واختار إبراهيم بخمسة أشياءٍ : أولها : أنه خرج منها جراً إلى ربه ليَهْدِيه.
الثاني : أنه اتخذه خليلاً.
الثالث : أنه أنجاه من النار.
الرابع : أنه جعله للناس إماماً.
الخامس : أنه ابتلاه بالكلمات فوفقه حتى أتمهن.
وأما آل عمران فإن كان عمران أبا موسى وهارون فإنهم اختارهما على العالمين ؛ حيث أنزل على قومهما المن والسلْوى، وذلك لم يكن لأحد من الأنبياء في العالم وإن كان عمران أبا مريم فإنه اصطفى مريم بولادة عيسى من غير أب، ولك لم يكن لأحد من العالمين والله أعلم.
فصل ذكر الحليمي في كتابه - المنهاج للأنبياء - قال : لا بد وأن يكونوا مخالفين لغيرهم في القُوَى الجسمانية، والقوى الروحانية، أما القوى الجسمانية، فهي إما مُدْرِكة، وإمَّا محرِّكة ؛ أما المدركة فهي إما الحواس الظاهرة، وإما الحواس الباطنة، أما الحواس الظاهرة فهي خمسة : أحدها : القوة الباصرة، فكان ﷺ مخصوصاً بكمال هذه الصفة، لقوله :" زويت لي الأرض، فأريت مشارقها ومغاربها " وقوله :" أقيموا صفوفكم وتراصوا ؛ فإني أراكم من وراء ظهري " ونظير هذه القوة ما حصل لإبراهيم - عليه السلام - قال تعالى :﴿وَكَذَلِكَ نُرِى إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ﴾ [الأنعام : ٧٥] وذكر في تفسيرها أنه - تعالى قَوَّى بصره حتى شاهد جميع الملكوت من الأعلى والأسفل.
قال الحليمي : وهذا غير مُسْتبعَد ؛ لأن البُصراء يتفاوتون، فيُرْوَى أن زرقاء اليمامةِ كانت تُبْصِر الشيء من مسيرة ثلاثة أيام، فلا يبعد أن يكون بَصَرُ النبي ﷺ أقْوَى من بصرها.
١٦٣
وثانيها : القوة السامعة، فكان - عليه السلام - أقوى الناسِ في هذه القوة ؛ لقوله :" أطت السماء وحق لها أن تئط ؛ ما فيها موضع قدم إلا وفيه ملك ساجد لله تعالى ".
وسمع أطيط السماء وسمع دوياً فذكر أنه هويّ صخرة قذفت في جهنم، فلم تبلغ مقرها إلى الآن.
قال الحليمي : ولا سبيل للفلاسفة إلى استبعاد هذا ؛ فإنهم زعموا أن فيثاغورث راضَ نفسه حتى سمع حفيف الفلك.
ونظير هذه القوة لسليمان - عليه السلام - في قصة النملة حيث قالت :﴿ يا أيها النَّمْلُ ادْخُلُواْ مَسَاكِنَكُمْ﴾ [النمل : ١٨] فالله - تعالى - أسمع سليمان كلامَ النملة، وأوقفه على معناه وحصل ذلك لمحمد ﷺ حين تكلم مع الذئب والبعير والضَّبِّ.
وثالثها : تقوية قوة الشَّمِّ، كما في حق يعقوب - حين قال :﴿إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ﴾ [يوسف : ٩٤] فأحسّ بها من مسيرة ثلاثة أيامٍ.
ورابعها : تقوية قوة الذوقِ، كما في حق نبيِّنَا ﷺ حين قال :" إن هذا الذراع يخبرني بأنه مسموم ".
خامسها : تقوية قوة اللمس، كما في حق الخليل - عليه السلام - حيث جُعِلَتْ له النارُ بَرْداً وسلاماً وكيف يستبعد هذا ويُشَاهَد مثلُه في السَّمَنْدَل، والنعامة.
وأما الحواس الباطنة فمنها : قوة الحفظ، قال تعالى :﴿سَنُقْرِئُكَ فَلاَ تَنسَى ﴾ [الأعلى : ٦]، ومنها : قوة الذكاء : قال عليٌّ - رضي الله عنه - : علمني رسول الله ﷺ ألف باب من العلم، واستنبط من كلّ باب ألف باب.
فإذا كان حال الولي هكذا فكيف حال النبي ﷺ ؟ أما القوى المحرِّكة، فمثل عروج الرسول إلى المعراج، وعروج عيسى حيًّا إلى السماء، ورَفْع إدريس وإلياس - على ما وردت به الأخبار - قال تعالى :﴿قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾ [النمل : ٤٠].
وأما القوة الروحانية العقلية، فلا بد أن تكون في غاية الكمال، ونهاية الصفاء، إذا
١٦٤