العرب، ووصفهم بكونهم أميين ؛ لأنهم لم يَدَّعوا كتاباً، شبههم بمن لا يقرأ ولا يكتب، وإما لكونهم ليسوا من أهل الكتابة والقراءة، وإن كان فيهم من يكتب فهو نادر.
قوله :﴿أَأَسْلَمْتُمْ﴾ صورته استفهام، ومعناه الأمر، أي : أسلموا، كقوله تعالى :﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ [المائدة : ٩١].
قال الزمخشري :" يعني أنه قد أتاكم من البيِّنات ما يوجب الإسلام، ويقتضي حصوله - لا محالة - فهل أسلمتم بعدُ أم أنتم على كفركم ؟، وهذا كقولك - لمن لخَّصْتُ له المسألة، ولم تُبْقِ من طُرُق البيان والكشف طريقاً إلاَّ سلكته - : هل فهمتها، أم لا - لا أُمَّ لك - ومنه قوله - عز وجل - ﴿فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ﴾ بعد ما ذكر الصوارف عن الخمر والميسر، وفي الاستفهام استقصار، وتعبير بالمعاندة، وقلة الإنصاف ؛ لأن المُنْصِفَ - إذا تَجَلَّتْ لَهُ الحجَّةُ - لم يتوقف إذْعانه للحق ".
وقال الزّجّاج :" أأسْلَمْتُم " تهديد.
قال القرطبيُّ :" وهذا حَسَنٌ ؛ لأن المعنى : أأسْلَمْتُمْ أمْ لاَ ؟ ".
قوله :﴿فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهْتَدَواْ﴾ دخلت " قد " على الماضي ؛ مبالغة في تحقُّق وقوعِ الفعل، وكأنه قد قَرُب من الوقوع.
رُوي أن رسول الله ﷺ قرأ هذه الآية، فقال أهل الكتاب : أسْلَمْنَا، فقال لليهود : أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى كَلِمَةُ اللهِ وَعَبْدُهُ، وَرَسُولُهُ ؟ فقالوا : معاذَ اللهِ، وقال للنَّصَارَى : أتَشَهدُونَ أنّ عِيسَى عَبْدُ اللهِ وَرَسُولُهُ ؟ فقالوا معاذَ الله أن يكون عيسى عبداً، فقال الله عز وجل - :﴿وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ﴾، أي : تبليغ الرسالة، وليس عليك الهداية.
والبلاغ : مصدر " بَلَغَ " - بتخفيف عين الفعل -.
قيل : إنها نُسِخَت بالجهاد.
﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ عالم بمن يؤمن ومن لا يؤمن، وهذا يفيد الوعد والوعيد.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٠٩
لما ذكر حال من يُعْرِض ويتولّى وصفهم في هذه الآيةِ بثلاثِ صفاتٍ : الأولى قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ﴾ لما ضمن هذا الموصول معنى الشرط دخلت الفاء في خبره وهو قوله :﴿فَبَشِّرْهُم﴾، وهذا هو الصحيح، أعني أنه إذا نُسِخَ المبتدأ بـ " إنَّ " فجواز دخول الفاء باقٍ ؛ لأن المعنى لم يتغير، بل ازداد تأكيداً، وخالف الأخفش،
١١٢
فمنع دخولها من نسخه بـ " إنَّ " والسماع حُجَّةٌ عليه كهذه الآية، وكقوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ﴾ الآية [البروج : ١٠]، وكذلك إذا نُسِخَ بـ " لَكِنَّ " كقوله :[الطويل] ١٣٧٦ - فَوَاللهِ مَا فَارَقْتُكُمْ عَنْ مَلَلَةٍ وَلَكِنَّ مَا يُقْضَى فَسَوْفَ يَكُونُ وكذلك إذا نُسِخ بـ " أنَّ " - المفتوحة - كقوله :﴿وَاعْلَمُوا اا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ﴾ [الأنفال : ٤١] أما إذا نُسِخ بـ " لَيْتَ "، و " لَعَلَّ " و " كَأنَّ " امتنعت الفاءُ عند الجميع ؛ لتغيُّرِ المعنى.

فصل المراد بهؤلاء الكفارِ اليهودُ و النصارى.


فإن قيل : ظاهر هذه الآيةِ يقتضي كونَهم كافرين بجميع آيات الله - تعالى -، واليهود والنصارى، كانوا مقرِّين بالصانع وعلمِه وقدرته والمعادِ.
الجواب : أن تُصْرَفَ الآياتُ إلى المعهود السابق - وهو القرآن ومحمد - أو نحمله على العموم، ونقول : إن من كذب بنبوة محمد - عليه السلام - يلزمه أن يُكذب بجميع آيات الله تعالى.
الصفة الثانية : قوله :﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ قرأ الحسن هذه والتي بعدها بالتشديد ومعناه : التكثير، وجاء - هنا - ﴿بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ منكَّراً، وفي البقرة [بِغَيْرِ الحَقِّ} معرَّفاً قيل : لأن الجملة - هنا - أخرجت مخرَجَ الشرط - وهو عام لا يتخصَّص - فلذلك ناسبَ أن تذكر في سياق النفي ؛ لتعمَّ.
وأما في البقرة فجاءت الآية في ناسٍ معهودين، مختصين بأعيانهم، وكان الحق الذي يُقْتَل به الإنسان معروفاً عندهم، فلم يقصد هذا العموم الذي هنان فجِيء في كل مكان بما يناسبه.
فصل روى أبو عبيدة بنُ الجراح، قال : قلت : يا رسولَ الله، أيُّ الناسِ أشَدُّ عذاباً يَوْمَ القيامةِ ؟ قال : رجل قتل نبيًّا، أو رجلاً أمر بالمعروف ونهى عن المنكر، وقرأ هذه الآية، ثم قال : يا أبا عبيدة، قتلت بنو إسرائيل ثلاثةً وأربعين نبيًّا، من أول النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل، واثنا عشر رجلاً من عُبَّادِ بني إسرائيلَ، فأمَرُوا قَتَلَتَهُمْ
١١٣


الصفحة التالية
Icon