على كذبهم في دعواهم قال تعالى ﴿قل﴾ لهم يا محمد ﴿هاتوا برهانكم﴾ على صحة ما تقولون ﴿إن كنتم صادقين﴾ في دعواكم. وإذا عجزوا عن تقديم البرهان، ولأجل ألا ييأسوا من رحمة الله عند عجزهم، قل لهم يا محمد أيضًا ﴿بلى من أسلم وجهه لله﴾ وأخلص نيته: بأن وحده ولم يشرك به أحدًا ﴿وهو محسن﴾ في أعماله التي يتقرب بها إليه، بأن تكون منطبقة على آخر شريعة أنزلت من عنده ﴿فله أجره عند ربه﴾ سواء كان من قبل، فالإسلام يجبّ ما قبله ﴿ولا هم يحزنون﴾ في المستقبل على ما تخلوا عنه من آمال زائفة ثبت لهم بطلانها. ﴿وقالت اليهود ليست النصارى على شيءٍ وقالت النصارى ليست اليهود على شيءٍ﴾ أي بالرغم عن ادعائهم أنه لن يدخل الجنة إلا من كان هودًا أو نصارى فهم يتراشقون بالأقوال، ويطعن كل منهم الآخر، ويزعم أنه ليس على شيء يعتد به في الدين الصحيح ﴿وهم يتلون الكتاب﴾ ويعلمون منه أن الأديان جميعها إنما تدعو إلى إله واحد، وأن ما في الإنجيل يؤيد ما في التوراة ولا يناقضه، فلا معنى للزعم بأنه لم يكن على شيء بالمرة ﴿كذلك قال الذين لا يعلمون﴾ من مشركي العرب وغيرهم من أهل الملل الأخرى ﴿مثل قولهم﴾ بأن جعلوا الملة جنسية، زعموا أنها هي المنجية لكل من انطوى تحت لوائها، ورضي باسمها ولقبها. والحق وراء هذا لا يتقيد بأسماء وألقاب؛ وإنما هو إيمان خالص وعمل صالح. ﴿فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون﴾ وسوف يريهم سبحانه وتعالى من يدخل الجنة عيانًا، ومن يدخل النار عيانًا، وحينئذ يظهر الصادق من الكاذب، والحق من الباطل.
«النوع السادس» من سيئات بني إسرائيل ضد الإسلام: ما كان موجهًا إلى قبلته، وذلك أنه لما حولت القبلة عن بيت المقدس التي كانت قبلة بني إسرائيل من قبل إلى الكعبة المشرفة، شق ذلك عليهم، فكانوا يمنعون الناس من الصلاة عند توجههم إلى الكعبة، ولعلهم سعوا أيضًا إلى تخريب الكعبة، وسعوا أيضًا إلى تخريب مسجد الرسول، لئلا يصلوا فيه متجهين إلى القبلة، فعابهم الله بذلك، وبين سوء طريقتهم حيث قال: ﴿ومن أظلم ممن منع مساجد الله﴾ من ﴿أن يذكر فيها اسمه﴾ أي عمل على منع الناس من التعبد فيها ﴿وسعى﴾ بذلك ﴿في خرابها﴾ لأن منع الناس من التعبد فيها أكبر تخريب لها، فعمارة المساجد إنما تكون بالعبادة لا بالبناء والتجصيص ﴿أولئك﴾ أي كل من صدر منه ذلك الأمر ﴿ما كان لهم أن يدخلوها﴾ أي تلك
ثابتة تحارب عن عقيدة صحيحة ﴿غلبت فئة كثيرة﴾ لا توازيها في الثبات والعقيدة ﴿بإذن الله﴾ لا يغرهم كثرة أعدائهم وقلة عددهم فإن النصر معقود على إذن الله، والغلبة والنصر بأمره وتأييده لا بكثرة العدد ووفرة العدة ﴿والله مع الصابرين﴾ والله ضامن الفوز والنصر لمن صبر على قضائه وأبلى بلاء حسنًا في سبيل طاعته ورضائه.
