... وأقوى ما رأيته للوقوع وهو اختياري ما أخرجه ابن جرير بسند صحيح عن أبي ميسرة التابعي الجليل قال: في القرآن من كل لسان. وروى مثله عن سعيد بن جبير ووهب بن منبه. فهذه إشارة إلى أن حكمة وقوع هذه الألفاظ في القرآن أنه حوى علوم الأولين والآخرين ونبأ كل شيء، فلا بد أن تقع فيه الإشارة إلى أنواع اللغات والألسن ليتم إحاكته بكل شيء، فاختير له من كل لغة أعذبها وأخفها وأكثرها استعمالاً للعرب.
... ثم رأيت ابن النقيب صرح بذلك فقال: من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير انتهى.
... وأيضاً فالنبي - ﷺ - مرسل إلى كل أمة، وقد قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه﴾ فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو. وقد رأيت الجويني ذكر لوقوع المعرب في القرآن فائدة أخرى فقال: إن قيل إن: "استبرق" ليس بعربي وغير العربي من الألفاظ دون الفصاحة والبلاغة فنقول: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك، وذلك لأن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة، فإن لم يرغبهم بالوعد الجميل ويخوفهم بالعذاب الوبيل لا يكون حثه على وجه الحكمة، فالوعد والوعيد نظراً إلى الفصاحة واجب. ثم إن الوعد بما يرغب فيه العقلاء وذلك منحصر في أمور الأماكن الطيبة ثم المآكل الشهية ثم المشارب الهنية ثم الملابس الرفيعة ثم المناكح اللذيذة ثم ما بعده مما يختلف فيه الطباع، فإذا ذكر الأماكن الطيبة والوعد به لازم عند الفصيح، ولو تركه لقال من أمر بالعبادة ووعد عليها وبالأكل والشرب إن الأكل والشرب لا ألتذ به إذا كنت في حبس أو موضع كريه، فلذا ذكر الله الجنة ومساكن طيبة فيها، وكان ينبغي أن يذكر من الملابس ما هو أرفعها، وأرفع الملابس في الدنيا الحرير. وأما الذهب فليس مما ينسج منه ثوب، ثم إن الثوب من غير الحرير لا يعتبر فيه الوزن والثقل وربما يكون الصفيق الخفيف أرفع من الثقيل الوزن. وأما الحرير فكلما كان ثوبه أثقل كان أرفع، فحينئذ وجب على الفصيح أن يذكر الأثقل الأثخن ولا يتركه في الوعد لئلا يقصر في الحث والدعاء. ثم إن هذا الواجب الذكر إما أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح، أو لا يذكر بمثل هذا، ولا شك أن الذكر باللفظ الواحد الصريح أولى لأنه أوجز وأظهر في الإفادة وذلك إستبرق، فإن أراد الفصيح أن يترك هذا اللفظ ويأتي بلفظ آخر لم يمكنه، لأن ما يقوم مقامه إما لفظ واحد أو ألفاظ متعددة، ولا يجد العربي لفظاً واحداً يدل عليه لأن الثياب من الحرير عرفها العرب من الفرس ولم يكن لهم بها عهد ولا وضع في اللغة العربية للديباج الثخين اسم، وإنما عربوا ما سمعوا من العجم واستغنوا به عن الوضع لقلة وجوده عندهم وندرة تلفظهم به. وأما إن ذكره بلفظين فأكثر فإنه يكون قد أخل بالبلاغة، لأن ذكر لفظين بمعنى يمكن ذكره بلفظ تطويل، فعلم بهذا أن لفظ: "إستبرق" يجب على كل فصيح أن يتكلم به في موضعه ولا يجد ما يقوم مقامه، وأي فصاحة أبلغ من أن لا يوجد غيره مثله؟ انتهى.
... وقال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية: والصواب عندي فيه تصديق القولين جميعاً، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال عجمية فصادق. ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون. (انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ١/٣٩٣-٣٩٦).
(١/٥٧١)
... ثم رأيت ابن النقيب صرح بذلك فقال: من خصائص القرآن على سائر كتب الله تعالى المنزلة أنها نزلت بلغة القوم الذين أنزلت عليهم، لم ينزل فيها شيء بلغة غيرهم، والقرآن احتوى على جميع لغات العرب، وأنزل فيه بلغات غيرهم من الروم والفرس والحبشة شيء كثير انتهى.
