قلت : هو بيان لما في قوله :﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ﴾ من التعظيم للموضوع، والرفع منه، ومعناه : ليس الذكر الذي طلبت كالأنثى التي وُهِبَتْ لها، والألف واللام فيهما يحتمل أن تكون للعهد وأن تكون للجنس، على أن المراد : أن الذكر ليس كالأنثى في الفضل والمزية ؛ إذ هو صالح لخدمة المتعبدات والتحرير ولمخالطة الأجانب، بخلاف الأنثى ؛ لِما يعتريها من الحيض، وعوارض النسوان.
وكان سياقُ الكلام - على هذا - يقتضي أن يدخل النفي على ما استقر، وحصل عندَها، وانتفت عنه صفاتُ الكمال للغرض المقصود منه، فكان التركيبُ : وليس الأنثى كالذكر، وإنما عدل عن ذلك ؛ لأنها بدأت بالأهم لما كانت تريده، وهو المُتَلَجلِج في صدرها، والحائل في نفسها، فلم يَجْرِ لسانُها في ابتداء النطق إلا به، فصار التقديرُ : وليس جنسُ الذكرِ مثل جنس الأنثى، لما بينهما من التفاوتِ فيما ذكر، ولولا هذه المعاني التي استنبطها العلماء، وفهموها عن الله - تعالى - لم يكن لمجرد الإخبار بالجملة الليسية معنًى ؛ إذ كلُّ أحدٍ يعلَمُ أن الذكر لَيْسَ كالأنثى.
وقوله :﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾ هذه الجملة معطوفة على قوله ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَآ﴾ على قراءة مَنْ ضَمَّ التاء في قوله وضعت فتكون هي وما قبلها في محل نصب بالقول، والتقدير : قالت : إني وضعتُها، وقالت : والله أعلم بما وَضَعْتُ، وقالت : وليس الذكر كالأنثى، وقالت : إنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَم.
وأما على قراءة من سكن التاء أو كسرها فتكون ﴿وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا﴾ أيضاً معطوفاً على ﴿إِنِّي وَضَعْتُهَآ﴾ ويكون قد فصل بين المتعاطفَيْن بجملتي اعتراض، كقوله تعالى :﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة : ٧٦] قاله الزمخشريُّ.
قال أبو حيّان :" ولا يتعين ما ذكر من أنهما جملتان معترضتان ؛ لأنه يحتمل أن يكون :﴿وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾ من كلامها في هذه القراءة " ويكون المعترض جملة واحدة - كما كان من كلامها في قراءة من قرأ " وَضَعْتُ " بضم التاء - بل ينبغي أن يكون هذا المتعيِّن ؛ لثبوت كونه من كلامها في هذه القراءة، ولأن في اعتراضِ جملتين خلافاً لمذهب أبي علي الفارسي من أنه لا يعترض جملتان.
وأيضاً تشبيهه هاتين الجملتين اللتين اعترض بهما - على زعمه - بين المعطوف والمعطوفِ عليه، بقوله :﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ [الواقعة : ٧٦] ليس تشبيهاً مطابقاً للآية ؛ لأنه لم يعترض جملتان بين طالب ومطلوب، بل اعترض بين القسم - الذي هو ﴿فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ﴾ [الواقعة : ٧٥] - وبين جوابه - الذي هو ﴿إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ﴾ [الواقعة : ٧٧] - بجملة واحدة - وهي قوله :﴿وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ﴾ - لكنه جاء في جملة
١٧٥
الاعتراض - بين بعض أجزائها، وبعض اعتراض بجملة - وهي قوله :﴿لَّوْ تَعْلَمُونَ﴾ اعتراضٌ بها بين المنعوتِ الذي هو " لَقَسَمٌ " - وبين نعته - الذي هو " عَظِيمٌ " - فهذا اعتراضٌ، فليس فصلاً بجملتي اعتراض كقوله :﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى ﴾.
قال شهابُ الدين : والمشاحَّة بمثل هذه الأشياء ليست طائلة، وقوله :" ليس فصلاً بجملتي اعتراض " ممنوع، بل هو فَصْلٌ بجملتي اعتراض، وكونه جاء اعتراضاً في اعتراض لا يضر ولا يقدَح في قوله : فصل بجملتين " فـ " سمى " يتعدى لاثنين، أحدهما بنفسه، وإلى الآخر بحرف الجر، ويجوز حذفه، تقول : سميت زيداً، و الأصل : بزيدٍ، وجمع الشاعرُ بين الأصل والفرع في قوله :[المتقارب] ١٤١٨ - وَسُنِّيْتَ كَعباً بِشَرِّ الْعِظَامِ
وَكَانَ أبُوكَ يُسَمَّى الْجَعَل
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٦٧


الصفحة التالية
Icon