وكان ينبغي أن يفتح ليس إلاَّ ؛ نظراً لمعنى الظن، لكن قد يقال جاز الكسر مُرَاعاةً لصورة القول.
و " إن " على ثلاثة أقسام : قسم يجب فيه كسرها، وقسم يجب فيه فتحها، وقسم يجوز فيه الوجهان.
والضابط الكُلّي في ذلك : أن كلَّ موضع سَدَّ مسدَّها المصدرُ، وجب فيها فتحها ؛ نحو :" بلغني انك قائمٌ "، وكلَّ موضعٍ لم يَسُدَّ مسدَّهَا، وجب فيه كَسْرُها ؛ كوقوعها بعد القول ومبتدأةً وصلةً وحالاً، وكلّ موضع جاز أن يسدّ مسدّها، جاز الوجهان ؛ كوقوعها بعد فاء الجزاء، و " إذا " الفجائية.
و " جاعل " فيه قولان : أحدهما : أنه بمعنى " خالق " فيكون " خليفة " مفعولاً به و " فِي الأَرضِ " فيه حينئذ قولان : أحدهما : وهو الواضح - أنه متعلّق بـ " جاعل " والثاني : أنه متعلّق بمحذوف ؛ لأنه حال من النكرة بعده.
القول الثانيك أنه بمعنى " مُصَيِّر " ذكره الزَّمَخْشَرِي، فيكون " خليفة " هو المفعول الأول، و " في الأرض " هو الثَّاني قدم عليه، ويتعلّق بمحذوف على ما تقرر.
والأرض قيل : إنها " مكة "، روى ابن سابط عن النبي - ﷺ - قال :" دُحِيَتِ الأَرْضُ من مَكَّةَ " ولذلك سميت " أم القرى "، قال : وقبر نوح، وهود، وصالح، وشعيب بين " زمزم " والمَقَام.
والظاهر أنّ الأرض في الآية جميع الأرض من المشرق والمغرب.
و " خليفة " يجوز أن يكون بمعنى " فاعل " أي : يخلفكم أو يخلف من كان قبله من الجنّ، وهذا أصح، لدخول تاء التأنيث عليه.
وقيل : بمعنى " مفعول " أي : يخلف كل جيل من تقدمه، وليس دخول " التَّاء " حينئذ قياساً، إلاَّ أن يقال : إن " خليفة " جرى مجرى الجَوَامِدِ كـ " النَّطيحة " و " الذَّبيحة ".
وإنما استغنى بذكره كما يستغنى بذكر أبي القَبِيلَةِ نحو :" مُضَر " و " رَبِيعَة " وقيل : المعنى على الجنس.
وقال " ابن الخطيب " : الخليفة : اسم يصلح للواحد والجمع كما يصلح للذكر والأنثى.
و " الخَلَفُ " - بالتحريك - من الصَّالحين، وبتسكينها من الطَّالحين.
واختلفوا في أنه لِمَ سمّاه - أي : خليفة - على وجهين : فروي عن " ابن عباس " أنه - تعالى - لما نفى الجنّ من الأرض، وأسكنها آدم كان آدم - عليه الصلاة والسَّلام - خليفة لأولئك الجنّ الذين تقدّموه، لأنه خلفهم.
والثاني : إنما سمَّاه الله خليفةً، لأنه يخلف الله في الحكم بين خلقه، ويروى عن ابن مسعود، وابن عباس، والسّدي وهذا الرأي متأكّد بقوله تعالى :﴿إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ [ص : ٢٦].
[روى أبو ذر قال : قلت : يا رسول الله أنبياً كان آدم مرسلاً ؟ قال :" نعم..
" الحديث].
فإن قيل : لمن كان رسولاً إلى ولده، وكانوا أربعين ولداً في عشرين بطناً في كل بَطْنٍ ذكر وأنثى، وتوالدوا حتى كثروا، وأنزل عليهة تحريم الميتة والدَّم ولحم الخِنْزِير، وعاش تسعمائة وثلاثين سنةً.
ذكره أهل التوراة والله أعلم.
[وروي عن وهب بن منبه أنه عاش ألف سنة].
وقرئ :" خلِيقةً " بالقاف، و " خليفة " منصوب بـ " جاعل " كما تقدّم ؛ لأنه اسم فاعل، وأسم الفاعل يعمل عمل فعله مطلقاً إن كان فيه الألف واللام، ويشترط الحال أو الاستقبال والاعتماد إذا لم يكونا فيه، ويجوز إضافته تخفيفاً ما لم يفصل بينهما كهذه الآية.
فصلٌ في وجوب نصب خليفة للناس هذه الآية دليلٌ على وجوب نصب إمام وخليفة يسمع له ويُطَاع، لتجتمع به الكلمة، وتنفذ به أحكام الخليفة، ولا خلاف في وجوب ذلك بَيْنَ الأئمة إلاّ ما روي عن الأصَمّ، وأتباعه أنها غير واجبةٍ في الدين - وأن الأمة متى أقاموا حججهم وجهادهم، وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحقّ من أنفسهم، وقسموا الغَنَائم والفَيء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحُدُود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفِقْه.
وتناصفوا فيما بينهم، وبذلوا الحقّ من أنفسهم، وقسموا الغَنَائم والفَيْء والصدقات على أهلها، وأقاموا الحُدُود على من وجبت عليه، أجزأهم ذلك، ولا يجب عليهم أن ينصبوا إماماً يتولّى ذلك، وشروط الإمامة مذكورة في كتب الفِقْه.
قوله :" قَالُوا : أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا " قد تقدم أن " قالوا " عامل في " إِذْ قَالَ رَبُّكَ "، وأنه المختار، والهمزة في " أتجعل " للاستفهام على بابها، وقال الزمخشري :" للتعجب "، وقيل : للتقرير ؛ كقوله :[الوافر] ٣٥٧ - أَلَسْتُمْ خَيْرَ مَنْ رَكِبَ المَطَايَا
وَأَنْدَى الْعَالِمينَ بُطُونَ رَاحِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ٤٦٣