والجوابُ : أَنَّ قولَه أَوّلاً :" تَطَاوَلَ لَيْلُك " فيه التفاتٌ ؛ لأنه كان أصل الكلامِ أَنْ يقولَ :" تطاول لَيْلِي " ؛ لأنه هو المقصودُ، فالتفتَ مِنْ مقامِ التكلُّمِ إلى مقامِ الخِطَابِ، ومن مقامِ الخِطَابِ إلى الغيبة، ثمَّ مِنَ الغيبةِ إلى التكلُّمِ الذي هو الأصل.
وقُرِىءَ شاذّاً :" إِيَّاكَ يُعْبَدُ " على بنائِهِ للمفعول الغائب ؛ ووجهُها على إشْكَالِها : أن فيها استعارةً والتفاتاً : أما الاستعارةُ :[فإنه استُعِير] فيها ضميرُ النصبِ لضمير الرفْع، والأصل : أنت تُعْبَدُ، وهو شائع ؛ كقولِهم :" عَسَاكَ، وعَسَاهُ، وعَسَانِي " في أحدِ الأقوالِ ؛ وقول الآخر :[الرجز] ٦٨ - يا ابْنَ الزُّبَيْرِ طَالَمَا عَصَيْكَا
وَطَالَمَا عَنِّيْتَنَا إِلَيْكَا
فالكافُ في " عَصَيْكَا " نائبةٌ عن التاءِ، والأصل :" عَصَيْتَ ".
وأما الالتفاتُ : فكان من حقِّ هذا القارئ أَنْ يَقْرَأَ :" إِيَّاكَ تُعْبَدُ " بالخطابِ، ولكنه التفت من الخطاب في " إِيَّاكَ " إلى الغَيْبَةِ في " يُعْبَدُ " إلاّ أن هاذ الالتفاتَ غَريبٌ ؛ لكونِهِ في جُمْلةٍ واحدةٍ، بخلاف الالتفاتِ المتقدّمِ ؛ ونظيرُ هذا الالتفات قولُه :[الطويل] ٦٩ - أَأَنْتَ الهِلاَلِيُّ الَّذي كُنْتَ مَرَّةً
سَمِعْنَا بِهِ وَالأَرْحَبِيُّ المُغَلَّبُ
فقال :" بِهِ " بعد قوله :" أَنْتَ " و " كُنْتَ ".
و " إِيَّاكَ " واجبُ التقديم على عامله ؛ لأَنَّ القاعدَةَ أَنَّ المفعولَ به إذا كان ضميراً - لو تأخر عم عامله - وجب اتصالُهُ "، من نحو :" الدرهم إياه أعطيتك " لأنك لو أخرتَ الضميرَ هنا فقلتَ :" الدِّرْهَمُ أَعْطَيُكَ إِيَّاهُ " لم يَلْزَم الاتصالُ، لما سيأتي بل يجوزُ :" أعطيتكَهُ ".
١٩٨
فصل في معنى العبادة قال ابنُ الخَطيب رحمه الله تعالى : العبادةُ عبارةٌ عن الفعل الذي يؤتى به لغرض تَعْظِيم الغَيْرِ، من قولهم : طريقٌ مُعّبَّدٌ، أَيْ : مذلَّلٌ، فقوله : إيَّاكَ نَعْبُدُ، معناه : لا أعبد أحداً سواك، ويدلُّ على هذا الحصر وجوه : فَذّكَر من جملتها : تسميَة الله، والرب، والرحمن، والرحيم، ومالك يوم الدين، وكونَهُ قادراً بان يُمسِكَ السّماءَ بلا إعانة، وأَرْضاً بلا دِعَامة، ويُسَيِّرُ الشمسَ والقمر، ويسكن القُطْبَيْن، ويخرجُ من السَّماء تارة النَّارَ ؛ وهو البرق، وتارة الهواءَ ؛ وهو الريح، وتارة الماء ؛ وهو المطر.
وأما في الأرضِ فتارةً يُخْرج الماء من الحَجَرِ ؛ وتارةً يُخْرج الحجرَ من الماء ؛ وهو الجمد، ثم جعل في الأرض أجساماً مُقيمةً لا تسافر ؛ [وهي الجبال]، وأجساماً مسافرة لا تقيم ؛ وهي الأنهار، وخسف بقارون فجعل الأَرضَ فَوْقَهُ، ودفع محمداً - عليه الصلاة والسلام - إلى قَاب قَوْسَيْن، وجعل الماء ناراً لى قوم فرعون ؛ لقوله :﴿أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً﴾ [نوح : ٢٥]، وجعل النارَ بَرْدَا وسلاماً على إِبْرَاهِيمَ - عليه السلام - ورفع مُوسَى - عليه السلام - فوق الطُّورِ، وغرق الدنيا من التّنُّورِ، وجعل البحر يبساً لموسى - عليه الصلاة والسلام - فهذا من أداة الحَصْرِ.
والكلام في " إِيِّاكَ نَسْتَعِينُ " كالكَلاَمِ في " إِيَّاكَ نَعْبُدُ ".
والواو : عاطِفَةٌ، وهي من المشتركةِ في الإعرابِ والمعنَى، ولا تقتضي تَرْتِيباً على قول الجمهور، خلافاً لطائفةٍ من الكوفيينَ ولها أحكام تختص بها تأتي إن شاء الله تعالى.
وأصل " نَسْتَعِين " :" نَسْتَعْوِنُ " ؛ مَثْلُ :" نَسْتَخْرِجُ " في الصحيح ؛ لأنه من العَوْنِ، فاسْتُثْقِلَتِ الكسرةُ على الوَاوِ، فنقلت إلى السّاكنِ قَبْلَها، فسكنت الواوُ بعد النَّقلِ وانكَسَر ما قبلها ؛ فَقُلِبَتْ ياءً.
وهذه قاَعِدةٌ مطّردَةٌ ؛ نَحْوَ :" مِيزَان، وميِقَات "، وهما من : الوَزْنِ، والوَقْتِ.
والسِّينُ فيه معناها : الطلبُ، أَيْ نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي لـ " استفعل " وله معََانٍ أُخَرٌ : الاتخاذُ : نحو :" اسْتَحْجَرَ الطِّينُ "، أَيْ : نَطْلُبُ منك العونَ على العِبَادَةِ، وهو أحد المعاني التي لـ " استفعل "، وله مَعَانٍ أُخَرٌ : الاتخاذُ : نحو :" اسْتَعْبِدْهُ " أي : اتخذْهُ عبداً.
والتحولُ ؛ نحو :" اسْتَحْجَرَ الطِّينُ " أَيْ : صار حجراً، ومنه قوله :" إنَّ البُغَاثَ بأَرْضِنَا يَسْتَنْسِرُ " أي : تتحولُ إلى صفة النُّسور.
ووجودُ الشَّيْءِ بمعنى ما صِيغَ منه ؛ نحو :" اسْتَعْظَمَهُ " أَيْ : وجده عظيماً.
٢٠٠


الصفحة التالية
Icon