المساجد ﴿إلا خائفين﴾ من الإخراج. بمعنى أنه لا ينبغي أن يمكنوا من الدخول إليها، والاطمئنان فيها، ﴿لهم في الدنيا خزيٌ﴾ بعلو كلمة الله في المساجد برغم أنوفهم. ﴿ولهم في الآخرة عذابٌ عظيمٌ﴾ عقابًا لهم على صد الناس عن المساجد. ﴿ولله المشرق والمغرب﴾ أي الأرض جميعها من شرقها لغربها له سبحانه وتعالى ﴿فأينما تولوا﴾ أي فأيما جهة تولونها ﴿فثم وجه الله﴾ في الواقع ونفس الأمر، ولكنه بالنظر لأن وجه الله منزه عن المادة والجهة، واستقباله بهذا المعنى مستحيل، فقد عين سبحانه وتعالى للناس مكانًا مخصوصًا، وشرع لهم استقباله في عبادتهم إياه، فمن الواجب عليهم الاتجاه إليه، وما يكون لهم حق الاعتراض عليه، ولا تخريب المساجد من أجله ﴿إن الله واسعٌ﴾ لا يحدد ولا يحصر ﴿عليمٌ﴾ بالمتوجه إليه أينما كان، أي فاعبد الله حيثما كنت، وتوجه إليه أينما حللت.
«النوع السابع» من سيئات بني إسرائيل ومطاعنهم ضد الإسلام وقد تبعهم فيها غيرهم من النصارى والمشركين: ما كان موجهًا إلى أساس عقيدة التوحيد، حيث أنكروا قوله تعالى: ﴿لم يلد ولم يولد﴾، واعتقدوا غير هذا ﴿وقالوا اتخذ الله ولدًا﴾. زعم اليهود أنه عزير، وزعم النصارى أنه المسيح، وزعم بعض مشركي العرب أنه الملائكة، وبنوا على ذلك حبهم لهم، وتمجيدهم كتمجيد والدهم على زعمهم، ودعائهم لقضاء المصالح وفي النائبات، فرد الله على زعمهم بقوله ﴿سبحانه﴾ أي هو أجل من هذا، لأن الولد إنما يتخذ للحاجة إليه في بعض المواقف، وتؤمل منه المساعدة في حال عجز الأب عن بعض أموره، والله منزه عن كل هذا؛ ﴿بل له ما في السماوات والأرض﴾ ملكًا وخلقًا. ومن جملة ذلك من زعموه ولدًا لله كعزير وعيسى والملائكة ﴿كلٌ له قانتون﴾ وهذا دليل على العبودية لا البنوة. يحكى عن علي بن أبي طالب أنه قال لبعض النصارى: لولا تمرد عيسى على عبادة الله لصرت على دينه، فقال النصراني: كيف تجوز نسبة ذلك إلى عيسى مع جده في طاعة الله، فقال رضي الله عنه: إذا كان عيسى إلهًا كما تقولون فالإله كيف يعبد غيره؟ إنما العبد هو الذي تليق به العبادة، فأسقط في يده ولم يحر جوابًا، والله أعلم. ﴿بديع السماوات والأرض﴾ وإنما كان له ما في السموات والأرض، لأنه هو الخالق المبدع لها ولجميع ما فيها من أخضر ويابس وحيوان وغير حيوان، ولا يحتاج في إدارة كل ذلك إلى من يعينه على أمر من الأمور، إذ الكل طوع إرادته {وإذا قضى
الصوت وصناعة الدروع من الحديد وغير ذلك ﴿ولولا دفع﴾ وقرئ ﴿دفاع﴾ بمعنى الحماية والانتصار ﴿الله الناس بعضهم ببعض﴾ أي ولولا دفع الله بعض الناس عن الكفر والمعاصي والمنكرات أو دفاعه سبحانه وتعالى عنهم بسبب بعضهم لما يبدو منهم من إظهار الدلائل والآيات الدالة على وجود الله أو لما يقدمونه من مواعظ وإرشادات من شأنها أن تزجر عن المعاصي والمنكرات ﴿لفسدت الأرض﴾ ببعد القلوب عن الله واتباعها للنفس والشيطان دون أن يكون لها رادع من كتاب أو سنة كما هو الحال في هذه القصة فلولا ما منّ الله به من الغلبة على جالوت لساد المشركون وتمكنوا من الكفر والطغيان ﴿ولكن الله ذو فضل على العالمين﴾ فيؤيد الأقلية من أنصاره بمختلف الوسائل التي تكسبهم النصر وتمكنهم من نشر دينهم الحق ومبادئ السلام والرحمة بين البشر ﴿تلك﴾ أي قصة من خرجوا من ديارهم وقصة بني إسرائيل التي بعدها ﴿آيات الله﴾ الدالة على كمال قدرته وحكمته ورحمته ﴿نتلوها عليك بالحق﴾ أي نقصها عليك بحسب ما كانت عليه ﴿وإنك لمن المرسلين﴾ أي وإنك لواحد من أولئك المرسلين الذين قد قصصنا عليك نبأهم مع أقوامهم وأنت معرض إذا لما تعرضوا له فلتأخذ لنفسك من هذا عظة وعبرة.
