اختلفوا في المُرَادِ بهذه القسمة على ثَلاثَةِ أقوال : القول الأوَّلُ : أن المُرَادَ بها في قسمة الميراث، واختلفَ القائلون بهذا القول، هل المرادُ به لوجوبُ أو النَّدْبُ ؟ فالقائلون بالوُجُوبِ اختلفوا، فقال سعيدُ بنُ المُسَيَّبِ والضَّحاك : كانت هذه قَبْلَ آية المواريث، فَلَمَّا نَزَلَتْ آيةُ المواريث جعلت المواريثُ لأهْلَها ونسخت هذه الآية، وقال ابنُ عَبَّاسٍ والشَّعْبِيُّ والنَّخَعِيُّ والزُّهْرِيُّ : وهي محكمة.
قل مُجَاهِدٌ : وهي واجبةٌ على أهل الميراثِ ما طالت به أنفسهم.
قال الحَسَنُ : كانوا يُعْطون التابوت والأواني ورثّ الثياب والمتاع والشيء الذي يُسْتَحْيَا من قسمته، وإن كان بَعْضُ الوَرَثَة صغاراً فقد اختلفوا فيه، قل ابن عبَّاسٍ وغيره : إن كانت الورثة كباراً رضخوا لهم، وإن كانت الوَرَثَةِ صغارً اعتذروا إليهم، فَيَقُولُ الولي : إني لا أملك هذا المال إنَّمَا هو الصغار، ولو كان لي منه شيء لأعطيتكم.
وقال بعضهم : ذلك حقٌّ واجب في أموال الصغار والكبار، فإن كانُوا كِبَاراً تَوَلوا إعطاءَهم وإن كانوا صِغاراً أعطى وليهم، وروى مُحَمَّدُ بْنُ سِيرينَ أنَّ عبيدة السَّلْمَانِي قسم أموال أيتام، وأمر بشاة فذبحت فصنع لهم طعاماً لأجل هذه الآية، وقال : لولا هذه الآية لكان هذا من مالي.
١٩٧
وقَالَ قَتَادَةُ عن يَحْيَى بن معمر : ثلاث آياتٍ محكمات مذنيات تركهن النَّاسُ، هذه الآية، وآية الاستئذان ﴿ يا أيها الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَـانُكُمْ﴾ [النور : ٥٨] وقوله :﴿ يا أيها النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنْثَى ﴾ [الحجرات : ١٣].
وقال آخرون : ذلك على سبيل النَّدْبِ إذا كان الورثة كباراً، فإن كَانُوا صغاراً فليس إلاَّ القول المعروف، وهذا هو الَّذي عليه فقهاءُ الأمصار لأنَّه لو كان لهم حَقٌّ معين لبينه اللهُ - تعالى - كسائر الحقوق، ولو كان واجباً لتوفّرت الدَّواعي على نقله لشدَّة حرص الفقراء والمساكين على تقريره، ولو كان كَذَلِكَ لنقل على سبيل التَّوَاتُرِ.
القول الثَّاني : أنَّ المراد بالقسمة الوصيَّة فَإذَا [حضرها منة لا يرث] من الأقرباء اليتامى والمساكين أي : الذين لا يرثون ثم قال :﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُوْلُواْ الْقُرْبَى ﴾ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ} أنَّهُ راجع إلى أولي القربى الذين يرثون.
[وقوله :﴿فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ﴾ راجع إلى اليتامى والمساكين الذين لا يرثون].
وهذا القَوْلُ محكيٌّ عن سعيد بن جُبَيْرٍ، وقدم اليتامى على المساكين، لأنَّ ضعفهم أكثرُ وحاجاتهم أشَدُّ فكان وضع الصدقات أفضل وأعظم في الأجر.
قوله :﴿فَارْزُقُوهُمْ مِّنْهُ﴾.
في هذا الضمير ثَلاَثَةُ أوْجهٍ : أحدها : أنه يعود على المال، لأنَّ القسمة تَدُلُّ عليه بطريق الالتزام.
الثَّانِي : أنَّهُ يعود على " ما " في قوله :﴿مِّمَّا تَرَكَ﴾.
الثَّالِثُ : أنَّهُ يعود على نفس القِسْمَةِ، وإن كان مذكراً مراعاة للمعنى إذ المراد بالقسمة الشيء المقسوم، وهذا على رأي من يرى ذلك، وَأمَّا مَنْ يقول : القسمة من الاقتسام كالخبرة من الاختبار أو بمعنى القَسَم فلا يتأتى ذلك.
جزء : ٦ رقم الصفحة : ١٩٧
قرأ الجمهور بسكون اللاَّم في الأفعال الثَّلاَثَةِ وهي لام الأمر، والفعل بعدها مجزومٌ.
١٩٨
بها، وقرأ الحَسَنُ وعيسى بْنُ عُمَرَ بكسر اللامِ في الأفْعَالِ الثَّلاثة وهو الأصل، والإسكان تخفيفٌ إجراءً للمنفصل مُجْرى المتصل، فإنهم شَبَّهوا " وليخش " بـ " كَيف " وهذا ما تَقَدَّمَ الكلام في نحو :" وهْيَ " و " لَهْي " في أول البقرة.
قال القرطبي : حذفت الأولف من ﴿وَلْيَخْشَ﴾ للجزم بالأمر، ولا يجوز عند سِيبَويْه إضمار لام الأمر قياساً على حروف الجرّ إلاّ ضرورة شعر، وأجاز الكوفيون حذف اللام مع الجزم.
وأنشدوا :[الوافر] ١٧٥٩ - مُحَمَّدُ تَفِدُ نَفْسَكَ كُلُّ نَفْسٍ
إذَا مَا خِفْتَ مِنْ شَيءٍ تَبَالاَ
أراد لتفد وهو مفعل " يخشى " محذوف لدلالة الكلام عليه، و " لو " هذه فيها احتمالان : أحدهما : أنَّهَا على بابها من كونها حرفاً لما كان سيقع لوقوع غيره أو حرف امتناع لامتناع على اختلاف العبارتين.
والثَّانِي : أنَّهَا بمعنى " إن " الشَّرطية وإلى الاحتمال الأوَّل ذهب ابْنُ عطيّة والزَّمخشري.
قال الزَّمخشريُّ : فإن قلت ما معنى وقوع ﴿لَوْ تَرَكُواْ﴾ وجوابه صلة لـ " الذين " قلت : معناه : وليخش الَّذِينَ صفتهم وحالهم أنَّهم لو شارفوا أن يتركوا خَلْفَهُمْ ذريّة ضِعافاً، وذلك عند احتضارهم خَافُوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم وكاسبهم كما قال القائل :[الوافر] ١٧٦٠ - لَقَدْ زَادَ الحَيَاةَ إليَّ حُبّاً
بَنَاتِي إنَّهُنَّ مِنَ الضِّعَافِ
أُحَاذِرُ أنْ يَرَيْنَ البُؤسَ بَعْدِي
وَأنْ يَشْرَبْنَ رَنْقاً بَعْدَ صَافِي
١٩٩


الصفحة التالية
Icon