واختلفوا في كَفَالةِ زكريا - عليه الصلاة والسلام - إياها، فقال الأكثرون : كان ذلك حال طفولتها، وبه جاءت الروايات.
وقال بعضهم : بل إنما كفلها بعد أن طمثت، واحتجوا بوجهين : أحدهما : قوله تعالى :﴿وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً﴾ ثم قال :﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا﴾ وهذا يوهم أن تكل الكفالة بعد ذلك النباتِ الحسنِ.
الثاني : أنه - تعالى - قال :﴿وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَـذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللَّهِ﴾ وهذا يدل على أنها كانت قد فارقت الرضاع في وقت تلك الكفالة.
وأجيبوا عن الأول بأن الواو لا توجب الترتيب، فلعل الإنباتَ الحسنَ وكفالة زكريا حَصَلا معاً.
وعن الثاني بأن دخول زكريا عليها، وسؤالَه لها هذا السؤالَ لعله وقع في آخرِ زمانِ الكفالةِ.
قوله :﴿كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ﴾ " المحراب " فيه وجهان : أحدهما : وهو مذهب سيبويه أنه منصوب على الظرف، وشذ عن سائر أخواته بعد " دَخَلَ " خاصَّةً، يعني أن كل ظرف مكان مختص لا يصل إليه الفعل إلا بواسطة " في " نحو صليت في المحراب - ولا تقول : صليت المحرابَ - ونِمْتُ في السوقِ - ولا تقول : السوقَ - إلا مع دخل خاصة، نحو دخلت السوق والبيت...
الخ.
وإلا ألفاظاً أخر مذكورة في كتب النحو.
والثاني مذهب الأخفش وهو نَصب ما بعد " دَخَلَ " على المفعول به لا على الظرف فقولك : دخلت البيت، كقولك : هدمت البيت، في نصب كل منهما على المفعول به - وهو قول مرجوح ؛ بدليل أن " دَخَلَ " لو سُلِّطَ على غير الظَّرْفِ المختص وجب وصوله بواسطة " في " تقول : دخلتُ في الأمر - ولا تقول : دخلت الأمر - فدل ذلك على عدم تَعَدِّيه للمفعول به بنفسه.
١٨٢
والجواب : قال ابو عبيدة : هو سَيِّدُ المجالس ومقدَّمها وأشرفها، وكذلك هو من المسجد.
وقال أبو عمرو بن العلاء : هو القصر ؛ لعُلُوِّه وشَرَفِهِ.
وقال الأصمعيُّ : هو الغُرْفَة.
وأنشد لامرئِ القيس :[الطويل] ١٤٢١ - وَمَاذَا عَلَيْهِ أنّ ذَكَرْتَ أو أنِسَا
كَغِزْلاَنِ رَمْلٍ فِي مَحَارِيبِ أقْيَالِ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٦٧
قالوا معناه : في غرف أقيال.
وأنشد غيره - لعُمَرَ بن أبي ربيعة :[السريع] ١٤٢٢ - رَبَّةُ مِحْرَابٍ إذَا ما جِئْتُهَا
لَمْ أدْنُ حَتَّى أرْتَقِي سُلَّما
وقيل : هو المحراب من المسجد المعهود، وهو الأليق بالآية.
وقد ذكرناه عمن تقدم فإنما يَعْنُونَ به : المحراب من حيث هو، وأما في هذه الآية فلا يظهر بينهم خلاف في أنه المحراب المتعارف عليه.
واستدل الأصمعيّ على أن المحراب هو الغرفة بقوله تعالى :﴿إِذْ تَسَوَّرُواْ الْمِحْرَابَ﴾ [ص : ٢١] فوجه الإمالة تقدم الكسرة، ووجه التَّفْخِيم أنه الأصل.
قوله :﴿وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً﴾ " وجد " هذه بمعنى أصاب ولَقِيَ وصَادَفَ، فيتعدى لِواحِدٍ وهو " رِزْقاً " و " عندها " الظاهر أنه ظرف للوجدان.
وأجاز أبو البقاء أن يكون حالاً من " رِزْقاً " ؛ لأنه يصلح أن يكون صفة له في الأصل، وعلى هذا فيتعلق بمحذوف، فـ " وجد " هو الناصب لِـ " كُلَّمَا " لأنها ظرفية، وأبو البقاء سمَّاه جوابها ؛ لأنها عنده الشرط كما سيأتي.
١٨٣
قوله :﴿قَالَ يا مَرْيَمُ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه مستأنف، قال ابو البقاء :" ولا يجوز أن يكون بدلاً من " وَجَدَ " ؛ لأنه ليس بمعناه ".
الثاني : أنه معطوف بالفاء، فحذف العاطف، قال أبو البقاء :" كما حذفت في جواب الشرط في قوله تعالى :﴿وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ﴾ [الأنعام : ١٢١]، وكذلك قول الشاعر :[البسيط] ١٤٢٣ - مَنْ يَفْعَلِ الْحَسَنَاتِ اللهُ يَشْكُرُهَا
..............................


الصفحة التالية
Icon