نفسي هو الحسد إذ هم يتوقعون عظمته وعلو شأن الداعين له، ومن أجل هذا كانت أمنيتهم في الحياة انصرافكم عنه، وزوال نعمته عنكم ﴿من بعد ما تبين لهم﴾ من انطباق ما جاء في كتبهم من صفات النبي المنظر على هذا النبي الكريم أن دينه هو الدين ﴿الحق﴾ ولولا أنهم عرفوا أنه الدين الحق لما تمنوا زوال نعمته عنكم، ولما عملوا على ذلك بإيقاع الشبه في نفوسكم، لترتدوا عن دينكم ﴿فاعفوا﴾ عن سيئاتهم، ولا تحاولوا الانتقام منهم على ما قالوا، طالما تبين لكم أن منشأ ذلك هو الحسد الذي يأكل نفوسهم، إذ الحسد آفة متمكنة من النفوس الدنيئة الضالة الضعيفة، ولا قدرة لهم على ردها، فلا ينبغي أن تؤاخذوهم عليه، واتركوا أمرهم إلى الله ﴿واصفحوا﴾ أي لا تقابلوا مطاعنهم بمثيلاتها ﴿حتى يأتي الله بأمره﴾ بأن يزيل ذلك الحسد من نفوسهم، أو يمدكم بنصره ويميتهم بغيظهم ﴿إن الله على كل شيء قدير﴾ وما ذلك عليه بعزيز ﴿وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة﴾ وردّوا عليهم ردًّا فعليًا يشعرهم بعدم أكتراثكم بأقوالهم، وشدة تمسككم بدينكم بالصلاة والزكاة؛ فهذا خير جواب لهم من شأنه أن يرد كيدهم في نحورهم ﴿وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله﴾ أي واعلموا أن كل ما تقدمونه لأنفسكم من خير سواء بالعفو والصفح وجميع أنواع ضبط النفس، أو بالقيام بواجب الطاعات المطلوبة منكم كالصلاة والزكاة، سيجزيكم عليه الله الجزاء الأوفى ﴿إن الله بما تعملون بصير﴾ لا يخفى عليه شيء من إسراركم وجهركم. وقد نبه الله المؤمنين إلى أن عداء اليهود للإسلام ناشئ في الأصل من الحسد فلا سبيل إلى زواله من قلوبهم.
وأن الحسد من الأمراض النفسية التي تحمل المرء على بذل الجهود في سبيل سلب النعمة عن المحسود، وخير سلاح يوجه إلى صد الحاسد هو المبالغة في إظهار النعمة المحسود عليها.
«النوع الخامس» من سيئات بني إسرائيل ومطاعنهم ضد الإسلام: ما كان إليه في مستقبل الإسلام والمسلمين، وذلك ما كانوا يعرضون به نحو الإسلام، ومصير المعتنقين له، يصرحون به جهارًا، أمام المؤمنين. وحكى الله ذلك عنهم بقوله ﴿وقالوا﴾ أي كل من اليهود والنصارى ﴿لن يدخل الجنة﴾ في يوم القيامة ﴿إلا من كان هودًا أو نصارى﴾ دون سواهم ويقصدون التعريض بالمؤمنين، وقد ردَّ الله على ذلك بقوله ﴿تلك أمانيهم﴾ التي يحملون بها أي أن تلك الدعوى لم تخرج عن كونها أماني باطلة، لا تستند على شيء من الحقيقة، ولأجل إقامة الحجة
عليكم وأوجب عليكم طاعته والقتال تحت لوائه ﴿إن كنتم مؤمنين﴾ بالله حقًّا عاملين على مرضاته.
بعد أن أخبر الله بأمر ذلك البرهان الذي أقامه النبي دليلًا على أن طالوت ما هو إلا مملك عليهم من قبل الله أراد أن يبين ما كان من أمرهم مع طالوت إثر توليه الملك فقال ﴿فلما فصل طالوت بالجنود﴾ أي انتقل بهم من مقامهم وقادهم إلى ميدان الوغى لقتال أعدائهم ﴿قال إن الله مبتليكم بنهر﴾ أخبرهم بأنه سيصادفهم في طريقهم نهر وأن هذا النهر قد جعله الله محلًا لاختبارهم ومعرفة مبلغ إيمانهم وحذرهم من الشرب منه ﴿فمن شرب منه فليس مني﴾ فإني بريء منه ومن عمله لأنه عاص وسينال جزاءه من ربه ﴿ومن لم يطعمه فإنه مني﴾ أي ومن أبى أن يذوق طعمه كلية فأولئك هم عصبتي وأنصاري وهم رجالي المخلصون ﴿إلا من اغترف غرفة﴾ أي بضم الغين وقرئ بفتحها أي ملء اليد ﴿بيده﴾ إلا من اضطر إلى جزء قليل يتبلغ به فذلك مما يتسامح فيه ويغني عنه ﴿فشربوا منه﴾ أي وكانت النتيجة أنهم عندما بلغوا النهر تشككوا في كلام طالوت وشربوا جميعًا منه برغم ما أخبرهم به من أمر الاختبار ﴿إلا قليلًا﴾ وقرئ ﴿قليل﴾ ﴿منهم﴾ أي ولم يبق منهم من حافظ على دينه وعمل على طاعة ربه وتذكر أنه في حالة اختبار غير النزر القليل ﴿فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه﴾ ممن أطاعوا أمره ولم يتذوقوا من النهر بالمرة أو اغترفوا منه غرفة واحدة حتى تجاوزوا النهر ﴿قالوا﴾ أي قال بعضهم ممن كان بقلبه شيء من الوهن لاغترافه قليلًا من ماء النهر ﴿لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده﴾ أي أنهم استضعفوا أنفسهم عن لقاء عدوهم لما رأوا من وفرة عدده فشجعهم أقوياء الإيمان ممن صبروا على العطش ولم يطعموا شيئًا من الماء بالمرة حيث ﴿قال الذين يظنون﴾ أي يترقبون ﴿أنهم ملاقوا الله﴾ وهم الذين صبروا على الابتلاء بكل ثبات وأيقنوا أن وراء هذه الحياة حياة دائمة يلقون فيها ربهم ﴿كم من فئة قليلة﴾
والعمل بها (من الكتاب) الذي هو التوراة كيف إنهم (يدعون إلى كتاب الله) أي إلى العمل بما جاء فيه (ليحكم) وقرئ (ليُحكم) بالبناء للمجهول (بينهم) أي لتطبق فيهم أحكامه ذلك أن رسول الله ﷺ دخل مدارس اليهود ودعاهم إلى الإيمان. فقال له نعيم بن عمرو والحارث بن زيد: على أي دين أنت يا محمد قال على ملة إبراهيم، فقالا له: إن إبراهيم كان يهوديًا، فقال عليه الصلاة والسلام لهما: إن بيننا وبينكم التوراة فهلموا إليها فأبيا، ولهم مواقف غير هذه كثيرة يعرضون فيها عن العمل بالكتاب الذي يؤمنون به إذا لم يوافق أهواءهم (ثم يتولى فريق منهم) ويرفض الاحتكام إلى كتاب الله التوراة (وهم معرضون) بقلوبهم لأن ديدنهم الإعراض عن الحق والإصرار على الباطل (ذلك) أي توليهم وإعراضهم عن الاحتكام لكتاب الله (بأنهم) بسبب أنهم (قالوا) عن جهل وغرور (لن تمسنا النار) لاتصال نسبنا بالأنبياء (إلا أيامًا معدودات) هي مدة عبادة آبائنا للعجل فقط، وأما ما نقترفه من الذنوب بعد ذلك فلا نعذب عليها، فلا داعي لأن نكلف أنفسنا بالرضوخ لأحكام شريعتك أيها الرسول (وغرهم في دينهم ما كانوا يفترون) أي وخدعهم في دينهم قول الزور من تأليفهم حتى تخيلوه حقًا يعتمدون عليه في حمايتهم من العذاب، وما هم بمنجاة منه ويشبه هذا قولهم إن آباءنا الأنبياء سيشفعون لنا، وأن الله وعد يعقوب عليه السلام أن لا يعذب أولاده إلا تحلة القسم وإن ارتكبوا ما ارتكبوا من القبائح (فكيف) يكون حالهم وهم على هذا العناد والغرور (إذا جمعناهم ليوم) الجزاء الذي (لا ريب فيه) ولا بد من مجيئه وظهور كذبهم فيما قالوا (ووفيت كل نفس ما كسبت) وعوقب كل امرىء بما فعل لا كما كانوا يتصورون من أن العذاب إنما يكون للأمة بمجموعها على ما اقترفه آباؤهم (وهم) في ذلك اليوم (لا يظلمون) لأنهم سيلاقون ما أنذروا به حاضر أو يطبق فيهم جزاء كفرهم وعنادهم وكل صغيرة أو كبيرة صدرت منهم.
بعد أن أمر الله نبيه ﷺ أن يشعر الكافرين بعذاب أليم في الدنيا والآخرة وما لهم ناصرين وأشار إلى أن عدم هدايته لهم إنما هو ناشيء عن إعراضهم عن طلب الهداية أراد أن يزيل من قلوب أتباعه ما يداخلهم من الدهشة والاستغراب إذا هم أبصروا الكافرين في عزة وسلطان وبحبوحة من العيش إذ ربما يقولون ما بال هؤلاء ينعمون بكل هذا مع أن الله قد توعدهم العذاب فأفهمه أن ذلك مرجعه إلى مشيئة الله وقد فصلنا معنى المشيئة في الجزء الأول ص ٧٠ بأنها هي
تَعْمَلُونَ خَبِيراً (١٣٥) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً (١٣٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازْدَادُواْ كُفْراً لَّمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (١٣٧) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (١٣٨) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ العِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً (١٣٩) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ إِنَّ اللهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (١٤٠) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ اللهِ قَالُواْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُواْ أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُم مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَن يَجْعَلَ اللهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (١٤١) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُواْ إِلَى الصَّلاَةِ قَامُواْ كُسَالَى يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٤٢) مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاءِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (١٤٣) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ لِلّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً (١٤٤) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (١٤٥) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَاعْتَصَمُواْ بِاللَّهِ وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ لِلّهِ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (١٤٦) مَّا يَفْعَلُ اللهُ بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنتُمْ وَكَانَ اللهُ شَاكِراً عَلِيماً (١٤٧) لاَّ يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوَءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَن ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سُوَءٍ فَإِنَّ اللهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً (١٤٩) إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقّاً وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ أُوْلَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللهُ غَفُوراً رَّحِيماً (١٥٢) يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُواْ مُوسَى أَكْبَرَ مِن ذَلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَن ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُّبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ اللهِ
الأول ﴿ممن أسلم وجهه﴾ الذي هو أشرف أعضائه وأخضعه بالسجود ﴿لله﴾ نتيجة قوة العقيدة فيه ويراد بهذا أن يفوض جميع أموره إلى الله خالقه فلا يستعين بغيره ولا يرجو الخير من سواه ﴿وهو محسن﴾ أي مخلص في عابدته إذ الإحسان أن يعبد العبد الله كأنه يراه، والثاني: ﴿واتبع ملة إبراهيم حنيفًا﴾ أي إنه اتبع إبراهيم في حنفيته التي كان عليها وهي ميله عن الوثنية وأهلها ﴿واتخذ الله إبراهيم خليلًا﴾ الخليل الصديق كامل الحب أي اصطفاه لنفسه وجعله لا يحب أحدًا سواه ويحتمل كل شيء في هواه ﴿ولله﴾ جميع ﴿ما في السموات وما في الأرض﴾ فهو يصطفي من عباده من أراد اصطفاءه أو من كان مستحقًّا للاصطفاء ﴿وكان الله بكل شيء محيطًا﴾ إحاطة علم وتدبير فهو يعلم جميع أعمال العباد ومن يستحق منهم الثواب والعقاب والرحمة والاصطفاء.
