فإن قيل : أيجوز بلغني البلد في موضع بلغت البلد ؟ فالجواب : أنه لا يجوز، والفرق بينهما أن الكِبَر كالشيء الطالب للإنسان، فهو يأتيه بحدوثه فيه والإنسان أيضاً يأتيه - أيضاً - بمرور السنين عليه، أما البلد فليس كالطالب للإنسان الذاهب، فظهر الفرقُ.
فصل قدم في هذه السورة حال نفسه، وأخَّر حالَ امرأته، وفي سورة مريم عكس.
فقيل : لأن ضَرْبَ الآيات - في مريم - مطابق لهذا التركيب ؛ لأنه قدَّم وَهْنَ عَظْمِه، واشتعالَ شيْبه، وخوفه مواليه ممن ورائه، وقال :" وَكَانَتِ امْرَأتِي عَاقِراً " فلما أعاد ذِكْرَهما
٢٠٢
في استفهامه أخر ذِكْر الكِبَر، ليوافق رؤوس الآي - وهي باب مقصود في الفصاحة - والعطف بالواو لا يقتضي ترتيباً زمانيًّا فلذلك لم يبال بتقديم ولا تأخير.
فصل الغلام : الفَتِيُّ السِّنِّ من الناس - وهو الذي بَقَلَ شَارِبُه - وإطلاقه على الطفل وعلى الكهل مجاز ؛ أما الطفل فللتفاؤل بما يئول إليه، وأما الكهل، فباعتبار ما كان عليه.
قالت ليلى الأخيليّة :[الطويل] ١٤٤١ - شَفَاهَا مِنَ الدَّاءِ الْعُضَالِ الَّذِي بِهَا
غُلاَمٌ إذَا هَزَّ القَنَاةَ سَقَاهَا
وقال بعضهم : ما دام الولد في بطن أمِّه سُمِّي جَنِيناً، قال تعالى :﴿وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ﴾ [النجم : ٣٢] سمي بذلك لاجتنانه في الرحم، فإذا وُلِدَ سُمِّي صَبِيًّا، فإذا فُطِمَ سمي غُلاماً إلى سبع سنين، ثم يُسَمَّى يافعاً إلى أن يبلغ عشر سنين، ثم يُطْلَق عليه حَزَوَّر إلى خمس عشرة سنة، ثم يصير قمراً إلى خمس وعشرين سنةً، ثم عنطْنَطاً إلى ثلاثين.
قال الشاعر :[الطويل] ١٤٤٢ - وَبِالْمَخْضِ حَتَّى صَارَ جَعْداً عَنَطْنَطاً
إذَا قَامَ سَاوَى غَارِبَ الْفَحْلِ غَارِبُهْ
ثم حَلْحَلاً إلى أربعين، ثم كَهْلاً إلى خمسين - وقيل : إلى ستين - ثم شيخاً إلى ثمانين، وسيأتي له مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند قوله :﴿فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً﴾ [آل عمران : ٤٦] ثم هو راغم بعد ذلك.
واشتقاق " الغلام " من الغِلْمَة والاغتلام، وهو طلب النكاح، لما كان مسبباً عنه أخذ منه لفظه.
ويقال : اغتلم الفَحْلُ : أي : اشتدت شهوتُه إلى طلب النكاح، واغتلم البحر، أي : هاج وتلاطمت أمواجه، مستعار منه.
وجمعه - في القلة - أغْلِمَةٌ، وفي الكثرة : غِلْمان، وقد جمع - شذوذاً - على غِلْمَة، وهل هذه الصيغة جمع تكسير أو اسم جمع ؟ قال الفراء :" يقال : غلام بيِّن الغلومة والغلومِيَّة والغُلامية، قال : والعرب تجعل مصدر كل اسم ليس له فعل معروف على هذا المثال فيقولون : عبد بَيِّنُ العبودية والعُبَاديَّة - يعني لم تتكلم العرب من هذا بفعل - ".
قال القرطبي : والغَيْلم : ذكر السلحفاة، والغَيْلم : موضع.
٢٠٣
وهي مصدر كَبِر يَكْبَر كِبَراً أي : طعن في السِّنِّ، قال :[الطويل] ١٤٤٣ - صَغِيرَيْنِ نَرْعَى الْبَهْمَ يَا لَيْتَ أنَّنَا
إلَى الْيَوْمِ لَمْ نَكْبَرْ وَلَمْ تَكْبَرِ البَهْمُ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٨٧
فصل قال الكلبيُّ : كان زكريا - يوم بُشِّر بالولد - ابن ثنتين وتسعين سنة.
وقيل : ابن ثنتين وسبعين سنة.
وروى الضحاك - عن ابن عباسٍ - قال : كان ابن عشرين ومائة سنة، وكانت امرأته بنت ثمان وتسعين سنةً.
فإن قيل : قوله :﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ﴾ خطاب مع الله، أو مع الملائكة، وليس جائزاً أن يكون مع الله تعالى ؛ لأن الآية المقدمةَ دلَّت على أن الذين نادَوْه هم الملائكةُ، وهذا الكلام، لا بُدَّ أن يكون خطاباً مع ذلك المنادَى لا مع غيره، وليس جائزاً أن يكون خطاباً مع الملك ؛ لأنه لا يجوز أن يقول الإنسان للملك : يا رب، فذكر المفسّرون فيه جوابَيْنِ : أحدهما : أن الملائكة لما نادَوه وبَشَّروه تعجَّب زكريا، ورجع في إزالة ذلك التعجُّب إلى الله - تعالى -.
الثاني : أنه خطاب مع الملائكة، و الربُّ إشارة غلى المربِّي، ويجوز وَصْف المخلوقِ به، فإنه يقال : فلان يربيني ويُحْسِن إليَّ.
فإن قيل : لم قال زكريا - بعدما وعده الله وبشره بالولد - :" أنى يكون لي غلام " أكان ذلك عنده محال أو شَكًّا في وعد الله وقدرته ؟ فالجواب : من وجوهٍ : أحدها : إن قلنا : معناه من أين ؟ هذا الكلام لم يكن لأجل أنه لو كان لا نُطْفَةَ إلا مِن خَلْق، ولا خَلْقَ إلا من نطفة، لزم التسلسل، ولزم حدوث الحوادث في الأزل - وهو محال - فعلمنا أنه لا بد من الانتهاء إلى مخلوق خلقه الله - تعالى - لا من نطفة، أو من نطفة خلقها اللهُ - تعالى - لاَ مِنْ إنسان.
[ثانيها] : يحتمل أن زكريَّا طلب ذلك من الله - تعالى - فلو كان ذلك محالاً ممتنعاً لَمَا طلبه من الله - تعالى -.
وإذا كان معنى " أنَّى " : كيف، فحدوث الولد يحتمل وجهين : أحدهما : أي منع شيخوخته، وشيخوخة امرأته، أو يجعله وامرأته شابين، أو يرزقه الله
٢٠٤