بالوعيد على أن يصير الباطنُ موافقاً للظاهر - في وقت التقية - ؛ لئلا يجرَّه ذلك الظاهرُ إلى الموالاةِ في الباطن، فبيَّن - تعالى - أن علمه بالظاهر كعِلْمِه بالباطن.
فإن قيل : قوله :﴿إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ﴾ شرط، وقوله :﴿يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾ جزاء، ولا شك أن الجزاء مترتِّب على الشرط، متأخِّرٌ عنه، فهذا يقتضي حدوثَ علمِ اللهِ تعالى.
فالجوابُ : أن تعلق علم الله بأنه حصل الآن لا يحصل إلا عند حصوله الآن، وهذا التجدُّد إنما يعرض في النِّسَب، والإضافات، والتعلُّقات، لا في حقيقة العلم.
فإن قيل : إن محل البواعثِ والضمائر هو القلب، فلم قال :﴿إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ ولم يَقُلْ :﴿مَا فِي قلُوبِكُمْ﴾ ؟ فالجوابُ : لأن القلبَ في الصدر، فجاز إقامة الصدر مقام القلب، كما قال :﴿يُوَسْوِسُ فِى صُدُورِ النَّاسِ﴾ [الناس : ٥].
فصل قوله :﴿قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ﴾ قلوبكم، من مودة الكفار وموالاتهم ﴿أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ﴾.
وقال الكلبيُّ : إن تُسرُّوا ما في قلوبكم لرسول الله ﷺ من التكذيب، أو تُظْهِرُوه، لحَرْبِهِ وقتاله يعلْمه الله، ويجازكم عليه.
قوله :" وَيَعْلَمُ " مستأنف، وليس منسوقاً على جواب الشرطِ ؛ لأن علمه بما في السموات وما في الأرض غير متوقِّف على شرط، فلذلك جِيء مستأنفاً، وقوله :﴿وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ﴾ من باب ذكر العام بعد الخاص.
﴿مَا فِى صُدُورِكُمْ﴾، وقدَّم - هنا - الإخْفَاءَ على الإبداء وجعل محلهما الصدور، بخلاف آية البقرةِ - فإنه قدَّم فيها الإبداء على الإخفاء، وجعل محلهما النفس، وجعل جواب الشرطِ المحاسبة ؛ تفنُّناً في البلاغة، وذكر ذلك للتحذير ؛ لأنه إذا كان لا يخفى عليه شيء فكيف يَخْفَى عليه الضميرُ ؟ قوله :﴿وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ وهو تمام التحذير ؛ لأنه إذا كان قادراً على جميع المقدورات كان - لا محالة - قادراً على إيصال حق كل أحد إليه، فيكون هذا تمام الوعدِ، والوعيد، والترغيب، والترهيب.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٤٦
أحدها : أنه منصوب بـ " قَدِيرٌ "، أي : قدير في ذلك اليوم العظيم، لا يقال : يلزم
١٤٧
من ذلك تقييد قدرته بزمان ؛ لأنه إذا قدر في ذلك اليوم الذي يُسْلَب فيه كلُّ أحدٍ قدرته، فلأنْ يقدرَ في غيره بطريق الأولى.
وإلى هذا ذهب ابو بكر ابن الأنباري.
الثاني : أنه منصوب بـ " يُحَذِّرُكُمْ "، أي : يخوفكم عقابه في ذلك اليوم، وإلى هذا نحا أبو إسحاق، ورجحه.
ولا يجوز أن ينتصب بـ " يُحَذِّرُكُمْ " المتأخرة.
قال ابن الأنباري : لا يجوز أن يكون اليوم منصوباً بـ " يُحَذِّرُكُمْ " المذكور في هذه الآية ؛ لأن واو النسق لا يعمل ما بعدها فيما قبلها ".
وعلى ما ذكره أبو إسحاق يكون ما بين الظرفِ وناصبه معترضاً، وهو كلامٌ طويلٌ، والفصل بمثله مستبعد، هذا من جهة الصناعة، وأما من جهة المعنى، فلا يصح ؛ لأن التخويف لم يقع في ذلك اليوم ؛ لأنه ليس زمانَ تكليف ؛ لأن التخويف موجود، واليوم موعود، فكيف يتلاقيان ؟ قال : أن يكون منصوباً بالمصير، والتقدير : وإلى الله المصير يومَ تَجِدُ، وإليه نحا الزّجّاجُ - أيضاً - وابن الأنباري ومكيٌّ، وغيرُهم، وهذا ضعيف على قواعد البصريين ؛ للزوم الفصل بين المصدر ومعموله بكلامٍ طويلٍ.
وقد يقال : إن جُمَل الاعتراضِ لا يُبَالَى بها في الفصل، وهذا من ذاك.
الرابع : أن يكون منصوباً بـ " اذكر " مقدراً، فيكون مفعولاً به لا ظرفاً، وقدر الطبريُّ الناصب له " اتَّقُوا "، وفي التقدير ما فيه من كونه على خلاف الأصلِ، مع الاستغناء عنه.
الخامس : أن العامل فيه ذلك المضاف المقدر قبل " نفسه "، أي : يحذركم اللهُ عقاب نفسه يوم تجد، فالعامل فيه " عقاب " لا " يحذركم " قاله أبو البقاء، وفي قوله :" لا يُحَذِّرُكُمْ " فرار عما أورد على أبي إسحاقَ كما تقدم.
السادس : أنه منصوب بـ " تَوَدُّ ".
قال الزمخشريُّ :" يَوْمَ تَجِدُ " منصوب بـ " تَوَدُّ " والضمير في " بينه " لليوم، أي : يوم القيامة حين تجد كل نفس خيرها وشرها تتمنى لو أن بينها، وبين ذلك اليوم، وهَوْله أمداً بعيداً ".
وهذا ظاهر حسنٌ، ولكن في هذه المسألة خلافٌ ضعيف ؛ جمهور البصريين والكوفيين على جوازها، وذهب الأخفشُ الفرّاءُ إلى مَنْعِهَا.
وضابط هذه المسألة أنه إذا كان الفاعلُ ضميراً عائداً إلى شيء مُتَّصِلٍ بمعمولِ الفعلِ نحو : ثَوْبَيْ أخَوْيك يلبسان، فالفاعل هو الألف، وهو ضمير عائد على " أخويك " المتصلين بمفعول " يلبسان " ومثله : غلام هندٍ ضربَتْ، ففاعل " ضربت " ضمير عائد على " هند " المتصلة بـ " غلام " المنصوب بـ " ضربت " والآية من هذا القبيل ؛ فإن فاعل " تَوَدُّ "
١٤٧