًا قط، ولما كان هذا اتهامًا صريحًا من خادم ضد سيدته من شأنه أن يضاعف عليه الجرم وكان القائل رجلًا مؤمنًا لا يخاف غير الله فقد أمده سبحانه وتعالى بما لم يكن في الحسبان إذ قيض له من ينجيه حيث قال: ﴿وشهد شاهد من أهلها﴾ ذهب الكثير من المفسرين إلى أن هذا الشاهد كان طفلًا أنطقه الله لنجاته من التهمة لما رُوِيَ عن ابن عباس عن النبي ﷺ أنه قال: «تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم» وهذا الحديث موقوف مطعون فيه بالضعف، ولعل الصواب أنه لم يكن طفلًا بل هو رجل كما اختاره الرازي في تفسيره لعدة أسباب منها أن الله تعالى لو أنطق الطفل بذلك الكلام لكان مجرد قوله
المسلمة وبصفتي مشرفًا على مكتبة المدرسة فقد وجدت فعلًا إقبالًا شديدًا من قبل التلاميذ على قراءة هذا التفسير القيم السهل الممتنع.
@ أهديك يا عبد الحميد سلامي
# يا مسدى الخيرات للإسلامي
@ بكتابك الفذ الذي أوقفته
# لله ترجو منه خير مقامي
@ أخطيب بيت الله دم في محزة
# وتجلة مقرونة بسلام
@ يا من توخي بكتابته الحقا
# ئق دونما نظر لحشو كلام
@ أسمى الفعال أتيت حتى فزت من
# رب الخليقة بالمقام السامي
@ والله يجزي المحسنين بفعلهم
# خير الجزاء ووافر الأنعام
@ لك من أخيك الشوملي تحية
# تترى مدى الأيام والأعوام
يراقبون الله ويتقون غضبه وعذابه فيجتنبوا معاصيه وكذلك هو في جانب المحسنين الذين يعبدون الله كأنهم يرونه أولئك أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا يحزنون. إلى هنا انتهت سورة النحل وبانتهائها انتهى الجزء الرابع عشر في يوم الخميس ٥ جمادي الآخرة / ١٣٨٠ الموافق /٢٤ نوفمبر (تشرين الثاني) ١٩٦٠ اسأله تعالى حسن القبول وأن يوفقني لإتمام باقي الأجزاء وطبعها إنه سميع مجيب.

بسم الله الرحمن الرحيم

في فجر يوم الثلاثاء ١٨ربيع الأول سنة ١٣٨١ والموافق في ٢٩ من شهر آب سنة ١٩٦١ توفى الله تعالى صديقنا الأستاذ العالم الأديب الشاعر السيد عبد الحميد الخطيب سفير الدولة العربية السعودية في كراتشي بالباكستان والمدرس في الحرم المكي سابقًا. فكان لوفاته الأثر الأليم في نفوس الكثيرين من عارفيه وأصدقائه ومحبيه فتوافدوا لداره في دمر وشيعوه من هناك ومن قصره الجديد إلى مقره الأخير في مقبرة الدحداح فكان في جوار العلماء والصالحين والشهداء الذين سبقوه للدار الآخرة مزودين برحمة الله ورضوانه.
لقد عرفنا الأستاذ الصديق السيد عبد الحميد الخطيب ضيفًا يتردد إلى دمشق من حين إلى آخر فكنا نرى في محياه المشرقة سيماء الوداعة والصلاح والحلم والأناة والعلم والأدب.
ثم عرفناه مواطنًا فاضلًا يختار دمشق سكنًا له فيحب من يزوره ويرحب به ترحيبًا جميلًا ومؤنسًا، حتى ابتنى له قصرًا رائعًا في دمر - ضاحية غربية من دمشق – فجعله موئل أهل العلم والوجاهة والصلاح. وموطن من يزوره أو يزور دمشق من أفاضل العلماء والأدباء فيغدق عليهم الكثير من أنسه ولطفه، وحسن ضيافته وجوده، ولقد كنا نتردد عليه في جماعة من محبيه وعارفي فضله وعلمه فكنا نزداد به مع الأيام حبًّا وقربًا حتى خبرنا من حقيقته وإيمانه الشيء العظيم والكبير.
عرفناه مسلمًا معتزًا بإسلامه، ومؤمنًا مجاهرًا بإيمانه، يدعو لما آمن واعتز بكل ما أوتيه من علم ومال. وجهد وجاه.
وعرفناه عظيم الثقة بالله سبحانه شديد الحب له، باذلًا ما يملك من مال ومتاع في سبيل الدعوة إليه والعمل في سبيله.
