" هنيئاً " مقامه الذي هو حال أو مرفوع بـ " هنيئاً " نفسه ؛ لأنه لمَّا قَامً مقامَ الفعلِ رَفَعَ ما كان الفعل يرفعه، كما أن قولك :" زَيْدٌ في الدَّارِ " " في الدَّارِ " ضمير كان مستتراً في الاستقرار فلما حذف الاستقرار، وقام الجار مقامه رفع الضمير [المستتر] الذي كان فيه، وقد ذهب إلى الأول السيرافي وجعل في " هنيئاً " فارغاً من الضمير لرفعه الاسمَ الظاهر، وَإذا قُلْتَ :" هَنِيئاً " وَلَمْ تَقُلْ " ذلك " فعلى مذهب السيرافي يكون في " هَنِيئاً " ضمير عائدٌ على ذِي الْحَالِ، وهو ضمير الفاعل الذي استتر في " ثبت " المحذوفِ، وعلى مذهب الفارسي يكون في " هنيئاً " قد قام مقام الفعل المحذوف فارغاً من الضمير.
وأما نصب " مريئاً " ففيه خمسة أوجه : أحدها : أنَّهُ صِفَةٌ لـ " هنيئاً " وإليه ذَهَبَ الحوفي.
والثاني : أنَّهُ انتصب انتصاب " هنيئاً " وقد تقدَّم ما فيه من الأوجه، ومنع الفارسي كونه صفة لـ " هنيئاً " قال : لأنَّ هنيئاً قام مقام الفعل، والفعل لا يوصف، فكذا ما قام مَقَامَهُ، ويؤيد ما قاله الفارسيُّ انَّ اسم الفاعل واسم المفعول وأمثلة المالغة والمصادر إذا وُصِفَت لم تَعْمَل عمل الفعل، ولم تستعمل " مريئاً " إلا تابعاً لـ " هنيئاً "، ونقل بعضهم أنه قد يجيء [غير] تابع وهو مردود ؛ لأن العرب لم تَستَعْمِله إلاَّ تابعاً، وهل " هَنِيئاً " في الأصل اسما فاعل على زنة المَبَالَغَة ؟ أم هما مصدران جاءا على وزن فَعِيلٍ، كالصَّهيلِ والهدير ؟ خلاف.
نقل أبُو حَيَّان القول الثاني عن أبي البَقَاءِ قال : وأجاز أبو البقاء أن يكونا مصدرين جاءا على خلاف وزن " فعيل "، كالصَّهيل والهدير، وليسا من باب ما يطرد فيه فعيل في المصدر.
انتهى.
وأبو البقاء في عبارته إشْكَالٌ، فلا بد من التعرض إليها ليُعرف ما فيها، قال :" هنيئاً " مصدر جاء على وزن " فَعِيل "، وهو نعت لمصدر محذوفٍ، أي : أكْلاً هنيئاً، وقيل : هو مصدر في موضع الحال من الهاء والتقدير مُهَنَّأً، و " مريئاً " مثله، وتلمريء فعيل بمعنى مُفْعِل، لأنَّك تقول :" أمْرَأَنِي الشَّيْء "، ووجه لمصدر محذوف ؟ وكيف يفسر " مريئاً " المصدر بمعنى اسم الفاعل ؟ ذهب الزمخشري إلى انَّهُمَا وصفان قال :" فإنَّ الهنيءَ والْمَريءَ صفتان من هَنُؤ
١٧٧
الطعام ومَرُؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه ".
انتهى.
وَهَنَا يضهْنَا بغير همز - لغة ثانية أيضاً - وقرأ أبو جعفر :" هنيّاً مريّاً "، بتشديد الياء فيهما من غير همزة، كذلك " بري " و " بريون " و " بريَّا "، ويقال : هَنَأَني الطعامُ ومرأني، وإن أفردت " مَرَأنِي "، وهذا كما قالوا : أخَذَهُ ما قَدُمَ وَمَا حَدُثَ، بضم الدَّال من " حدث " مشاكلة لـ " قَدُمَ "، ولو أُفرد لم يستعمل إلاَّ مفتوح الدال، وله نظائر أخر، ويقال : هَنَأتُ الرجل أهْنِئُهُ بكسر العين في المضارع أي : أعطيته.
واشتقاق الهنيء من الهِناء، وهو ما يُطْلَى به البَعير للجرب كالقطران قال :[الطويل] ١٧٥٣ - مُتَبَدِّلاً تَبْدُو مَحَاسِنُهُ
يَضَعُ الْهَنَاءَ مَوَاضِعَ النُّقْبِ
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٧٠
والمريءُ مَا سَاغَ وَسَهُلَ من الحق، ومنه قِيل لمجرى الطَّعَام من الحُلْقُوم إلى فم المعدة : مَرِيء.
فصل في دلالة الآية على أمور دَلَّت الآية الكريمة على أمور : منها انَّ المهر لها ولا حق للولي فيه.
ومنها جواز هبتها للمهر قبل القبضِ ؛ لأن الله تعالى لم يفرق بين الحالين.
فإن قيل : قوله :" فكلوه هنيئاً مريئاً " يتناول ما إذا كان المهر عيناً، أما إذا كان ديناً فالآية غير متناولة له لأنَّهُ لا يقال لما في الذمة كُلْهُ مريئاً.
فالجواب أن المراد بقوله " هنيئاً مريئاً " ليس نفس الكل، بل المراد منه كل التصرفات، وإنما خَصَّ الأكل بالذكر، لأنَّهُ معظم المقصود من المال لقوله ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْماً﴾ بالنساء : ١٠] وقوله :﴿لاَ تَأْكُلُوا ااْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ﴾ [النساء : ٢٩].
فصل قال بعض العلماء : إن وهبت ثم طلبت بعد الهبة، علم أنها لم تطب عنه نفساً،
١٧٨