... وأيضاً فالنبي - ﷺ - مرسل إلى كل أمة، وقد قال تعالى: ﴿وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه﴾ فلا بد وأن يكون في الكتاب المبعوث به من لسان كل قوم وإن كان أصله بلغة قومه هو. وقد رأيت الجويني ذكر لوقوع المعرب في القرآن فائدة أخرى فقال: إن قيل إن: "استبرق" ليس بعربي وغير العربي من الألفاظ دون الفصاحة والبلاغة فنقول: لو اجتمع فصحاء العالم وأرادوا أن يتركوا هذه اللفظة ويأتوا بلفظ يقوم مقامها في الفصاحة لعجزوا عن ذلك، وذلك لأن الله تعالى إذا حث عباده على الطاعة، فإن لم يرغبهم بالوعد الجميل ويخوفهم بالعذاب الوبيل لا يكون حثه على وجه الحكمة، فالوعد والوعيد نظراً إلى الفصاحة واجب. ثم إن الوعد بما يرغب فيه العقلاء وذلك منحصر في أمور الأماكن الطيبة ثم المآكل الشهية ثم المشارب الهنية ثم الملابس الرفيعة ثم المناكح اللذيذة ثم ما بعده مما يختلف فيه الطباع، فإذا ذكر الأماكن الطيبة والوعد به لازم عند الفصيح، ولو تركه لقال من أمر بالعبادة ووعد عليها وبالأكل والشرب إن الأكل والشرب لا ألتذ به إذا كنت في حبس أو موضع كريه، فلذا ذكر الله الجنة ومساكن طيبة فيها، وكان ينبغي أن يذكر من الملابس ما هو أرفعها، وأرفع الملابس في الدنيا الحرير. وأما الذهب فليس مما ينسج منه ثوب، ثم إن الثوب من غير الحرير لا يعتبر فيه الوزن والثقل وربما يكون الصفيق الخفيف أرفع من الثقيل الوزن. وأما الحرير فكلما كان ثوبه أثقل كان أرفع، فحينئذ وجب على الفصيح أن يذكر الأثقل الأثخن ولا يتركه في الوعد لئلا يقصر في الحث والدعاء. ثم إن هذا الواجب الذكر إما أن يذكر بلفظ واحد موضوع له صريح، أو لا يذكر بمثل هذا، ولا شك أن الذكر باللفظ الواحد الصريح أولى لأنه أوجز وأظهر في الإفادة وذلك إستبرق، فإن أراد الفصيح أن يترك هذا اللفظ ويأتي بلفظ آخر لم يمكنه، لأن ما يقوم مقامه إما لفظ واحد أو ألفاظ متعددة، ولا يجد العربي لفظاً واحداً يدل عليه لأن الثياب من الحرير عرفها العرب من الفرس ولم يكن لهم بها عهد ولا وضع في اللغة العربية للديباج الثخين اسم، وإنما عربوا ما سمعوا من العجم واستغنوا به عن الوضع لقلة وجوده عندهم وندرة تلفظهم به. وأما إن ذكره بلفظين فأكثر فإنه يكون قد أخل بالبلاغة، لأن ذكر لفظين بمعنى يمكن ذكره بلفظ تطويل، فعلم بهذا أن لفظ: "إستبرق" يجب على كل فصيح أن يتكلم به في موضعه ولا يجد ما يقوم مقامه، وأي فصاحة أبلغ من أن لا يوجد غيره مثله؟ انتهى.
... وقال أبو عبيد القاسم بن سلام بعد أن حكى القول بالوقوع عن الفقهاء والمنع عن أهل العربية: والصواب عندي فيه تصديق القولين جميعاً، وذلك أن هذه الأحرف أصولها أعجمية كما قال الفقهاء، لكنها وقعت للعرب فعربتها بألسنتها وحولتها عن ألفاظ العجم إلى ألفاظها فصارت عربية، ثم نزل القرآن وقد اختلطت هذه الحروف بكلام العرب، فمن قال: إنها عربية فهو صادق، ومن قال عجمية فصادق. ومال إلى هذا القول الجواليقي وابن الجوزي وآخرون. (انظر: الإتقان في علوم القرآن للسيوطي ١/٣٩٣-٣٩٦).
(١/٥٧١)