بعد أن أخبر الله نبيه بما كان من اختباره سبحانه وتعالى لأولئك القوم بالصبر على شرب ماء النهر وفشلهم في ذلك الاختبار إلا قليلًا منهم وتفاوت تلك الأقلية أيضًا في درجة الطاعة ومبلغ الإيمان أخذ يبين له النتيجة التي وصلوا إليها بعد ذلك فقال ﴿ولما برزوا﴾ أي طالوت ومن كان معه من أقوياء الإيمان وضعفائه ﴿لجالوت﴾ قائد جيوش الأعداء ﴿وجنوده﴾ من بني إسرائيل ﴿قالوا ربما أفرغ علينا صبرًا﴾ أي توجهوا إلى الله بدعواتهم وطلبوا منه سبحانه وتعالى أن يمنحهم قوة يقين تجعلهم قادرين على احتمال مصائب الحرب ومقاومة الأعداء ﴿وثبت أقدامنا﴾ أي وجنبنا الفرار والعجز ﴿وانصرنا على القوم الكافرين﴾ قدر لنا الغلبة على أعدائنا بمحض إحسانك علينا ﴿فهزموهم بإذن الله﴾ فاستجاب الله لهم دعاءهم ونصرهم عليهم بأمر إلهي محض حيث أوقع في نفس جالوت وكان على جانب الفريقين من القوة والشجاعة والاعتداد بالنفس أن يطلب من طالوت أن يقتصر الحرب بين الفريقين على مجرد المبارزة ورغب إليه أن يتقدم لمبارزته هو أو أحد من قبله فنادى طالوت في قومه بأن من يقتل جالوت يتنازل له عن ملكه ويزوجه ابنته ويشاطره نعمته فتقدم لهذه المهمة فتى من رعاة الغنم قصير القامة صغير السن يقال له داود وبدأت المبارزة على مشهد من الناس ﴿وقتل داود جالوت﴾ فألقى الذعر في نفوس جنده وألقوا سلاحهم وسلموا لداود زمامهم، ﴿وآتاه الله الملك﴾ لأن طالوت تنازل له بالملك وفاء له بوعده ﴿والحكمة﴾ أي وجمع الله له إلى جانب الملك النبوة ﴿وعلمه مما يشاء﴾ من منطق الطير وحسن
أحكامه التي يحمل المخلوقات عليها حملًا وهي تشغل جميع ما يحبه الله وما يبغضه فكلاهما داخل تحت مشيئته وهذه المشيئة هي الدستور الإلهي الذي وضعه الله بما يتلاءم مع استعداد وقدرة جميع المخلوقات للسير بمقتضاه لمنع الفوضى والعدوان على الحقوق ويؤاخذ الناس على أعمالهم بحسب مراده وأحكامه وينقسم هذا الدستور إلى قسمين اثنين هما القضاء والقدر فالملك والعز خاضع لهذا الدستور الإلهي وفق ما سنه الله له من نظم الكون وسنن الحياة الاجتماعية شأنه شأن تداخل الليل في النهار وأمر الحياة والموت ونيل الرزق كل ذاك يسير بأنظمة دقيقة وسنن مضطردة لا تختلف فقال (قل) أيها الرسول لأمتك ليعرفوا هذا ويؤمنوا به (اللهم مالك الملك) وصاحب السلطان المطلق الذي لا معارض له في أحكامه سبحانك أنت (تؤتي الملك) تضع التيجان على رؤوس (من تشاء) من عبيدك سواء منهم من آمن بك أو لم يؤمن بحسب ما سننت من نظام قضائك وقدرك (وتنزع الملك ممن تشاء) لا ممن تبغضه أو من يعاديك فلا غرو إذا ما آتيت الملك للكفار في هذه الحياة وليس في هذا ما يدل على الرضى منك عليهم (وتعز من تشاء) ممن سلك سبيل العزة الذي رسمته لنيل العزة (وتذل من تشاء) ممن رضي على نفسه الذل والخضوع لغير الله فقد أعززت فعلًا عبادك المؤمنين حتى استطاعوا أن يقوموا بنشر الدعوة لدينك الحنيف رغم أنف المشركين والمنافقين الذين كانوا يعتزون بكثرتهم على النبي والمؤمنين و «يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ولكن المنافقين لا يعلمون» (بيدك الخير) العام توزعه بين عبادك بمقتضى أسس خاصة ونظام قائم فلا يحرم من خيرك من عصاك، ولا يملك أحد قطع ما وصلت؛ ولا وصل ما قطعت، فكل شيء بقضائك وقدرك، سائر وفق سننك وأنت الفعال لما تريد (إنك على كل شيء قدير) فأنت المهيمن بقوتك على جميع الموجودات، وما من حركة أو سكون إلا بعلمك ومشيئتك (تولج الليل في النهار وتولج النهار في الليل) وتجعل كلا منهما متداخلًا في الآخر، فالليل يطول تارة، والقدر الزائد منه يتداخل في النهار، والنهار يطول تارة أخرى والقدر الزائد منه يتداخل في الليل تبعًا لمصلحة العالم وحاجة الحيوانات للراحة بحسب قدرتها على العمل واختلاف الفصول صيفًا وشتاء وفق سنن ونظام لا يختلف (وتخرج الحي) سواء كانت حياته حسية أو معنوية (من الميت) بتشديد الياء وهو من فقد الحياة وقرئ بسكونها ما لا حياة فيه كإحياء الزرع من البذرة في التراب والمؤمن من الكافر (وتخرج الميت
وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقًّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِن شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَل رَّفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِن مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩) فَبِظُلْمٍ مِّنَ الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (١٦١) لَّكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاَةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أُوْلَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢) إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِن بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإْسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسَى تَكْلِيماً (١٦٤) رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لَّكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلآئِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً (١٦٦) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيداً (١٦٧) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (١٦٨) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٦٩) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً (١٧٠) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ انتَهُواْ خَيْراً لَّكُمْ إِنَّمَا اللهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً (١٧١) لَّن يَسْتَنكِفَ الْمَسِيحُ أَن يَكُونَ عَبْداً لِّلّهِ وَلاَ الْمَلآئِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَن يَسْتَنكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً (١٧٢) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنكَفُواْ وَاسْتَكْبَرُواْ فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلُيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً (١٧٣) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا
أعمال الجوارح وقد روى الشيخان «إذا صلت المرأة خمسها وصامت شهرها وحفظت فرجها وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي باب الجنة شئت» ﴿وما يتلى عليكم في الكتاب﴾ أيضًا من الآيات المنزلة في حقهن يوضح لكم كيف يجب أن تعاملوهن حيث اختصهن الله بجانب كبير من عنايته بتقدير ضعفهن والذود عن حقوقهن ومراعاة واجب العدل وحسن العشرة معهن فيما سبق من الآيات الواردة ﴿في يتامى النساء﴾ أي موضوعهن ﴿اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن﴾ من حقوق ﴿وترغبون أن تنكحوهن﴾ طمعًا في أموالهن أي بقوله: «وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى» ﴿والمستضعفين من الولدان﴾ أي مع حكم القاصر والسفيه والمجنون ﴿وأن تقوموا لليتامى بالقسط﴾ أي وما أمرتم به من القسط باليتامى ﴿وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليمًا﴾ أي وحسبكم أن تعلموا أن الله يعلم جميع ما تعملونه من خير وسيجزيكم عليه ولا شأن لكم بما سيجزي به النساء يوم القيامة فذلك عائد لكرمه تعالى وحسن تقديره أما من حيث علاقتكم بهن فلئن كان لكم عليهن حق القوامة فليس معنى هذا أن يكون لكم الحق في استعبادهن وابتزاز أموالهن بل لقد منحهن الله كامل الحرية في جميع تصرفاتهن التي لا تتعارض مع مصالح الرجال وفي مقدمتها التحكم في أموالهن الخاصة ولهن كامل الحرية في مناقشة أزواجهن الحساب عن كل ما يبدو منهن في حقهن من ظلم أو اضطهاد ﴿وإن امرأة خافت﴾ بمعنى لاحظت ﴿من بعلها نشوزًا﴾ أي ترفعًا عنها واحتقارًا لها بالقول أو الفعل ﴿أو إعراضًا﴾ عنها بإهمالها والصد عن محادثتها وملاطفتها مما يشعر بالنفرة والكراهة ويؤدي إلى سوء التفاهم والتقاطع ﴿فلا جناح عليهما﴾ أي فلا إثم عليهما ﴿أن يصلحا بينهما صلحًا﴾ أي أن يتفاهما ويتفقا على حل يزيل أسباب الجفاء مع بقاء رابطة الزوجية وقد جاء في الصحاح أن السيدة عائشة
ولذلك نراهم يتوجهون إليه بالدعاء ويرجون منه قضاء الحاجات وهذا عمل يعبر عن اعتقادهم بأن الله هو المسيح بلا جدال (وَقَالَ الْمَسِيحُ) أي والحال إن المسيح نفسه قد قال في دعوته في الإنجيل الذي بين أيديهم (يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ) وهذا اعتراف صريح منه بربوية الله وأمر بإفراده تعالى بالعبادة فمن أين لهم أنه هو الله؟ وغير هذا فإنه عليه السلام قد حذر أتباعه من أن يشركوا مع الله غيره حيث قال (إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ) ويزعم أنه له تعالى شريكا في الخلق والتدبير والأمر والنهي (فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ) يوم القيامة (وَمَا لِلظَّالِمِينَ) أنفسهم بتأليه المسيح أو إشراك غيره معه في الآخرة (مِنْ أَنْصَارٍ) يشفعون لهم لدخول الجنة والخروج من النار (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ) وهذا ما يعبرون عنه بالأقانيم الثلاثة الأب والابن وروح القدس (وَ) الحال أنه (مَا مِنْ إِلَهٍ) متصف بالوحدانية في واقع الأمر (إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ) لا تركيب في ذاته ولا يجوز عليه التعدد فالقول بأن الابن إله واعترافهم بأنه صلب وأنه لم يعد له وجود ينافي اشتراكه في الألوهية ومتى بطلت ألوهيته بطل التثليث ولم يبق إلا القول بوحدانية الله الخالق المعبود والقادر على كل شيء وهذا ما يقبله العقل والمنطق ويحمل رجال الدين من المسيحيين على القول بأن «الثلاثة في حكم واحد» (وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ)
<٨٠>
من هذه العقيدة الفاسدة الشائعة عندهم (لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ) أي الذين يصرون على هذا القول من النصارى (عَذَابٌ أَلِيمٌ) في الآخرة (أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ) أي ألم يكن الأجدر بهم بعد ما جاءتهم الآيات المبطلة لهذه العقيدة الفاسدة أن يرجعوا عنها ويتوبوا إلى الله من القول بها ويطلبوا منه الغفران (وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) يقبل التوبة منهم ويعفوا عن السيئات ويشمل برحمته كل من يشعر بحاجته إلى رحمة مولاه. والحقيقة التي يجب أن يدين بها الجميع هي ما أخبرنا بها الله من أنه (مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ) من البشر أرسله الله لهداية قومه وليس في هذا ما يحط من قدره أو يزري بمقامه (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ) من عند الله ولم يدع أحد منهم الألوهية لنفسه كما أنه لم يقل قط عن نفسه أنه شريك مع الله (وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ) من فضليات النساء التي زكت نفسها وصفت سريرتها وآمنت
