العمل ما يكون وسيلة للرزق وسبيلًا للسعادة فلا بد أن يكون لكل مجتهد نصيب من ذلك، وهو الذي يخبرنا بأن من سلك سبيل الضلال فجزاؤه جهنم، ومن أحسن فله الجنة، فلا بد من ذلك. فهذه الأحكام الشرطية التي هي بمثابة القوانين العامة تعد قدرًا، وتنفيذ مقتضاها الذي هو بمثابة الحكم يسمى قضاء.
والله جل وعلا قد هدانا النجدين لا مناص لنا من اتباع أيهما، وقرر في دستوره الخالد مبدأ العدل المطلق. فمن أساء فعليه وزره، ومن أحسن فله الحسنى وزيادة. وللمجتمع البشري أن يختار لنفسه كأفراد وكجماعات متكاملة، فإما اتباع لدستور الله وهناك السعادة الموعودة في الدنيا والآخرة، وإما نأي عنها وذلك ظلم الناس أنفسهم مضر بهم في الدارين.
ولا محل للقول إنه ما دام الله قد وضع دستورًا للناس فقد أشاءهم عليه وحملهم على تنفيذه دون الامتناع عنه لأنه قادر على كل شيء. فذلك قول ظاهر الاعتساف، بين الخطأ، فهو لم يضع الدستور إلا ليبين الخطأ من الصواب ويجزي الناس بمقتضاه. ولا سبيل بعد إعلانه، ﴿ومن أصدق من الله قليلًا﴾ فالحقيقة التي جرينا عليها في تفسيرنا لهذه الكلمات أني وجدت، والتي يجب أن يفهمها الناس، ويهتدوا بهديها هي: أنه سبحانه وتعالى أراد للناس أن يحيوا، والحياة تقتضي الحركة، وهي التي أشاءهم الله عليها، وخلقها لهم، ومنّ عليهم بها بقوله: ﴿والله خلقكم وما تعملون﴾ أي خلقكم وخلق حركاتكم وهي من القسم الأول الذي قضى به الله، وأخفى أمره عن الناس، فلا يؤاخذهم عليها، ولكل حركة اتجاه، وهذا هو ما ترك الله لعباده حرية الاختيار فيه، فإما إلى يمين وخير وبركة وحسن جزاء، وإما إلى شمال وشر وضلال وسوء منقلب؛ وهذا من القسم الثاني الذي أنذرهم به سبحانه وسيحاسبهم عليه. وما وضع الدستور إلا ليختار الناس لأنفسهم، إذ هم مفطورون على أن يريدوا لأنفسهم ويختاروا، وما حدد الله طريق الخير والشر إلا لأنه أراد لنا أن نتبع الأول ونتجنب الآخر. فإن اخترنا لأنفسنا ما لا يحب الله لنا فذلك مرده إلينا ولا شك، إذ هو نتيجة للحرية التي قررها الدستور الإلهي، وليس نتيجة الدستور نفسه. ولا شك أن من اهتدى أو عصى فإنما يسير حسب مقتضى الدستور، وخضوعًا للمشيئة الإلهية العليا، إذ يقول تعالى: ﴿وهو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن﴾ وذلك أمر الله الذي لا مرد له، منا الكافر الذي يعصي الله
إلى الموت ﴿فقال لهم الله موتوا﴾ فكان جزاؤهم أن أماتهم الله جميعًا في المكان الذي ظنوا النجاة فيه من الموت جزاء لهم على إثباتهم التأثير للعدوى من دون الله وظنهم أن الفرار من بلادهم كاف لأن يرد عنهم قضاء الله ﴿ثم أحياهم﴾ ليعتبروا ويعتبر من وراءهم من المؤمنين ويوقنوا بأن العمر محدود والموت لا يكون إلا بقضاء الله وأن الوباء لا يتحتم معه الموت إلا إذا وافق انتهاء الأجل المحدود ﴿إن الله لذو فضل على الناس﴾ يجعل آجالهم في يده سبحانه وتعالى ولم يكلها إلى غيره رغم ما قدره سبحانه من ربط الأسباب بالمسببات ﴿ولكن أكثر الناس﴾ لقصر نظرهم لا يقدرون هذه المنن وما لها من تأثير في نفوس البشر بمنحهم الشجاعة والإقدام وعلو الهمة ولذلك فإنهم ﴿لا يشكرون﴾ الله ولا يحمدونه على هذه النعمة ولا يستفيدون من نتائجها الباهرة، وبعد أن ضرب الله هذا المثل للمؤمنين على أن الموت لا يكون إلا بقضائه لا بتأثير سبب خاص من وباء أو غيره، وجه إليهم الأمر الآتي حيث قال ﴿وقاتلوا في سبيل الله﴾ أي ابذلوا نفوسكم لإعلاء كلمة الله ونشر الدعوة الدينية والدفاع عن المؤمنين من عباده دون أن يداخلكم أي خوف من الموت ﴿واعلموا أن الله سميع﴾ لأقوال المتخلفين عن القتال وما يقتبسونه لذلك من أعذار كقولهم ﴿لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا هاهنا﴾ ونحو ذلك ﴿عليم﴾ بما تكنه نفوسهم من ضعف الإيمان والخوف من الموت في حال القتال فلا تنطلي عليه الحيلة ولا يخفى عليه شيء من حقائق ما في القلوب.
