فإن قيل: أين هذا من قوله: ((نحن معاشر الأنبياء لا نورّث)) (١) ؟
قلت: مُحال أن يُظن بنبي الله زكرياء عليه الصلاة والسلام أنه سأل ربه عز وجل الولد حرصاً على وصول مالٍ لو كان له إليه، وبُخلاً به على غيره من عصبته وبني عمه ونفاسةً عليهم بعرَضٍ من الدنيا الفانية يَصِلُ إليهم، فإن هذا من الأخلاق المذمومة البعيدة عن أخلاق العقلاء ذوي الحنكة والتجربة، البصيرين بعيوب الدنيا الناظرين إليها بعين الفناء، فكيف بمن اصطفاه الله لنبوته واجتباه لرسالته واختصه بولايته وأكرمه بسفارته، وإنما خاف ضياع الدين والعلم لما كان يُشاهد من بني إسرائيل من قتل الأنبياء وتضييع حدود الله تعالى وانتهاك محارمه، فسأل ربه ولداً من سِنْخه (٢) يرثه حكمته وعلمه، ويُحسن الخلافة من بعده في قومه.
فمعنى قول ابن عباس "خاف أن يرثوه": أي: خاف أن يرثوه فيسيؤوا خلافته فيما يرثونه منه من القيام بأمور الدين وحقوق الموحدين.
وقرأتُ للكسائي من طريق ابن أبي سريج عنه: "وإني خَفَّتِ المواليْ" بفتح الخاء وتشديد الفاء وفتحها وكسر التاء لالتقاء الساكنين، وسكون الياء من "الموالي" (٣)، وهي قراءة عثمان بن عفان وسعد بن أبي وقاص وعبدالله بن عمر ومحمد بن علي وعلي بن الحسين رضي الله عنهم، على معنى: قلَّت الموالي من ورائي. فكأنه خاف على علمه وحكمته ألا يكون لها وارث من شجرة نسبه.

(١)... أخرجه أحمد (٢/٤٦٣ ح٩٩٧٣).
(٢)... السِّنْخ: الأصل من كل شيء (اللسان، مادة: سنخ).
(٣)... انظر: زاد المسير (٥/٢٠٨).
(١/٣٩١)


الصفحة التالية
Icon