﴿وهو الذي جعل لكم النجوم﴾ على أبعاد مختلفة ومواضع متفاوتة كعلامات ﴿لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر﴾ إلى الجهة التي تؤمونها ولولاها لضللتم الطرق وغمت عليكم المسالك ﴿قد فصلنا الآيات﴾ المنزلة في الحث على النظر في ملكوت السماوات وأشرنا إلى الحكمة من خلق النجوم وكونها وسيلة للهداية إلى ما يقصد من الجهات ﴿لقوم يعلمون﴾ أي لكل من أوتي شيئًا من العلم إذ يوقن بعظمة الله ودقة صنعه وعظيم فضله على الإنسان وكيف أنه خلقه وآتاه القوة وسخر الشمس والقمر والنجوم لمصلحته ﴿وهو الذي أنشأكم﴾ أوجدكم في الأصل ﴿من نفس﴾ وهي مخلوق ذري غير منظور ﴿واحدة﴾ هي نفس آدم الذي تسلسل منه سائر البشر بالتوالد ولكم في الأرض حياتان عبر عنهما بقوله ﴿فمستقر﴾ بفتح القاف وقرئ بكسرها أي موضع سكن لكم أثناء إقامتكم على وجه الأرض كما قال تعالى: ﴿ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين﴾ ﴿ومستودع﴾ أي مكان حفظ الأجسام في بطن الأرض إلى حين اللزوم وهو يوم البعث ﴿قد فصلنا الآيات﴾ في بيان نوعي الحياة في الدنيا إلى قسمين استقرار واستيداع ﴿لقوم يفقهون﴾ ما يتلى عليهم فيدركون منه ما وراء هذه الحياة الدنيا من حساب وعقاب إذ الفقه معناه التوصل إلى علم الغائب بعلم الشاهد ﴿وهو الذي أنزل من السماء ماء﴾ أوجده هنالك بقدرته وأنزله بأمره وحكمته ﴿فأخرجنا به﴾ أي بمجرد الإنزال ومن غير أي جهد من قبلكم ﴿نبات كل شيء﴾ أي أصل كل ما نبت من الأرض سواء أكان ذا ساق أم من غير ساق ﴿فأخرجنا منه﴾ أي النبات الذي ينمو ﴿خضرًا﴾ أي شيئًا غضًّا أخضر بالخلقة ﴿نخرج منه﴾ أي هذا النبات الأخضر بعد حين ﴿حبًّا متراكبًا﴾ بعضه فوق بعض وهو السنبل وما أشبهه من بذور سائر الحبوب وأنواع الفواكه ﴿ومن النخل﴾ وهو الشجر الذي ينتج التمر ﴿من طلعها﴾ وهو أول ما يطلع ويظهر من زهرها وقبل أن ينشق عنه كافوره أي وعاؤه ﴿قنوان﴾ جمع قنو بالكسر وهو العذق الذي يكون فيه الثمر كالعناقيد من العنب. والسنابل من القمح. والمعنى أنه يخرج طلع النخل قنوان ﴿دانية﴾ القطوف سهلة التناول ﴿وجنات من أعناب والزيتون والرمان﴾ أي يخرج من النبات الأخضر حدائق من الفواكه المختلفة الأشكال منها ما هو رقيق الغلاف كالعنب، ومنها ما يؤكل بغلافه كالزيتون، ومنها ما يكون سميك القشرة كالرمان ﴿مشتبهًا﴾ في الشكل والطعم والحلاوة ﴿وغير متشابه﴾ فمنه الحلو ومنه الحامض ومنه المر ﴿انظروا﴾ نظرة تأمل واعتبار ﴿إلى ثمره﴾ أي ما ذكر
وعلمه} ولقد استفدت فعلًا من تفسيركم أكثر ما كنت أستفيد من التفاسير القديمة وكلما أمعنت في مطالعتها يكشف لي ما كان محجوبًا عني والله شاهد على ما أقوله وصرت أعظ الناس منه كل يوم في الجوامع وأعرض آراءكم لأولي الألباب الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه (لا على الجامدين طبعا) فأجد منهم إعجابًا وتقديرًا وترحيبًا كثيرًا بآرائكم جزاكم رب البيت الحرام خير الجزاء.
وكتبت السيدة الجليلة حرم فضيلة الشيخ محمد خليل الشاذلي بمصر تقول لقد أعجبت كثيرًا بتفسيركم القيم لما يحويه من دقة البيان وجزالة الأسلوب ورقة الحديث وبساطة المنطق مما حببه إلى قلوب كل من أم دارنا من تلاميذ سيدنا الشيخ محمد خليل الشاذلي رحمه الله أسأله تعالى أن يزيدكم من هذه العلوم حتى تكون نبراسًا يستضاء به في هداه وإمامًا يقتدى به في علومه إنه سميع مجيب.
وحضر إلي فضيلة البحاثة المدقق الأستاذ حسن عبد العزيز البغدادي ونبهني إلى بعض أخطاء وجدها في الأجزاء السالفة من التفسير منها ما هو في نقل نص الآيات الواردة في الشرح ومنها ما يتعلق باللغة أو قواعد الإملاء فشكرته على ذلك ووعدته بالإشارة إلى ما كان من الآيات في هذا الجزء ومراعاة بعض ما أشار إليه عند طبعه في المرة الثانية وفي الأجزاء التالية ثم تطرق البحث إلى ما جنحت إليه في تفسيري من إعادة الضمير في قوله تعالى: ﴿يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء﴾ إلى أقرب مذكور وهو العبد لا إلى الله فقال أنه لا يجوز قطعًا ويتنافى مع منطوق الآيات الواردة في هذا الباب لأن قوله تعالى: ﴿يضل من يشاء﴾ يبينه قوله تعالى: ﴿من يشأ الله يضلله﴾ ولذلك وجب أن يكون المضل هو الله والمشيئة عائدة إليه لا إلى العبد ثم قال ويكفي للخروج من المأزق الذي تخشاه ما جاء في الصفحة ٥٢ من تفسير الجزء السابع من أن المشيئة وإن كانت غامضة أو مجملة في بعض الآيات لكنها مفصلة في سائر الآيات فيجب حمل المجمل على تلك المفصلات أي أن نقول إن الله هو الذي يشاء الضلال لعباده ولكن ضمن ما أخذ على نفسه تعالى من أنه لا يضل إلا الفاسقين والكافرين فأوضحت له إني لا أنكر أن المشيئة لله وحده ولكني إذ أقول بعودة الضمير إلى العبد من حيث التركيب اللغوي إنما أريد رفع ذلك الغموض الذي دعا إلى التباس الناس في الأمر وحملهم على نسبة ما يرتكبونه من الآثام إلى مشيئة الله المطلقة وقولهم إن الإنسان في الحياة مسير لا مخير على أني بإعادتي الضمير إلى (من) وإحالة أمر الغفران والعذاب إلى مشيئة العبد لم أقل إن الله لا يمكن أن يغفر أو يعذب إلا أن يشاء عبده ذلك كما إن
