عرفت هذا فقوله :﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً﴾ معناه أن الله اصطفى آدم، إمَّا من سكان العالم السفلي - على قول من يقول : الملك أفضل من البشر - أو من سكان العالم العلويّ والسفليّ - على قول من يقول : البشر أفضل المخلوقات - ثم وضع كمال القوة الروحانية في شعبة معينة، من أولاد آدم، وهم شيث وأولاده، إلى إدريس، ثم إلى نوح، ثم إلى إبراهيم، ثم حصل من إبراهيم شعبتان : إسماعيل وإسحاق فجعل إسماعيل مبدأ لظهور الروح القدسية لنبينا محمد ﷺ وجعل إسحاق مبدأ لشعبتين يعقوب وعيصو، فوضع النبوة في نسل يعقوب ووضع الملك في نسل عيصو، واستمرَّ ذلك غلى زمان نبينا محمد ﷺ فلما ظهر محمد نُقِل نور النبوة، ونور الملك إليه، وبقيا - أعني الدين والملك لا تباعد بينهما إلى قيام الساعة.
فصل من الناس من قال : المرادُ بآل إبراهيم : المؤمنون، لقوله تعالى :﴿أَدْخِلُوا ااْ آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ﴾ [غافر : ٤٦] والصحيح أن المراد بهم الأولاد : إسماعيل، وإسحاق، ويعقوب، والأسباط، وأن محمداً ﷺ من آل إبراهيم.
وقيل : المراد بآل إبراهيم وآل عمران إبراهيم وعمران نفسهما ؛ لقوله :﴿وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ﴾ [البقرة : ٢٤٨]، وقوله :ﷺ " لَقَد أعُطيَ مِزْمَاراً مِنْ مَزِامِيرِ آله دَاوُد ".
وقال الشاعر :[الطويل] ١٤١٢ - وَلاَ تَنْسَ مَيْتاً بَعْدَ مَيْتٍ أجَنَّهُ
عَلِيٌّ وعَبَّاسٌ وَآلُ أبِي بَكْرِ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٥٩
وقال الآخر :[الوافر] ١٤١٣ - يُلاَقِي مِنْ تَذَكر آل لَيْلَى
كَمَا يَلْقَى السَّليمُ مِنَ العِدَادِ
وقيل : المراد من آل عمران عيسى - عليه السلام - لأن أمه ابنة عمران.
وأما عمران فقيل : والد موسى، وهارون، وأتباعهما من الأنبياء.
وقال الحسن ووهب : المراد عمران بن ماثان، أبو مريم، وقيل اسمه عمران بن أشهم بن أمون، من ولد سليمان وكانوا من نسل يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم الصلاة والسلام - قالوا : وبين العمرانين ألف وثمانمائة سنة واحتج من قال بأنه والد مريم بذكر قصة مريم عقيبه.
١٦٥
قوله :﴿ذُرِّيَّةَ﴾ في نَصْبها وجهان : أحدهما : أنها منصوبة على البدل مما قبلها، وفي المُبْدَل منه - على هذا - ثلاثة أوجه : أحدها : أنها بدل من " آدَمَ " وما عُطِفَ عليه وهذا إنَّمَا يتأتَّى على قول من يُطْلِق " الذُّرِّيَّة " على الآباء وعلى الأبناء وإليه ذَهَب جماعةٌ.
قال الجرجاني :" الآية توجب أن تكون الآباء ذرية للأبناء والأبناء ذرية للآباء.
وجاز ذلك ؛ لأنه من ذرأ الخلق، فالأب ذُرِئ منه الولد، والولد ذرئ من الأب ".
قال الراغبُ :" الذرية يقال للواحد والجمع والأصل والنسل، لقوله تعالى :﴿حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ﴾ [يس : ٤٠] أي : آباءهم، ويقال للنساء : الذراريّ ".
فعلى هذين القولين صَحَّ جَعْل " ذُرِّيَّةٌ " بدَلاً من " آدم " بما عطف عليه.
قال أبو البقاء :" ولا يجوز أن يكون بدلاً من " آدم " ؛ لأنه ليس بذريته "، وهذا ظاهر إن أراد آدَمَ وحده دون مَنْ عُطِف عليه، وإن أراد " آدم " ومَنْ ذُكِرَ معه فيكون المانع عنده عدم جواز إطلاق الذُّرِّيَّة على الآباء.
الثاني - من وجهي البدل - أنها بدل من " نُوح " ومَنْ عطف عليه، وإليه نحا أبو البقاء.
الثالث : أنها بدل من الآلين - أعني آل إبراهيمَ وآل عمرانَ - وإليه نحا الزمخشريُّ.
يريد أن الأولين ذرية واحدة.
الوجه الثاني - من وجهي نصب " ذُرِّيَّةً " - النصب على الحال، تقديره : اصطفاهم حال كونهم بعضهم من بعض، فالعامل فيها اصطفى.
وقد تقدم القول في اشتقاق هذه اللفظة.
قوله :﴿بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ هذه الجملة في موضع نصب، نعتاً لِـ " ذُرِّيَّةً ".
فصل قيل :﴿بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ أي : بعضها من وَلَد بعض.
وقال الحسن وقتادة :﴿بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ﴾ في الضلالة.
وقيل : في الاجتباء والاصطفاء والنبوة.
وقيل : بعضها من بعض في التناصُر.
وقيل : بعضها على دين بعض - أي : في التوحيد، والإخلاص، والطاعة كقوله
١٦٦


الصفحة التالية
Icon