لقد تم طبع هذا الجزء للمرة الأول في العاشر من شهر شوال سنة ١٣٦٦ فكتبت عنه صحف القاهرة ما يأتي:
هداية القرن العشرين. شعاع ينبثق من مهبط الوحي
تحت هذا العنوان نشرت جريدة المصري بتاريخ ٢٩/ ٨/ ٤٧ تقول:
وفق السيد عبد الحميد الخطيب بإقامته في مكة المكرمة وانقطاعه للتدريس في الحرم إلى أن يتحف العالم بطائفة من أشعاره الدينية والخلقية، وها هو ذا يتحفنا بتفسير القرآن بأسلوب سهل اتبع فيه
من الحي) كإخراج اللبن من الحيوان والبيضة من الطير والكافر من المؤمن (وترزق من تشاء) رزقه ممن قضيت له بالحياة بنفخ الروح فيه تفضلًا منك وكرمًا (بغير حساب) أي بدون مقابل عمل ولا جهد منهم وأكثر مما يتوقعون لأنفسهم إذا أردت لأن العطاء على قدر الاستحقاق هو الذي يسمى حسابًا وعمل الإنسان لا يفيد الله شيئًا فلا يمكن أن يكون الرزق محسوبًا عليه ومرتبطًا به، بل إن الرزق فضل وكرم منه سبحانه وتعالى قدره سبحانه لكل حي حتى الطفل الصغير والحيوان الأعجم، والعمل من الناس واجب عليهم يؤدونه شأن الموظف في الدولة فرض له راتب وكلف بالعمل فهو يأخذ راتبه في نهاية الشهر أما عمله فعائد إلى ذمته ومبلغ إخلاصه، ولذلك نظام مستقل للترقية والتأديب، مع الفارق العظيم بالنسبة للخالق جل وعلى، فإذا كان للدولة أن تحاسب موظفها يومًا ما، وترقي من يستحق الترقية، وتعاقبه بقطع المرتب عنه في حالة التقصير، فإن الله جل جلاله قد أخذ على نفسه أن لا يحرم العاملين من جزاء أعمالهم، وجعل لترك الواجبات عقوبات أخرى غير قطع الرزق حيث قال في كتابه الكريم: «ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة» بل إنه لم يربط الرزق بالسعي حيث قال «وقل اعملوا فسيرى الله عملكم» وأخبرنا أن الأسباب التي من شأنها أن تؤدي إلى سعة الرزق إنما هي كثرة الاستغفار ودوام الشكر وتقوى الله في قوله «استغفروا ربكم إنه كان غفارا، يرسل السماء عليكم مدرارا، ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارا» وقوله: «لئن شكرتم لآزيدنكم» وقوله: «ومن يتق الله يجعل له مخرجا ويرزقه من حيث لا يحتسب».
بعد أن نبه الله رسوله إلى ما ينبغي أن يعلمه الناس من أن كل شيء في الحياة إنما يسير وفق ما اقتضته مشيئته تعالى من نظام قضائه وقدره وأن تملك الكافرين أو عزهم ما هو إلا نتيجة اتباعهم لنظم الكون وسنن الحياة الاجتماعية لا خارجًا عن مشيئة الله، فهم والحالة هذه إنما يستمدون قوتهم من الله وليس لهم أي سلطان إلا من بعد إذنه ولا يملكون لأنفسهم فضلًا عن غيرهم نفعًا ولا ضرًا ولذا قال (لا يتخذ المؤمنون) بالله حق الإيمان (الكافرين) أعداء الله ورسوله (أولياء) يحبونهم بقلوبهم ويكاشفونهم بأسرارهم ويثقون بمناصرتهم لهم (من دون المؤمنين) لئلا تؤدي تلك المحبة والموالاة إلى التفريط في حقوق الله وواجب المؤمنين، ولأن عدواتهم للإسلام ثابتة متأصلة فلا يؤمن استغلالهم لتلك المحبة الشخصية للإيقاع بالإسلام والكيد لجماعة المسلمين،
إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً (١٧٤) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُواْ بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً (١٧٥) يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلاَلَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُن لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِن كَانُواْ إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (١٧٦)
ووجه الاتصال بين هذه السورة وما قبلها أن هذه افتتحت بمثل ما اختتمت به تلك من الأمر بالتقوى وهو ما يسمى في البديع تشابه الأطراف. وقد جاء في روح المعاني أن هذا آكد وجود المناسبات في ترتيب السور. وقد افتتحت هذه السورة بعد الأمر بالتقوى بذكر النساء وعلاقتهن بالرجال وما ينشأ عن ذلك من أحكام اليتامى والبيوت والأموال، ومنها المواريث وأحكام القرابة والنسب والمصاهرة والأنكحة وحقوق كل من الرجل والمرأة، ثم ذكر فيها الكثير من أحكام القتال وبعض شئون الإسلام بعد الهجرة.