الإيمان هم الموصوفون بخمس صفات، الصفة الأولى قوله تعالى: ﴿الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم﴾ أي إذا ذكر أمامهم جلال الله وفائق بطشه خافوا أن يكونوا قد قصروا في واجبه واستحقوا عذابه أو إذا قيل لأحدهم اتق الله خافه في سره ورجع عن غيه واستغفر ربه. والصفة الثانية قوله تعالى: ﴿وإذا تليت عليهم آياته﴾ المنزلة على رسوله وخاتم أنبيائه ﷺ ﴿زادتهم إيمانًا﴾ بالله وثقة بوعده ووعيده فهم إذ يقدمون على الطاعة لا يتشككون في أن الله سيثيبهم عليها وإذ يقعون في المعاصي لا ييأسون من غفران الله لها فيبادرون بالتوبة منها والندم على فعلها، فهم والحالة هذه في عبادة مستمرة. والصفة الثالثة قوله تعالى: ﴿وعلى ربهم يتوكلون﴾ أي أنهم لا يعتمدون على مجرد سعيهم لنيل المقاصد فقد يحدث لهم ما يعترض طريقهم من مرض أو موت مفاجئ ولذلك فإنهم يعتمدون إلى جانب السعي الذي أمروا به على توفيق الله وتيسيره لبلوغ الغاية، والصفة الرابعة قوله تعالى ﴿الذين يقيمون الصلاة﴾ أي لا يتوانون عن أداء فريضة الصلاة التي هي عبارة عن وصفة طبية لعلاج النفس المتمردة بإخضاعها بالوقوف بين يدي الله في اليوم خمس مرات في خشوع وذلة وإذعان له تعالى باعتباره المستحق للحمد والثناء وسائر العبادات وطلب العون على تحقيق الرجاء، والصفة الخامسة قوله تعالى: ﴿ومما رزقناهم ينفقون﴾ أي يعترفون في سرهم بأن ما هم فيه من أنواع الرزق ما هو إلا من محض فضل الله الذي خلقه لهم وأمرهم بالسعي للبحث عن مواضعه والعمل لاكتشاف وسائله ولذلك فإنهم لا يترددون في أداء حق الله منهم لمن أمروا بإعطائهم منه أو لكل من يستحق العون من ذوي الحاجة من عباده ﴿أولئك﴾ الذين توفرت فيهم تلك الصفات الخمس دون سواهم ﴿هم المؤمنون حقًّا﴾ أي الذين آمنوا بالله حق الإيمان وبلغوا فيه درجة الكمال وليس معنى هذا أن من لم تتوفر فيه هذه الصفات لا يعد مؤمنًا وإنما المقصود أن الإيمان في قلوب الناس على درجات ينقص ويزيد بحسب ما تتوفر فيهم من هذه الصفات وبهذا يتسنى لكل إنسان أن يتعرف مبلغ إيمانه ولقد أكد الله هذا المعنى بقوله ﴿لهم﴾ أي للمؤمنين ﴿درجات﴾ تكريم وتفضيل بحسب ما يعلمه تعالى من نياتهم وأعمالهم ﴿عند ربهم﴾ أي بحسب ما قضت به مشيئته تعالى من أنواع الثواب سواء في الدنيا أم في الآخرة ﴿ومغفرة﴾ أي ولهم عدا الدرجات المقررة عند الله وعد أن يغفر للمستغفرين إذ قال تعالى: ﴿إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء﴾ أي يشاء المغفرة بطلبها عن طريقها الذي سنه
إلا على ما كان خالصًا له وابتغاء مرضاته: ﴿وأولئك هم الخاسرون﴾ الذين عملوا أعمالًا وقدموا أموالًا بدون مقابل، وهنا أراد جل جلاله أن ينبه المنافقين إلى مصير من كان قبلهم وهم يسيرون بسيرتهم اليوم بأنه مكنهم في الدنيا وآتاهم من ملذاتها ليمتحنهم ويكون لهم من ذلك عبرة فقال: ﴿ألم يأتهم﴾ أي المنافقون: ﴿نبأ الذين من قبلهم قوم نوح﴾ الذين أهلكهم الله بالطوفان: ﴿وعاد﴾ الذين أهلكهم الله بإرسال الريح العقيم عليهم: ﴿وثمود﴾ الذين أهلكهم الله بالصيحة والصاعقة: ﴿وقوم إبراهيم﴾ الذين سلب الله عنهم نعمه وقد رُوِيَ في الأخبار أنه تعالى سلط بعوضة في دماغ النمروذ فأهلكته: ﴿وأصحاب مدين﴾ وهم قوم شعيب الذي أهلكهم الله بالرجفة أي الزلزلة: ﴿والمؤتفكات﴾ جمع مؤتفكة ومعنى الانتفاك في اللغة الانقلاب ويعني بهم قوم لوط الذين أهلكهم الله بأن جعل عالي أرضهم سافلها وأمطر عليهم الحجارة كل هؤلاء: ﴿أتتهم رسلهم بالبينات﴾ أي الدلائل القائمة على وجود الله ووجوب طاعته والعمل بما يرضيه فأعرضوا واستمروا في الانغماس في الشهوات فأهلكهم الله بتلك الظواهر الكونية التي يملك أن ينزلها على المنافقين وكل من لا يؤمن به أو يمعن في ارتكاب المعاصي والسيئات في كل وقت: ﴿فما كان الله ليظلمهم﴾ أي فما كان الله ليفعل بهم ما فعل لرغبة منه في تعذيبهم فهذا يتنافى مع عدله تعالى ورحمته الواسعة: ﴿ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ أي وإنما حصل ذلك نتيجة ظلمهم لأنفسهم واتباعهم للسنن التي تؤدي بهم إلى العذاب وفق أحكام الله القدرية ومشيئته الأزلية التي أخبرهم بها وحذرهم من إتيانها فاقترفوها والمراد من ضرب هذا المثل إنما هو تنبيه الناس في سائر العصور إلى أن سنة الله في عباده واحدة ولا ظلم فيها ولا محاباة فلا بد أن يحل بهم من العذاب ما حل بأمثالهم من أقوام الرسل إن لم يتوبوا ولقد تباعد العهد بمن سبق من تلك الأمم التي انقرضت حتى لم يعد لخوف الله محل في قلوب الناس وما فتئت النذر تتوالى على البشر بأنواع من العذاب الخاص والعام يغشاهم في كل شعب وفي كل قطر وتتناقل أخباره في الصحف والإذاعة من زلازل وطوفان وأمراض سارية فتاكة الأمر الذي يدعو المؤمنين إلى الرجوع إلى الله والتوبة إليه ولا حياة لمن تنادي وما زالت الدول تتبارى في اختراع وسائل التدمير ليرموا بها إخوانهم في الإنسانية كأنما هم يستعجلون الأمر لإنزال العذاب بهم قبل حلول يوم القيامة يوم تبدل الأرض غير الأرض وقانا الله من شرهم وأصلح قلوبنا ووفقنا إلى ما فيه رضاه.