لقد حض الله الناس على طلب الغفران باتخاذ السبل المؤدية إليه من الإيمان والأعمال الصالحة وأكد لهم بأن من يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرًا فلم يبق من شك في أن الرجل والمرأة يستويان في دخول الجنة غير أنه بقي أن يعلم الغامض والمشكل من أحكامهن من حيث الحقوق المالية والزوجية والنشوز والخصام والصلح والعدل والعشرة والفراق وقد أجاب الله على هذا كله بقوله ﴿يستفتونك﴾ أي الرجال ﴿في النساء﴾ كيف يتساوين معنا في الجنة بينما نحن نفضلهم ببعض الأعمال الصالحات كالجهاد وعدم الانقطاع عن الصلاة طوال العام وعلى أي أساس ينبغي أن نعاملهن ونحن أعلا منهن درجة فأمر الله رسوله أن يجيب على هذا بقوله ﴿قل الله يفتيكم فيهن﴾ أي أن الجواب على هذا لا يكون إلا من الله الذي يتولى الجزاء يوم القيامة والذي يجزي على أعمال القلوب أكثر مما يجزي على
لهم من الأحكام عاملوهم بإحدى طريقتين (فَرِيقًا) من الرسل (كَذَّبُوا) أي كذبهم بنو إسرائيل (وَفَرِيقًا) من الرسل (يَقْتُلُونَ) وهذا كما قال تعالى في آية أخرى (أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون) أي يعمدون إلى قتل الرسل من غير ذنب إلا أن دعوهم إلى عبادة ربهم (وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ) بنصب النون ورفعها قراءتان (فِتْنَةٌ) أي اختبار ليرجعوا إلى ربهم بما أنذرهم به من قبل إذ قال (وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين) وأشار إليهما هنا بقوله (فَعَمُوا) عن التدبير في آيات الله المنزلة (وَصَمُّوا) عن سماع مواعظ أولئك الأنبياء ولم يتبعوا أحكام الله ولم يهتدوا بهديه بل اتبعوا أهواءهم وانهمكوا في الظلم والفساد حتى سلط الله عليهم البابليين فجاسوا خلال الديار وأحرقوا المسجد الأقصى ونهبوا الأموال وسلبوهم الملك والاستقلال (ثُمَّ تَابَ اللهُ عَلَيْهِمْ) ورحمهم وأعاد إليهم ملكهم وعزهم وأرسل لهم رسلا آخرين ينذرونهم عذاب الله ونقمة (ثُمَّ عَمُوا) ولم يتعظوا بالماضي (وَصَمُّوا) عن تقبل الهداية وعاد (كَثِيرٌ مِنْهُمْ) إلى ظلمهم وإفسادهم في الأرض وقتلهم الأنبياء بغير حق فسلط الله عليهم للمرة الثانية الفرس ثم الروم «الرمانيين» فأزالوا ملكهم واستقلالهم وشردوهم في الأرض والآفاق وفقا لدستور الله الذي يقضي بأن الله يعاقب بالذنوب إذا كثرت وعمت وشاعت ولا عبرة بصلاح النذر القليل فالنادر لا حكم له كما قال تعالى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة) وهذا كقول المثل «الخير يخص والشر يعم» (وَاللهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ) أي في الحاضر والمستقبل من إعراض عن كتاب الله وعدم إتباع شريعة خاتم أنبيائه ومحاربة الداعين
<٧٩>
إليه فلا بد أن يذيقهم الله من العذاب ألوانا وفقا لقوله تعالى (وإذ تأذن ربك ليبعثن عليهم إلى يوم القيامة من يسومهم سوء العذاب) هذا ما كان من أمر اليهود أما النصارى فإنهم لم يفعلوا مثل فعلهم ولم يقتلوا أنبياءهم بل إنهم على العكس منهم أطروا عيسى حتى رفعوه إلى مقام الألوهية فكان هذا جرما سجله الله عليهم بقوله (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ) يزعم المسيحيون اليوم أنهم لم يقولوا إن الله هو المسيح ونحن نقول إنهم بلا شك لا ينكرون إنهم يثبتون له النفع والضر