المقلدين لآبائهم ومشايخهم أن يرفضوا التسليم بالدليل العلمي حتى ولو كان من كتاب الله وسنة رسوله، وهذا ما هو حاصل ومشاهد فعلًا في عصرنا هذا من تمسك الناس بأقوال الأئمة الأربعة وغلق باب الاجتهاد خلافًا لما جاء به الإسلام من تحرير العقول وتدبر الآيات والرجوع إلى الحق وعدم الأخذ بأقوال الفقهاء إذا لم يكن لها مستند من الكتاب والسنة وقد كان الصحابة رضوان الله عليهم يناقشون الرسول ﷺ في بعض ما يأمرهم به فيقولون له هل هذا بوحي من الله أم الرأي والاجتهاد فإذا قال لهم إنه الوحي أمسكوا وأطاعوا وإلا أبدوا رأيهم وأقرهم عليه الرسول إذ يقول «أنتم أعلم بأمور دنياكم».
ثم أن سرد الله مجمل قصة نوح ومن بعده من الرسل بالبينات وإصرار أقوامهم على التكذيب أتى بذكر قصة موسى وهارون عليهما السلام وما كان من استكبار فرعون وملئه عن الإيمان وتكذيبهم له فقال: ﴿ثم بعثنا من بعدهم﴾ أي من بعد أولئك الرسل: ﴿موسى وهارون إلى فرعون وملئه﴾ الملأ أشراف القوم الذين يملئون العيون أبهة ويراد بهم أركان الدولة الذين كانوا يستعبدون رعاياهم من القبط: ﴿بآياتنا﴾ الدالة على عظيم قدرتنا من خوارق العادات وأخذهم بمختلف المصائب والويلات المفصلة في سورة الأعراف: ﴿فاستكبروا﴾ عن التسليم برسالته والإيمان بربه: ﴿وكانوا قومًا مجرمين﴾ راسخين في الإجرام مطبوعين على الظلم والفساد: ﴿فلما جاءهم الحق﴾ وهو ما ظهر على يد موسى من المعجزات: ﴿من عندنا﴾ هذا إشارة إلى أن المعجزات لم تكن من عمل الرسل وإنما هي مما يجريه الله على يد أنبيائه لإثبات رسالتهم عنه جل وعلا.: ﴿قالوا إن هذا﴾ أي ما جاء به من المعجزات: ﴿لسحر مبينٌ﴾ أي ظاهر وليس هو من المعجزات في شيء والسحر صناعة كانت رائجة في ذلك العهد: ﴿قال موسى﴾ متعجبًا من قولهم: ﴿أتقولون للحق لما جاءكم﴾ واضحًا جليًا: ﴿أسحرٌ هذا﴾ أي يداخلكم الريب في أمره وهو مغاير لجنس ما تصنعه يد السحرة: ﴿ولا يفلح الساحرون﴾ أي والحال أنكم تعلمون أن الساحرين لا يفوزون في أمور الجد العملية ولا يفكرون في نشر دعوة إلى دين وتأسيس ملك وقلب نظام لأنهم يعرفون من أنفسهم أن السحر ما هو إلا شعوذة وتخيلات لا تلبث أن تنجلي حقائقها ويفتضح أمرها ولو كنت منهم ما تجرأت على الإقدام على ما دعوتكم إليه من الإيمان بالله واتباع أوامره: {قالوا أجئتنا لتلفتنا عما وجدنا عليه آباءنا
أن يكون هناك فارق ولو بسيط في التمييز بين المعاني المقصودة من الكلمات فلكل كلمة في القرآن مدلولها ومرماها وإن غم علينا شيء فالله أعلم بمراده منها لذلك يجب أن نجزم أن المشيئة غير الإرادة وهذه غير العلم وأن المشيئة معناها أحكامه التي يحمل المخلوقات عليها حملًا يقال في اللغة أشاءه على كذا ألجأه إليه وشيّأته على الأمر حملته عليه وهي تشمل جميع ما يحبه الله وما يكره فكلاهما داخل تحت مشيئته وهذه المشيئة هي الدستور الإلهي الذي وضعه الله بما يتلاءم مع استعداد وقدرة جميع المخلوقات للسير بمقتضاه والذي أذاعه على عباده لينفي عن ذاته العلية صفة الاستبداد والظلم ويمنع بمقتضاه الفوضى والعدوان على الحقوق ويؤاخذ الناس بأعمالهم بحسب مراده وأحكامه وينقسم هذا الدستور إلى قسمين اثنين أمر كوني قدري وأمر ديني شرعي الأول يسمى قضاء وهو أحكام قاطعة تتعلق أزليًا بأشياء مؤقتة يقدر لها بداية ونهاية كالخلق والتكوين والحياة والموت والتذكير والتأنيث وما إلى ذلك وقد استأثر الله تعالى بالعلم بهذا القسم ولم يطلع عليه أحدًا من خلقه فلا يسأل عنه الإنسان ولا يتعلق به حساب ولا عقاب.