بعد أن أمر الله رسوله بتوجيه أنظار العقلاء إلى ما يدل على وحدانية الله وعظيم قدرته أمره ببسط حقيقة العقيدة الإسلامية التي جاء بها من عند الله فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول: ﴿يا أيها الناس﴾ من ذكر وأنثى وعرب وعجم في سائر أقطار العالم: ﴿إن كنتم في شكٍ من ديني﴾ أي من حقيقة ديني الذي أدعوكم إليه إذ تزعمون أني صابئ فقد كانت قريش تقول لكل من اتبع محمدًا أنه صبأ والصابئة قوم كانوا يعبدون النجوم ويزعمون أنهم على دين نوح: ﴿فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله﴾ أي فاعلموا أني لا أعبد أحدًا من الذين تعبدونهم غير الله من كوكب أو نجم أو شجر أو حجر مما اتخذتم من الأصنام والأوثان: ﴿ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم﴾ أي إن عبادي لم تكن إلا لمن ينزع نفوسكم من أجسامها وليس منكم من يعتقد أن الأصنام والأوثان تفعل ذلك: ﴿وأمرت أن أكون من المؤمنين﴾ بوحدانية الله وسيطرته على جميع مخلوقاته: ﴿وأن أقم وجهك للدين حنيفًا﴾ إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل كليًا إلى أمر الدين بحيث لا يصرفه عنه صارف. والحنيف الماثل والمعنى أن أكون متجهًا بعقلي وجميع حواسي التي من أشرفها الوجه إلى الدين اتجاهًا كليًا ومعرضًا عما سواه إعراضًا تامًا: ﴿ولا تكونن من المشركين﴾ أي وأمرت أن أجتنب كل ما يشم منه رائحة الشرك بالله كاتخاذ الوسطاء والشفعاء لله بما أشار إلى سببه عند المشركين وخصه بالنهي بقوله: ﴿ولا تدع﴾ أي تنادي ولا تستنجد في النائبات: ﴿من دون الله ما لا ينفعك﴾ إن دعوته لنفعك: ﴿ولا يضرك﴾ إن تركت دعاءه: ﴿فإن فعلت﴾ هذا بأن دعوت غيره: ﴿فإنك إذًا﴾ أيها الفاعل في هذه الحالة: ﴿من الظالمين﴾ لأنفسهم بتعريضها للشرك الخفي الذي قال عنه ﷺ «إنه أخفى من دبيب النمل». وقال تعالى: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾ ولأجل تثبيت العقيدة الصحيحة في القلوب قال: ﴿وإن يمسسك﴾ أي يصبك: ﴿الله بضرٍ﴾ نتيجة عملك واتباعك للسنن التي من شأنها أن تضر كمرض يصبك بسبب تناولك شيئًا يضر بالصحة: ﴿فلا كاشف له إلا هو﴾ أي فلا يستطيع أحد في العالم أن يمنع ذلك الضرر ويزيل أثره إلا هو بما أودعه في بعض العقاقير من خواص من شأنها أن تشفي ذلك المرض وتزيل أثره فهو سبحانه الذي خلق الداء وجعل في بعض الأشياء خاصية الضر وفي غيرها خاصية النفع وليس في مقدور الإنسان أن يكشف الضر أو يشفي المرض بغير ما سنه الله لذلك، وكذلك إذا ما ألمت بك ملمة أو وقعت في
ولقد عاد الرسول إلى عزيز مصر وأخبره على ملأ من قومه تعبير رؤياه فأدرك مبلغ علم يوسف بما ستمنى به البلاد من رخاء وشدة لا يصلح لاتقاء خطرها إلا من كان عليمًا بها وأخبر عنها قبل حدوثها ولذلك: ﴿وقال الملك ائتوني به﴾ لأسمع كلامه وأختبر تفاصيل رأيه ودرجة علمه بنفسي: ﴿فلما جاءه الرسول﴾ وبلغه أمر الملك لم يسر بإطلاق سراحه من السجن وقد مضى عليه فيه بضع سنين ويبادر بمرافقة الرسول بل اشترط لذلك أولًا وقبل كل شيء أن يحقق في أمر التهمة التي نسبت إليه وسجن من أجلها: ﴿قال﴾ في عزة وكبرياء: ﴿ارجع إلى ربك﴾ أي سيدك: ﴿فاسأله﴾ قبل شخوصي إليه: ﴿ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن﴾ أي لماذا قطع النسوة أيديهن هل كان ذلك بتأثير مني حتى عوقبت بالسجن من أجلهن أم أن ذلك اشتراكًا منهن في مؤامرة دبرت لإيقاعي في شباكهن وأنا منها بريء وقد سجنت ظلمًا وعدوانًا: ﴿إن ربي بكيدهن عليم﴾ أي وقد علم ربي بذلك الكيد فجنبني الوقوع فيه وحفظني بالسجن من عدوانهن، فرجع الرسول إلى الملك وأخبره بما اشترط يوسف لخروجه من السجن فأمر بإعادة