الحنطة والنوى جمع نواة: بزرة التمر مفلوقًا أي مشقوقًا من وسطه من دون سائر بذور الحبوب والأثمار لأمر يريده سبحانه وتعالى دون أن يكون لأحد دخل في ذلك وقد جرت سننه تعالى في خلقه أنه تعالى ﴿يخرج الحي﴾ الذي ينمو ويتحرك من الزرع والنخل وما شاكلها ﴿من الميت﴾ أي حبة القمح والنوى وغيرهما من أنواع الحبوب كما يخرج الحيوان من البيضة والنطفة ﴿ومخرج الميت﴾ كالحب والنوى ﴿من الحي﴾ أي من الزرع الذي ينمو ويتحرك، واختلف المفسرون في معرفة السر في قوله ﴿يخرج الحي من الميت﴾ بصيغة المضارع وقوله ﴿ومخرج الميت من الحي﴾ بصيغة اسم الفاعل ومن رأيي أن هذا إشارة إلى أن إخراج الحي من الميت سنة من سننه تعالى المقدرة التي لا تختلف فكل حبة إذا وضعت في التراب وسقيت بالماء لا بد أن تنبت بخلاف إخراج الميت من الحي فهذا من قضاء الله الذي قضى بأن بعض الزروع والأشجار تخرج بذرًا وثمرًا، وبعضها لا يؤتي حبًّا ولا ثمرًا والله أعلم ﴿ذلكم﴾ الذي قدر بما قدر وقضى بما قضى هو ﴿الله﴾ الذي لا يستطيع أحد أن يتحكم في الخلق مثله هو الذي أدعوكم إلى معرفته والإيمان به ﴿فأنى تؤفكون﴾ أفكه عن رأيه صرفه عنه أي فإلى أي إله غيره تتضرعون ﴿فالق الإصباح﴾ أي الذي شق ظلمة الليل بعمود الصبح الذي يبدو في جهة مطلع الشمس في الأفق مستطيلًا ويسمى بالفجر ﴿وجعل﴾ أي الذي جعل بقدره وقرئ «جاعل» ﴿الليل سكنًا﴾ أي أنه هو الذي صير من ظلمة الليل موجبًا لسكون النفس بهدوء الخاطر وراحة الجسم من تعب العمل بالنهار ﴿والشمس والقمر حسبانا﴾ أي جعل من سيرهما سبيلًا لمعرفة حساب الأوقات وتحديد مواعيد العمل في المعاملات والعبادات وتواريخ الفصول كما قال تعالى في سورة يونس ﴿هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب﴾.
﴿ذلك﴾ أي جعل الليل سكنًا والشمس والقمر وسيلة لضبط الحساب في مصالح الناس ﴿تقدير العزيز﴾ الذي لا يستطيع أحد أن يغير أو يبدل فيما يقدره من أمر سيرهما ﴿العليم﴾ بمدى انتظام سيرهما واختلاف أوضاعهما عند دنو الساعة حيث تطلع الشمس من مغربها ويختل هذا النظام العجيب حيث يقول تعالى في سورة يس ﴿والشمس تجري لمستقر لها ذلك تقدير العزيز العليم * والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم * لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا الليل سابق النهار وكل في فلك يسبحون﴾.
وكتب فضيلة السيد عبد الوهاب الحسيني من عاموده يقول: قرأت بعض أجزاء من تفسيركم للقرآن الكريم فوجدته شافيًا لما يختلج في الصدور وافيًا بالمرام، حقًّا إن تفسيركم بديع في شكله جميل في أسلوبه ومعناه طرقتم فيه أبوابًا لم يسبق إليها أحد من قدماء المفسرين ولم يفطن لدركها العلماء المحدثون لا سيما وأن كتابة القرآن الكريم بالإملاء الحديث فتح جديد في آفاق العلم ولا يسعني إلا أن أتقدم إلى سيادتكم بالتهاني القلبية والتمنيات الطيبة بالصحة والسعادة راجيًا من المولى أن يمد في حياتكم ويحفظكم ذخرًا للإسلام والمسلمين لتخرجوا لهم الكنوز الدفينة من ينابيع العلوم والعرفان.
وكتب الأستاذ محمد مراد رئيس بلدية صفد سابقًا يقول لقد مررت في تفسيركم بالشجرة الممنوعة وسرني تفسيركم لها بأنه كانت عبارة عن شجرة السلالة البشرية والاجتماع الجنسي وقد أصبتم الحقيقة بعينها والأدلة شاهدة واضحة ولا أكتمكم إعجابي بالمعاني المبتكرة والجمل النيرة السهلة والآراء الصائبة التي تنير أذهان الشباب المنحرف والبسطاء الذين قادتهم سبل الجهالة إلى مهاوي الذل والانحطاط فالله أسأل أن يحفظكم ويقويكم.
وكتب الطالب هارون رمزي داود بمكة المكرمة يقول إني أحد الطلبة الملامويين بمكة المكرمة وقد اطلعت على مؤلفاتكم القيمة وأعجبت أيما إعجاب بتفسيركم قوله تعالى: ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ وكذلك عندما قررتم بأن الإنسان يقرر بنفسه مصيره الأمر الذي ينير السبل أمام الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه.
