اعلم أنَّه - تعالى - لَمَّا بَيَّنَ كون القرآن مُعْجزاً، أورد الكُفَّار هنا شبهةً قدحاً في ذلك، وهي أنَّهُ جاء في القرآن ذِكْرُ النَّحلِ، والعنكبوت، والنَّملِ، وهذه الأشياء لا يليق ذكرها بكلام الفُصَحَاء، فاشتمالُ القرآن عليها يقدحُ في فصاحته، فَضْلاً عن كونه مُعْجزاً، وأجاب الله - تعالى - عنه بأنَّ صِغَر هذه الأَشْيَاء لا يقدح في فصاحةٍ، إذا كان ذكرها مشتملاً على حكم بالغة، فهذا هو الإشارة إلى كيفية تَعُلُّق هذه الآية بما قبلها.
روي عن ابن عبّاس - رضي اللهُ تعالى عنه - أنَّه لما قال :﴿ يا أيها النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ﴾ [الحج : ٧٣] فطعن في أصنامهم، ثُمَّ شَبَّه عبادتها ببيت العَنْكَبُوت.
قال اليهود : أي قدر للذُّبَاب والعنكبوت حتَّى يَضْربَ اللهُ المَثَل بهما ؟ ! فنزلت هذه الآية.
وقيل : إنَّ المُنَافقين طَعَنوا في ضرب الأمثال بالنَّار، والظلمات، والرَّعد، والبَرْق في قوله :﴿مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً﴾ [البقرة : ١٧] وقوله :﴿أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَآءِ﴾ [البقرة : ١٩] قالوا : اللهُ أَجَلُّ وأعلى من أن يضرِبَ الأمثالَ، فأنزل الله هذه الآية، وهذه رواية أبي صالح عن ابن عبّاس.
وروى عطاء عن ابن عبّاس أيضاً أنَّ هذا الطعن كان من المشركين.
فقال القَفَّالُ رحمه الله : الكُلُّ محتملٌ هاهنا.
أمَّا اليهود، فلأنه قيل في آخر الآية :﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ﴾ وهذا صفة اليهود ؛ لأنَّ الخطاب بالوفاءِ بالعهدِ إنَّمَا هو لبني إسرائيل، وأمَّّا الكفار والمنافقون فقد ذكروا في سورة " المدثر " :﴿وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَآ أَرَادَ اللَّهُ بِهَـاذَا مَثَلاً﴾ [المدثر : ٣١]، فالذين في قلوبهم مرض هم الكافرون المُنَافقون، والذين كفروا يحتمل المشركين، لأنَّ السورة مَكِّيَةٌ، فقد جُمِعَ الفريقان ها هنا.
إذا ثبت هذا، فنقول : احتمال الكُلِّ هاهنا قائمٌ ؛ لأنَّ الكافرين والمُنافقين واليهود
٤٥٩
كانوا مُتَوَافقين في إيذاء الرَّسول، وقد مضى من أوّلِ السُّورةِ إلى هذا الموضع ذكر المنافقين، واليهود، والمشركين، وكُلُّهم من الذين كفروا.
ثُمَّ قال القَفَّال :" وقد يجوز أن ينزل ذلك ابتداءً من غير سبب ؛ لأنَّ معناه مفيدٌ في نفسه ".
فَصْلٌ في معنى الحياء واشتقاقه الحياء : تَغَيَّرَ وانكسارٌ يعتري الإنسانَ من خوفِ ما يُعَابُ بِهِ ويُذَم، واشتقاقه من الحياة، ومعناه على ما قال الزمخشري : نقصت حياته، واعتلت مجازاً، كما يُقَالُ : نَسِيَ وخَشِيَ، وشظي القوسُ : إذا اعتلت هذه الأعضاء، جُعِلَ الحييُّ لما يعتريه من الانكسار، والتَّغَيُّرِ منتكس القوة منتقص الحياة كما قالوا : فلان هلك من كذا حياءً، ومات حياءً، وذاب حياءً، يعني بقوله :" نَسِيَ وخَشِيَ وشظي " أي : أصيبَ نَسَاه، وهو " عرق " وحَشَاه، وهو ما احتوى عليه البَطْنُ، وشظاهُ وهو عَظْم في الوَرِك، واستعماله هُنَا في حَقِّ الله - تعالى - مَجَازٌ عن التَّرْكِ.
وقيل : مجاز عن الخِشْيَةِ ؛ لأنَّها أيْضاً من ثمراته، وَرَجَّحَهُ الطَّبريُّ، وجعله الزمخشريُّ من باب المُقَابلةِ، يعني أنَّ الكُفَّارَ لَمَّا قالوا : أَمَا يَسْتَحي رَبُّ محمد أن يضرب المثَلَ بالمُحْقّرَات، " قُوبِلَ " قولهم ذلك بقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً﴾ [ونظيره قول] أبي تمَّام :[الكامل] ٣٢٢ - مَنْ مُبْلِغٌ أَفْنَاءَ يَعْرُبَ كُلَّهَا
أَنِّي بَنَيْتُ الجَارَ قَبْلَ لمَنْزِلِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٩
لو لم يذكر بناء الدَّارِ لم يصحّ بناء الجار.
وقيل : معنى لا يستحيي، لا يمتنع، وأصْلُ الاستحياء الانقباضُ عن الشَّيء، والامتناعُ منه ؛ خوفاً من مُواقعة القبيح، وهذا محالٌ على الله تعالى، وفي " صحيح مسلم " عن أم سلمة قالت :" جاءت أم سليم إلى النَّبِيِّ ﷺ فقالت : يا رسولَ الله إنَّ اللهَ لا يَسْتَحي من الحَقِّ " المعنى لا يأمر بالحَيَاء فيه، ولا يمتنع من ذكره.
قال ابن الخطيب :" القانون في أمثال هذه الأشياء، أنَّ كُلَّ صفةٍ ثبتت للعبدِ مما يختص بالأجسام، فإذا وصف الله بذلك، فلذلك محمولٌ على نهايات الأعراض، لا
٤٦٠