بالمعروفِ، ونَهَوْهُمْ عن المنكر، فقُتِلوا جميعاً من آخرِ النَّهَارِ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، فَهُم الَّذينَ ذَكَرَهُمُ اللهُ تعالى.
وأيضاً القوم قتلوا يحيى بن زكريا، وزعموا أنهم قتلوا عيسى ابن مريم.
فإن قيل : قوله :﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ﴾ في حكم المستقبل ؛ لأنه كان وعيداً لمن كان في زمن الرسول ﷺ ولم يقع منهم قتل الأنبياء، ولا الآمرين بالقسط، فكيف يَصِحُّ ذلكظ فالجوابُ من وجهين : أحدهما : أن هذه لما كانت طريقة أسلافِهم صحَّت الإضافة إليهم ؛ إذْ كانوا مُصَوِّبِينَ لهم، راضين بطريقتهم، فإن صُنْعَ الأب قد يُضاف إلى الابن، إذا كان راضياً به.
الثاني : أن القوم كانوا يريدون قَتلَ رسول الله ﷺ وقتلَ المؤمنين، إلا أن الله - تعالى - عَصَمَه منهم، فلما كانوا راغبين في ذلك صحَّ إطلاق هذا الاسم عليهم - على سبيل المجاز - كما يقال : النار مُحْرِقةٌ، السَّمُّ قاتل.
فإن قيل : قَتْل الأنبياء لا يصح أن يكون إلا بغير حق، فما فائدة قوله :﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ ؟ فالجوابُ تقدم في البقرة، وأيضاً يجوز أن يكون قصدوا بقتلهم أنها طريقة العدل عندهم.
فإن قيل : قوله :﴿وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ﴾ ظاهره يُشْعِر بأنهم قتلوا كُلَّ النبيِّين، ومعلوم أنهم ما قتلوا الكل، ولا الأكثر، ولا النصف.
فالجواب أن الألف واللام هنا للعَهْد، لا للاستغراق.
الصفة الثالثة : قوله :﴿وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ﴾ قرأ حمزة " وَيُقَاتِلُونَ " - من المقاتلة - والباقون " وَيَقْتُلُونَ " - كالأول.
فأما قراءةُ حمزةَ فإنه غاير فيها بين الفعلين، وهي موافقة لقراءة عبد الله " وَقَاتَلُوا " - من المقاتلة - إلا أنه أتى بصيغة الماضي، وحمزة يحتمل أن يكون المضارع - في قراءته - لحكاية الحال، ومعناه : المُضِيّ.
١١٤
وأما الباقون فقيل - في قراءتهم - : إنما كرر الفعل ؛ لاختلاف متعلَّقه، أو كُرِّرَ ؛ تأكيداً، وقيل : المراد بأحد القتلَيْن إزهاق الروح، وبالآخر الإهانة، وإماتة الذكر، فلذلك ذكر كل واحد على حدته، ولولا ذلك لكان التركيبُ : ويقتلون النَّبِيِّينَ والذين يأمرون، وبهذا التركيب قرأ أبَيّ.
قوله :﴿مِنَ النَّاسِ﴾ إما بيان، وإما للتبعيض، وكلاهما معلوم أنهم من الناس، فهو جَارٍ مَجْرَى التأكيد.
فصل قال القرطبيُّ :" دلت هذه الآيةُ على أن الأمرَ بالمعروف والنهي عن المنكر كان واجباً في الأمم المتقدمةِ، وهو فائدة الرِّسالةِ وخلافة النبوة ".
قال الحسنُ : قال النبي ﷺ :" مَنْ أمَرَ بِالْمَعْرُوفِ، أو نَهَى عَنِ الْمُنْكَرِ، فَهُوَ خَلِيفَةُ اللهِ في أرْضِهِ، وَخَلِيفَةُ رَسُولِهِ، وَخِلِيفَةُ كِتَابِهِ ".
وعن دُرَّةَ بِنْتِ أبِي لَهَب، قالت : جاء رجل إلى النبيِّ ﷺ وهو على المنبر - فقال : مَنْ خيرُ الناس يا رسول الله ؟ قال :" آمَرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ، وأنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَأتْقَاهُمْ لله، وَأوْصَلُهُمْ لِرَحِمِهِ ".
قد ورد في النزيل :﴿الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ﴾ [التوبة : ٦٧]، ثم قال :﴿وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [التوبة : ٧١].
فجعل - تعالى - الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرقاً بين المؤمنين والمنافقين، فدل ذلك على أن أخَصَّ أوصاف المُؤمِن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، ورأسها الدعاء إلى الإسلام والقتال عليه، ثم إن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، لا يليق بكل أحد، وإنما يقوم به السلطانُ ؛ إذْ كانت إقامةُ الحدودِ إليه، والتعزير إلى رأيه، والحبس والإطلاق له، والنفي والتغريب، فينصب في كل بلدة رجلاً قويًّا، عالماً، اميناً، ويأمره بذلك، ويُمْضِي الحدودَ على وَجْهها من غير زيادةٍ، كما قال تعالى :﴿الَّذِينَ إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ أَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ وَأَمَرُواْ بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْاْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾ [الحج : ٤١].
فصل قال الحسنُ : هذه الآيةُ تدل على أن القائمَ بالأمْر بالمعروف والنهي عن المنكر - عند الخوف - تلي منزلته - في العِظَم - منزلةَ الأنبياء، ورُوِيَ أنَّ رَجُلاً قام إلى رسول الله
١١٥


الصفحة التالية
Icon