وقيل : دلَّ هذا الحديثُ على أن هؤلاء الأربع أفضلُ من سائر النساء، وهذه الآية دلت على أنَّ مريم عليها السلام أفضل من الكُلِّ.
وقَول مَنْ قال :" المراد أنها مُصْطَفَاةٌ على عالمي زمانها، فهذا تَركٌ للظاهر.
وروى موسى بن عقبة عن كُريب عن ابن عباسٍ قال رسول الله - ﷺ - :" سَيِّدَةُ نساءِ العَالَمِينَ مَرْيَمُ ثُمَّ فَاطِمَة، ثُمَّ خَدِيْجَةُ، ثُمَّ آسيَةُ " حديث حسن.
قال القرطبي : خصَّ الله مريَم بما لم يؤتهِ أحداً من النساء ؛ وذلك أن رُوحَ القدس كلَّمها، وظهر لها ونفخ في دِرْعها، ودنا منها للنفخة، وليس هذا لأحد من النساء، وصدَّقت بكلمات ربِّها، لم تَسأَلْ آيةً عندما بُشرَت - كما سأل زكريا - من الآية، ولذلك سمَّاها الله - تعالى - في تنزيله : صِدِّيقةً، قال " وأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ " وقال :﴿وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبَّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ﴾ [التحريم : ١٢] فشهد لها بالصديقية وشهد لها بالتصديق بكلمات البشرى، وشهد لها بالقنوت ؛ ولما بُشِّرَ زكريا بالغلام لحظ إلى كِبَر سِنِّه، وعقم رحم امرأته فقال :﴿قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ﴾ [آل عمران : ٤٠]، فسأل آية.
وبشرت مريم بالغلام فلحظت أنها بكر، ولم يَمْسَسْها بَشَر، فقيل لها كذلك قال رَبُّكِ فاقتصرت على ذلك، وصدَّقت بكلمات ربها، ولم تسأل آية، فمن يَعْلم كُنه هذا الأمر، ومن لامرأة في جميع نساء العالمين من بنات آدمَ ما لها من هذه المناقب ؟ قوله :﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ تقدم الكلام في القنوت عند قوله تعالى :﴿وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة : ٢٣٨].
وأنه طول القيام.
فإن قيل : لِمَ قدم ذكر السجود على الركوع ؟ فالجواب من وجوهٍ : أحدها : أن الواو تفيد التشريك لا الترتيبَ.
الثاني : أن غاية قُرْب العبد من ربه إذا كان ساجداً، فلما اختص السجود بهذه الفضيلة قُدِّم على بَاقِي الطَّاعَاتِ.
الثالث : قال ابنُ الأنباري :" قوله تعالى :﴿اقْنُتِي لِرَبِّكِ﴾ أمر بالعبادة على العموم، وقوله بَعْدَ ذلك :﴿وَاسْجُدِي وَارْكَعِي﴾ يعني استعملي السجود في وقته اللائق به، وليس المراد أن تجمع بينهم، ثم تقدم السجود على الركوعِ ".
الرابع : أن الصلاة تسمى سجوداً - كما قيل في قوله :﴿وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ [ق : ٤٠] وفي الحديث :" إذا دخل أحدكم المسجد فليسجد سجدتين ".
وأيضاً قال : فالسجود أفضل أجزاء الصلاة، وتسمية الشيء باسم أشرف أجزائه مجاز مشهور.
٢١٦
وإذا ثبت ذلك فقوله :﴿يا مَرْيَمُ اقْنُتِي﴾ معناه : قومي، وقوله :﴿وَاسْجُدِي﴾ أمر ظاهر بالصلاة حال الانفراد، وقوله :﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ أمر بالخضوع، والخشوع بالقلب.
الخامس : لعلّ السجود في ذلك الدين كان متقدّماً على الركوع.
فإن قيل : لِمَ لَمْ يقل : واركعي مع الراكعات ؟ فالجواب : لأن الاقتداء بالرجل - حال الاختفاء من الرجال - أفضل من الاقتداء بالنساء.
وقيل : لأنه أعم وأشمل.
قال المفسّرون : لما ذكرت الملائكة هذه الكلمات - شفاهاً - لمريم قامت في الصّلاة، حتى تورمت قدماها، وسالت دماً وقَيْحاً.
وقوله :﴿وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ قيل : معناه : افعلي كفعلهم.
وقيل : المراد به الصلاة الجامعة.
قوله :﴿ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ﴾ يجوز فيه أوجه : أحدها : أن يكون " ذَلِكَ " خبرَ مبتدأ محذوفٍ، وتقديره : الأمر ذلك.
و ﴿ذالِكَ مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ﴾ متعلقاً بما بعدَه، وتكون الجملة من " نُوحِيهِ " - إذ ذاك - إما مُبَيِّنَة وشارحة للجملة قبلها، وإما حالاً.
الثاني : أن يكون " ذَلِكَ " مبتدأ، و ﴿مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ﴾ خبره، والجملة من " نُوحِيهِ " مستأنفة، والضميرُ من " نوحِيهِ " عائد على الغيب، أي : الأمر والشأن أنا نوحي إليك الغيب ونعلمك به ونُظهرك على قصص مَنْ تقدمك مع عدم مدارستك لأهل العلم والأخبار، ولذلك أتى بالمضارع في " نُوحِيهِ ".
وهذا أحسن من عَوْده على " ذَلِكَ " ؛ لأن عَوده على الغيب يشمل ما تقدم من القصص، وما لم يتقدم منها، ولو أعدته على " ذَلِكَ " اختص بما مَضَى وتقدم.
الثالث : أن يكون " نُوحِيهِ " هو الخبر و ﴿مِنْ أَنَبَآءِ الْغَيْبِ﴾ على وجهَيْه المتقدمَيْن من كونه حالاً من ذلك، أو متعلقاً بـ " نُوحِيه ".
ويجوز فيه وجه ثالثٌ - على هذا - وهو أن يُجْعَل حالاً من مفعول " نُوحِيهِ " أي : نوحيه حال كونه بعض أنباءِ الغيبِ.
فصل الإنباء هو الإخبارُ عما غاب عنك - والإيحاء، ورد بإزاء معانٍ مختلفةٍ، وأصله إعلام في خفاء يكون بالرمز والإشارة ويتضمن السرعة.
٢١٧
كما في قوله :[الطويل] ١٤٥٦ -...................
فَأَوْحَتْ إلَيْنَا وَالأنَامِلُ رُسْلُهَا
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٢١٣