﴿ قال ما منعك ﴾ "ما" رفع بالابتداء وما بعده الخبر، و"أن" في موضع نصب بـ"منعك"، تقديره: أي شيء منعك السجود لآدم (١)، وإنما سأله -وهو أعلم بحاله منه-؛ توبيخاً له وإظهاراً لعناده وكفره وتعظمه في نفسه وكبره.
و"لا" في قوله: ﴿ أن لا تسجد ﴾ صلة، بدليل قوله في موضع آخر: ﴿ ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي ﴾ [ص: ٧٥] ومثلها: ﴿ لئلا يعلم أهل الكتاب ﴾ [الحديد: ٢٩] بمعنى: لِيَعْلَمَ. وفائدة زيادتها: توكيد معنى الفعل الذي تدخل عليه وتحقيقه، كأنه قيل: ما منعك أن تلزم نفسك السجود وتحققه لآدم. وكذا لـ"يعلم"، أي: يتحقق علم أهل الكتاب (٢).
﴿ قال أنا خير منه ﴾ كأنه قال: منعني فضلي عليه. ثم ذكر ما ظنه موجباً لفضله عليه فقال: ﴿ خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾.
قال ابن عباس: كانت الطاعة أولى بإبليس من القياس، فعصى ربه وقاس، وأول من قاس إبليس وكفر بقياسه. فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس (٣).
وقال ابن سيرين: ما عُبِدَتِ الشمس والقمر إلا بالمقاييس (٤).

(١)... انظر: الدر المصون (٣/٢٤٠)، وإعراب القرآن للنحاس (٢/١١٦).
(٢)... انظر: الكشاف (٢/٨٦).
(٣)... ذكره الواحدي في الوسيط (٢/٣٥٣)، والسيوطي في الدر (٣/٤٢٥) وعزاه لابن جرير عن الحسن.
(٤)... أخرجه الطبري (٨/١٣١). قال ابن كثير (٢/٢٠٤): إسناده صحيح.
... وحجة إبليس لعنه الله في قوله: ﴿ أنا خير منه خلقتني من نار وخلقته من طين ﴾ هي باطلة؛ لأنه عارض النص بالقياس. قال الإمام القرطبي (٧/١٧١): الطين أفضل من النار من وجوه أربعة: أحدها: أن جوهر الطين الرزانة والسكون، والوقار والأناة، والحلم، والحياء، والصبر. وذلك هو الداعي لآدم عليه السلام بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع، فأورثه المغفرة والاجتباء والهداية. ومن جوهر النار الخفة، والطيش، والحدة، والارتفاع، والاضطراب. وذلك هو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه الهلاك والعذاب واللعنة والشقاء. الثاني: إن الخبر ناطق بأن تراب الجنة مسك أذفر، ولم ينطق الخبر بأن في الجنة ناراً وأن في النار تراباً. الثالث: أن النار سبب العذاب، وهي عذاب الله لأعدائه، وليس التراب سبباً للعذاب. الرابع: أن الطين مستغن عن النار، والنار محتاجة إلى المكان ومكانها التراب.
... قلت: ومحتمل قولاً خامساً وهو أن التراب مسجد وطهور، كما جاء في صحيح الحديث. والنار تخويف وعذاب، كما قال تعالى: ﴿ ذلك يخوف الله به عباده ﴾. اهـ.
(١/٨٨)


الصفحة التالية
Icon