وترك المنع بالقهر، والجبر، فيقال : أَضَلَّهُ أي : خَلاَّه وضلاله.
قالوا : ومجازه من قولهم :" أَفْسَدَ فُلانٌ ابْنَهُ، وأهلكه " إذا لم يتعهدّه بالتأديب ؛ ومنه قوله :[الوافر].
٣٣٦ - أَضَاعُونَي وَأَيِّ فَتَىً أَضَاعُوا
......................................
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٩
ويقال لمن ترك سيفه في الأرضِ النَّدِيَّةِ حَتَّى فَسَدَ وصدئ : أفسدت سيفك وأصدأته.
ورابعها : الضلال، والإضلال هو العذاب والتعذيب لقوله ﴿إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ﴾ [القمر : ٤٧] ﴿يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ﴾ [القمر : ٤٨]، فوصفهم بأنَّهُم يوم القيامةِ في ضلال، وذلك هو عذابه.
وخامسها : أن تحمل الإضلال على الإهلاك والإبطال، كقوله :﴿الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ﴾ [محمد : ١] قيل : أهلكها، وأبطلها، ومجازه من قولهم :" ضَلَّ الماءُ في اللَّبَنِ " إذا صار مستهلكاً فيه.
ويقال : أضَلَّ القَوْمَ مَيِّتَهُمْ، أي : واروه في قبره فأخفوه حتى صار لا يُرَى.
وقالوا :﴿أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ﴾ [السجدة : ١٠] فيتحمل أن يضل الله إنساناً أي : يهلكه ويعدمه.
وسادسها : أن يحمل الإضلال على الإضلال عن الجَنَّةِ.
قالت المعتزلة : وهذا في الحقيقة ليْسَ تأويلاً، بل حَمْلٌ للَّفظ على ظاهره فإن الآية تَدُلُّ على أَنَّهُ يضلّهم، وليس فيها دلالة على أنه عن ماذا يُضلهم ؟ فنحن نحملها على أنَّهُ - تعالى - يُضِلُّهم عن طريق الْجَنَّةِ، ثُمَّ حملوا كُلَّ ما في القرآنِ من هذا الجنس على هذا المحمل، وهو اختيار الجُبَّائي.
قال تعالى :﴿كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾ [الحج : ٤] أي : يُضِلُّه عن الجَنَّةِ وثوابها هذا كله إذا حملنا الهمزة في الإضلال على التعدية.
وسابعها : ان تحمل الهمزة لا على التعدية، بل على الوجدان على ما تقدَّم، فيقال : أَضَلَّ فلانٌ بَعِيرَهُ أي : ضَلَّ عنه، فمعنى إضلال الله - تعالى - لهم أَنَّهُ وجدهم ضَالِّين.
وثامنها : أن يكون قوله :" يُضِلُّ به كَثِيراً، ويَهْدِي بِهِ كَثِيراً " من تمام قول الكُفَّار كأَنَّهم قالوا : ماذا أراد اللهُ بهذا المثل الذي لا يظهر وجه الفائدة فيه ؟ ثُمَّ قالوا : يضل به كثيراً ويهدي به كثيراً، ذكروه على سبيل التَّهَكُّمِ، فهذا من قول الكُفَّارِ، ثُمَّ قال تعالى جواباً لهم :" وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِيْنَ " أي ما أضَلَّ إِلاَّ الفاسقين.
هذا مجموع كلام المعتزلة.
قالت الجبرية : وهذا معارضٌ بمسألة الدّاعي، وهي أن القادِرَ على العلم والْجَهِلِ والإهداء والضلالِ لم فعل أحدهما دون الآخر ؟ ومعارضٌ أيضاً بمسألة العلم ما سبق تقريرها في قوله تعالى :﴿خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ﴾ [البقرة : ٧].
والجَوَابُ عن الآيات يأتي في مواضعه.
قوله :" وما يُضِلُّ بِهِ إلاَّ الفَاسِقِيْنَ " " الفاسقين " مفعول لـ " يضل " وهو استثناء مُفَرّغ، وقد تقدَّم معناه، ويجوز عند القرّاء أن يكون منصوباً على الاستثناء والمستثنى منه محذوف تقديره :" وما يُضِلُّ به أحداً إِلاَّ الفاسقين " ؛ كقوله :[الطويل] ٣٣٧ - نَجَا سَالِمٌ والنَّفْسُ مِنْهُ بِشِدْقِهِ
وَلَمْ يَنْجُ إِلاَّ جَفْنَ سَيْفٍ ومئزَرَا
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٥٩
أي : لم ينجُ بشيء، ومنع أبو البقاء نصبه على الاستثناء، كأنَّه اعتبر مذهب جمهور البَصْريين.
و " الفِسْقُ " لغةً : الخروجُ، يقالُ : فَسَقَتِ الرُّطَبَةُ عن قِشْرهَا، أي : خَرَجَتْ، والفأرة من جُحُرِها.
و " الفاسقُ " : خارج عن طاعةِ الله، يقال : فَسَقَ يَفْسُقُ وَيَفْسِقُ بالضم والكسر في المضارح فِسْقاً وفُسُوقاً، عن الأخفش فهو فَاسِقٌ.
وزعم ابن الأعرابي، أنَّه لم يسمع في كلام الجاهلية، ولا في شعرهم " فاسق "، وهذا عجيبٌ، وهو كلامٌ عربيٌّ حكاه عنه ابن فارس والجَوْهَرِيُّ، وقد ذكر ابنُ الأَنْبَارِيُّ في كتاب " الزَّاهِر " لمَّا تَكَلَّمَ على معنى " الفِسْقِ " قَوْلَ رُؤْبَة :[الرجز] ٣٣٨ - يَهْوِينَ فِي نَجْدٍ وَغَوْراً غَائِراً
فَوَاسِقاً عَنْ قَصْدِهَا جَوَائِرَا