وكتب الداعي إلى الله في تركيا الأستاذ محمد نزاكت ويران شهر يقول اطلعت على تفسيركم الذي كشف النقاب عن وجوه آيات الله البينات التي لم يستطيع أحد من المفسرين توضيحها من عهد الرسول ﷺ حتى الآن فقد كانوا من قبل يخوضون في مسائل مختلفة مغلقة لا علاقة لها بالآيات وعبارات من شأنها أن تشتت الأفكار بدلًا من تيسير فهم كلام الله ولهذا جهل الكثير من الناس فهم معاني القرآن وجاء تفسيركم بالغرض المطلوب وهو تيسير فهم مراد القرآن للأمة المحمدية خاصة ولخدمة البشرية عامة بأسلوب يعلمه الخواص والعوام ابتغاء مرضاة الله في ميدان التبليغ والله أرجو أن تكون مع السفرة الكرام البررة حيث روى البخاري عن عثمان بن عفان على لسان شفيعنا محمد ﷺ قوله {خيركم من تعلم القرآن
لقد تضمنت السورة السابقة بيانًا كاملًا عن إثبات وحدانية الله وربوبيته ووجوب عبادته والإيمان بالوحي والكتب والرسالة والرسل والآخرة والبعث والجزاء وأصول التشريع وبعض قواعد الشرع وسننه تعالى في الخلق والتكوين ودستوره الاجتماعي للبشر وختمها بالتفريق بين مقام الربوبية ومقام الرسالة وأمر رسوله أن يعلن للناس أنه بشر لا يملك لنفسه نفعًا ولا ضرًا واستعرض حالة البشر بفطرتهم وكيف تسرب الشرك إلى نفوسهم وفند خطأهم في ذلك وضلال من يدعو غير الله وعلمه سبل نشر الدعوة إليه والوسيلة التي يستطيع بها كل إنسان أن يستفيد من مزايا القرآن ثم أعقب ذلك بهذه السورة التي تشعر الناس بمكانة الرسول ﷺ عند ربه ووجوب طاعته لأنها من طاعة الله تعالى ﴿يسألونك عن الأنفال﴾ والأنفال جمع نفل ونافلة: ما كان زائدًا على الواجب من الأعمال تطوعًا كما قال تعالى: ﴿ومن الليل فتهجد به نافلة لك﴾ ويراد بها ما زاد من أموال الغنيمة بعد أن قسمها الرسول ﷺ في غزوة بدر الكبرى فتنازع الصحابة في أمرها كل يريدها له فأنزل الله هذه الآية لفض النزاع فيما بينهم ولقنه الإجابة عن سؤالهم بقوله ﴿قل الأنفال لله والرسول﴾ أي ما دام كل واحد منكم قد أخذ نصيبه فقد أصبح الحق في هذه الزيادة عائدًا لله والرسول يتصرف فيها كما يلهمه الله ﴿فاتقوا الله﴾ الذي منحكم الغنيمة من أساسها بترك التنازع والاختلاف ﴿وأصلحوا ذات بينكم﴾ أي أزيلوا كل خلاف يكون بينكم بأحكام الصلة التي تربط بعضكم ببعض وهي رابطة الإسلام التي تدعو إلى الاتحاد وعدم القطيعة لتتم بهذه الإخوة الإسلامية على أساس متين ﴿وأطيعوا الله ورسوله﴾ في أمر الأنفال وفي كل ما يأمركم به وينهاكم عنه فطاعة الله واجبة لأنه الخالق لكم وطاعة الرسول واجبة أيضًا لأنه المبلغ لتلك الأوامر ولولاه ما عرفتم أمر ربكم ولا شك أن الله ما اصطفاه لهذه الرسالة إلا وهو يعلم أنه أمين عليها وكفؤ للقيام بما يستلزمه أمر الحكم بين الناس من مميزات ولذلك فإنه تعالى عندما أمر بمشاورة أولي الحل والعقد وذوي الخبرة في كل شيء أرجع أمر البت في النتيجة إليه ﷺ حيث قال: ﴿وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله﴾.
﴿إن كنتم مؤمنين﴾ أي إذا صح أنكم مؤمنون بالله وجب عليكم التزام طاعته وهنا أراد سبحانه وتعالى أن يشعرهم بما يحدثه الإيمان بالله من أثر في قلوب معتنقيه ليتسنى لكل إنسان أن يتبين مبلغ إيمانه بما يحس به في نفسه وما يبدو من أعماله وتصرفاته فقال ﴿إنما المؤمنون﴾ بالله حق
﴿فنسيهم﴾ أي فعاملهم بمثل عملهم وذلك بمجازاتهم على نسيانهم إياه بعدم ذكرهم ضمن من يستحقون الثواب يوم القيامة: ﴿إن المنافقين هم الفاسقون﴾ وهم كل من يخرج عن طريق الحق والصلاح: ﴿و﴾ قد: ﴿وعد الله المنافقين والمنافقات والكفار نار جهنم خالدين فيها﴾ وهذا نص على أن في النساء نفاقًا كالرجال وأن كلاهما في الحكم سواء وأن المنافقين والمنافقات وإن أظهروا الإيمان وعملوا أعمال الإسلام فإنهم أعظم شرًّا من الكفار الصرحاء: ﴿هي حسبهم﴾ أي يكفيهم عذابها يوم القيامة عن أن يقاتلوا ويحاربوا في هذه الحياة: ﴿ولعنهم الله﴾ أي أبعدهم عن رحمته التي تتسع لكل شيء ما عداهم: ﴿ولهم عذاب مقيم﴾ معهم في هذه الحياة لا ينفك عنهم أبدًا وهو ما يقاسونه في أنفسهم من خوف الفضيحة والتنكيل بهم فيما إذا علمت حقيقة أمرهم، وهنا عاد جل جلاله إلى توجيه الخطاب إلى المنافقين الذين نزلت في شأنهم الآيات السابقة واللاحقة يقول لهم إنكم أيها المنافقون مغرورون بدنياكم مفتونون بأموالكم وأولادكم كما كان من قبلكم: ﴿كالذين من قبلكم كانوا أشد منكم قوة وأكثر أموالًا وأولادًا فاستمتعوا بخلاقهم﴾ أي بما أوتوا من القوة ومختلف الحظوظ الدنيوية من الأموال والأولاد ولم تكن لهم غاية سامية كالتي يقصدها المؤمنون الصادقون من إعلاء كلمة الله وإقامة العدل بين الناس: ﴿فاستمتعتم﴾ أنتم: ﴿بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم﴾ من متع الدنيا وقلدتموهم في كل شيء مع أنكم لم تبلغوا درجتهم من القوة والمغريات فكنتم أحق منهم باللائمة والعقاب لأنهم أقدموا على ما أقدموا عليه ولم يروا من آيات الله ما رأيتم ولم يسمعوا من أحكامه وشرائعه ما سمعتم من صفوة رسله وخاتم أنبيائه: ﴿وخضتم﴾ في حمأة الباطل: ﴿كالذي خاضوا﴾ أي كمثل الموضوع الذي خاضوا فيه مع الفارق العظيم بينكم وبينهم وهو أنه كان لهم بعض العذر أما أنتم فلا عذر لكم بعد ما جاءكم من الحق: ﴿أولئك﴾ أي المتصفون بالأوصاف المعدودة من المشبهين والمشبه بهم لا إلى الفريق الأخير فقط: ﴿حبطت أعمالهم﴾ التي كانوا يستحقون عليها أجورًا حسنة لو أنها اقترنت بالإيمان وخلت من النفاق: ﴿في الدنيا﴾ أي لا تعود عليهم بالثمرة التي يرجونها فقد جرت سنة الله في خلقه بأن ما كان لغير الله انقطع فلا يدوم أثره فالجميل قد ينسى والمعروف عند الناس قد يضيع وأما ما كان لله فهو المتصل الذي إن ضاع عند الناس لا يضيع عنده سبحانه إذ يقيض ويوفق من عباده من يرده بأحسن منه: ﴿والآخرة﴾ أي فإنه لا أجر لهم إذ ذاك ما دامت أعمالهم لم تكن لوجه الله والله لا يجزي
ترشد الناس إلى سعادة الدارين وخير الحياتين بل إنهم ليقصرون استعمالهم لتلك المواهب عند حد البحث فيما ينفع الناس في هذه الحياة فحسب فيحرمون أنفسهم من الحصول على نعمة الإيمان باختيارهم ومحض رغبتهم.