الثاني: ويسمى القدر وهو أحكام معلقة ومقدرة بشرط أو شروط لا تنفذ إلا بتوافرها وهي تتعلق بأعمال العباد في حدود ما وضعه تعالى من أنظمة كونية وسنن مطردة وقواعد كلية وأعمال إيجابية أعلنها للناس في كتبه وعلى ألسنة رسله وجعل لهم كامل الحرية في أن يتخيروا ما يشاءون وأخبرهم بنوع الجزاء الذي يترقب على فعلها من خير أو شر وسعادة أو شقاء وجنة أو نار فهو سبحانه إذ قدر أن سقى الأرض بالماء من شأنه أن ينبت الزرع وأنت الحيوان يوجد من البيضة أو النطفة فذلك من سنن الله التي لا محيص عنها وهو إذ قدر أن النار تحرق والسم الكثير يقتل فلا راد لهذا القدر وهو إذ يجعل من العمل ما يكون وسيلة للرزق وسبيلًا للسعادة فلا بد أن يكون لكل مجتهد نصيب وهو إذ يخبرنا بأن من سلك سبيل الضلال فجزاؤه جهنم ومن أحسن فله الجنة فلا بد من ذلك فهذه الأحكام الشرطية التي هي بمثابة القوانين العامة تعد قدرًا وتنفيذ مقتضاها الذي هو بمثابة الحكم يسمى قضاء أيضًا وأما الإرادة فإنها اسم يوضع موضع الارتياد ومحلها الرأس أو القلب فهي بمعنى الرغبة المضمرة والخفية بالنفس يقال أراد الشيء إذا عزم عليه أو عني به قبل أنة ينفذه ومتى تجاوزت إلى حد التعبير عنها بالقول كانت طلبًا أو إلى حد التنفيذ كانت مشيئة وعلى هذا فإن إرادة الله الحقيقية سر من أسراره الخفية التي لا يعلم بها أحد سواه وهي
سورة الماعون
مكية عدد آياتها سبع

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَن صَلاتِهِمْ سَاهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (٧)﴾
سورة الماعون: بعد أن بين الله في السورة السابقة الغاية من رد كيد الطغاة القاصدين هدم بيته الحرام وهي إيلاف قريش وأمرهم بعبادة الله الذي منَّ عليهم بنعمتين عظيمتين هما: أنه تعالى هو الذي أطعمهم من جوع، وآمنهم خوف، وهاتان النعمتان من أهم نعم الله على العباد أخذ يبين في هذه السورة حقيقة العبادة التي أمروا بها وعرفها بذكر ما ينافيها فقال: ﴿أَرَأَيْتَ﴾ أي هل عرفت وعلمت من هو على التحقيق: ﴿الَّذِي يُكَذِّبُ﴾ أي لا يصدق أو ينكر ما جاء به الرسل: ﴿بِالدِّينِ﴾ وهو اسم لجميع ما يعبد به الله وفي مقدمته الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر: ﴿فَذَلِكَ﴾ المكذب الذي لا إيمان له هو: ﴿الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ﴾ أن يدفعه ويزجره زجراً عنيفاً بمعنى الغليظ القلب القاسي الطبع الذي يتكبر على الناس ويحتقر حتى أضعف الضعفاء وهو اليتيم الذي فقد النصير منذ صباه فهذا المكذب لا إيمان له لأنه كفر بما أنعم الله به عليه من نعمة القوة التي يدفع بها عن نفسه الأذى فاستعملها في إرهاب الناس وازدرائهم: ﴿وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ المسكين هو من لا قدرة له على الكسب أو من سدت في وجهه أبواب العمل وقد عرَّفه الرسول ﷺ بقوله-ليس المسكين الذي يطوف على الناس ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن به فيتصدق عليه ولا يقوم يسأل الناس - ولذلك لم يقل إطعام المسكين إشارة إلى أنه ليس المقصود التصدق عليه بل المراد حث الناس بعضهم بعضًا وتعاونهم على تيسير أسباب الرزق للعاطلين وتأمين حاجة المحتاجين بمختلف الوسائل التي من شأنها أن تصون المسكين من خطر الجوع وذل السؤال وذلك بالإسهام فيما يسمى في عصرنا هذا بالجمعيات التعاونية والجمعيات الخيرية النزيهة المخلصة التي لا تقدم المال للمسكين كصدقة عليه بل باعتباره حقًّا له في عنق الموسرين أوجبه ربهم الذي منَّ عليهم في السورة السابقة بأنه هو الذي


الصفحة التالية
Icon