ولداً من امرأة أخْرَى، فقوله :﴿رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ﴾ معناه : كيف تعطيني الولد ؟ فسأل عن الكيفية على القسم الأول، أمّا على القسم الثاني فقال مستفهماً لا شاكاً.
قاله الحسنُ والأصمّ.
وثانيهما : أن من كان آيساً من الشيء مستبعِداً لحصوله ووقوعه، إذا اتفق أن حصل له ذلك المقصود، فربما صار كالمدهوش من شدة الفرحِ، ويقول : كيف حصل هذا ؟ ومن أين وقع ؟ كمن يرى إنساناً وَهَبَ أموالاً عظيمة، يقول : كيف وَهَبَ هذه الأموالَ ؟ ومن أين سَمَحَتْ نفسك بِهبَتِهَا.
كذا هنا.
الثالث : أن الملائكة لما بشَّروه بيحيى، لم يعلم أنه يُرزَق الولد من جهة أنثى، أو من صُلْبه، فذكر هذا الكلام ليزول ذلك الاحتمال.
٢٠٥
الرابع : أن العبد إذا كان في غاية الاشتياقِ إلى شيء يطلب من السيد، ثم إن السيد يَعِدُه بأنه سيعطيه، فعند ذلك يلتذُّ السائلُ بسماعِ ذلك، فربما أعاد السؤال ؛ ليُعِيدَ ذلك الجواب، فحينئذ يلتذ بسماع تلك الإجابة مرة أخرى، فيحتمل أن يكون هذا هو السبب في إعادة هذا الكلام.
الخامس : نقل عن سفيان بن عيينة قال : كان دعاؤه قبل البشارة بستين سنة حتى كان نسي ذلك السؤال وقت البشارةِ، فلما سمع البشارة - زمان الشيخوخة - استبعد ذلك - على مجرى العادة لا شكًّا في قدرة الله - تعالى -.
السادس : قال عكرمة والسُّدِّيُّ : إنَّ زكريا - عليه السلام - جاءه الشيطان عند سماع البشارة، فقال يا زكريا إن هذا لصوت من الشيطان - وقد سخر منك - ولو كان من الله لأوحاه إليك كما يوحي إليك في سائر الأمور، فقال زكريا ذلك ؛ دَفْعاً للوسوسة، ومقصوده من هذا الكلام أن يُرِيَه الله آيةً تدل على ن ذلك الكلامَ من الوَحْيِ والملائكة لا من إلقاء الشيطانِ.
قال القرطبي : لا يجوز أن يشتبه كلام الملائكة بكلام الشياطينِ عند الأنبياء عليهم السلام ؛ إذْ لَوْ جوَّزنا ذلك لارتفع الوثوق عن كل الشرائع.
ويمكن أن يُجاب بأنه لمَّا قامت المعجزات على صدق الوحي في كل ما يتعلق بالدين لا جرم حصل الوثوق هناك بأن الوحي من الله بواسطة الملائكة، ولا مَدْخَل للشيطان فيه، أمّا ما يتعلق بمصالح الدنيا أو الولد، فربما لا يتأكد ذلك بالمعجزات.
فلا جرم [بقي احتمال كون ذلك الكلام من الشيطان]، فرجع إلى الله - تعالى - في أن يزيل عن خاطره ذلك الاحتمال.
قوله :﴿وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ جملة حالية، إما من الياء في " لِي " فيتعدد الحال - عند مَنْ يراه - وإما من الياء في " بَلَغَنِي "، والعاقر : مَنْ لا يولد له رجلاً كان أو امرأة، مشتقاً من العَقْر، وهو القتل، كأنهم تخيلوا فيه قتل أولاده، والفعل - بهذا المعنى - لازم، وأما عَقَرْتُ - بمعنى " نَحَرْت " فمُتَعَدٍّ.
قال تعالى :﴿فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ﴾ [الأعراف : ٧٧].
وقال الشاعر :[الطويل] ١٤٤٤ -......................
عَقَرْتَ بَعِيرِي يَا امْرَأ الْقَيْسِ فَانْزِلِ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ١٨٧
وقيل : عاقر - على النسب - أي : ذات عقر، وهي بمعنى مفعول، أي : معقورة، ولذلك لم تلحق تاء التأنيث، والعَُقْر بفتح العين وضمها - أصل الشيء، ومنه عقر الدار، وعقر الحوض، وفي الحديث :" ما غُزِيَ قَوْمٌ قَطٌّ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ إلاَّ ذَلُّوا " وعقرته، أي : أصبت عقره، أي : أصله - نحو رأسته، أي أصبت رأسه، والعقر - أيضاً - آخر الولد، وكذلك بيضة العَقر، والعقار : الخمر لأنها تعقر العقل - مجازاً - وفي كلامهم رفع فلان عقيرته، أي : صوته، وذلك أن رَجَلاً عُقِرَ رجله فرفع صوته، فاستُعِير ذلك لكلّ من رفع صوته.
وقال : وأنشد الفراء :[الرجز] ١٤٤٥ - أرْزَامُ بَابٍ عَقُرَتْ أعْوَامَا
فَعَلَّقَتْ بُنَيَّهَا تَسْمَامَا
وقال بعضهم : يقال : عَقُرت المرأةُ تعقُر عَقْراً وعَقَاراً ويقال : عَقُر الرجل وعَقَر وعَقِرَ إذا لم تَحْبَل زوجته، فجعل الفعل المسند إلى الرجل أوسع من المسند إلى المرأة.
قال الزّجّاج : عاقر بمعنى ذات عُقر قال : لأن فَعُلْت أسماء الفاعلين منه على فعيل نحو ظريفة، وكريمة، وإنما عاقر على ذات عُقْر، قلت : وهذا نص في أن الفعل
٢٠٦
المسند للمرأة لا يقال فيه إلا عَقُرَتْ - بضم القاف ؛ إذْ لَوْ جاز فَتْحها، أو كسرها لجاء منهما فَاعِل - من غير تأويل على النسب، ومن ورود عاقر وصفاً للرجل قول عامر بن الطفيل :[الطويل] ١٤٤٦ - لَبِئْسَ الْفَتَى إنْ كُنْتُ أعْوَرَ عَاقِراً
جَبَاناً فَمَا عُذْرِي لَدَى كُلِّ مَحْضَرِ


الصفحة التالية
Icon