بعد أن حض الله المؤمنين على الجهاد ببذل الروح في سبيل إعلاء كلمة الله على اعتبار أن ذلك هو الركن الأول في سعادة الأمة بمجموعها انتقل إلى الركن الثاني وهو الجهاد في سبيل الله عن طريق المادة ببذل المال حيث قال ﴿من ذا الذي يقرض الله﴾ جانبًا من ماله ويسهم به في كل أمر من شأنه إعلاء كلمة الله ونشر الدعوة الدينية وحماية بلاد المسلمين وحفظ كرامة الفقراء والمساكين
على الرجل والمرأة وكل واحد معه آخر من جنسه (مطهرة) من كل ما يدنس الإنسان في حياته الدنيا من سيء الأخلاق والصفات وما يحمله في جوفه من النجاسات، والنوع الثاني من الجزاء تلتذ به نفوسهم المتطلعة إلى الكمال والسمو من اللذات المعنوية وهو (رضوان) بكسر الراء وقرئ بضمها ضد السخط (من الله) وفي هذا من اللذة العظمى ما لا يعرفه ولا يتصوره غير المحبين المخلصين الذين سمت نفوسهم عن المادة ونعموا بالفضائل المعنوية وهم المستحقون لهذا الجزاء (والله بصير بالعباد) عالم بدخائل نفوسهم وما يصلح أحوالهم وما هم في حاجة إليه من اللذات الجسمانية الحسية والنفسية المعنوية.
بعد أن أمر الله نبيه بأن يخبر الناس بأنه قد أعدَّ للمتقين منهم عنده جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ورضوان من الله، أراد أن يبين لهم أعمال المتقين الذين استحقوا بها كل ذلك النعيم فقال: هم (الذين يقولون) بألسنتهم (ربنا) وخالقنا نشهدك (إننا آمنا) بقلوبنا بأنك واحد لا شريك لك فلم نعبد غيرك، ولم نستعن بسواك ثم يتوجهون إليه بالدعاء في رجاء وخوف حيث يقولون (فاغفر لنا) ما دون ذلك من (ذنوبنا) التي اقترفناها عن غير قصد العصيان، فليس من المعقول أن نؤمن بقدرتك ووحدانيتك ثم نتعمد مخالفتك وعصيانك فلزم أن يكون ذلك منا تحت تأثير تغلب النفس وتسلط الشيطان الذي لا قبل لنا على رد عدوانهما عنا إلا بمعونتك وتوفيقك وقد قلت في كتابك: «إن الله لا يغفر أن يشرك بك ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء» فتقبل دعاءنا يا مجيب السائلين (وقنا) (عذاب النار) فإنا مشفقون منها وأنت أعلم بعدم قدرتنا على تحمل آلامها، وقد قلت في كتابك الكريم «ورحمتي وسعت كل شيء» وما ارتكبناه من الذنوب والسيئات لم يخرج عن كونه شيئًا صغيرًا في جانب عفوك وما وسعته رحمتك، ثم يبدو من أعمالهم ما يدل على كمال الإيمان وعظيم الثقة بالله ومشيئة الغفران وذلك بأن يكونوا في حياتهم من: -
١ - (الصابرين) الذين إذا أصابتهم مصيبة ذكروا أنها من قضاء الله فلم يتبرموا ولم يسخطوا ولم يغير ذلك من حبهم لله شيئًا.
٢ - (والصادقين) الذين إذا قالوا صدقوا وإذا عاهدوا أوفوا وإذا اؤتمنوا لم يخونوا أماناتهم اتباعًا لما أمرهم به الله.
اللهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُمْ جَآؤُوكَ فَاسْتَغْفَرُواْ اللهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُواْ اللهَ تَوَّاباً رَّحِيماً (٦٤) فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً (٦٥) وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُواْ مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً (٦٦) وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (٦٧) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (٦٨) وَمَن يُطِعِ اللهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُوْلَئِكَ رَفِيقاً (٦٩) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيماً (٧٠) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً (٧١) وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيداً (٧٢) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِّنَ الله لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُن بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيتَنِي كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (٧٣) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللهِ فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (٧٤) وَمَا لَكُمْ لاَ تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ وَلِيّاً وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً (٧٥) الَّذِينَ آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُواْ أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً (٧٦) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّواْ أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدَّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِّمَنِ اتَّقَى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (٧٧) أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللهِ فَمَا لِهَؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (٧٨) مَّا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (٧٩) مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (٨٠) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (٨١) أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (٨٢) وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي
تتعلق بالأنظمة الكونية والسنن المطردة والقواعد الكلية والأعمال الإيجابية كالعمل لطلب الرزق ونيل السعادة في الدنيا والآخرة وقد أعلن الله هذه الأحكام لعباده في كتبه وعن طريق رسله للإحاطة بها والسير بمقتضاها وجعل لهم حق اختيار الغاية التي يهدفون لها والسبل الموصلة إليها على ضوء ما أوضحه تعالى لهم. ولما كان طلب الغفران من الله متوقف على الإيمان بوحدانيته وهو رأس السبيل الموصل إلى رضوان الله ونيل غفرانه فمن المسلم به عقلًا ومنطقًا أن المشرك قد ضل الطريق من أوله وأنه كلما أمعن في السير كلما زاد بعدًا ويكون شأنه كشأن من يريد السفر إلى جهة الشرق ثم يركب باخرة تسافر إلى الغرب فلا يجديه في هذه الحالة أن يقول إني أريد السفر إلى الشرق إذ العبرة بما شاء لنفسه بركوب الباخرة المسافرة إلى الغرب فلا غرو أن يصدق عليه بأنه قد ضل ضلالًا بعيدًا والمشركون بعدم إيمانهم بوحدانية الله ولجوئهم إلى غيره في النائبات ولو بقصد التوسل بهم إليه قد ضلوا الطريق بل ضلوا في فهمهم لحقيقته تعالى إذ أثبتوا لغيره شيئًا من التأثير في شؤونهم الخاصة وأساؤوا إلى الله بتشبيهه بملوك الدنيا المستبدين الذين يحكمون الناس بمجرد الهوى والعاطفة أو شفاعة الشافعين من ذوي الأغراض الخاصة وهذا هو منتهى الضلال ولذا أوضح الله مبلغ خطئهم بقوله ﴿إن يدعون من دونه﴾ أي الله ﴿إلا إناثًا﴾ الأنثى خلاف الذكر ولما كانت الأنثى في جميع الحيوان تضعف عن الذكر أطلق العرب لفظة الأنثى على الضعيف فيقال للحديد اللين «أنيث» وللأرض السهلة «أنيث» ومعنى هذا أن المشركين بدعائهم غير الله إنما يستعينون لأصنام من الجمادات الضعيفة التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل بل لا تستطيع أن تفعل شيئًا لهم مما يطلبونه منها ﴿وإن يدعون إلا شيطانًا﴾ فصيلة من الجن من أبناء إبليس جبلوا على الأذى ومن طبعهم أن يندسوا في النفوس ويوسوسوا لها
والبصر والكلام إلا أعراضا تقوم بجوارحنا فكما نقول إن حياة الله ليست عرضا وعلمه وبصره كذلك بل هي صفات تليق به لا كما يليق بالمخلوقين نقول إن يده وعينه وفوقيته واستواءه ونزوله صفات ثابتة حقيقتها لله تعالى كما أخبر عن نفسه ولكنها غير مكيفة بما نشاهده من حالة البشر وصفاته تعالى معلومة من حيث الجملة والثبوت بحسب ما
<٧٤>
تدل عليه مخلوقاته وآلاؤه وغير معقول من حيث التكيف والتحديد لأن ذلك فوق مستوى العقل والعلم الإنساني ولا شك أن الله تبارك وتعالى عندما وصف لنا ذاته العلية إنما أراد منا أن نعرفه بها ونؤمن بحقائقها وننفي عنها المشابهة فلا يحق لنا أن نعطلها بالتأويل ولا نفرق بين السمع والاستواء ولا بين البصر والنزول لأن الكل قد ورد عن رسول الله والقصد من كل هذا هو أنه لا ينبغي أن ينكر الإنسان وجود الله كما لا ينبغي أن يجهل حقيقته ويحاول أن يتمثله في عين من الأعيان أو عرض من الأعراض أو قوة من القوى الكامنة وراء المادة بل يجب أن يعرف أن له ربا هو الخالق لجميع الموجودات المدبر لشؤون الكائنات اتصف بجميع صفات الكمال التي منها كمال الذات وأحاط بما في هذه الدنيا من الأرض والسماوات (لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار) (ليس كمثله شيء وهو السميع البصير) (يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ) إذ هو مصدر جميع الخيرات وهو المتكفّل برزق العباد الذي لا يخشى الفقر حتى يبخل ولا يتأثر بالمعاصي حتى يقتر روى الأمام أحمد عن أبي هريرة قال «إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه، قال: وعرشه على الماء وفي يده الأخرى القبض يرفع ويخفض، وقال يقول الله: أنفق أنفق عليك» (وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ) وهم متأثرون بما يقولون عن بخل الله وفقره (مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) أيها الرسول (مِنْ رَبِّكَ) من القرآن الذي هو سبيل الهداية (طُغْيَانًا) أي تمردا واعتدادا بالنفس إذ يحسبون أن ما هم فيه من غنى أو علم لم يكن من فضل الله (وَكُفْرًا) بالله إذ يقولون لماذا لم يوسع الله على محمد وصحبه بمثل ما نحن فيه من رغد العيش وسعة الرزق لو كان على حق (وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ) بسبب هذا الطغيان والكفر (الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ) حيث لا داعي من الدين يدعوهم إلى الاتحاد
والعناد وتقليد الآباء. فهؤلاء وأمثالهم هم الذين يرجى أن تطمئن قلوبهم إلى الإيمان فيعتنقون الإسلام عن فهم وعقيدة، ويؤيدونه كل التأييد، وينشرونه في الآفاق. وفقًا لما رُوِيَ عن رسول الله ﷺ من قوله: «إن الله ليؤيد الإسلام برجال ما هم من أهله» ﴿أولئك﴾ أي من ذكر من الأنبياء هم ﴿الذين هدى الله﴾ حقًّا ﴿فبهداهم اقتده﴾ بسكون الهاء وقرئ بكسرها أي سر على سننهم وتخلق بأخلاقهم الكريمة في حياتك اليومية. ومن هذا يعلم أن نبينا ﷺ كان مهتديًا بهداهم أجمعين، وفضائله ومناقبه الكسبية أعلى من جميع مناقبهم وفضائلهم، لأنه جمع بين مميزاتهم كافة. ولذا قال له تعالى: ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾.