﴿ياأيها الناس﴾ من سائر الأمم والشعوب ﴿اتقوا﴾ احذروا وخافوا ﴿ربكم﴾ وسيدكم فمن واجب العبد أن يخاف سيده سيما وأنه تعالى هو ﴿الذي خلقكم﴾ أنشأكم من العدم، والخالق للشيء قادر على إعدامه. وقد جعل جلّ شأنه هذا الخلق ﴿من نفس﴾ هي مخلوق لطيف لا يرى ويحل بالبدن وينفصل عنه ويصعد وينزل ويذهب ويخرج ويجيء ويتحرك ويسكن كما وصفها القرآن بكل ذلك. وهي أصل الإنسان وموضع التكليف والسؤال والعقاب، وهي غير روحه فإنها أمر خارجي عن تكوين الإنسان ولكنها قائمة به، إذ هي إحدى القوى الإلهية التي خصصت لحركة المخلوقات جميعها، فهي موجودة في كل إنسان وحيوان وشجر تبعث فيهم الحياة والنشاط أشبه بقوة الكهرباء ووسائل توليدها ظاهرة، ومظهرها في الخارج واضح، وحقيقتها سر لا يعرف. فقوة الحياة واحدة في جميع الخلق وسائر الأفراد لا تتجزأ، ليهبها الله لمن قدرت له الحياة وهي منحة الرب وتسمى الروح، وهي من أمر الله أو هي سر من أسراره الخفية، أو هي روح الله التي نفخها في آدم بعد أن خلقه نفسًا ثم صوره هيكلاً ثم بث فيه الحياة ﴿واحدة﴾ هي نفس الإنسان الأول وهو آدم ﴿وخلق منها﴾ من تلك النفس ﴿زوجها﴾ نفس المرأة وهي حواء ﴿وبث منهما﴾ جعل من اجتماع الزوجين وسيلة التناسل فأنتجا ﴿رجالا كثيرا ونساء﴾ تجمعهم الإنسانية لأنهم منحدرون
رضي الله عنها قالت «هو الرجل يرى من امرأته ما لا يعجبه كبرًا أو غيره فيريد فراقها فتقول أمسكني واقسم لي ما شئت قالت فلا بأس إذا تراضيا» ﴿والصلح خير﴾ أي فالإبقاء على رابطة الزوجية مع تجاوز المرأة عن بعض حقوقها خير من انفصام روابط الزوجية بالمرة والله سبحانه يقول «ولا تنسوا الفضل بينكم» ﴿وأحضرت الأنفس الشرح﴾ أي وإنما الذي يقف في طريق الصلح هو ما جبلت عليه النفس من الشح أي عدم التساهل بشيء من الحقوق وهو بمعنى حب استئثار المرأة بالرجل فهي لا تريده أن يفكر في غيرها ولا يتزوج سواها وهو لا يريد أن تسيطر هي عليه وتحول دونه ودون ما أحل الله له بل ما أمر به من تعدد الزوجات في حال القدرة على العدل معهن في القسمة والنفقة وحسن العشرة وجميل العواطف حرصًا على إحصان النساء من التبذل فعليكم أن تحاربوا هذا الأمر في نفوسكم بالاحتكام إلى كتاب الله ليتم الصلح بينكم ويسود الود في ربوعكم ﴿وإن تحسنوا﴾ التفاهم فيما بينكم بروح الود والإخلاص وعدم التشدد في الطلبات وعذر بعضكم بعضًا ﴿وتتقوا﴾ الله باتباع أحكامه وتحليل ما أحل وتحريم ما حرم ومراعاة واجب العدل عند الحد الذي أمركم به الله وأن تراقبوه في شؤونكم الخاصة فلا يعامل كل منكم الآخر إلا بمثل ما يجب أن يعامل هو به ﴿فإن الله بما تعملون خبيرًا﴾ أي أنه تعالى لا يخفى عليهم شيء من أعمالكم الباطنة والظاهرة ﴿و﴾ هو سبحانه يعلم بما أودع فيكم من طبائع وغرائز أيها الرجال من شأنها أنكم ﴿لن تستطيعوا أن تعدلوا﴾ أي لن تستطيعوا العدل ﴿بين النساء﴾ في الحب ﴿ولو حرصتم﴾ أي مهما حاولتم فذلك أمر خارج عن إرادتكم ولذلك فإنه سوف لا يؤاخذكم على ما تفضلون به بعضهم على بعض بالحب والميل النفسي وإنما تطالبون بالعدل بينهن في كل ما تملكونه من الأعمال الظاهرة حتى إظهار العواطف الحسنة وطيب الكلام {فلا تميلوا
بربها حق الإيمان وكانت أول من صدقت برسالة ابنها من يوم ولادته فلا يمكن أن تنجب إلها بل إنها وابنها (كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ) وكل من يأكل الطعام فهو مفتقر إلى ما يقيم بنيته ويحفظ له الحياة وكل مفتقر إلى غيره أو إلى ما يقوم حياته فهو ممكن مساو لسائر الممكنات المخلوقة في حاجتها إلى غيرها فلا يمكن أن يكون رباً خالقا ولا ينبغي أن يكون ربًّا معبوداً (انْظُرْ) أيها الرسول أو أيها السامع (كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ) أي لهؤلاء النصارى (الْآيَاتِ) البراهين العقلية على بطلان ما ينسبونه إلى السيد المسيح (ثُمَّ انْظُرْ) بعد ذلك (أَنَّى يُؤْفَكُونَ) الإفك الكذب وأفكه عن رأيه صرفه وقلب رأيه أي انظر كيف أنهم لا يحكمون عقولهم في الأمر وينصرفون عن حكم العقل فلا ينتقلون من إثبات المقدمات إلى الإيمان بالنتائج كما هو شأنهم في كل شيء ما عدا العقائد التي جمدوا فيها عند حد التقليد الأعمى الذي عطل عليهم مشاعرهم وجعلهم يؤمنون بعقيدة لا تهضمها إلا عقولهم ولا ترضى بها إلا نفوسهم.
