وحكمه حكم " ذَا " من كونه يُجَرَّد من حرف التنبيه، ومن الكاف واللام، نحو " هُنَا " وقد يَصْحَبه " ها " التنبيه، نحو هاهنا، ومع الكاف قليلاً، نحو ها هناك، ويمتنع الجمع بينها وبين اللام.
وأخوات " هنا " بتشديد النون مع فتح الهاء وكسرها - و " ثَمَّ " بفتح الثاء - وقد يقال :" هَنَّت ".
ولا يشار بـ " هُنَالِكَ " وما ذُكِرَ مَعَهُ إلا للأمكنة، كقوله :﴿فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ﴾ [الأعراف : ١١٩] وقوله :﴿هُنَالِكَ الْوَلاَيَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ﴾ [الكهف : ٤٤] وقوله :﴿دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً﴾ [الفرقان : ١٣].
١٨٧
وقد زعم بعضهم أن " هُنا " و " هناك " و " هنالك " للزمان، فمن ورود " هنالك " بمعنى الزمان عند بعضهم - هذه الآية أي : في ذلك الزمان دعا زكريا ربه، ومثله :﴿هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [الأحزاب : ١١]، وقوله :﴿فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ﴾ ومنه قول زهير :[الطويل] ١٤٢٧ - هُنَالِكَ إنْ يُسْتَخْبَلُوا الْمَالَ يُخْبِلُوا
.............................
ومن " هنَّا " قوله :[الكامل] ١٤٢٨ - حَنَّتْ نُوَارُ وَلاَتَ هَنَّا حَنَّتِ
وَبَدَا الَّذِي كَانَتْ نَوَارُ أجَنَّتِ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٨٧
لأن " لات " لا تعمل إلا في الأحيان.
وفي عبارة السجاوندي أن " هناك " في المكان، و " هنالك " في الزمان، وهو سهو ؛ لأنها للمكان سواء تجردت، أو اتصلت بالكاف واللام معاً، أم بالكاف من دون اللام.
فصل ذكر المفسّرون أن زكريا - عليه السلام - لما رأى خَوَارِقَ العادة عند مريم طمع في خرق العادةِ في حقه، فرزقه الله الولد من الشيخة العاقر.
فإن قيل : لِمَ قلتم : إنَّ زكريا - عليه السلام - ما كان عالماً بأن الله قادر على خَرْق العادة إلا عند مشاهدة تلك الكرامات عند مريم، وهذه النسبة شَكٌّ في قدرة الله - تعالى - من زكريا، وإن قلتم بأنه كان عالماً بقدرة الله تعالى على ذلك لم تكن المشاهدة سبباً لزيادة علمه بقدرة الله - تعالى - فلم يكن لمشاهدته لتلك الكرامات أَثرٌ في السببية ؟ فالجواب : أنه كان عالماً قبل ذلك بالخوارق، أما أنّه هل تقع أم لا ؟ فلم يكن عالماً به، فلما شاهد وعلم أنه إذا وقع كرامة لوَلِيّ فبأن يجوز وقوع معجزة لنبيّ كان أولى، فلا جرم قوي طمعه عند ذلك.
قوله :﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ فيه وجهان : أحدهما : أنه يتعلق بـ " هَبْ " وتكون " مِنْ " لابتداء الغاية مجازاً، أي : يا رب هَبْ
١٨٨
لي من عندك.
ويجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه في الأصل صفة لِـ " ذُرِّيَّة " فلما قُدِّم عليها انتَصَبَ حالاً.
وتقدم الكلام على " لَدُنْ " وأحكامها.
قال ابن الخطيب :" وقول زكريا :﴿هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً﴾ لما لم تكن أسباب الولادة في حقه موجودة، قال :﴿مِن لَّدُنْكَ﴾ أي بمحض قدرتك، من غير شيء من هذه الأسباب ".
فصل الذرية : النسل، وهو يقع على الواحدِ والجمعِ والذكرِ والأنثى، والمراد - هنا - ولد واحد، وهو مثل قوله :" فهب لي من لدنك وليًّا ".
قوله :﴿طَيِّبَةً﴾ إن أريد بـ " ذُرِّيَّة " الجنس، فيكون التأنيث في " طيِّبة " باعتبار تأنيث الجماعة، وإن أريد به ذَكر واحد فالتأنيث باعتبارِ اللفظِ.
قال الفراء : وأنّث " طَيِّبَةً " لتأنيث لفظ " الذرية " كما قال القائل في ذلك البيت :[الوافر] ١٤٢٩ - أبُوكَ خَلِيفَةٌ وَلَدَتْهُ أخْرَى
وَأنْتَ خَلِيفَةٌ ذَاكَ الْكَمَالُ
الشخص، فإذا كان مذكَّراً لم يجز فيه إلا التذكيرُ، وقد جمع الشاعر بين التذكير والتانيث في قوله :[الطويل] ١٤٣٠ - فَمَا تَزْدَرِي مِنْ حَيَّةٍ جبَلِيَّةٍ
سُكَاتٍ إذَا مَا عَضَّ لَيْسَ بِأدْرَدَا
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٨٧
قوله ﴿سَمِيعٌ الدُّعَآءِ﴾ مثال مبالغة، مُحَوَّل من سامع، وليس بمعنى مُسْمِع ؛ لفساد المعنى ؛ لأن معناه إنك سامعه، وقيل : مُجِيبه، كقوله :﴿إِنِّى آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ﴾ [يس : ٢٥] أي : فأجيبوني، وكقول المصلي : سَمِعَ اللهُ لِمَنْ حَمِدَهُ، يريد قبل اللهُ حَمْدَ مَنْ حَمِدَهُ من المؤمنين.

فصل قال القرطبيُّ : دَلَّتْ هذه الآيةُ على طلب الولد، وهي سُنَّةُ المرسلين والصِّدِّيقينَ.


١٨٩


الصفحة التالية
Icon