والعطف بالفاء - في قوله " فَنَادَتْهُ " - مُؤذِنٌ بأن الدعاء مُتَعقب بالتبشير.
والنداء : رفع الصوت، يقال : نادَى ندَاء - بضم النون وكسرها - والأكثر في الأصوات مجيئها على الضم، نحو البُكَاء، والصُّراخ، والدُّعاء، والرُّغاء.
وقيل : المكسور مصدر، والمصموم اسم.
ولو عُكِسَ هذا لكان أبْيَنَ ؛ لموافقته نظائره من المصادر.
قال يعقوب بن السكيت : إن ضمّيت نونه قصرته، وإن كسرتها مددته.
وأصل المادة يدل على الرفع، ومنه المنْتَدَى والنادي ؛ لاجتماع القوم فيهما وارتفاع أصواتهم.
وقالت قريش : دار الندوة، لارتفاع أصواتهم عند المشاورة والمحاورة فيها، وفلان أنْدَى صَوْتاً من فلان - أي : أرفع - هذا أصله في اللغة، وفي العرف : صار ذلك لأحسنها نَغَماً وصوتاً، والنَّدَى : المَطَر، ومنه : نَدِيَ، يَنْدَى، ويُعَبَّر به عن الجود، كما يُعَبَّر بالمطر والغيث عنه استعارةً.
قوله :﴿وَهُوَ قَائِمٌ﴾ جملة حالية من مفعول النداء، و " يُصَلِّي " يحتمل أوجهاً : أحدها : أن يكون خبراً ثانياً - عند مَنْ يرى تَعَدُّدَه مطلقاً - نحو : زيدٌ شاعرٌ فقيهٌ.
الثاني : أنه حال من مفعول النداء، وذلك - أيضاً - عند مَنْ يجوِّز تعدُّدَ الحال.
الثالث : أنه حال من الضمير المستتر في " قَائِمٌ " فيكون حالاً من حال.
الرابع : أن يكون صفة لِـ " قَائِمٌ ".
قوله :﴿فِي الْمِحْرَابِ﴾ متعلق بـ " يُصَلِّي، ويجوز أن يتعلق بـ " قَائِمٌ " إذا جعلنا يُصَلِّي حالاً من الضمير في " قَائِمٌ " ؛ لأن العامل فيه - حينئذ - وفي الحال شيء واحد، فلا يلزم فيه فَصْل، أما إذا جعلناه خبراً ثانياً أو صفة لِـ " قَائِمٌ " أو حالاً من المفعول لزم الفصلُ بين العاملِ ومعمولهِ بأجنبيٍّ.
هذا معنى كلام أبي حيّان.
قال شِهَابُ الدِّيْنِ : والذي يظهر أنه يجوز أن تكون المسألة من باب التنازع ؛ فإن كُلاًّ من " قَائِمٌ " و " يصلِّي " يصح أن يتسلَّط على " فِي الْمِحْرَابِ " وذلك على أي وجهٍ تقدم من وجوه الإعراب.
والمحراب - هنا - : المسجد.
قوله :﴿إِنَّ اللَّهَ﴾ قرأ نافع وحمزة وابن عامر بكسر " إنَّ " والباقون بفتحها، فالكسر عند الكوفيين ؛ لإجراء النداء مُجْرَى القولِ، فيُكْسر معه، وند البصريين، على إضْمار القول - أي : فنادته، فقالت.
والفتح والحذف - على حذف حرف الجر، تقديره : فنادته
١٩٢
بأن الله، فلما حُذِفَ الخافض جَرَى الوجهان المشهوران في مَحَلِّها.
وفي قراءة عبد الله :" فنادته الملائكة يا زكريا " فقوله :" يا زكريا " هو مفعول النداء، وعلى هذه القراءة يتعين كسر " إن " ولا يجوز فتحُها ؛ لاستيفاء الفعلِ معموليه، وهما الضمير وما نُودي به زكريا.
قوله :﴿يُبَشِّرُكَ﴾ قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر وعاصم الخمسة في هذه السورة ﴿أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ﴾ - في موضعين - وفي سورة الإسراء :﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الإسراء : ٩] وفي سورة الكهف :﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ - بضم الياء، وفتح الباء، وكسر الشين مشددة - من بَشَّرَه، يُبَشِّرُه.
وقرأ نافع وابن عامر وعاصم - ثلاثتهم - كذلك في سورة الشورى، وهو قوله :﴿ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُواْ﴾ [الشورى : ٢٣].
وقرأ الجميع - دون حمزة - - كذلك في سورة براءة :﴿يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ﴾ [التوبة : ٢١] وفي الحجر - في قوله :﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الحجر : ٥٣] - ولا خلاف في الثاني - وهو قوله :﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر : ٥٤] - أنه بالتثقيل.
وكذلك قرأ الجميع - دون حمزة - في سورة مريم - في موضعين ﴿إِنَّا نُبَشِّرُكَ﴾ [مريم : ٧] وقوله :﴿لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ﴾ [مريم : ٩٧].
وكل من لم يذكر من قرأ بالتقييد المذكور فإنه يقرأ بفتح حرف المضارعة، وسكون الياء وضم الشين.
وإذا أردت معرفة ضبط هذا الفَضل، فاعلم أن المواضع التي وقع فيها الخلاف المذكور تسع كلماتٍ، والقُرَّاء فيه على أربع مراتبٍ : فنافع وابن عامر وعاصم ثَقَّلُوا الجميعَ.
وحمزة خفّف الجميع إلا قوله :﴿فَبِمَ تُبَشِّرُونَ﴾ [الحجر : ٥٤].
وابن كثير وأبو عمرو ثقلا الجميعَ إلا التي في سورة الشورَى فإنهما وافقَا فيها حمزة.
والكسائي خفَّف خمساً منها، وثقَّل أربعاً، فخفَّفَ كلمتي هذه السورةِ، وكلمات الإسراء والكهفِ والشورَى.
وقد تقدم أن في هذا الفعل ثلاث لغاتٍ : بشَّر - بالتشديد - وبَشَرَ - بالتخفيف -.
١٩٣
وعليه ما أنشده الفراء قوله :[الطويل] ١٤٣١ - بَشَرْتَ عِيَالِي إذْ رَأيْتَ صَحِيفَةً
أتَتْكَ مِنَ الْحَجَّاجِ يُتْلَى كِتَابُهَا
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٨٧
الثالثة : أبْشَرَ - رباعياً - وعليه قراءة بعضهم " يُبَشِّرُكَ " - بضم الياء.
ومن التبشير قول الآخر :[الكامل] ١٤٣٢ - يَا بِشْرُ حُقَّ لِوَجْهِكَ التَّبْشِيرُ
هَلاَّ غَضِبْتَ لَنَا وَأنْتَ أمِيْرُ ؟