﴿قل لا أسألكم عليه﴾ أي على ما أدعوكم إليه من العمل بالقرآن ﴿أجرًا﴾ دنيويًّا ﴿إن هو﴾ أي القرآن ﴿إلا ذكرى للعالمين﴾ للناس أجمعين وليس خاصًّا بكم.
بعد أن أتم الله قصة إبراهيم مع قومه، وما منّ به عليه من هداية أبنائه وجده نوح، ومن تفرع عنهم من الأنبياء، وما منّ به عليهم من إيتائهم الكتاب والحكم والنبوة، وأمر رسوله ﷺ بالاهتداء بهداهم، وأن يعلن للناس أجمعين أنه لا يريد لنفسه أجرًا في مقابل الدعوة، وأن ما جاء به ما هو إلا مجرد تنبيه وذكرى للعالمين، أخذ سبحانه وتعالى ينبه رسوله إلى أن السبب في إعراض من أعرض عن دعوته من ذرية أولئك الأنبياء إنما يرجع إلى عدم إيمانهم بقدرة الله التي كان يؤمن بها آباؤهم فقال: ﴿وما قدروا﴾ أي من اجتباهم الله وهداهم من ذريات من سبق من الأنبياء، ويراد بهم بنو إسرائيل بدليل تصديه تعالى لذكر كتاب موسى بعد هذا ﴿الله حق قدره﴾ أي أخطئوا في تقدير مبلغ قدرة الله ﴿إذ قالوا ما أنزل الله على بشر من شيء﴾ بمعنى أنهم أنكروا الوحي المنزل عليك الذي هو سبيل الصلة بين الخالق والمخلوقين، ولم يعترفوا بالسر الخفي الذي يلقيه الله في قلوب من يشاء الهداية فيوجههم إلى الصراط المستقيم. وذلك بلا شك انتقاص من مقام الألوهية وسلطانها الواسع، ﴿قل﴾ أيها الرسول لهؤلاء ﴿من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى﴾ ذلك الفتى الذي نشأ وتربى في بيت فرعون ثم قتل واحدًا من قومه وفر هاربًا والتحق بخدمة شعيب وأمضى عنده مدة من الزمن عاد إثرها إلى مصر برسالة إلى فرعون تحمل في طياتها ﴿نورًا﴾ يفضح به ما يزعمه فرعون من دعوى الربوبية ويظهره على حقيقته بشرًا لا قدرة له ولا سلطان، بل إنه لا يستطيع أن يثبت أمام معجزات الله. ﴿وهدى﴾ إلى الله الواحد
ربي حقًّا فقال عمر يا رسول الله ما تكلم من أجساد لا أراوح لها فقال صلى الله عليه وسلم: «والذي بعثني بالحق ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ولكنهم لا يستطيعون جوابًا» وإذا كان في هذا دليل على أن الموتى تسمع صوت الأحياء وتشعر بتقريعهم لهم على ما اقترفوا من السيئات فليس هناك من قول مأثور عن أنهم أجابوا المنادين أو أن في استطاعتهم معونة المستنجدين بهم أو الشفاعة لهم عند الله الأمر الذي يدل صراحة على ضلال كل من يقول بهذا أو يستسيغه خصوصًا في عصرنا هذا الذي يحتكم الناس فيه إلى العقل والدليل لا إلى التخريف والتدجيل.
بعد أن أخبر الله نبيه بما كان من إرساله نوحًا وهودًا وصالحًا لدعوة أقوامهم إلى مجرد توحيد الله ورفضهم ذلك لأن عقولهم الضيقة لم تستسغه أخذ يخبره بأن من الرسل من أرسل لدعوة قومه إلى الامتناع عن الفواحش التي تأباها النفوس الكريمة بطبيعتها فلم يجد من قومه أيضًا غير الرفض وعدم الاعتراف برسالته فقال ﴿ولوطًا﴾ أي وقد أرسنا لوطًا برسالة غير الرسالة التي أرسل بها من قبله ﴿إذ قال لقومه﴾ وهم جماعة كانت تسكن في مكان يسمى بعمق السديم بقرب البحر الميت الذي يسمى ببحر لوط في نواحي شرقي الأردن ﴿أتأتون الفاحشة﴾ أي ما بالكم ترتكبون فاحشة هي في منتهى القبح ﴿ما سبقكم بها من أحد من العالمين﴾ أي إنكم أنتم المبتدعون لها وعليكم يقع وزرها ووزر من يتبعكم فيها إلى يوم القيامة ﴿إنكم﴾ بهمزة واحدة مكسورة وقرئ «أئنكم» ﴿لتأتون الرجال شهوة من دون النساء﴾ وهذه الفاحشة هي مخالفة لمقتضى الفطرة التي فطر الله سائر المخلوقات عليها وهي أن الذكر يبتغي الأنثى لتبادل الشهوة وطلب النسل سواء في ذلك الإنسان والحيوان الأعجم أما أنتم فإنكم تستمتعون بالرجال لمجرد إشباع شهوتكم دون نظر إلى ما يتعلق بإطفاء شهوة النساء وما يترتب على ذلك من دوام النسل ﴿بل أنتم قوم مسرفون﴾ أي أن إدمانكم على هذه العادة جعلكم تسرفون فيها فلا تميلون إلى النساء وقد أشار الله إلى هذا الإسراف بما يترتب عليه من عدة أضرار بقوله في سورة العنكبوت ﴿إنكم لتأتون الرجال وتقطعون السبيل وتأتون في ناديكم المنكر﴾ فإتيان الرجال أمر قذر من شأنه أن يقطع سبيل النسل ويؤدي إلى انتهاك حرمة الفضيلة والآداب العامة وغير ذلك من المنكرات ﴿وما كان جواب قومه﴾ على هذا الإنكار والنصيحة ﴿إلا أن قالوا أخرجوهم﴾ أي لوط وآله لقوله تعالى في سورة النمل ﴿أخرجوا آل لوط﴾ ولقوله تعالى في سورة الذاريات {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها
﴿ولا تكن من الغافلين﴾ عن ذكره تعالى ﴿إن الذين عند ربك﴾ أي ملائكة الله المقربين لديه ﴿لا يستكبرون عن عبادته﴾ أي عن دعائه مع أنه ليست لهم حاجة إلى أمر من أمور الدنيا يطلبونه وقد أنعم الله عليهم بقربه وإنما يطلبون الغفران لمن في الأرض كما قال تعالى: ﴿تكاد السموات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض﴾.