التحقيق في القضية التي أساسها اتهامه لزوجته بالمراودة فأحضرها وأحضر من كان معها من النساء ووجه إليهن الحديث: ﴿قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه﴾ أي ما هو الشأن أو الأمر الخطير الذي حملكن على مراودة يوسف عن نفسه هل كان ذلك بسبب مغازلة وميل منه إليكن: ﴿قلن حاشا لله﴾ أي معاذ الله لم نراوده عن نفسه ولئن اتهمنا بهذا فهو غير صادق ونحن: ﴿ما علمنا عليه من سوء﴾ أي أدنى شيء يشينه أي أنا نبرئه من أن ينسب إلينا ما لم يصدر منا، وهنا أدركت امرأة العزيز أنها هي المعنية بالمراودة لأنه اتهمها بها في مواجهتها أمام العزيز فلم تجد بدًّا من الاعتراف بالحقيقة التي اعترفت بها من قبل أمام النسوة: ﴿قالت امرأة العزيز﴾ بدورها: ﴿الآن حصحص الحق﴾ أي ظهر الحق بعد كتمانه فقد كان الاتهام موجهًا إلى كل منا معشر النسوة أما وقد تنصلن منه ونزهن يوسف عن الافتراء فإن قلت مثل قولهن شهدن ضدي وسقطت في نظر زوجي الذي تبينت له الحقيقة من قبل وسترها عليّ فلم يبق إلا أن أشهد على نفسي شهادة إثبات لدعواه: ﴿أنا راودته عن نفسه﴾ فاستعصم وأعرض: ﴿وإنه لمن الصادقين﴾ فيما اتهمني به من قبل وحمله أدبه على السكوت عنه رغم ما أصابه في سجنه من بلاء: ﴿ذلك﴾ أي أن ما أقرره الآن من الحقيقة واعترف به هو: ﴿ليعلم أني لم أخنه بالغيب﴾ أي أني لم أطعن في أمانته وشرفه وعفته في
بعد أن أمر الله رسوله بتوجيه أنظار العقلاء إلى ما يدل على وحدانية الله وعظيم قدرته أمره ببسط حقيقة العقيدة الإسلامية التي جاء بها من عند الله فقال: ﴿قل﴾ أيها الرسول: ﴿يا أيها الناس﴾ من ذكر وأنثى وعرب وعجم في سائر أقطار العالم: ﴿إن كنتم في شكٍ من ديني﴾ أي من حقيقة ديني الذي أدعوكم إليه إذ تزعمون أني صابئ فقد كانت قريش تقول لكل من اتبع محمدًا أنه صبأ والصابئة قوم كانوا يعبدون النجوم ويزعمون أنهم على دين نوح: ﴿فلا أعبد الذين تعبدون من دون الله﴾ أي فاعلموا أني لا أعبد أحدًا من الذين تعبدونهم غير الله من كوكب أو نجم أو شجر أو حجر مما اتخذتم من الأصنام والأوثان: ﴿ولكن أعبد الله الذي يتوفاكم﴾ أي إن عبادي لم تكن إلا لمن ينزع نفوسكم من أجسامها وليس منكم من يعتقد أن الأصنام والأوثان تفعل ذلك: ﴿وأمرت أن أكون من المؤمنين﴾ بوحدانية الله وسيطرته على جميع مخلوقاته: ﴿وأن أقم وجهك للدين حنيفًا﴾ إقامة الوجه كناية عن توجيه العقل كليًا إلى أمر الدين بحيث لا يصرفه عنه صارف. والحنيف الماثل والمعنى أن أكون متجهًا بعقلي وجميع حواسي التي من أشرفها الوجه إلى الدين اتجاهًا كليًا ومعرضًا عما سواه إعراضًا تامًا: ﴿ولا تكونن من المشركين﴾ أي وأمرت أن أجتنب كل ما يشم منه رائحة الشرك بالله كاتخاذ الوسطاء والشفعاء لله بما أشار إلى سببه عند المشركين وخصه بالنهي بقوله: ﴿ولا تدع﴾ أي تنادي ولا تستنجد في النائبات: ﴿من دون الله ما لا ينفعك﴾ إن دعوته لنفعك: ﴿ولا يضرك﴾ إن تركت دعاءه: ﴿فإن فعلت﴾ هذا بأن دعوت غيره: ﴿فإنك إذًا﴾ أيها الفاعل في هذه الحالة: ﴿من الظالمين﴾ لأنفسهم بتعريضها للشرك الخفي الذي قال عنه ﷺ «إنه أخفى من دبيب النمل». وقال تعالى: ﴿إن الشرك لظلم عظيم﴾ ولأجل تثبيت العقيدة الصحيحة في القلوب قال: ﴿وإن يمسسك﴾ أي يصبك: ﴿الله بضرٍ﴾ نتيجة عملك واتباعك للسنن التي من شأنها أن تضر كمرض يصبك بسبب تناولك شيئًا يضر بالصحة: ﴿فلا كاشف له إلا هو﴾ أي فلا يستطيع أحد في العالم أن يمنع ذلك الضرر ويزيل أثره إلا هو بما أودعه في بعض العقاقير من خواص من شأنها أن تشفي ذلك المرض وتزيل أثره فهو سبحانه الذي خلق الداء وجعل في بعض الأشياء خاصية الضر وفي غيرها خاصية النفع وليس في مقدور الإنسان أن يكشف الضر أو يشفي المرض بغير ما سنه الله لذلك، وكذلك إذا ما ألمت بك ملمة أو وقعت في
