العاقر.
الثالث : تنكير الرزق في قوله :" رِزْقاً " فإنه يدل على تعظيم حال ذلك الرزق كأنه قيل : رزق وإنه رزق عديب فلولا أنه خارق للعادة لم يفد الغرض اللائق بسياق الآية.
الرابع : أنه - تعالى - قال :﴿وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء : ٩١] ولولا أنه ظهر عليها الخوارق وإلا لم يصح ذلك.
الخامس : تواتُر الروايات على أن زكريا - عليه السلام - كان يجد عندها فاكهةَ الصيف في الشتاء، وفاكهة الشتاء في الصيف فثبت أن الذي ظهر في حق مريم عليها الصلاة والسلام كان خارقاً للعادة، وإذا ثبت ذلك فنقول : إمّا أنه كان معجزةً لبعض الأنبياء أو ما كان كذلك، والأول باطل ؛ لأن النبيَّ الموجودَ في ذلكَ الزمانِ زكريا - عليه السلام - ولو كان ذلك معجزةً له لكان عالماً بحاله، ولم يَشْتبه أمْرُه عليه، ولم يَقُلْ لـ " مريم " أنَّى لَكِ هَذَا ؟ وأيضاً فقوله ﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ مُشْعِرٌ بأنه لما سألها ذكرت له أن ذلك من عند الله، فهنالك طمع في انخراق العادةِ في حصول الولد من المرأة الشيخة العقيم العاقر وذلك يدل على أنه ما وقف على تلك الأحوال إلا من إخبار مريم، وإذا كان كذلك، وإذا ثبت أن تلك الخوارق ما كانت معجزةً لزكريا - عليه السلام - فلم يَبْقَ إلاَّ أنها كانت لمريم عليها السلام إما بسبب ابنها أو لعيسى عليه الصلاة والسلام كرامة لمريم، وعلى التقديرين فالمقصود حاصل.
قال أبو علي الجبائي : لم لا يجوز أن يقال تلك الخوارق كانت معجزات زكريا - عليه السلام - لوجهين : الأول : أن زكريا دعا لها على الإجمال أن يوصل الله إليها رزقها، وأنه كان غافلاً عما يأتيها من الأرزاق من عند الله، فإذا رأى شيئاً بعينه في وقت معيَّن قال لها : أنَّى لكِ هذا ؟ فقالت هو من عند الله، فعند ذلك يعلم أن الله أظهر بدعائه تلك المعجزةَ.
الثاني : يحتمل أن يكون زكريا شاهد عند مريم رزقاً معتاداً، إلا أنه كان يأتيها من السماء، وكان زكريا يسألها عن ذلك، حَذَراً من أن يكون يأتيها من عند إنسان يبعثه إليها، فقالت : هو من عند الله لا من عند غيره.
وأيضاً لا نسلم أنه كان قد ظهر على مريم شيء من الخوارق، بل معنى الآية أن الله - تعالى - كان قد سبب لها رزقاً على أيدي المؤمنين الذين كانوا يرغبون في الانفاق على الزاهداتِ العابداتِ، فكأن زكريا عليه الصلاة والسلام لمّا رأى شيئاً من ذلك خاف أنه رُبَّما أتاها ذلك الرزق من جهةٍ لا ينبغي، فكان يسألها عن كيفية الحال.
والجواب عن الأول والثاني : أنه لو كان معجزاً لزكريا لكان زكريا مأذوناً له من عند الله في طلب ذلك، ومتى كان مأذوناً له في ذلك الطلب كان عالماً - قطعاً - بأنه يحصل، وإذا علم ذلك امتنع أن يطلب منها كيفية الحال، ولم يكن لقول :﴿هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ﴾ فائدة.
والجواب عن الثالث : أنه - على هذا التقدير - لا يبقى لاختصاص مريم بمثل هذه الواقعة وجه.
أيضاً فإن كان في قلبه احتمال أنه ربما أتاها هذا الرزق من الوجه الذي لا يليق، فبمجرد إخبارها كيف يعقل زوال تلك التهمة ؟ فسقطت هذه الأسئلة.
واحتج المعتزلة على امتناع الكرامات بأنها دلالات صدق الأنبياء، ودليل النَّبِيِّ لا يوجد مع غير النبي، كما أن الفعل المُحْكَم - لما كان دليلاً على العلم لا جرم - لا يوجد في حَقِّ غَيْرِ العالمِ.
والجواب من وجوه : الأول : أن ظهور الفعل الخارق للعادة دليل على صدق المدَّعِي، فإن ادَّعَى صاحبهُ النبوةَ، فذلك الفعل الخارق للعادة يدل على كونه نبيًّا، وإن ادَّعَى الولايةَ، فذلك يدل على كونه وليًّا.
١٨٦
والثاني : قال بعضهم :" الأنبياء مأمورون بإظهارها، والأولياء مأمورون بإخفائها ".
والثالث : أن النبي يدَّعي المعجزة ويقطع به، والولي لا يمكنه القطع به.
الرابع : أن المعجزة يجب انفكاكها عن المعارضة، والكرامة لا يجب انفكاكها عن المعارضة.
قوله :﴿إنًّ اللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يُحْتَمَل أن يكون من جملة كلام مريم - عليها السلام - فيكون منصوباً.
ويحتمل أن يكون مستأنفاً، من كلام الله تعالى، وتقدم الكلامُ على نظيره.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٦٧
" هنا " هو الاسم، واللام للبعد، والكاف حرف خطاب، وهو منصوب على الظرف المكاني بـ " دَعَا " وزان " ذلك "، وهو منصوب على الظرف المكاني، بـ " دعا " أي : في ذلك المكان الذي راى فيه ما رأى من أمر مريمَ، وهو ظرف لا يتصرف بل يلزم النصبَ على الظرفية بـ " مِنْ " وَ " إلَى ".
قال الشاعر :[الرجز] ١٤٢٦ - قَدْ وَرَدَتْ مِنْ أمكِنَهْ
مِنْ هَاهُنَا وَمِنْ هُنَهْ