﴿ويسبحونه﴾ أي ينزهونه عن كل ما لا يليق بعظمته وجلاله من اتخاذ الأنداد والشفعاء ﴿وله يسجدون﴾ أي وله وحده يخضعون فلا يحنون رؤوسهم لأحد سواه وإذا كان هذا شأن المقربين عنده فماذا يكون واجب غيرهم من بني آدم الذين هم محل الزلل والعصيان وهم المحتاجون دائمًا إلى الله والمفتقرون لرحمته وغفرانه وتحقيق آمالهم الواسعة في الدنيا والآخرة ومعنى هذا أن الله يعتبر ترك الدعاء والتسبيح والسجود له دائمًا استكبارًا كاستكبار إبليس سيؤاخذ الناس عليه نسأله تعالى اللطف بنا والتوفيق لما يرضيه وأن لا يؤاخذنا بسيئات أعمالنا ويتقبل منا صالحها إنه سميع مجيب.
سورة الأنفال
مدنية وعدد آياتها ٧٥ ما عدا بعض آيات منها
{يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (١) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٢) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (٣) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (٤) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (٥) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (٦) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (٧) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (٨) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (٩) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (١٠) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (١١) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ
﴿وقالوا حسبنا الله﴾ أي يكفينا الله ما نحن فيه من نعم وما يصلنا من أموال الغنائم وغيرها بمعنى لا يطمعون فيما يعطى لغيرهم ولا يسخطون على الرسول حتى ولا في سرهم لأن السخط عليه سخط على الله مرسله وهذا مما يحبط سائر الأعمال: ﴿سيؤتينا الله من فضله ورسوله إنا إلى الله راغبون﴾ أي أن إيماننا لم يكن إلا لوجه الله لا طمعًا في الرزق الذي تكفل سبحانه لنا به حتى ولو لم نؤمن إذ قال: ﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها﴾ ولأجل أن ينتزع الله من القلوب التطلع إلى نيل شيء من تلك الأموال عرف سبحانه مستحقيها بحيث لا يجوز لغيرهم أن يأخذوا شيئًا منها حتى ولو عرضت عليهم فقال: ﴿إنما الصدقات﴾ أي وينحصر توزيع الصدقات الواجبة وهي زكاة النقود أو التجارة والأنعام والزرع والركاز والمعدن على ثمانية أصناف الصنف الأول: ﴿للفقراء﴾ وهم من يقابلون الأغنياء ولعل المراد منهم ذوو الحاجة ممن لا يفي دخلهم بقوتهم وقوت عيالهم وقد وصفهم الله في سورة البقرة بقوله: ﴿للفقراء الذين أحصروا في سبيل الله لا يستطيعون ضربًا في الأرض يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف تعرفهم بسيماهم لا يسألون الناس إلحافًا﴾ والصنف الثاني: ﴿والمساكين﴾ لقد اختلف المفسرون في المراد بالمسكين فقال بعضهم إنه قليل الحركة والاضطراب الحسي من الضعف والعجز أو النفسي من القناعة والصبر وقال آخرون إنه بمعنى الذليل الضعيف أو المتواضع الخبيث النفس وقال آخرون إنهما مترادفان بمعنى واحد ولذلك اعتبروا الأصناف سبعة لا ثمانية ومن رأى أن المراد بهم من تظهر عليهم علائم الفقر والبؤس والمسكنة لأن الله قد وصفهم بقوله: ﴿أو مسكينًا ذا متربة﴾ أي أن شدة الحاجة قد ألصقتهم بالتراب: ﴿والعاملين عليها﴾ أي الجباة الذين يوليهم الإمام أو نائبه العمل على جمعها من الأغنياء: ﴿والمؤلفة قلوبهم﴾ أي الجماعة الذين يراد تأليف قلوبهم بالاستمالة إلى الإسلام أو التثبيت فيه أو لكف شرهم عن المسلمين: ﴿وفي الرقاب﴾ أي للصرف منه في إعانة المكاتبين في فك رقابهم من الرق أو لشراء العبيد وعتقهم: ﴿والغارمين﴾ وهم الذين عليهم غرامة من المال بديون ركبتهم وتعذر عليهم أداؤها ويدخل ضمن هذا التعاون على دفع الديات وقد كان العرب يعدون هذا من أعظم مفاخرهم: ﴿وفي سبيل الله﴾ أي معاونة من يريد أن يؤدي شيئًا مما فرضه الله عليه ويحتاج معه إلى مال كالجهاد والحج: ﴿وابن السبيل﴾ أي المنقطع عن بلده في سفر لا يتيسر له فيه شيء من مال فيعطى ما يستعين به على العودة إلى بلده: ﴿فريضة من الله﴾ أي أن هذه الصدقات فرضت