بعد أن وضح الله المعنى المراد من عدم إيمان المكذبين بما اقتضته مشيئته تعالى الأزلية من إعطاء عباده كامل الخيار في مزاولة الأسباب التي تؤدي بهم إلى الجنة أو النار وقال: ﴿ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون﴾ أمر رسوله أن يكتفي في أمر الرسالة بتوجيه أنظار العقلاء إلى ما يدل على وحدانية الله وعظيم قدرته فقال: ﴿قل انظروا ماذا في السماوات والأرض﴾ أي ما هو هذا الذي تشاهدونه من شمس وقمر ونجوم وكواكب وأرض وماء وأشجار وأثمار هل تعلمون حقائقها وكيف خلقت ومن أين وجدت إنها من خلق إله واحد أحد فرد صمد أوجد كل ذلك من العدم ونظم شئون خلقه منذ القدم وفي كل شيء من هذه الأشياء ما يدل على مبلغ علم خالقه وعظيم قدرته: ﴿وفي الأرض آيات للمؤمنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾.: ﴿وما تغني الآيات والنذر عن قومٍ لا يؤمنون﴾ أي إن نزول الكتب السماوية وظهور الآيات الكونية واضحة جلية للناس لا يغنيهم العلم بها عن الإيمان بالله منزلها وما يستلزمه ذلك من الترفع عن الأرجاس وسفاسفها والتزام الحق والعدل وإيثار الخير على الشر فليس المراد من السحابة الأمطار بل المراد وجود الإثمار وإذا كان الأمر كذلك: ﴿فهل ينتظرون﴾ أي أولئك الكافرون من قومك: ﴿إلا﴾ أن يحيق بهم: ﴿مثل أيام الذين خلوا من قبلهم﴾ ممن قصصنا عليك أمرهم مع رسلهم من المحق والدمار نتيجة تكذيبهم: ﴿قل﴾ أيها الرسول منذرًا مهددًا إذا لم تؤمنوا وتصرون على التكذيب: ﴿فانتظروا﴾ ما ستكون عاقبة عملكم: ﴿إني معكم من المنتظرين﴾ الواثقين بأن وعيد الله حق وسنته لا تتغير وأن الأمة التي تصر بأكملها على الجحود والعناد لا بد أن ينالها ما نال من قبلها من الهلاك: ﴿ثم ننجي﴾ بالتشديد وقرئ بالتخفيف: ﴿رسلنا والذين آمنوا﴾ من الهلاك لينشروا الدعوة إلى دين الله: ﴿كذلك﴾ بمثل ما سنناه من سنن تقضي بنجاة الرسل والذين آمنوا في السابق أصبح: ﴿حقًّا علينا ننج﴾ بالتخفيف وقرئ بالتشديد: ﴿المؤمنين﴾ أي وعدًا منا لا يمكن أن نخلفه أن ننجي كل مؤمن بقدرتنا على نجاته وينتظر مددنا من غير شك في وعدنا ولا رهبة من أعدائنا.
