ورابعُها : أَنَّ " إيَّا " عمادٌ وما بعده هو الضميرُ، وشذّت إضافته إلى الظاهِرِ في قولِهِم :" إذا بلغ الرَّجُلُ السِّتِّينَ، فإياه وإيَّايَ الشَّواب " بِإضَافَةِ " إيَّا " إلى " الشواب "، وهذا يُؤَيِّدُ قَوْلَ مَنْ جَعَلَ الكَافَ، والهاء، والياء في محلّ جر، إِذا قُلْتَ :" إِيَّاكَ إِيَّاه إِيَّايَ " وقد اَبْعَدَ بعضُ النَّحوِيِّينَ، فجعل له اشْتِقَاقَا، ثمَّ قال : هَلْ هو مشتقٌّ من " أَوَّ " ؛ كقول الشاعر في ذلك :[الطويل] ٦٢ - فَأوِّ لِذِكْرَاهَا إِذَا ما ذَكَرْتُهَا
..................
أَوْ منْ " آيَة " ؛ كقوله [الرجز]
٦٣ - لَمْ يُبْقِ هَذَا الدَّهْرُ مِنْ آيَائِهِ
وهل وَزْنُه :" إفْعَل، أو فَعِيل، أو فَعُول " ثم صَيَّره التصريفُ إلى صِيغةِ " إيَّا ؟ وهذا الذي ذكره لا يُجْدِي فائدةً، مع أنَّ التصريفَ والاشتقاق لاَ يَدْخُلان في المتوغِّل في البناءِ وفيه لُغاتٌ : أَشْهَرُها : كَسْرُ الهمزةِ، وتَشْدِيدُ اليَاءِ، ومنها، فَتْحُ الهمزةِ وإبدالها هاء مع تشديدِ الياءِ وتَخْفِيفها ؛ قال الشَّاعر :[الطويل]
١٩٦
٦٤ - فَهِيَّاكَ وَالأَمْرَ الَّذي إِن الَّذِي إِنْ تَرَاحَبَتْ
مَوَارِدُهُ ضَاقَتْ عَلِيْكَ مَصَادِرُهْ
وقال بعضُهم :" إيَّاكَ " بالتَخْفِيفِ مرغوبٌ عنه ؛ لأنه بَصيرُ :" شَمْسَك نعبد " ؛ فإِنَّ إِيَاةَ الشمسِ : ضَوْؤُها - بكسر الهَمْزةِ، وقد تُفْتَحُ.
وقيل : هي لها بمنزلةِ الهَالةِ للقمر، فإذا حذفت التاءَ، مَدَدْتَ ؛ قال :[الطويل] ٦٥ - سَقَتْهُ إِيَاءُ الشَّمسِ إِلاَّ لِثَاتِه
أُسِفَّ فَلَمْ تَكْدِمْ عَلَيْهِ بإثْمِدِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٩٥
وقد قٌرِىءَ ببعضِهَا شَاذَّاً.
وللضَّمائِرِ تَقسيمٌ مُتَّسِعٌ لا يحتمله هذا الكتاب، وإنما يأتي في غُضُونِه ما يليقُ به.
و " نَعْبُدُ " فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ ؛ لتجردِه من الناصبِ والجازِم، وقيل : لوقوعِه موقعَ الاسمِ، وهذا رأيُ البصريين.
ومعنى المضارع المشابه، يعني : أنه أشبه الاسمَ في حركاتِهِ، وسكناتِهِ، وعدَدَ حُرُوفِهِ، ألاَ تَرَى أَنَّ " ضَارِباً " يُشْبِهُ " يَضْرِب " فيما ذكرت، وأنه يشيع ويختصُّ في الأزمانِ كما يشيعُ الاسمُ، ويختص في الأَشْخاصِ، وفَاعِلُهُ مستترٌ وُجُوباً لما مرَّ في الاستعاذة.