البحر وراءهم حتى إذا دنوا منهم تلاطمت حولهم الأمواج وأشرف على الغرق وتجلت له يد القدرة الإلهية وهي تعمل للحيلولة دونه ودون ما يريد انتصارًا لموسى ومن معه وعندئذ ما وسعه إلا أن: ﴿قال﴾ قبل غرقه والموت ماثل بين عينيه: ﴿آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل﴾ فهو الإله الحق الذي يجب أن يعبد وهو الذي يستطيع خلاصي من الغرق: ﴿وأنا من المسلمين﴾ أي أنه تخلى عن عناده وكبريائه وكفره بآيات الله السابقة كلها وندم على ما صدر منه وأعلن أنه قد وطن نفسه أن يكون من المسلمين فكان الجواب على قوله هذا: ﴿آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾ أي أتسلم أو تعلن إسلامك في وقت وفي حالة لا يمكنك معها أن تبرهن على صحة هذا الإسلام بما تقدمه من اتباع الرسول والعمل الصالح وقد كنت قبل لحظات من المفسدين في الأرض المعتين في ظلم العباد. وقد حدد الله في سورة النساء موعد قبول التوبة وعدم قبولها بقوله: ﴿إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليمًا حكيمًا {١٧﴾ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليمًا}.
﴿فاليوم ننجيك﴾ أي نجعلك على نجوة من الأرض: ﴿ببدنك﴾ دون أن تغوص في البحر أو يبتلعك الحوت: ﴿لتكون لمن خلفك آية﴾ أي ليعرف الناس مصيرك فيعتبروا بك وينزجروا عن الكفر بالله والإمعان في المعاصي: ﴿و﴾ الحال إن الله يعلم: ﴿إن كثيرًا من الناس﴾ رغم هذه الآية التي ستظل قائمة على مدى الزمن والتي سيظهرها المصريون إذا اكتشفوا مقابر الفراعنة واستخرجوا بدن فرعون وعرضوه على الأنظار: ﴿عن آياتنا لغافلون﴾ أي شديدو الغفلة عما يبدو من الآيات الكونية التي تدل على عظيم قدرة الله والآفات والسماوية التي يلوح الله بها لعباده ليتجافوا ويرتدعوا عن معاصيه: ﴿ولقد بوأنا بني إسرائيل﴾ أي أسكناهم بعد غرق وهلاك فرعون: ﴿مبوأ صدقٍ﴾ أي مكانًا آمنًا تصديقًا لما وعدهم به الله وهو من بلاد الشام الجنوبية المعروفة بفلسطين: ﴿ورزقناهم من الطيبات﴾ ولعل من أهمها المن والسلوى التي سخرها الله لهم من غير جهد ولا عناء: ﴿فما اختلفوا﴾ أي ما اختلف بنو إسرائيل في رسالته: ﴿حتى جاءهم العلم﴾ أي العلم المقطوع بصحته وهو علم الدين لقوله تعالى: {لكن الله يشهد
وتقيًا أو مسمومًا: ﴿قبل أن يأتيكما﴾ وهذا كما قال عيسى عليه السلام لقومه: ﴿وأنبئكم بما تأكلون وما تدخرون في بيوتكم﴾ أي فاطمئنا على حياتكما من هذه الناحية: ﴿ذلكما﴾ أي تعبير رؤياكما والعلم ببعض المغيبات: ﴿مما علمني ربي﴾ أي من العلوم التي لا تدرك إلا بتعليم من الله وإذن منه لمن كان على صلة به أو اتبع السنن التي سنها الله لذلك وقد حصلت على ذلك بسبب: ﴿إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله﴾ خالق السموات والأرض وما بينهما كما يجب له من التوحيد والتنزيه: ﴿وهم بالآخرة هم كافرون﴾ أي لا يؤمنون بالبعث والحياة الأخرى ويعبدون الأوثان وخلافها كالشمس والنجوم وقد برأت من كل ذلك فلم أثبت لها شيئًا من العلم أو السلطان ولم أنكر البعث والحساب: ﴿واتبعت ملة آبائي﴾ أنبياء الله الذين دعوا إلى توحيده الخالص: ﴿إبراهيم وإسحاق ويعقوب﴾ فاستمعا إليّ وخذا العلم والحكمة عني: ﴿ما كان لنا﴾ أي ليس من شأننا معشر الأنبياء: ﴿أن نشرك بالله من شيء﴾ نتخذه ربًّا أو إلهًا معبودًا معه لا من الملائكة ولا من البشر فضلًا عما دونها من البقر والأصنام: ﴿ذلك﴾ أي هداية الله لي إلى نبذ الشرك واتباع آبائي من الرسل هما سبيل نيل المعارف الربانية التي حصلت عليها: ﴿من فضل الله علينا وعلى الناس﴾ على ممر الأزمان بمعنى أن كل من يتجنب الشرك بأنواعه ويخلص العبادة لله ويتبع رسله يورثه الله علم ما لم يكن يعلم: ﴿ولكن أكثر الناس لا يشكرون﴾ لله هذا الفضل ويحسبون أن سائر العلوم إنما تنال بفعل الإنسان واجتهاده ومن ذلك العلم ببعض المغيبات كالزايرجة وعلم الرمل والتنجيم والتنويم المغناطيسي واستحضار الأرواح، وفاتهم أن كل هذه من الفتن التي من شأنها أن تضل الناس