(٨١)
بعد أن بيّن الله لرسوله الأسباب التي دعت إلى حرمان اليهود والنصارى من ثمرة أعمالهم وهي عدم وفاء اليهود بمواثيقهم ومحاربة رسله وكفر النصارى بالمبالغة في تمجيد عيسى ورفعه إلى مقام الألوهية وقد أثبت الله فساد عقائدهم بأدلة عقلية ومنطقية ودعاهم إلى الرجوع عنها بالتوبة والاستغفار ثم إنه أمر رسوله أن يناقشهم في الأمر عن طريق العقل ويسدي إليهم خالص النصح فقال (قُلْ) يا أيها الرسول للنصارى الذين يعتقدون ألوهية عيسى ومن على شاكلتهم (أَتَعْبُدُونَ) سبق لنا القول بأن المراد من العبادة ليس هو مجرد الصلاة والصيام وأمثال ذلك كما يتوهم البعض إذ الصلاة عند النصارى غيرها عند اليهود غيرها عند المسلمين وإنما يجمعها الدعاء كما قال ﷺ «الدعاء مخ العبادة» وفي رواية «الدعاء هو العبادة» فيكون المعنى أتدعون (مِنْ دُونِ اللَّهِ) لتفريج الكرب وقضاء الحوائج (مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا) من الميتين والغائبين فالعاقل يأبى أن يوجه نداء إلى غائب أو يستنجد بميت أو جماد والنصارى الذين يزعمون صلب عيسى لا يجحدون غيبته عنهم ولا ينكرون أنه لم يستطع نفع نفسه بتخليصها من الصلب ولا إيقاع الضر بمن راموا صلبه فما كان لهم بعد هذا أن يوجهوا إليه الدعاء وهم يعلمون أنه لا يملك لهم نفعا ولا ضرا لأن من عجز عن
من الثمار ﴿إذا أثمر﴾ أي بدأت تباشير الثمر ﴿وينعه﴾ أي إليه عندما ينبع بمعنى يبدو صلاحه وينضج، فإن في تطور أشكاله من زهرة إلى فاكهة لذيذة شهية ما يصور لكم مبلغ قدرة الله في الخلق والتكوين ﴿إن في ذلكم﴾ أي ما أمرتم بالنظر إليه والنظر فيه ﴿لآيات﴾ دلائل عظيمة ﴿لقوم يؤمنون﴾ أي ينشدون الإيمان بإله يعرفونه بأعماله وتصرفاته ويثقون بقدرته وبالغ حكمته.
بعد أن عرّف الله للناس ذاته العلية معرفة دقيقة تمكنهم من الإيمان الكامل به عن طريق تحكيم العقل والمنطق السليم دون حاجة إلى توالي بعث الرسل إليهم فيما بعد أخذ يشرح بعض ضروب الشرك التي كان يدين بها بعضهم ودحضها بما يناسب عقولهم فقال ﴿وجعلوا﴾ أي قصار النظر من الناس ﴿لله شركاء﴾ ينسبون إليهم شيئًا من التصرفات، من غير أن يكون لهم دليل واحد على ذلك، وقالوا عن هؤلاء الشركاء إنهم هم ﴿الجن﴾ أي آلهة خفية غيبية متفرقة، إذ يزعمون أن للخير إلهًا وللشر إلهًا وقد يقصدون الملائكة بالذات لأنهم من العوالم الخفية، كما أشار إلى ذلك الله بقوله في سورة سبأ ﴿ويوم يحشرهم جميعًا ثم يقول للملائكة أهؤلاء إياكم كانوا يعبدون * قالوا سبحانك أنت ولينا من دونهم بل كانوا يعبدون الجن أكثرهم بهم مؤمنون﴾.