والعبادَةُ : غايةُ التذللِ، ولا يستحقُّها إلا مَنْ له غاية الإفْضَالِ، وهو الباري - تعالى - وهو أبلغ من العُبُودِيَِّة إظهار التذلُّلِ، ويُقالُ : طريقٌ مُعَبَّدٌ، أَيْ : مُذَلَّلٌ بالوطْء فيه.
وقال طَرَفة في ذلك :[الطويل] ٦٦ - تُبَاري عِتَاقاً نَاجِيَاتٍ وَأُتْبِعَتْ
وَظِيفاً فَوْقَ مَوْرٍ مُعَبَّدِ
١٩٧
ومنه : العَبْدُ ؛ لِذلَّتِهِ، وبَعيرٌ معبَّدٌ : أَيْ مُذلَّلٌ بِالقَطْرَان.
وقيل : العبادةُ التَّجَرُّدُ، ويُقالُ : عَبَدْتُ اللهَ - بالتخفيف فقط - وعَبَّدْتُ الرجل - بالتشديدِ فقط، أَيْ : ذللتُه، واتخذتُه عبداً.
وفي قوله تعالى :" إيَّاكَ نَعْبُد " التفاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إلى الخِطَابِ، إِذْ لو جرى الكلامُ على اصله، لَقِل : الحمد لله، ثم قيل : إيَّاهُ نَعبدُ، والالتفاتُ : نوعٌ مِن البلاغَةِ.
قال ابنُ الخَطيب - رحمه الله - : والفائدةُ في هذا الالتفاتِ وجوه : أحدُها : أن المصلِّي كان أَجْنَبِيَّاً عند الشروعِ في الصَّلاةِ، فلا جَرَمَ أَثْنَى على الله - تعالى - بألفاظ الغيبة، إلى قوله :" يَوْمِ الدِّينِ "، ثم إنه تعالى كأنه قال له : حَمَدْتَنِي وأَقْرَرْتَ بكونِي إلهاً، ربَّا، رحماناً، رحيماً، مالكاً ليوم الدين، فَنَعْمَ العبْدُ أنت، فرفعنا الحجابَ، وأبدلنا البُعْدَ بالقُرْبِ، فتكلّم بالمخاطبة وقل : إياك نعبد.
الثاني : أنّ أحسنَ السؤالِ ما وقع على سبيلِ المُشَافَهَةِ، [والسبب فيه أن الردَّ مِنَ الكريمِ إذا سُئِلَ] على سبيل المشَافهة والمخاطبة بَعِيدٌ.
ومن الالتفاتِ - إلاّ كونه عَكْسَ هذا - قولُه تبارك وتعالى :﴿حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم﴾ [يونس : ٢٢] ولم يَقُلْ :" بكم " ؛ وقد التفتَ امرؤ القَيْسِ ثَلاثَ التفاتاتٍ في قوله :[المتقارب].
٦٧ - تَطَاوَلَ لَيْلُكَ بَالأَثْمُدِ
وَنَامَ الخَلِيليُّ وَلَمْ تَرْقُدِ
جزء : ١ رقم الصفحة : ١٩٥
وَبَاتَ وبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ
كَلَيْلَةٍ دِي العَائِرِ الأرْمَدِ
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءنِي
وَخُبِّرْتُهُ عَن أَبِي الأَسْوَدِ
وقد خطَّأَ بعضُهم الزمخشريَّ - رحمه الله تعالى - في جَعْلِهِ هذا ثَلاثةَ التفاتَاتٍ، وقال : بل هما التفاتان : أحدُهما : خُروجٌ مِنَ الخِطابِ به في قولِهِ :" لَيْلُك "، إلى الغَيْبَةِ في قوله :" وبَاتَتْ له لَيْلَةٌ ".
والثاني : الخروجُ من هذه الغيبةِ إلى التكلِّم، في قولِه :" مِنْ نَبَأ جَاءَنِي وخُبِّرْتُهُ ".
١٩٨


الصفحة التالية
Icon