الأوقاتِ، والغرض منه بيان أن محمداً ﷺ على دين إبراهيم في الفروع والأصول ؛ لأن مُحَمَّداً ﷺ لا يدعو إلا إلى التوحيدِ، والبراءة عن كل معبودٍ سوى اللهِ تعالى.
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٩٤
في اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه : الأول : أن المرادَ منه : الجواب عن شبهةٍ أخْرَى من شُبَهِ اليهود في إنكار نبوة محمد ﷺ، وذلك لأنه ﷺ لمَّا حُوِّل إلى الكعبةِ، طَعَنَ اليهودُ في نبوَّتِهِ، وقالوا : إنَّ بيتَ المقدس أفضل من الكعبة وأحق بالاستقبال ؛ لأنه وُضِع قبل الكعبة، وهو أرضُ المحشَر، وقبلةُ جُملة الأنبياء، وإذا كان كذلك فتحويل القبلةِ منه إلى الكعبة باطل، وأجابهم الله بقوله :﴿إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ هو الكعبة، فكان جَعْلُه قِبْلَةً أوْلَى.
الثاني : أن المقصود من الآيةِ المتقدمةِ بيان النسخ، هل يجوز أم لا ؟ واستدلَّ - عليه السلام - على جوازه، بأن الأطعمة كانت مُباحةً لبني إسرائيلَ، ثم إن الله تعالى حرَّم بعضَها، والقوم نازعوه فيه، وأعظم الأمور التي أظهر رسول الله ﷺ نسخه هو القبلة، فذكر الله - في هذه الآيات - بيان ما لأجله حُوِّلَت القبلة إلى الكعبة، وهو كَوْنُ الكعبة أفضلَ من غيرها.
الثالث : أنه - تعالى - لما قال في الآية المتقدمةِ :﴿فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ﴾ [آل عمران : ٩٥]، وكان من أعظم شعائر ملة إبراهيمَ الحَجُّ - ذكر في هذه الآية فضل البيت ؛ ليُفَرِّعَ عليه إيجابَ الحَجِّ.
الرابع : أنه لما تقدَّم مناظرة اليهود والنصارى، وزعموا أنهم على ملة إبراهيم، فبيّن الله كذبهم في هذه الآية من حيث إن حَجَّ الكعبةِ كان ملةَ إبراهيمَ، وهم لا يَحُجُّون، فدل ذلك على كذِبهم.
قوله :﴿وُضِعَ لِلنَّاسِ﴾ هذه الجملة في موضع خفض ؛ صفة لـ " بَيْتٍ ".
وقرأ العامة " وُضِعَ " مبنيًّا للمفعول.
وعكرمة وابن السميفع " وضَعَ " مبنيًّا للفاعل.
وفي فاعله قولان : أحدهما :- وهو الأظهر - أنه ضمير إبراهيم ؛ لتقدُّم ذِكْرِه ؛ ولأنه مشهور بعمارته.
والثاني : أنه ضمير الباري تعالى، و " لِلنَّاسٍ " متعلق بالفعل قبله، واللام فيه للعلة.
و " للذي " بِبَكَّة " خبر " إنَّ " وأخبر - هنا - بالمعرفة - وهو الموصول - عن النكرة -
٣٩٦
وهو " أول بَيْتٍ " - لتخصيص النكرة بشيئين : الإضافة، والوصف بالجملة بعده، وهو جائز في باب " إن "، ومن عبارة سيبويه : إن قريباً منك زيدٌ، لما تخصص " قريباً " بوصفه بالجار بعده ساغ ما ذكرناه، وزاده حُسْناً - هنا - كونه اسماً لـ " إنَّ "، وقد جاءت النكرة اسماً لـ " إنَّ " - وإن لم يكن تخصيص - كقوله :[الطويل] ١٥٣٨ - وَإنَّ حَرَاماً أن أسُبَّ مُجَاشِعاً
بِآبَائِيَ الشُّمِّ الْكِرَامِ الخَضَارِمِ
جزء : ٥ رقم الصفحة : ٣٩٦
وببكة صلة، و الباء فيه ظرفية، أي : في مكة.
وبكة فيها اربعة أوجه : أحدها : أنها مرادفة لـ " مكة " فأبدلت ميمها باءً، قالوا : والعرب تُعَاقِب بين الباء والميم في مواضع، قالوا : هذا على ضربة لازم، ولازب، وهذا أمر راتب، وراتم، والنبيط والنميط وسبد رأسه وسمَدَها، وأغبطت الحمى، وأغمطت.
وقيل : إنها اسم لبطن مكة، ومكة اسم لكل البلد.
وقيل : إنها اسم لمكان البيت.
وقيل : إنها اسم للمسجد نفسه، وأيدوا هذا بأن التباكّ وهو : الازدحام إنما يحصل عند الطواف، يقال : تباكَّ الناسُ - أي : ازْدَحموا، ويُفْسِد هذا القولَ أن يكون الشيء ظرفاً لنفسه، كذا قال بعضهم، وهو فاسد، لأن البيت في المسجد حقيقةً.
وقال الأكثرون : بكة : اسم للمسجد والمطاف، ومكة : اسم البلد، لقوله تعالى :﴿لَلَّذِي بِبَكَّةَ﴾ فدل على أن البيت مظروف في بكة، فلو كان بكة اسماً للبيت لبطل كون بكةَ ظرفاً له.
وسميت بكة ؛ لازدحام الناس، قاله مجاهد وقتادة، وهو قول محمد بن علي الباقر.
وقال بعضهم : رأيت محمد بن علي الباقر يصلي، فمرت امرأة بين يديه، فذهبت أدْفَعها، فقال : دعها، فإنها سُمِّيَتْ بكةَ، لأنه يبكُّ بعضُهم بعضاً، تمر المرأة بين يدي الرجل وهو يصلي، والرجل بين يدي المرأة وهي تصلي، ولا بأس بذلك هنا.
وقيل : لأنها تبكُّ أعناق الجبابرة - أي : تدقها.
قال قطرب : تقول العرب : بَكَكْتهُ، أبُكُّهُ، بَكًّا، إذا وضعت منه.
٣٩٧


الصفحة التالية
Icon