﴿وخلقهم﴾ أي والحال أنه هو وحده الذي خلقهم فما كان لهم أن يجعلوا له شركاء ﴿وخرقوا﴾ وقرئ بتشديد الراء. أي اختلقوا كلامًا مغايرًا للحقيقة إذ نسبوا ﴿له بنين وبنات بغير علم﴾ أي من غير أن يكون لهم مستند على زعمهم هذا، إذ يسمي مشركو العرب الملائكة بنات الله ﴿وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله ذلك قولهم بأفواههم يضاهئون قول الذين كفروا من قبل﴾ وقد رد الله زعمهم هذا بقوله ﴿سبحانه وتعالى عما يصفون﴾ أي أن الله متنزه عن كل ذلك. والعقل السليم لا يمكن أن يسلم بتعدد الآلهة لما يقتضيه ذلك من تنازع السلطة، الأمر الذي يؤدي إلى الفوضى وعدم استقرار النظام، وشواهد الحال تدل صراحة على أن كل شيء في الوجود سائر بدقة ونظام عجيب لا يتطرق إليه الفساد. وقد أيد الله هذا المعنى في آية أخرى بقوله: ﴿لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا﴾ كذلك لا يعقل أن يكون له ولد، لأن هذا يقتضي أن يكون له جنس يشمل جميع أفراده، ولا سيما أولاده الذين ينبغي أن يكونوا نظراء له وهو سبحانه لا مثيل له ﴿بديع﴾ البدع بالفتح الإنشاء والإيجاد، والإبداع إنشاء صنعة بلا احتذاء
هذا لا يعني بحال من الأحوال أن للعبد مشيئة غير مشيئة الله بل هي بعينها من مشيئة الله التي اقتضت أن يكون للعبد مشيئة خاصة ضمن دائرة مشيئته تعالى العامة كما فصلنا ذلك من قبل فقال إنه لا يتفق معي أيضًا فيما جنحت إليه من معنى المشيئة وطلب مني إعادة النظر في الموضوع فلم يسعني إلا أن أسدي شكري له على غيرته الإسلامية وتصلبه لما يراه حقًّا وقد يكون كذلك فالله سبحانه وتعالى هو العالم بالحقائق ولكني وأنا أعتقد أني على حق يؤيدني فيه جمهرة من العلماء والمفكرين رأيت من واجبي أن أتوسع في الموضوع وأوضح عقيدتي التي لا تتعارض مع عقيدة أهل السنة بل إنها لتؤيدها بلغة هذا العصر الأمر الذي من أجله وضعت هذا التفسير ونشرته لهداية الناس للحق ابتغاء مرضاة الله فإني أعتقد أن السبب الذي حمل الكثير من العلماء على مخالفتي فيما جنحت إليه هو ظنهم أني بإحالتي الضمير إلى اسم الموصول لا إلى الله قد أثبت للعبد مشيئة من دون الله وأني بهذا خرجت على ما سيقوله السلف وأهل السنة عن القضاء والقدر وأني جاريت المعتزلة في آرائهم وهذا وهم خاطئ فالكل مجمعون على القول بأن الله تعالى قد سبق في علمه ما سيعمله العباد من خير وشر وطاعة ومعصية من قبل خلقهم ومن هو من أهل الجنة ومن هو من أهل النار وأعد لهم الثواب والعقاب جزاء لأعمالهم قبل خلقهم وتكوينهم وأنه كتب ذلك عنده وأحصاه وأن أعمال العباد تجري وفق ذلك وأنه تعالى خلق أفعال العباد كلها من الكفر والإيمان والطاعة والعصيان وشاءها منهم وخلق للعبد قدرة وإرادة وفعلًا فهو فاعل لفعله حقيقة ومختار في إرادته، وقدرته مؤثرة في مقدورها بقدرة الله التي جعلته محدثًا لذلك الأمر كتأثير القوى والطبائع والأسباب والماء في إخراج النبات كما قال تعالى: ﴿وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته حتى إذا أقلت سحابًا ثقالًا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلكم تذكرون﴾ فالله هو محدث الحوادث بواسطة الأسباب لا عندها كما يقال وهو الذي يمن بالغفران بواسطة عمل الإنسان وقد أثبت الله للعبد مشيئة وأخبر أنها لا تكون نافذة إلا بمشيئته تعالى حيث قال ﴿وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين﴾ أي أنه تعالى إذا لم يرد وقوع الأمر حال دون حصول الأسباب أو عطل مفعولها فلا تقع. لا راد لحكمه وهذا خلافًا للمعتزلة الذين يزعمون استبداد العبد بالاختراع وأن له مقدرة على الخلق والابتداع حتى أن العبد يخلق فعله شاء الرب أم لم يشأ وأنه منفرد بخلق معصيته ولو كره الله ذلك، بل لقد أنكر غلاة القدرية السابقون سبق علم الله بالأفعال وقالوا إن الأمر أنف أي إن الله يعلم بالأفعال
الله لنيلها كما أسلفنا ﴿ورزق كريم﴾ أي ولهم أيضًا عند الله وعد أن يرزقهم رزقًا طيبًا إذ قال تعالى: ﴿من عمل صالحًا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون﴾ وبمقتضى هذا الوعد الكريم من رب العزة مانح الأرزاق لعباده فأيما مؤمن يشكو سوء العيش في حياته فعليه أن يحاسب نفسه ويطبق صفات المؤمنين عليه في سره ليتبين حقيقة أمره ويحاول إصلاح ما فسد من طبائعه وليرجع إلى ربه ويستغفره ويتوب إليه فقد قال تعالى: ﴿استغفروا ربكم إنه كان غفارًا يرسل السماء عليكم مدرارًا ويمددكم بأموال وبنين ويجعل لكم جنات ويجعل لكم أنهارً﴾.