عن سبيل الحق وأن المعلومات التي يحصلون عليها من هذه الطرق معلومات خاطئة أما المعلومات الصادقة فإنما تأتي عن طريق نور يقذفه الله في قلوب أصفيائه كما حدث ليوسف عندما نبذ الشرك وآمن بالله واتبع ملة آبائه من الرسل السابقين القائمة على أساس التوحيد الذي أخذ يشرح مزاياه بقوله: ﴿يا صاحبي السجن﴾ أي يا ساكني السجن أو يا صاحبي في السجن أريد أن أناقشكم في أمر هو في مصلحتكم قبل أن أعبر لكم رؤياكما: ﴿أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار﴾ أي هل من الخير للإنسان أن يعبد إلهًا واحدًا يعرف ما يحبه فيبادر إليه وما يبغضه فيتركه، أم الخير في أن يعبد آلهة متعددة يتنازعون الملك والسلطان إذا أرضى أحدهم أغضب الآخرين لا شك أن الخير سيكون بترجيح الأول إذ
إقامة الحجة على الظالمين يوم القيامة
وصف لحال الظالمين في النار
بلاغ من الله لعباده
صدى هذا التفسير في مختلف الأوساط
البحر وراءهم حتى إذا دنوا منهم تلاطمت حولهم الأمواج وأشرف على الغرق وتجلت له يد القدرة الإلهية وهي تعمل للحيلولة دونه ودون ما يريد انتصارًا لموسى ومن معه وعندئذ ما وسعه إلا أن: ﴿قال﴾ قبل غرقه والموت ماثل بين عينيه: ﴿آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل﴾ فهو الإله الحق الذي يجب أن يعبد وهو الذي يستطيع خلاصي من الغرق: ﴿وأنا من المسلمين﴾ أي أنه تخلى عن عناده وكبريائه وكفره بآيات الله السابقة كلها وندم على ما صدر منه وأعلن أنه قد وطن نفسه أن يكون من المسلمين فكان الجواب على قوله هذا: ﴿آلآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين﴾ أي أتسلم أو تعلن إسلامك في وقت وفي حالة لا يمكنك معها أن تبرهن على صحة هذا الإسلام بما تقدمه من اتباع الرسول والعمل الصالح وقد كنت قبل لحظات من المفسدين في الأرض المعتين في ظلم العباد. وقد حدد الله في سورة النساء موعد قبول التوبة وعدم قبولها بقوله: ﴿إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليمًا حكيمًا {١٧﴾ وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفار أولئك أعتدنا لهم عذابًا أليمًا}.
﴿فاليوم ننجيك﴾ أي نجعلك على نجوة من الأرض: ﴿ببدنك﴾ دون أن تغوص في البحر أو يبتلعك الحوت: ﴿لتكون لمن خلفك آية﴾ أي ليعرف الناس مصيرك فيعتبروا بك وينزجروا عن الكفر بالله والإمعان في المعاصي: ﴿و﴾ الحال إن الله يعلم: ﴿إن كثيرًا من الناس﴾ رغم هذه الآية التي ستظل قائمة على مدى الزمن والتي سيظهرها المصريون إذا اكتشفوا مقابر الفراعنة واستخرجوا بدن فرعون وعرضوه على الأنظار: ﴿عن آياتنا لغافلون﴾ أي شديدو الغفلة عما يبدو من الآيات الكونية التي تدل على عظيم قدرة الله والآفات والسماوية التي يلوح الله بها لعباده ليتجافوا ويرتدعوا عن معاصيه: ﴿ولقد بوأنا بني إسرائيل﴾ أي أسكناهم بعد غرق وهلاك فرعون: ﴿مبوأ صدقٍ﴾ أي مكانًا آمنًا تصديقًا لما وعدهم به الله وهو من بلاد الشام الجنوبية المعروفة بفلسطين: ﴿ورزقناهم من الطيبات﴾ ولعل من أهمها المن والسلوى التي سخرها الله لهم من غير جهد ولا عناء: ﴿فما اختلفوا﴾ أي ما اختلف بنو إسرائيل في رسالته: ﴿حتى جاءهم العلم﴾ أي العلم المقطوع بصحته وهو علم الدين لقوله تعالى: {لكن الله يشهد
أن نعيش بدونه كثيرًا ما ينقلب إلى بلاء يسلطه الله علينا لينتقم سبحانه منا فيقض مضاجعنا ويسلبنا نعيم الحياة ويذكرنا بعظمته وجليل قدرته وواسع لطفه ورحمته ومن أجل هذا أقسم الله جل جلاله به ونعته بأبرز خصائصه حيث قال: ﴿والمرسلات﴾ ذهب الكثير من المفسرين على أن المراد منها وما بعدها الملائكة وقال آخرون أنها الرسل وحملوها على محامل شتى وقال ابن مسعود إنها الريح ولعل هذا هو الصواب لقوله تعالى: ﴿وأرسلنا الرياح﴾.: ﴿عرفًا﴾ العرف ذيل الفرس أي التي تتابع كعرف الفرس: ﴿فالعاصفات﴾ أي الرياح التي تعصف: ﴿عصفًا﴾ أي تشتد حتى تقتلع الأشجار وتغرق السفن وفقًا لقوله تعالى: ﴿هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصفة وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين﴾.