﴿وادكر بعد أمة﴾ أي تذكر بعد مدة طويلة من الزمن ما تحدث به يوسف من علمه ببعض المغيبات وأنه عبر له رؤياه بتعبير تطبق فعلًا وأنه أوصاه أن يذكره فقال لمن حضر: ﴿أنا أنبئكم بتأويله﴾ أي أخبركم بمن عنده علم بتأويل الرؤيا: ﴿فأرسلون﴾ إليه أو إلى السجن الذي هو فيه، فوافق العزيز على ذلك وأرسله، فجاءه وناداه بما ثبت عنده من صدقه في تأويله للأحاديث قال: ﴿يوسف أيها الصديق﴾ جئتك لأعرض عليك أمر رؤيا تحير الناس في أمر تعبيرها: ﴿أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف وسبع سنبلات خضر وأخر يابسات﴾ وأردف هذا بما يشعر يوسف بما يتوقعه له من خير له نتيجة لتعبيره لهذه الرؤيا حيث قال: ﴿لعلي أرجع إلى الناس﴾ من ذوي الحل والعقد بما تلقيه إليّ من التأويل والرأي: ﴿لعلهم يعلمون﴾ مكانتك من العلم فيعملون على إخراجك من السجن والاستفادة بمواهبك: ﴿قال﴾ يوسف إن تعبير هذه الرؤيا هو أنكم: ﴿تزرعون سبع سنين دأبًا﴾ أي يجب أن تجدوا في زراعة القمح سبع سنين متوالية باستمرار: ﴿فما حصدتم فذروه في سنبله﴾ أي وكل ما حصدتم منه في كل زرعة فلا تدرسوه بل اتركوه في سنبله لئلا يتأثر برطوبة الأرض فينخره السوس وهكذا كل عام: ﴿إلا قليلًا مما تأكلون﴾ أي ولا تحصدوا من ذلك إلا بقدر حاجتكم للأكل ولا تصدروا شيئًا منه للخارج كما جرت بذلك العادة فهذه السنين السبع تأويل للبقرات السمان وأما السبع السنبلات الخضر فكل سنبلة تأويلها زرعة سنة: ﴿ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد﴾ أي سبع سنين شداد في جدبهن حيث يقل ماء النيل ولا تمطر السماء: ﴿يأكلن ما قدمتم لهن﴾ أي يأكل أهلهن ما ادخرتم لهم وهذا تأويل السبع العجاف وأكلهن للسبع السمان وللسنبلات اليابسات: ﴿إلا قليلًا مما تحصنون﴾ أي تحرزون وتدخرون للبذر: ﴿ثم يأتي من بعد ذلك﴾ أي ما ذكر من السبع السنين الشداد: ﴿عام فيه يغاث الناس﴾ أي يغيثهم الله من تلك الشدة بأنواع من الغوث والمعونة الربانية فيفيض النيل وتخصب الأرض وتعطي من الإنتاج أكثر مما كانوا يأملون: ﴿وفيه يعصرون﴾ ما شأنه أن يعصر لاستخراج الدهن كالزيتون والسمسم والقرطم وغير ذلك، أو أنواع الأشربة كعصير العنب والقصب والفواكه وقرئ: ﴿تعصرون﴾ بالتاء بدل الياء الأمر الذي يشير إلى بيان مننه تعالى على الفريقين من غائب يحكي عنه وحاضر مخاطب بما يكون منه.
ترشد الناس إلى سعادة الدارين وخير الحياتين بل إنهم ليقصرون استعمالهم لتلك المواهب عند حد البحث فيما ينفع الناس في هذه الحياة فحسب فيحرمون أنفسهم من الحصول على نعمة الإيمان باختيارهم ومحض رغبتهم.
بعد أن وضح الله المعنى المراد من عدم إيمان المكذبين بما اقتضته مشيئته تعالى الأزلية من إعطاء عباده كامل الخيار في مزاولة الأسباب التي تؤدي بهم إلى الجنة أو النار وقال: ﴿ويجعل الرجس على الذين لا يعقلون﴾ أمر رسوله أن يكتفي في أمر الرسالة بتوجيه أنظار العقلاء إلى ما يدل على وحدانية الله وعظيم قدرته فقال: ﴿قل انظروا ماذا في السماوات والأرض﴾ أي ما هو هذا الذي تشاهدونه من شمس وقمر ونجوم وكواكب وأرض وماء وأشجار وأثمار هل تعلمون حقائقها وكيف خلقت ومن أين وجدت إنها من خلق إله واحد أحد فرد صمد أوجد كل ذلك من العدم ونظم شئون خلقه منذ القدم وفي كل شيء من هذه الأشياء ما يدل على مبلغ علم خالقه وعظيم قدرته: ﴿وفي الأرض آيات للمؤمنين وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾.: ﴿وما تغني الآيات والنذر عن قومٍ لا يؤمنون﴾ أي إن نزول الكتب السماوية وظهور الآيات الكونية واضحة جلية للناس لا يغنيهم العلم بها عن الإيمان بالله منزلها وما يستلزمه ذلك من الترفع عن الأرجاس وسفاسفها والتزام الحق والعدل وإيثار الخير على الشر فليس المراد من السحابة الأمطار بل المراد وجود الإثمار وإذا كان الأمر كذلك: ﴿فهل ينتظرون﴾ أي أولئك الكافرون من قومك: ﴿إلا﴾ أن يحيق بهم: ﴿مثل أيام الذين خلوا من قبلهم﴾ ممن قصصنا عليك أمرهم مع رسلهم من المحق والدمار نتيجة تكذيبهم: ﴿قل﴾ أيها الرسول منذرًا مهددًا إذا لم تؤمنوا وتصرون على التكذيب: ﴿فانتظروا﴾ ما ستكون عاقبة عملكم: ﴿إني معكم من المنتظرين﴾ الواثقين بأن وعيد الله حق وسنته لا تتغير وأن الأمة التي تصر بأكملها على الجحود والعناد لا بد أن ينالها ما نال من قبلها من الهلاك: ﴿ثم ننجي﴾ بالتشديد وقرئ بالتخفيف: ﴿رسلنا والذين آمنوا﴾ من الهلاك لينشروا الدعوة إلى دين الله: ﴿كذلك﴾ بمثل ما سنناه من سنن تقضي بنجاة الرسل والذين آمنوا في السابق أصبح: ﴿حقًّا علينا ننج﴾ بالتخفيف وقرئ بالتشديد: ﴿المؤمنين﴾ أي وعدًا منا لا يمكن أن نخلفه أن ننجي كل مؤمن بقدرتنا على نجاته وينتظر مددنا من غير شك في وعدنا ولا رهبة من أعدائنا.