بعد أن أمر الله رسوله بفض النزاع بين صحبه في غزوة بدر الكبرى في موضوع الأنفال بأنها لله ورسوله وأمرهم بتقوى الله وإصلاح ذات البين وطاعة رسوله إن كانوا مؤمنين ثم أخبره بما يحدثه الإيمان من أثر في قلوب معتنقيه يتجلى باتصافهم بخمس صفات وقال عمن تحلى بها: ﴿أولئك هم المؤمنون حقًّا﴾ أخذ يعلل هذا بقوله ﴿كما أخرجك ربك من بيتك بالحق﴾ أي وإنما كانوا هم المؤمنون حقًّا لأن إيمانهم بوعد الله يكاد يشبه إيمانك بوعد الله الحق بالنصر على قريش الذي أخرجك من بيتك ﴿وإن فريقًا من المؤمنين لكارهون﴾ أي بينما كان فريق من المؤمنين كارهين الخروج معك وعندما انتصرت أخذوا يختلفون في أمر ما زاد من الأنفال فقال تعالى ﴿يجادلونك في الحق﴾ الذي منحه الله لك في الأنفال ﴿بعد ما تبين﴾ أن الغنيمة لم تحصل إلا نتيجة إصرار النبي ﷺ على قتال قريش ثقة بوعد الله له بالنصر والظفر بإحدى الطائفتين ونتيجة لتوسلات الرسول ﷺ وأنهم لم يطيعوه عن طيب نفس بل دفعوا إليه دفعًا ﴿كأنما يساقون إلى الموت﴾ من فرط جزعهم ورعبهم ﴿وهم ينظرون﴾ أي حتى كأنهم ينظرون شبح الموت ماثلًا أمام أعينهم ولا مفر منه لما كان من تفاوت بين حالهم وحال المشركين من حيث العدد والعدة غير أن يقين الرسول بموعد ربه هو الذي حقق لهم الظفر بأكثر مما كانوا يتصورون وما لم يكن في الحسبان وهنا وجه الله خطابه للمؤمنين وتولى إقامة الحجة على من جادل الرسول في أمر الأنفال وكان من قبل كارهًا للقتال فقال ﴿وإذ يعدكم الله إحدى الطائفتين أنها لكم﴾ أي واذكروا أن وعد الله لكم في السابق كان بالظفر بإحدى الطائفتين: حماة العير أو النفير ولم يعين لكم أي طائفة منها ﴿وتودون﴾ أي وكنتم تودون أنتم ﴿أن غير ذات الشوكة﴾ أي القوة وهم أبو سفيان ومن
بعد أن نص الله على مساواة المرأة للرجل في المسئولية الشخصية عن الأمور التعبدية أراد أن يبين فضيلة المرأة المؤمنة على غيرها من النساء المنافقات إذ جعلها تساوي الرجل في الفضائل والمكرمات وإن كانت أقل منه في أداء الواجبات فقال: ﴿والمؤمنون والمؤمنات بعضهم أولياء بعض﴾ فلكل من الرجل والمرأة ولاية على الآخر في تنفيذ أوامر الله: ﴿يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر﴾ أي أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حق من حقوق كل من المرأة والرجل على حد سواء فمن واجب المرأة أن تأمر الرجل حتى ولو كان زوجها أو والدها باتباع الشرع والعمل بما يرضي الله واجتناب ما يغضبه كما يجب ذلك عليه هو أيضًا ولهذا كان النساء في عهد النبوة يحرضن على القتال ويرددن المنهزم من الرجال: ﴿ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة﴾ فكل من الجنسين مأمور بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والأمر بذلك وله أجره من عند الله كاملًا غير منقوص: ﴿ويطيعون الله ورسوله﴾ أي أن كلًّا منهما مكلف بإيثار طاعة الله على طاعة من سواه فلا طاعة للزوج مثلًا في معصية الله: ﴿أولئك﴾ الذين يلي بعضهم أمر بعض فيما ذكر: ﴿سيرحمهم الله إن الله عزيز حكيم﴾ أي يتعهدهم سبحانه برحمته الخاصة في الدنيا باللطف والرعاية وفي الآخرة بما قطعه لهم من وعد لن يخلفه وفصله تعالى بقوله: ﴿وعد الله المؤمنين والمؤمنات﴾ بأمور ثلاثة يتساوى في نعيمها النساء مع الرجال كل على انفراد دون أن يكون لأحد منهما فضل على الآخر حيث لا تبعية ولا قوامة لمساواتهن للرجال فيما سبق من الأعمال النوع الأول من الأمور التي قطع الله بها الوعد للمؤمنين والمؤمنات قوله: ﴿جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها﴾ بحيث لا يخرجهم منا زلل كما حصل لأبيهم آدم من قبل النوع الثاني قوله: ﴿ومساكن طيبة﴾ أي قصور شامخة يطيب فيها المقام لاشتمالها على مختلف الأثاث والرياش وجميع وسائل الزينة والراحة مما لم يكن لآدم من قبل: ﴿في جنات عدن﴾ لعل «عدن» اسم لمنطقة القصور في الجنة أي أن الله سيعطيهم مواضع للنزهة بين الأنهار والأشجار وقصورًا في مواضع أخرى خصصت لذلك النوع الثالث قوله: ﴿ورضوان من الله﴾ تلتذ به نفوس المقربين: ﴿أكبر﴾ من لذة الأجسام بسائر المتع التي في الدنيا وفي تلك الجنان: ﴿ذلك﴾ ما وعد الله به المؤمنين والمؤمنات من النعيم الجسماني والروحاني: ﴿هو الفوز العظيم﴾ الذي يجب أن يقابل بالشكر منهم في هذه الحياة فإن من يحصل على وعد كهذا الوعد من رب الأنام لا ينبغي له أن يفرط فيه بل عليه أن يحرص كل الحرص على أن يؤدي لله كل حقوقه.
