على بدايات الأعراض، مثاله : حالةٌ تَحْصُلُ للإنسان، ولكن هل لها مبدأ ومنتهى، أمَّا المبدأ فهو التغيُّر الجسماني الذي يلحق الإنسان من خوف أن يُنْسبَ إليه القبيح، وأمَّا النهاية فهو أن يترك الإنسان ذلك الفعل، فإذا ورد الحياءُ في حقِّ الله تعالى، فليس المراد منه ذلك الخوف الذي هو مبدأ الحياء ومقدمته، بل تركُ الفعلِ الذي هو منتهاه وغايته، وكذلك الغضبُ [له مقدمةٌ] وهو غليان دم القَلْبِ وشهوة الانتقام وله غاية، وهي إنزال العقاب بالمغضوب عليه، فإذا وصفنا الله - تعالى - بالغَضَبِ، فليس المراد ذلك المبدأ، يعني شهوة الانتقام، وغليان دم القَلْبِ، بل المرادُ تلك النّهاية، وهي إنزال العقاب، فهذا هو القانون الكُلِّ في هذا الباب ".
فَصْلٌ في تنزيه الخالق سبحانه قال القاضي : ما لا يجوز على الله - تعالى - من هذا الجنس إثباتاً، فيجب أَلاَّ يطلق على طريقة النفي عليه، وإنَّما يقال : إنَّه - تعالى - لا يوصفُ به، فأمَّا أن يقال :" لا يستحي " ويطلقُ عليه فمحالٌ ؛ لأنَّهُ يوهم نفي ما يجوز عليه، وما ذكره الله - تعالى - في كتابه من قوله :﴿لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ﴾ [البقرة : ٢٥٥]، ﴿لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ﴾ [الإخلاص : ٣] فهو بصورة النفي، وليس بنفي على الحقيقة، وكذلك قوله تعالى :﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ﴾ [المؤمنون : ٩١]، وكذلك قوله تعالى :﴿وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ﴾ [الأنعام : ١٤] وليس كل ما ورد في القرآن جائز أن يُطْلَقَ في المخاطبة، فلا يجوز أن يطلق ذلك إلاَّ مع بيان أنَّ ذلك مُحَالٌ.
ولقائلٍ أن يقولَ : لاَ شَكَّ أنَّ هذه الصِّفات منتفيةٌ عن الله تعالى، فكان الإخبار عن انتفائها يدلُّ على صحّتها عليه.
فنقول : هذه الدلالة ممنوعة، وذلك أن تخصيص هذا النفي بالذكر، لا يَدُلُّ على ثبوته لغيره، لو قرنَ اللَّفظ بما يَدُلُّ على انتفاء الصِّحة كان ذلك أحسن، من حيث إنه يكون مبالغة في البيان، وليس إذا كان غيره أحسن أن يكون ذلك قبيحاً.
فَصْلٌ في إعراب الآية قوله :" لا يَستَحيي " جملة في محلِّ الرفع خبراً لـ " أن "، واستفعل هنا للإغناء عن الثُّلاثي المجرّد.
وقال الزمخشري :" إنَّه مُوَافق له أي : قد ورد " حَيي "، و " استَحْيى " بمعنى واحد، والمشهور : اسْتَحْيَى يَسْتَحْيي فهو مستحيٍ ومُسْتَحْيىً منه من غير حَذْف ".
٤٦١
قال القرطبي :" ويستحيي " أصله يَسْتَحْييُ عينه ولامه حرفا علة أعلّت " اللام " منه بأن استثقلت الضمةُ على " الياء " فسكنت، والجمعُ مستحيون ومستحيين، وقد جاء استحى يستحي فهو مستح مثل : اسْتَقَى يَسْتَقِي.
وقرأ به ابن محيصن.
ويروى عن ابن كثير، وهي لغة " تميم " و " بكر بن وائل "، نقلت فيها حركة الياء الأولى إلى " الحاء " فسكنت، ثم استثقلت الضَّمة على الثانية، فسكنت، فحذف إحداهما للالتقاء، والجمعُ مستحون ومستحين، قاله الجوهري.
ونقل بعضهم أن المحذوف هنا مختلفٌ فيه ؛ فقيل : عينُ الكلمة، فوزنُه يَسْتَفِل.
وقيل : لامُه، فوزنه يَسْتَفِع، ثُمَّ نُقِلت حركةُ اللاَّم على القول الأوّل، وحركةُ العَيْن على القول الثاني إلى الفاء، وهي الحاء ؛ ومن الحذف قولُه :[الطويل] ٣٢٣ - ألا تَسْتَحِي مِنَّا المُلُوكُ وَتَتَّقِي
مَحَارِمَنا لاَ يَبُؤِ الدَّمُ بِالدَّمِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٩
وقال آخر :[الطويل] ٣٢٤ - إذا ما اسْتَحَيْنَ المَاءَ يَعْرِضُ نَفْسَهُ
كَرَعْنَ بِسبْتٍ في إِنَاءٍ مِنَ الوَرْدِ
و " استحيي " يتعدَّى تارة بنفسه، وتارة بحرف جرّ تقول : استحييتُه وعليه : إذا ما استحين الماء..
واستحييت منه ؛ وعليه : أَلاّ تستحي مِنَّا الملوك..
فيحتمل أن يكون قد تعدَّى في هذه الآية إلى أن يضرب بنفسه، فيكون في محل نصب قولاً واحداً، ويحتمل أن يكون تَعَدَّى إليه بحرف المحذوف، وحينئذٍ يجري الخلافُ المتقدّم في قوله :" أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ ".
و " يَضْرِب " معناه : يُبَيِّنُ فيتعدَّى لواحدٍ.
وقيل : معناه التصييرُ، فيتعدّى لاثنين نحو :" ضَرَبْتُ الطِّينَ لَبِناً ".
وقال بعضهم :" لا يتعدَّى لاثنين إلاَّ مع المثل خاصة "، فعلى القول الأوّلِ يكونُ "
٤٦٢
مَثَلاً " مفعولاً و " ما " زائدة.
وقال أبو مسلم الأصفهاني :" معاذ الله أنْ يكون في القرآن زيادة ".
وقال ابن الخطيب : والأصح قول أبي مُسْلِمِ ؛ لأن الله - تعالى - وصف القرآن بكونه : هدى وبَيَاناً، وكونه لَغْواً ينافي ذلك، فعلى هذا يكون " ما " صفة للنكرة قبلها، لتزداد النكرة اتساعاً.
ونظيره قولهم :" لأَمْرٍ مَّا جَدَعَ قَصيرٌ أَنْفُهُ " وقولُ امرئ القيس :[المديد] ٣٢٥ - وَحَدِيثُ الرَّكبِ يَوْمَ هُنَا
وَحَدِيثٌ مَّا عَلَى قِصَرِهْ