فيعتذرون} أي لا يجدون مجالًا للاعتذار عن كفرهم وتكذيبهم وسيئ أعمالهم «روى أنس رضي الله عنه قال كنا عند النبي ﷺ فضحك فقال هل تدرون مم أضحك قالوا الله ورسوله أعلم قال من مخاطبة العبد ربه فيقول يا رب ألم تجرني من الظلم؟ قال يقول بلى قال فإني لا أجيز اليوم على نفسي شاهدًا إلا مني فيقول الله كفى بنفسك اليوم عليك شهيدًا والكرام الكاتبين فيختم على فيه ويقول لأركانه انطقي فتنطق بأعماله ثم يخلي بينه وبين الكلام فيقول بعدًا لكنّ وسحقًا فعنكنّ كنت أناضل وهذا كما قال تعالى: ﴿وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء وهو خلقكم أول مرة وإليه ترجعون وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون وذلكم ظنكم الذي ظننتم بربكم أرداكم فأصبحتم من الخاسرين﴾.
﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ بعلم الله بكل صغيرة وكبيرة من عمل الإنسان: ﴿هذا يوم الفصل﴾ الذي يفصل الله فيه بين العباد فيما كانوا فيه يختلفون: ﴿جمعناكم والأولين﴾ من سائر المكلفين حيث يكون القصاص العدل بحضور سائر الأطراف: ﴿فإن كان لكم﴾ الآن: ﴿كيد﴾ من ضروب الحيل والتلبيس التي كنتم تتذرعون بها في حياتكم الدنيا لأكل الحقوق وتبرير العدوان: ﴿فكيدون﴾ أي فأظهروه أمامي بمعنى إن استطعتم ذلك فافعلوا: ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ بعدلنا وقصاصنا لكل من يستحق القصاص: ﴿إن المتقين﴾ أي الحذرين الخائفين: ﴿في ظلال﴾ الظلال ما أظلك بظل لطيف كالسحاب: ﴿وعيون﴾ وهي منابع الماء: ﴿وفواكه مما يشتهون﴾ من كل ما لذ وطاب: ﴿كلوا واشربوا هنيئًا بما كنتم تعملون﴾ أي أنه يقال لهم إذ ذاك هذا هو الجزاء الذي قدره الله للعمل الذي كنتم تؤدونه في الحياة وقد نلتموه الآن عن جدارة واستحقاق لتعلموا أن وعد الله حق: ﴿إنا كذلك نجزي المحسنين﴾ أي أن من دستورنا أن نقدر للمحسن إحسانه ولا نهضمه شيئًا من حقوقه بل نجزيه في الآخرة على أعماله ونضاعف بعد ذلك لمن نريد منة منا وكرمًا: ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ بما أعد الله للمتقين من هذه النعم التي حرموا أنفسهم منها بسبب عدم تصديقهم بها وعدم طلبهم لها بجدهم واجتهادهم والذين نوجه إليهم خطابنا منذ الآن ليكونوا على بينة من أمرهم بقولنا: ﴿كلوا وتمتعوا﴾ في الحياة بسائر المتع فإنها لا تساوي إلى جانب ما وعدتم في الآخرة إلا: ﴿قليلًا﴾ ومصيركم إلى الموت الذي يفقدكم كل شيء وستحرمون ذلك إلى الأبد: {إنكم
﴿وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ﴾ عقد الحبل نقيض حله والنفث: النفخ الخفيف مع شيء من الريق والنفاثات: السحرة الذين إذا أرادوا أن يحلوا عقدة المحبة بين المرء وزوجه عقدوا عقدة ثم نفثوا فيها بطريقة من شأنها أن تحل عقدة المحبة بين الزوجين إذ السحر من علوم الشياطين المحرمة التي لها تأثيرها بإذن الله حيث قال الله تعالى في سورة البقرة: ﴿واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنه فلا تكفر فيتعلمون منها ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله ويتعلمون ما يضرهم ولا ينفعهم ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق ولبئس ما شروا به أنفسهم لو كانوا يعملون﴾ ومثل السحرة في ذلك النمامون الذين يلقون إلى الناس من الكلمات ما يسحرونهم بها فيفرقون بين الأحبة.
﴿وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ﴾ وهو الذي يتمنى زوال نعمة محسوده: ﴿إِذَا حَسَدَ﴾ أي إذا نقّذ حسده وحققه بالعمل لذلك بمختلف الوسائل التي يدبرها في الخفاء من الكيد والاحتيال وغير ذلك بينما يكون المحسود غافلاً عن ذلك والله وحده العليم بما يدبر القادر على إحباط مسعاه. أعاذنا الله من كل ذلك بكرمه ورحمته.
سورة الناس
مكية وعدد آياتها ست

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاس (١) مَلِكِ النَّاسِ (٢) إِلَهِ النَّاسِ (٣) مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (٤) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (٥) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (٦)﴾.
سورة الناس: بعد أن لقن الله نبيه في السورة السابقة الاستعاذة من بعض الأمور الغيبية التي لا يدركها الإنسان ولا يستطيع الوقاية منها إلا عن طريق اللجوء إلى الله وطلب العون عليها والسلامة منها أخذ يلقنه في هذه السورة الاستعاذة من شر آخر أعظم بكثير مما سبق في السورة الماضية وهو أيضاً من الأمور الغيبية التي لم يهتد العقل إلى فهم أسرارها ذلك أن الإنسان كثيراً ما يجد في نفسه عوامل تدفعه إلى الخير وأخرى تحضه على الشر مما يجعله يؤمن بأن هناك قوى مؤثرة


الصفحة التالية
Icon