ضائقة لسبب ظاهر أو خفي فإنه لا يملك نجاتك من خطره غير الله: ﴿وإن يردك بخيرٍ﴾ من واسع رحمته وعظيم كرمه: ﴿فلا راد لفضله﴾ أي فليس هناك ما يحول دون تنفيذ إرادته بمعنى أنه عندما يريد الله الخير لأحد من عباده فإنه لا يتوقف نفاذ ذلك على مزاولة الأسباب أو التقيد بالنظام بل إنه جل وعلا قطع على نفسه وعدًا أن يستجيب دعوة من دعاه ويعطي كل سائل سؤله حيث قال: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ ثم أحال هنا أمر تحقيق الخير إلى مشيئة الإنسان حيث قال: ﴿يصيب به﴾ أي بالخير: ﴿من يشاء﴾ الخير بسلوك السبل التي سنها الله لنيل الخير فإذا ما سعى الإنسان للحصول على خير وناله فإنما ناله من فضل الله وعطائه لا بمجرد سعيه: ﴿من عباده﴾ أي من أي فرد من أفراد البشر مسلمهم وكافرهم على حد سواء: ﴿وهو الغفور﴾ لمن استغفره: ﴿الرحيم﴾ لمن يرجو رحمته ممن أخذ الله على ذاته العلية أن يكتب لهم رحمته بقوله: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل﴾.
وإن مما يؤسف له أن يصر كثير من العلماء في عصرنا هذا على الأخذ بما قاله مشايخهم من أن الضمير في يشاء عائد إلى الله ويعنون بهذا محض الإرادة لا ما قضت به مشيئة الله الأزلية من ضرورة العمل بما سنه تعالى من سنن لنيل الخير ولذلك فإنهم يقولون بضرورة استدرار عطف الله عن طريق الوسطاء والشفعاء من الأموات الذين يزعمون أنهم أولياء الله فيلجئون إلى قبورهم يسألونهم قضاء الحوائج، الأمر الذي لم يسمع بمثله في عهد رسول الله وصحابته الأبرار حتى أن الرسول الأعظم ﷺ وهو أشرف الخلق الذي وعده الله بالشفاعة يوم الزحام لما سأله أحد الصحابة في حياته أن يدعو الله أن يكون رفيقه في الجنة قال «أعني على ذلك بكثرة الصلاة»، بل إنه ﷺ نفسه قد طلب من الأحياء من أمته أن يدعو له عقب الأذان أن يؤتيه الله الوسيلة والفضيلة والشرف والدرجة الرفيعة والحوض المورود الذي وعده إنه لا يخلف الميعاد فكيف يرجى من الأموات أن يستجيبوا لدعاء الأحياء فضلًا عن أن يحققوا لهم الآمال اللهم اهدنا وإياهم إلى صراطك المستقيم.
سري بل لقد اعترفت أمامه وأمام النسوة من قبل بما أعترف به الآن في حضرة الملك لأبرئ ساحته على رؤوس الأشهاد: ﴿وأن الله﴾ الذي اعتمد عليه يوسف من شأنه أن: ﴿لا يهدي كيد الخائنين﴾ أي إن الله لا يهدي صاحب الكيد الذي يقوم على أساس الخيانة إلى سبيل النجاح، ومن أجل ذلك لم يوفقني في كيدي ليوسف. وسيأتي تتمة كلامها في أول الجزء الثالث عشر.
وقد فرغت من تفسير هذا الجزء في يوم الأربعاء ٦ ربيع الأول ١٣٧٩ الموافق ٩ سبتمبر ١٩٥٩ وفقنا الله لإتمام باقي الأجزاء من محض كرمه وإحسانه.
ضائقة لسبب ظاهر أو خفي فإنه لا يملك نجاتك من خطره غير الله: ﴿وإن يردك بخيرٍ﴾ من واسع رحمته وعظيم كرمه: ﴿فلا راد لفضله﴾ أي فليس هناك ما يحول دون تنفيذ إرادته بمعنى أنه عندما يريد الله الخير لأحد من عباده فإنه لا يتوقف نفاذ ذلك على مزاولة الأسباب أو التقيد بالنظام بل إنه جل وعلا قطع على نفسه وعدًا أن يستجيب دعوة من دعاه ويعطي كل سائل سؤله حيث قال: ﴿وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان﴾ ثم أحال هنا أمر تحقيق الخير إلى مشيئة الإنسان حيث قال: ﴿يصيب به﴾ أي بالخير: ﴿من يشاء﴾ الخير بسلوك السبل التي سنها الله لنيل الخير فإذا ما سعى الإنسان للحصول على خير وناله فإنما ناله من فضل الله وعطائه لا بمجرد سعيه: ﴿من عباده﴾ أي من أي فرد من أفراد البشر مسلمهم وكافرهم على حد سواء: ﴿وهو الغفور﴾ لمن استغفره: ﴿الرحيم﴾ لمن يرجو رحمته ممن أخذ الله على ذاته العلية أن يكتب لهم رحمته بقوله: ﴿ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل﴾.