مجرمون} أي بسبب أنكم مخطئون في تصرفاتكم مسيئون إلى أنفسكم في إقدامكم على ما يغضب الله ويؤدي بكم إلى عذابه: ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ الذين كانوا في حياتهم الدنيا يكذبون رسل الله ولا يتبعونهم: ﴿وإذا قيل لهم اركعوا﴾ الركوع الانحناء وخفض الرأس إجلالًا واحترامًا أي الذين كانوا يؤمرون بالركوع في الصلاة إجلالًا أمام قدرة الله: ﴿لا يركعون﴾ أي لا يؤدون أي عمل يشعر بإيمانهم بالله وخضوعهم لسلطانه وعظمته وطاعة أوامره: ﴿ويل يومئذ للمكذبين﴾ بآيات الله المنزلة لهداية خلقه والتي انتهت بالقرآن الكريم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: ﴿فبأي حديث﴾ أي خبر: ﴿بعدهِ﴾ أي بعد القرآن: ﴿يؤمنون﴾ أي أنه لا يرجى الإيمان لأحد من الناس إذا لم يؤمن بالقرآن الذي أنزله الله بالنص من عنده وحفظه من عبث العابثين وفساد المفسدين وضمنه أخبار الأولين والآخرين بما لا مجال فيه للمكذبين ومن المواعظ والحكم ما يكفي لهداية الناس أجمعين إلى سبيل رب العالمين جعلنا الله منهم يوم الدين بفضله ورحمته.
تتنازعه ويحاول كل منها اجتذابه إليها، الأمر الذي أدى بفريق من الناس إلى الاعتقاد بأن هناك آلهة للخير وآلهة للشر فعبدوها من دون الله. ولقد جاء الرسول الأعظم ﷺ ففسر للناس هذه الظاهرة بما أخبر به في القرآن الكريم من أن وراء هذه الأشياء المنظورة في عالم المادة مخلوقات أخرى خفية ربما لا تدرك بالبصر ولكنها موجودة وقائمة ويمكن إدراكها والاتصال بها عن طريق نفس الإنسان الخفية أيضاً.
وإذا كنا لا نستطيع أن نعرف حقيقة نفوسنا لأنها مخلوقات لطيفة غيبية كذلك لا يمكن لنا معرفة حقيقة تلك المخلوقات الكائنة في العالم الكبير غير المنظور لأنها من عالم غير المادة، ومن واجب كل من آمن بالله وهو لم يره ولكنه اعتقد بوجوده عن طريق دلالة مخلوقاته أن يؤمن بأنه تعالى الخالق للمخلوقات المادية قد خلق إلى جانبها عدة مخلوقات من ذوات الروح منها ما دق حتى لا يمكن أن نراه بالعين المجردة ومنها ما لطف وصفي حتى لا تكاد تصل العقول إلى معرفة حقيقة أمره وأن عليه أن يسلم بعالم الغيب ويصدق بما أخبرت به الرسل عمّا هو موجود في هذا العالم من مخلوقات لا تدرك بالحس، ومن تلك المخلوقات خلق يقابل الإنسان يقال له: (الجان) قال تعالى: ﴿خلق الإنسان من صلصال كالفخار وخلق الجان من مارج من نار﴾ وهما المعنيان بقوله تعالى: ﴿سنفرغ لكم أيها الثقلان﴾. وإنما سمي الجن جنًّا لاجتنانهم واختفائهم عن الأبصار، كما تسمى الجنة جنة لستر ما فيها ويسمى الجنين جنيناً لستره في بطن أمه.
ومن المخلوقات الخفية ما يسمى بالملائكة وهم معصومون ووصفهم الله بأنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون، وأنهم جند من جنوده أصحاب قوى عظيمة وقد عهد إليهم بعدة وظائف منها تبليغ رسالة الله إلى أنبيائه وتثبيت اليقين وحب الخير في قلوب عباده ومن شأنهم أن يتصلوا بالنفوس في أثناء قيامها بالأجسام فيوحون إليها فعل الخيرات ويمدونها بمختلف الإمدادات. وقد جعل المشركون بين الله وبين هؤلاء نسباً إذ سموا الملائكة تسمية الأنثى وقالوا عنهم إنهم بنات الله وقالوا: ﴿أصطفى البنات على البنين﴾ وقال تعالى: ﴿أفأصفاكم ربكم بالبنين واتخذ من الملائكة إناثاً إنكم لتقولون قولاً عظيماً﴾.
ومن الجن المخلوق من مارج من نار إبليس وذريته قال تعالى: {وإذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس كان من الجن ففسق عن أمر ربه أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم


الصفحة التالية
Icon