﴿والناشرات﴾ نشر الخبر أذاعه والناشر مذيع الأصوات والأصداء والكتب أي والرياح التي تحمل ا لأخبار في طياتها وتنشرها: ﴿نشرًا﴾ سريعًا في جميع الجهات بتسخير من الله حتى لقد تمكن المخترعون في عصرنا هذا من استراق ما لديها من الأخبار بواسطة آلات الراديو: ﴿فالفارقات﴾ جمع فارقة أي السحابة المنفردة التي تفرق بين تتابع الهواء: ﴿فرقًا﴾ أي نجعل حالات الجو تتحول من حالة إلى حالة: ﴿فالملقيات ذكرًا﴾ أي الرياح التي تهب هبوبًا شديدًا يلقي في النفوس الذعر والخوف ويدعوها إلى ذكر الله وطلب اللطف منه: ﴿عذرًا أو نذرًا﴾ بسكون الذال فيهما وقرئ بضمها أي للإعذار والإنذار ومعناه إعذارًا من الله وإنذارًا إلى خلقه قال تعالى: ﴿وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورًا أفأمنتم أن يخسف بكم جانب البر أو يرسل عليكم حاصبًا ثم لا تجدوا لكم وكيلًا أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخرى فيرسل عليكم قاصفًا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعًا﴾ وهذا كما قال تعالى عن الريح في آية أخرى: ﴿وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته﴾ وجواب القسم قوله: ﴿إنما توعدون﴾ من أنواع النعيم في الجنة للأبرار وألوان العذاب للظالمين في الآخرة: ﴿لواقع﴾ أي كل ذلك حق لا مبالغة فيه وهو وعد قطعه رب العزة على نفسه لعباده وقضى به لهم وعليهم فأصبح بمثابة حق لهم عليه جل وعلا: ﴿ومن أصدق من الله قيلًا﴾ وقد تفضل جل جلاله فأعطى لعباده الفرصة الكافية للعمل لأداء الاختبار حيث ذكر لهم بعض
تذل وتخضع وتدين لدينك الحق من تلقاء نفسها ومن غير عناء ولولاك لما كان في إمكان بشر ضعيف مثلي أن يؤثر فيها هذا الأثر العظيم،: ﴿وَاسْتَغْفِرْهُ﴾ على ما كنت تظن من أن في استطاعتك أن تهدي الناس إلى الدين وتحملهم على تقبله مما تبذله من جهد في سبيل إقناعهم بمزاياه،: ﴿إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً﴾ أي كثير القبول للتوبة فلا يؤاخذ الناس بما يدور في الصدور متى كان العمل في ذاته مأموراً به أو هو مما يرضيه جلّ وعلا.
سورة المسد
مكية وعدد آياتها خمس

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (١) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (٢) سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ (٣) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (٤) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ (٥)﴾.
«سورة المسد»: لقد كان أبو لهب -واسمه عبد العزى عم النبي من كبار أغنياء قريش وصاحب المكانة المرموقة بينهم- ينقم على رسول الله ﷺ لقيامه بالدعوة إلى دين الله الحق ولذلك كان يتعمد إيذاءه بمختلف الوسائل ويتبعه في المواضع العامة ليكذبه ويسفه معتقداته وينفر الناس من اتباعه مستعيناً عليه ببعض صناديد قريش وفي مقدمتهم شخصان من شر الناس أخلاقاً هما: عقبة بن أبي معيط، والعاص بن وائل وكانت زوجته أم جميل بنت حرب أخت أبي سفيان وعمة معاوية تسعى بدورها بالنميمة على رسول الله ﷺ ليبغضه الناس فلا يستمعون إلى حديثه، ولما أن بشر الله نبيه في السورة السابقة بما سيئول إليه أمر الإسلام من الذيوع والانتشار أردفها بهذه السورة التي تبشره بما سيكون من أمر أعدائه الذين كانوا يناصبونه العداء ويضعون في سبيل دعوته مختلف العراقيل وأنواع الدسائس فقال: ﴿تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ﴾ أي قطعت وهلكت بمعنى شلت حركتها بانفضاض أنصاره عنه وربما كان المعنيان باليدين عقبة والعاص: ﴿وَتَبَّ﴾ هو أيضاً بمعنى هلك فلم يعد له أي تأثير على الناس،: ﴿مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ﴾ الذي كان يصول به وينفق منه في محاربة الدعوة الإسلامية،: ﴿وَمَا كَسَبَ﴾ أي أعماله التي كان يقوم بها في مناوأة الرسول وتأليب صناديد قريش ضده: ﴿سَيَصْلَى نَاراً﴾ أي سيقاسي حر نار: ﴿ذَاتَ لَهَبٍ﴾ اللهب لسان النار المشتعل الخالص من الدخان ولعل المراد منها النار التي تأججت


الصفحة التالية
Icon