وإن مما يؤسف له أن يصر كثير من العلماء في عصرنا هذا على الأخذ بما قاله مشايخهم من أن الضمير في يشاء عائد إلى الله ويعنون بهذا محض الإرادة لا ما قضت به مشيئة الله الأزلية من ضرورة العمل بما سنه تعالى من سنن لنيل الخير ولذلك فإنهم يقولون بضرورة استدرار عطف الله عن طريق الوسطاء والشفعاء من الأموات الذين يزعمون أنهم أولياء الله فيلجئون إلى قبورهم يسألونهم قضاء الحوائج، الأمر الذي لم يسمع بمثله في عهد رسول الله وصحابته الأبرار حتى أن الرسول الأعظم ﷺ وهو أشرف الخلق الذي وعده الله بالشفاعة يوم الزحام لما سأله أحد الصحابة في حياته أن يدعو الله أن يكون رفيقه في الجنة قال «أعني على ذلك بكثرة الصلاة»، بل إنه ﷺ نفسه قد طلب من الأحياء من أمته أن يدعو له عقب الأذان أن يؤتيه الله الوسيلة والفضيلة والشرف والدرجة الرفيعة والحوض المورود الذي وعده إنه لا يخلف الميعاد فكيف يرجى من الأموات أن يستجيبوا لدعاء الأحياء فضلًا عن أن يحققوا لهم الآمال اللهم اهدنا وإياهم إلى صراطك المستقيم.
الفهرس
تقرب
هذا بلاغ
سورة الملك
الحياة والموت في خلق آدم
الحكمة في خلق الحياة الدنيا
النجوم رجوم الشياطين
اعترافات الكفار باستحقاقهم للعذاب
خوف الله سبيل غفرانه
الجزاء على النية والعمل
السعي لا يوجد أساس الرزق
ما الذي يمسك الطير والطائرات
النصر والرزق من عند الله
الإيمان نتيجة التأمل في الحقائق
إنذار الرسول قومه
سورة القلم ومعنى ن
أخلاق الرسول
نهيه عن مجارات المكذبين
نهيه عن الأخذ برأي الأثرياء والوجهاء
الاعتماد على المادة من دون الله
الحظ والنصيب والعمل
العقائد التي تنافي عدل الله
نهي الرسول عن التدخل في شأن المكذبين
نهي الرسول عن أن يكون كنبي الله يونس
لكم عدو بئس للظالمين بدلاً} ويسمون بالشياطين لما جبلوا عليه من الأذى ومن طبعهم أن يندسوا في النفوس ويوسوسوا لها الشر ويحبّبوا إليها فعل السيئات وقد أوضح الرسول ﷺ ذلك بقوله: «إن للشيطان لُمّة بابن آدم وللملك لُمّة فأما لُمّة الشيطان فإيعاز بالشر وتكذيب بالحق وأما لمة الملك فإيعاز بالخير وتصديق بالحق فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله على ذلك ومن وجد الأخرى فليتعوذ بالله من الشيطان ثم قرأ: ﴿الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء﴾» وقال أيضاً: «إن الشيطان ليجري من الإنسان مجرى الدم»؛ ومن أجل هذا يطلق على كل من يزين للإنسان فعل الشر من بني الإنسان (شياطين الإنس).
ومن الجن ما هو ليس بملك ولا هو من نسل إبليس فلا يكون شيطاناً وقد وصفهم بأنهم عالم كعالم الإنسان لهم نفوس كنفوس البشر وأنهم محل الطاعة والعصيان يسمعون أحاديث الناس ويأخذون بأقوالهم وأقوال أنبيائهم وقد يعملون بمواعظهم إذ يقول تعالى: ﴿قل أوحي إليّ أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ولن نشرك بربنا أحداً﴾ وقوله عن لسانهم: ﴿وأنا منا الصالحون ومنا دون ذلك كنا طرائق قددا﴾: ﴿وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً وأما القاسطون فكانوا لجهنم حطباً﴾.
ومن هؤلاء من هو شديد الدهاء والمكر ويسمون (العفاريت) إذ يقول تعالى في كتابه: ﴿قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي أمين﴾.
والقرآن مليء بذكر أخبار الملائكة والشياطين ونماذج من تصرفاتها في هذه الحياة ووسائل تأثيرهما في النفوس مما لا يستطيع العقل البشري أن يجحد أثر كل ذلك في حياته العملية فكلما يشعر بهذه العوامل النفسية تتجاذبه لا يمكن أن ينكر وجودها ولكنه لا يعلم حقيقتها وقد يسميها بعض الناس قوى طبيعية أو ناموساً فطريًّا والمؤمن يسميها ملكاً أو شيطاناً كما أخبره الله بذلك وليسمها من شاء كما شاء فالحقيقة واحدة والعاقل من لا تحجبه الأسماء عن التسليم بوجود المسميات. وقد أخبرنا الرسول الأعظم ﷺ أن الجن أنواع منها ما هو من الحشرات وخشاش الأرض، وأن منها ما يكون سبباً لنشر وباء الطاعون حيث قال: «الطاعون وخز أعدائكم من الجن وهو لكم شهادة» فلم تستطع القول أن تهضم هذه الحقيقة وعدها بعضهم من باب الخرافات ثم أثبت العلم أن هناك أنواعاً كثيرة من المخلوقات الخفية التي لا يمكن أن


الصفحة التالية
Icon